«أفكارنا يجب أن تولد دائما من الألم، وعلينا، بما يشبه الأمومة، أن نشاركها بكل ما لدينا من الدم والقلب، والحماسة والبهجة والهوى والوخز والتأنيب والضمير والقدر والشؤم»(1)
«الألم هو غير الذات الموجوعة، فليست الذات إلا وعيا بالألم»(2)
1- تأطير:
يمكن اعتبار المسار الروائي، في افتراض نظري خالص، إنضاجا لقدرات التمثيل العاكسة للخلل في التوازن بين مكونات الجسد والوعي والوجدان، ومحاولة لفهم ماهية الألم، وتحويله لوعي يفارق العلة الغامضة إلى عمقها القيمي والإنساني الخفي. ثم التشوف إلى الارتقاء من قاعدة الألم الموضوعي إلى صوره المفارقة، التي تكتسب تدريجيا تكوينا ذهنيا يحمل وظائف وسمات، ويولد معجما، وينشئ بلاغة تنهل من الإمكانيات الماتعة للتخييل الروائي.
بناء على هذا الافتراض، يمكن لقارئ الرواية وناقدها اعتبار الإنجاز الروائي، في جملة مجازية مقتضبة، «ذاكرة للألم الإنساني»، مادام تراث هذا الجنس التعبيري لا يمثل في العمق إلا تصويرا للهم البشري إزاء الحاضر والمحيط، واستبطانا لمأساته الأبدية في مكابدة الحب، ونشدان السعادة، واستبعاد الموت، والتوق إلى حرية أكبر؛ بيد أن مثل هذا التعريف لا يعفي الناقد من ضرورة التمييز بين «سمة الألم» التي باتت مكونا رئيسا في أي نص روائي، وبين «الألم» بما هو خطاب مركزي يتأسس على موضوعات بذاتها كـ: «المرض» و«السجن»، و«المنفى» و«الإعاقة» و«العطالة»…، وغيرها من الموضوعات التي يتقاطع في بنيتها التخييلية الحكي الذاتي، بالعالم الهامشي، بالسعي إلى التأريخ، والاستعادة التأملية لوقائع تجربة فريدة واستثنائية.
ويلزم عن هذا التمييز إدراك فارق دلالي على قدر بالغ من الانسجام النظري مفاده أن «الألم الروائي» قيمة جمالية متعلقة ببلاغة السرد؛ مختلفة عن الموضوع الألـمي المتجسد في معاناة السجين، ووجع المريض، ومكابدة العاطل، وانكسار المنفي. سواء كان هذا الألم موضوعا لحكي فطري، أو تسجيلي، أو تخييلي تأملي. لذلك يمكن اعتبار «الألم» متعلقا بطبيعة الوعي والرؤية المفارقين للإحساس المزري ذاته، إيحاء صوري متصل بالوقع ونمط التأثير الجمالي. وهو التمييز الذي يمكننا من التفريق بعد ذلك في بنية النصوص الروائية والسير ذاتية المختلفة، بين «توتر مضمر» يستثير الشفقة، كما في سيرة «الألم» للعربي باطما، و»كثافة عرضية» تدعو للتقزز كما في نص «الزنزانة رقم 10» لأحمد المرزوقي، وصور أخرى تنبني على «تشذير الرؤية» وتكشف عن أعطاف مظلمة من عمق الكائن البشري كما في رواية: «من قال أنا» لعبد القادر الشاوي.
ونعتقد، في هذا السياق ذاته، أن الرواية المغربية التي حفلت في الآونة الأخيرة بمحكيات المرض والسجن، بقدر ما عكست تحولا في نهج تدبر الألم روائيا، وتصوير تفاصيله الخفية، وما يتصل به من عوالم سفلية، ويلتبس به من عواطف وأفكار وطيدة الصلة بالتشظي الوجودي للفرد، في اصطراعه الدائب مع المحيط والجغرافيا، والذاكرة، ومؤسسات المجتمع والسلطة؛ فإن ما يمكن ملاحظته، على الأقل منذ البدايات الناضجة لادريس الشرايبي في «الماضي البسيط»، ثم مع عبد الكريم غلاب في «سبعة أبواب»، وحتى الفورة الروائية مع جيل محمد برادة ومحمد شكري ومحمد زفزاف ومحمد عز الدين التازي والميلودي شغموم… هو أن «الألم» المتجسد في انكسار الأحلام الفردية والجماعية، وضيق هامش الحرية، وعزلة المثقف، ونفيه المطرد، أفرز على الدوام مثيرات متشعبة لاسترسال التخييل الروائي في تمثيل أوجاع المجتمع المغربي والتقاط مفارقاته، وتصوير أشكال الصراع داخله، ومن ثم السعي إلى فهم مسارات تحوله المستمر.
كما أن نصوصا لافتة لجيل لاحق كـ: «جنوب الروح» لمحمد الأشعري و»سماسرة السراب» لبنسالم حميش و «السيل» لأحمد التوفيق، ثم «خطبة الوداع» لعبد الحي المودن، وجدت لها في وقائع «الجوع» و»الاعتقال السياسي» و»العطالة» و»أحلام الهجرة نحو أربا»، موضوعات مثالية لتكثيف أجواء الألم الإنساني الممتد، ونفحه بجرعات إضافية من الحدة في الخطاب، على نحو غير بعيد مما بات عليه الوضع الروائي في العالم لعربي الواسع حيث بدأت الرواية العربية، بحسب محمد برادة:
«تنزع أردية الوقائعية الفضفاضة وغلالات التلوين الوردي الرومانسي، لترتاد مجاهل الذات والمجتمع عبر الاستنطاق المتعدد المنظور لواقع تداخلت فيه القيم والسلوكيات والمواقف»(3).
والشيء الأكيد أن خطاب الألم في الرواية المغربية، أنجز لحظته النوعية في العشرية الأخيرة من القرن الماضي، وبدايات العقد الحالي، مع تواتر صدور أعمال المعتقلين السياسيين السابقين، وقد تضمنت نصوصا أدبية لكتاب عاشوا التجربة كـ: «عبد القادر الشاوي»، و«صلاح الوديع»، و«عبداللـه زريقة» وقبلهم «عبد اللطيف اللعبي»، أومناضلين في صفوف اليسار المغربي ممن لم تصدر لهم أعمال أدبية من قبل، كـ: «فاطنة البيه» و«ادريس بويسف الركاب» و«محمد مشبال» و»عبد الفتاج الفاكهاني»، أو حتى بعض المعتقلين العسكريين في سجن تزمامارت الرهيب، كـ «أحمد المرزوقي» و«محمد الرايس». جنبا إلى جنب مع صدور أعمال لافتة وغير مسبوقة في الأدب المغربي عن رحلة المرض كنصي: «الرحيل» و«الألم» للعربي باطما، و«يوميات سرير الموت» لمحمد خير الدين و»المستشفى» لأحمد البوعناني، و«من قال أنا» لعبد القادر الشاوي، و«لحظات لا غير» لفاتحة مورشيد. وهي الأعمال التي صاغت تدريجيا المدار التعبيري لمحكيات «الجسد العليل» في السرد المغربي المعاصر.
والحق أنه بغض النظر عن مركزية «الألم» وهيمنته في بعض الأعمال المغربية الخالدة كـ: «الزاوية» للتهامي الوزاني، و«حرودة» للطاهر بن جلون، و«الخبز الحافي» لمحمد شكري، و«لعبة النسيان» لمحمد برادة(4)، و»المصري» لمحمد أنقار، وتشربه لدلالات متباينة تباين المعاناة الفردية في كل نص من تلك النصوص؛ مابين وجد الصوفي، وشقاوة العيش في عوالم القاع، ولوعة السقوط في أسر الذاكرة، ومعاناة الجفاف والعجز الإبداعيين، فقد اقتصرنا في الدراسة الحالية على مقاربة ثلاثة أعمال سردية، ذات طبيعة سير-ذاتية، من متخيل المرض والسجن، صدرت في العقد الأخير، وشكل فيها «الألم» نواة مركزية لطاقة التصوير، حيث إن الاشتغال على هذه النصوص المتجانسة موضوعيا ونوعيا، مكننا من الوقوف على مجموعة من سمات التشكيل ومرتكزات التخييل المنتجة لخطاب الألم في المحكيات الذاتية والروائية المغربية الجديدة.
النصوص المنتقاة هي على التوالي: «الألم» للعربي باطما، و«الزنزانة رقم10» لأحمد المرزوقي، و«من قال أنا» لعبد القادر الشاوي. وقد كان وازعنا في هذا الانتقاء اختيار نموذج من كل تجربة (المرض والسجن) تصدر عن وعي فطري بالألم، ونموذج ثالث يشخص «ألم» المرض والأسر معا، ويمتلك مقومات التخييل الروائي الناضج وما يستتبعه من اشتغال على اللغة والشخصيات والمحيط، بصرف النظر عن طبيعة المضمون الألمي للصور ومدى اختزانه لموجبات الوجع الحاد والعنيف، واستثارته لعواطف الرعب والشفقة.
1- «الألم» بين الوعي الفطري والتوتر المضمر.
ويمكن اعتبار نص «الألم»(5)، في هذا السياق، كتابا استثنائيا ضمن رصيد محكيات المرض المغربية، ومرد ذلك فيما نعتقد إلى قدرته المبهرة على المزاوجة بين العمق التمثيلي في استبطان عوالم المرض، وبلاغته التصويرية في التقاط تفاصيل الألم الحسي والمجرد، في الآن ذاته الذي حافظ فيه على تلقائية آسرة في الحكي المسترسل، وتطريز المفارقات الإنسانية الناتجة عن تبدل زاوية الرؤية إلى الحياة والوقائع والناس، وهي تلقائية نابعة –في اعتقادنا- من ارتباط العربي باطما الوطيد بعوالم الإبداع الشعبي: زجلا وتعبيرا موسيقيا، وحكيا ملحميا.
صدر كتاب «الألم» سنة 2002 أي بعد مرور أكثر من ست سنوات على صدور الجزء الأول من سيرته (الرحيل)، وبعد مرور أربع سنوات على رحيل الكاتب، وحقق انتشارا جماهيريا واسعا، لم تضاهه فيه إلا مبيعات السير السجنية، حيث ضمنه الكاتب وقائع معاناته مع مرض السرطان، وتأملاته بصدد الألم الرهيب، وما رافقه من تفاصيل التشوه الجسدي، والعطب النفسي، وأحاسيس الوحدة، والرعب، والانهيار التدريجي للكيان الذاتي. كما صور فيه ببلاغة حسية حارة آماله في النهوض، والجهد الخارق الذي بدله الجسد العليل، المحكوم بالفناء، لأجل المقاومة والصبر وترويض النفس على قبول العلة بوصفها جزءا من جبلات العيش وصروف الحياة.
يتكون الكتاب من تسعة فصول تراوح فضاءاتها بين المصحات المختلفة التي رادها البطل رفقة بعض الشخصيات، وبين المنزل حيث استقر به الحال في فترات القنوط، والتعب من ملاحقة الوصفات والتحاليل وجرعات الدواء الكيميائي. وقد كتبت الفصول كلها بنفس سردي يمتلك من سمات «الفطرية» و«الاقتصاد اللغوي» و«تضمين السخرية» و«العري» البلاغي، والنفس التصويري «الحسي»، والتشغيل الدرامي لخلفيات الفضاء والزمن ومستجدات المرض، ما جعلها تفارق منطلقها التسجيلي لوقائع سيرة عادية، لتتخذ بعد التعبير الروائي المتوتر، مع ما يتصل به من تغلغل للوعي في تفاصيل المكون «الألمي»، وتحويله من معطى موضوعي عاد إلى قيمة ذهنية مخترقة بالرمزي، مفعمة بالقيم الجمالية المضافة؛ من هنا يمكن فهم ذلك الاستهلال الموجز المنطوي على إدراك تام لالتباسات «الألم» وما يولده من تعارضات شعورية، ستوجه بعد ذلك مسارات الرؤية والتشكيل المهيمنين في النص:
«أجلس لوحدي في بيتي، أقرأ أفكارا لملمتها، وأوجدتها للجزء الثاني من سيرتي الذاتية، ولكن كل ذلك، وبالرغم من وجوده كأفكار، وذكريات، ومواقف، لا يقنعني، وأجده عاريا… فجأة جاءتني فكرة حمقاء كحياتي… وهي لماذا لا أكتب «الرحيل إلى الألم» ما دام فهم الكل كتابي الأول بأنه رحيل إلى الموت؟ نعم. الرحيل إلى الألم. إلى البلاء وشدة المرض، والاختناق. وكذلك في بعض الأحيان إلى الضحك المؤلم، والفرحة المؤلمة، والشفاء الذي لن يكون»(6).
لعل أكثر ما يسترعي الانتباه، في هذا المقطع التصويري الاستهلالي، هو حضور سمة «العري» على نحو واع في السياق، وارتباطها بمخاضات التعبير، التي تفاقم أحاسيس العجز، مما يجعل الذات الساردة تبدو نتاجا لتوتر مضمر بين رغائب البوح، والسعي إلى فهم الألم الحسي المتشظي، وبين التشوف للملمة أسراره في محكي ينجز الإحساس الموجع في عبارات نافذة، ويفصل نوازع اللوعة الروحية، وما تولده من توق إلى السخرية والفرح الفاقدين لعلاتهما الحياتية المعتادة.
وبصرف النظر عن إدراك السارد المسبق لخلو رحلة المرض من الاستثنائي، وافتقارها إلى الطرافة المطلوبة في الخطاب السردي، فإن البداهة والاعتيادية والألفة الظاهرة هي ما شكل عدة الراوي في تكوين دائرة بلاغته الفطرية، مع ما يتصل بها من رهان على المعجم المرضي المختزل لأعراض الألم، من «الصمت» إلى «الخواء» إلى «البرودة» و»الاختناق»، إلى «اليأس» من رائحة الحياة. من هذا المنطلق يمكن نعت التكوين السردي بأنه نتاج لـ: «توتر مضمر» بين اتقاد الوعي وتلاشي الذات، وبين العذاب وعسر الكلام، وهو توتر مضمر لأن المقاطع والصور لا تشخصه إلا عبر إلماعات وحدوس، الخفي فيها أكثر من الظاهر. ولغلبة الفردية في الصوت السردي، وضمور التفاعل مع محيط الفعل والحركة والآخرين:
«لم تكن لي معرفة بالمكان الذي أقصده، ثم وصلنا إلى قاعدة باردة، ووضعوني فوق طاولة حديدية باردة، البرودة كثيرة في هذا المستشفى، تكون في عظام المريض وفي جسمه وكذلك في الصالات، برغم التدفئة»(8).
هكذا يمكن وسم خطاب المرض في نص «الألم» بأنه انصياع لإدراك عميق بالفطرة الإنسانية، وبقيمة الشيء الحقيقي والفج، ومن ثم اعتبار النسيج الصوري لطبقات المعاناة الجسدية والروحية، حصيلة أسلوبية لدرامية افتراضية بين الذات وباطنها، أوبتعبير أدق، بين الإحساس بالعلة المفضية إلى الموت، والرغبة في البقاء، ورفض العزلة الباردة الموحية بالفناء. من هنا تنحو عدة الوصف إلى التخفف من غلواء البلاغة، مرتكزة على قيمة المفردة الحادة (البرودة المتفاقمة المنتشرة في كل التفاصيل)، ذات القدرة على تقرير الرزء النفسي، والعطب العضوي، بحيث يتجلى الألم باعتباره «وجودا» برزخيا بين المرئي والمضمر، قابلا للإدراك الذهني والتحقق المباشر، شيئا حقيقيا ومرائيا صاعقا، يحتاج إلى الاستبطان وإلى التأمل الذاتي الوحداني؛ يقول السارد:
«دخلت [المستشفى] وبدأت التداوي، وبدأ الألم والقيء والصمت والعذاب والانتظار. انتظار قدوم أحد من الأهل، أو من الأصدقاء.. ليس للمواساة، لكن للإحساس بأني ما زلت على قيد الحياة، وأني كزائري، يمكن لي المشي في الشارع، واستنشاق الهواء براحة، وأن تلك المرحلة ستمر، ثم أعود إلى الرؤية من خارج زنزانة استشفائية، لأرى الحياة، والناس في عقر تسكعاتهم اليومية، وأتسكع أنا كذلك معهم»(8).
يبدو الصوت النابع من عمق العزلة وكأنما هو مستقل عن الوضع المختل للجسد، يصدر عن ضمير مستتر، هو انعكاس للوضع المؤلم، بيد أنه لا يتماهى معه بشكل مطلق؛ من هنا بامكان القارئ فهم درامية الكينونة المنشطرة للذات، وتمثل الفجوة اللاشعورية بين الوعي والجسد المحسوس، حيث ينحو الوعي إلى تشخيص الأمل، ويتطلع البدن إلى كتم الخراب وإضماره. لذا لا تكاد تخلو صورة من صور نص «الألم»، للعربي باطما، مما أسميناه «التوتر المضمر»، برغم إيحائها المبدئي بالتقريرية، قرينة البساطة والوصفية، ذلك أن صورة الذات الموجوعة المخترقة بالمشاعر المتناقضة والملتبسة لا تفتأ تتأرجح بين عوالم القنوط والأمل، بكيفية طباقية تتجاور فيها تفاصيل الرعب والوجع مع تجليات الصلابة والنهوض.
لكن يجدر التنبيه، في هذا المستوى من التحليل، إلى أن سمة «المراوحة» الانفعالية تلك، بما تشترطه في السياق من توتر ودرامية، لا تخلو من مفارقات مسكونة برغبة السخرية من العالم الخارجي، الذي لا تجاوز وظيفته النصية مأرب التخفيف من وطأة الصمت وبرودة الأجواء والعزلة القاسية التي توحي بها غرف المصحات.
ولعل تركيز السارد على جزئيات الخروج من شرنقة السكون المرضي، وذكره لتفاصيل التجوال واستنشاق الهواء ورؤية الحياة، بقدر ما يرتبط بحالة الاختناق العضوي التي تولدها العلة إلا أنه يشير بصيغة نافذة إلى تصادي حلم العودة مع حيثيات الألم الحسي، بحيث تكون، في مستوى ما من التمثيل السردي، ردا صوريا على حالة الموت المجازي التي تسكن باطن الجسد السقيم. وهو ما يكثف مرة أخرى من جرعة التوتر المضمر في تجاويف صور الألم العضوي والروحي في سيرة العربي باطما.
وجذير بالذكر في السياق ذاته -وقبل أن نقفل دائرة الحديث عن التشكيل السردي للألم في هذه التجربة الخاصة من محكيات الجسد العليل المغربية- أن كتابة العربي باطما بالرغم من فطريتها وبساطتها ومباشرتها الناهلة من بلاغة التعبير الشعبي، فإن قدرتها التصويرية تسمو أحيانا إلى مستوى رؤيوي لا تبقى فيه الوقائع مكتفية بدلالاتها الاعتيادية وإنما ترتفع إلى درجة من الجناس التعبيري يمكنها من رسم عوالم تخييلية بالغة التأثير عن مشاعر الألم وماهيته وتجلياته.
2-»الزنزانة رقم 10»: الألم، والكثافة العرضية.
وبخلاف ما كان عليه الأمر في السرد المرضي، فإن محكيات السجن المغربية، تصوغ لـ: «خطاب الألم» تشكيلات نوعية مختلفة بالنظر إلى أصوله وتشخصاته التعبيرية، وما يتخده من أبعاد ورموز، صحيح أن الجسد المختل الخارج عن نسق اتزانه وعنفوانه، شكل القاسم المشترك بين تجربتي المرض والأسر؛ بيد أن اشتغال الوجع المضمر في كتابة السجن استمد له إيقاعا مختلفا، هو نتاج لعمليات التعذيب، ومصادرة الحرية، والمنع من الاحتياجات الطبيعية، وفقدان الاتصال بالأهل والأصدقاء…، مثلما أن المعاناة أضحت مولدة لمعجم ألمي خاص هو غير المعجم المرضي والاستشفائي، يمتح من مفردات: «القمع» و«الاغتصاب»، و«التجويع»، و«التكميم»، و«الكبت» و«الحرمان» و«الإهانة»، و«الجنون»، سمت تجليه المعنوي، ومقام فعاليته في الكون السردي.
والشيء الأكيد أن النصوص السردية بشتى أنساقها النوعية، حتى تلك التي تبدو بعيدة عن مدارات الوجع العضوي، كروايات الحب الخالص والروايات التاريخية، تمتلك رؤيتها الفريدة للألم الإنساني، ولا تخلو من صور ترقى فيها المعاناة الشخصية إلى مستويات عليا من القوة والتأثير، إلا أننا نعتقد أن صور الألم في الروايات المتصلة بالمحن البشرية الاستثنائية، مثلما لاحظنا على الأقل في الفقرات السابقة من هذه الدراسة، وكما سنكشف في الفقرات اللاحقة، تفرز عبر التراكم سمات تمثيلية حاضرة على جهة اللزوم في السياق النصي، لعل أهمها: «العري» و«العزلة» و«الرعب» و«الفقدان»، و«مقصدية التطهير». ومن ثم فإن الانجياب الذي سيطرأ في صور النص السجني، مثلما سنبين، بالأساس مضمون تلك السمات المركزية والأبعاد التي تتخذها في فضاءات الصور، في اقترانها بوعي الشخصيات الساردة لتجربة الأسر، وكذا في التحامها بمثيرات جديدة لمعاناة الجسد والروح لدى الكائن المعتقل.
في نص «الزنزانة رقم 10» لأحمد المرزوقي –وهو أحد المعتقلين العسكريين الناجين من معتقل تزممارت- نقف على سيرة سجن استثنائي، تجلت فيه القسوة البشرية في أقصى مداها، وانعدمت في الآدمية بشكل رهيب، سيرة جارحة تكشف رحلة عقدين من الزمن خارج الحياة لمجموعة من العسكريين المتهمين بالمشاركة في الانقلابين الفاشلين على النظام الملكي مطلع السبعينيات من القرن الماضي، وبخلاف ما يمكن أن نقف عليه في روايات سجنية عديدة كـ«مجنون الأمل» لعبد اللطيف اللعبي»، و«العريس» لصلاح الوديع و«الساحة الشرفية» لعبد القادر الشاوي» وحتى «حديث العتمة» لفاطمة البيه، من مساحات تأملية لتفاصيل الألم تمنح صوره وقعا نثريا مميزا، فإن سيرة «أحمد المرزوقي» تمثل كتركيب أفقي لسلسلة من لحظات الرعب والمعاناة الخارقة، رصت على تحو كثيف وضاج بالتفاصيل، دونما عناية بالأفق الدرامي للأحداث، وما تفرزه في السياق من إشراقات نثرية ولحظات استبطان وجداني. وهي الصبغة التي ترتد في ما نعتقد إلى الطبيعية التسجيلية لنص «الزنزانة رقم 10»، الذي قصد به صاحبه إلى توثيق ذاكرة السجن، مثلما قد تكون محصلة لفطرية الصوت السردي في النص وغاياته التطهرية ولاحتجاجية الواضحة.
بناء على ذلك يمكن اعتبار السمة المؤلفة لدفقات الألم، والدامغة لإيقاعه في نص «الزنزانة رقم 10» هي سمة «الكثافة العرضية» لأحوال القهر، وظروف الجوع، والمرض، والتحلل الجسدي، وهي السمة التخييلية التي تجعل الألم يبرز من حيث هو نتاج لتلازم الإعاقات والموانع في السياق الجزئي للصور السردية، في تزامن مع التصاق تفاصيل العذاب والتشوه والخواء مع العرضي الظاهر والحسي، أي في اتصالها بمكونات الجسد المغتصب والمصادر، الذي يكف عن أن يكون لحاء لروح خفية، ليصير ماهية ذاتية، شيئا صلدا وأجوف في آن، إنما بدون طبقات عاطفية.
على هذا النحو تتراصف المقاطع الوصفية للجوع، والبرد، والصمت، والاختناق، والنتانة، وانهيار الأعضاء الجسدية، يقول السارد في صورة من التداعي الجسدي تلك:
«كان من الطبيعي، في غياب أي نظافة ووقاية أن تتساقط أسناننا بسرعة مفرطة بعد سلسلة من الالتهابات الحادة التي كانت تغرقنا في بحر لا قاع له من العذاب. وقد كنا نعمد إلى خلعها إما ببترها بأيدينا بعد اجتهاد متواصل في زعزعتها، مع ما يصحب ذلك من الوجع الرهيب، وإما بربطها بخيط رقيق متين كنا نلفه حولها ونربط طرفه الآخر بالباب ثم نقتلعها بجرة عنيفة وسريعة. وبطبيعة الحال، لم نكن نفلح من الوهلة الأولى، مما يعني أننا كنا نمارس التعذيب على أنفسنا وقتا طويلا حتى يتحقق المراد، فنخر بعد ذلك على أرضية الزنزانة صرعى وصدورنا مسربلة بالقيح واللعاب والدم»(9).
تجلي الصورة هنا بشكل قوي ملمح الكثافة، المنجدلة بالمبنى اللفظي، والمستندة إلى خصيصة العرضية، وذلك من خلال انغراس المضمون الألمي في بنية الوصف الفيزيولوجي الصادم، والحضور الكبير لمفردات الوجع البدني، ثم عبر ارتكاز الأسلوب على خطة التفصيل الحدثي، وتمطيط إيقاع التبيين، وتشظية صور العذاب؛ بنبرة مأساوية تحول الصورة الجزئية العارضة إلى تعبير نوعي عن عنف الفضاء السجني، حيث يتلاحم «التشوه» و«الفقد» و«الفعل البدائي» و«العزلة الكلية»، مع سمات الاستغراق في العرضية والذوبان في تفاصيل الخصائص، التي تضحى هي العالم الوحيد المدرك والمتاح.
والحق أن الكثافة العرضية للألم في «الزنزانة رقم 10» تمثل عنصرا مندمغا في لحظة الكشف الفطري للسارد، التي تترجم بواقعية زاعقة المآل غير الإنساني الذي انتهت إليه أجساد المعتقلين العسكريين بسجن «تازمامارت»؛ حيث بات الألم سجلا لوقائع شديدة التباين، ومكتنزا بالأسرار المادية والنفسية الموغلة في التغريب، والعصية على التصديق. ولعل فكرة «الغرابة» هذه تنحو إلى اكتساب نسغ تكويني أساس في عمق الخطاب الألمي للنص، إذ يغدو العذاب مضاعفا بتجاوزه لألفته، مثلما هو شأن وجع الأسنان في الصورة، الذي شكل نواة مشهد قاتم مشحون ومبتذل، ومفعم بالبدائية، انطلاقا من كونه تجرد من سمت الاعتيادي، وانخرط في إيقاع جحيمي يفتقد الصلة بالمحيط، ويضاعف من وقع «الصدمة»، وإحساسي: «القرف» و«المهانة». ولا جرم من ثم أن تبدو الوقائع الشاذة جزءا من بداهات الفضاء الجديد، ووسيلة تمثيلية غير منفصلة عن أسلوب التكثيف المستند إلى العرضي الظاهر والمثير.
ومن المؤكِد أن الصورة السالفة مثل مثيلاتها المشكلة للسيرة الحالية، «مرعبة»، وتشخص العزلة عن المشترك الإنساني، وترسم معالم فقدان كل شيء: الجسد ووظائفه الطبيعية، والحرية، والأهل والأصدقاء، وسنوات العمر…، وقد بدت تلك الصور أشبه ما تكون ببوح فاجع يقصد إلى «التطهر» من مشاعر مرزئة لميت حي، افتقد القدرة على الكلام لزمن طويل، فجاء خطابه كتدفق مفاجئ لطوفان الرغبة في التواصل، والالتحام بالفضاء الآهل، وتجاوز الخرس المقيم الذي استوطن الوعي، والتبس بجدران الزنزانة الباردة، والمناخ الخانق، والجسد المتآكل. يقول السارد في مقطع دال من النص، واصفا مآل زميل له:
«لم يعد محمد لغالو سوى هيكل عظمي متآكل لا يميزه عن الجثث القديمة سوى شعر طويل ترامى على الظهر والأكتاف، ولحية كثة استرخت على الصدر النحيف فغطت ما يزيد من نصفه. أما أظافر اليدين والرجلين فقد تصلبت وتطاولت بشكل مريع ومفزع. شعرت وقتئد بغثيان شديد، وبرغبة ملحة في التقيؤ، من جراء الروائح الزاكمة التي نزلت على أنفي كاللطمات، وانغرزت في رئتي كالإبر والمسامير. فقد مر على الرجل أمد بعيد وهو يتغوط ويتبول في فراشه حتى أصبح ما تحته وحوله برك آسنة»(10).
تتردد مثل هذه الصور الفجة كثيرا في السياق، ناسجة ملامح المشهد الجهنمي لفضاء المعتقل السري «تازمامارت»؛ صور تكتسب من القوة المعنوية والفعالية البنائية ما يجعلها تشكل «قاعدة» للحكي، والهدف الجوهري لمبدأ التصوير. لذا كثيرا ما يتم تداول هذا النمط من الكتابة السردية في الأوساط النقدية باعتباره: «شهادة» على تجربة، و«تسجيلا» لواقع، وذلك بالنظر إلى تركيزه على وظيفة الاسترجاع، وتعلقه بغاية «التأريخ». وسرعان ما يغدو المأرب الأساس في العملية السردية مقترنا بمرتكزي: «الوصف العاري الكثيف»، و«العرضي المعاين»، ما دام عالم السجن، يمثل اختبارا لقدرة الحواس، وإمكانياتها في الاستمرار والصمود. فالسجين في النص معزول في زنزانة مظلمة، لا ينفذ إليها الهواء إلا عبر كوة صغيرة في السقف، ولا تفتح الباب إلا لإدخال الطعام البئيس، أو لإخراج جثة سجين نفق. من هنا يكون السمع والبصر واللمس والذوق، معيارا لكفاءة التحمل، وهو ما انعكس أسلوبيا في النص الاستعادي، عبر تكثيف الوصف الفيزيولوجي، وحشده بمثيرات الحواس.
على هذه الوتيرة تمضي مشاهد الألم الجسدي، نابضة بالقسوة والعنف، جامدة، تقريرية، موغلة في المباشرة، تتخفف إلى الحد الأدنى من الهالة العاطفية التي درج الخطاب الروائي على حبكها إزاء أجواء المهانة والمعاناة، إننا بصدد ألم خارج من جسد بارد تحول تدريجيا إلى شيء محايد، لا ينطق إلا عبر خرابه الفاجع، وتفسخه البدائي. مؤلفا من ذلك كله كيمياء بلاغته ورؤيته لأقانيم: «الخوف» و«العزلة» و«الفقدان».
3- «من قال أنا»: الألم والآخر، وتشذير الرؤية.
وعلى عكس بساطة المنطلقات التخييلية والدعامات التمثيلية في تجربتي العربي باطما وأحمد المرزوقي، على اختلاف نواتهما الموضوعية، فإن خطاب الألم في نص: «من قال أنا» لعبد القادر الشاوي، ينطبق عليه، بكثير من الرجحان، وصف «الألم الروائي الممتد»، فهو ألم جسدي، بيد أن الإحساس به لا ينبع من عمق الذات، وإنما عبر إدراك الآخرين، هو ألم وإن كان مركزيا في ارتباطه بمريض، ومعتقل سابق فرد، فإنه يتشظى إلى أفكار وتأملات ومواقف ألمية ملتبسة، يتداخل فيها الذاتي بالغيري، ويضحى كنه الألم مزيجا من دلالات: «الوجع العضوي» و«الوحدة»، و«ضغوط الذاكرة» و»قسوة المحيط» و«الخواء النفسي»، و«الشفقة» و«الفضيحة» و«سوء الفهم»… بخلاف ما كان عليه الأمر في «ألم» العربي باطما، و«الزنزانة رقم 10» لأحمد المرزوقي، حيث يخضع التعبير لرؤية فردية، وصوت مركزي مهيمن لا يشوشه التعدد في محيط الانتماء والحركة والفعل.
وأحسبني لا أجانب الصواب، إذا اعتبرت خطاب الألم في نص «من قال أنا»، نوعا من التركيب التخييلي لمراسيم الوجع المخترق لأوصال الذوات المتعددة في النص، تركيب ينتسج عبر استيهامات الآخرين ممن يتطلعون إلى البدن المسجى في غيبوبته المرضية، ويصلون آلامه الواقعية/المفترضة، بأوجاع سابقة للمناضل والمعتقل السياسي، الذي كانه؛ وهو التخطيط السردي، الذي مكن تجليات الألم من اختراق اللحاء الجسدي، لتطول الفضاء العاطفي الرخو المنتسج حوله، مانحة الألم ألوانا ومذاقات شديدة التباين؛ على نحو يذكرنا بالتمييز النظري الذي وضع «بول ريكور»(11) بين «الألم» و«المعاناة»، حيث يقترن الألم بما هو شخصي مدرك كعطب حسي، لا تلتقطه النفس إلى كتجليات متغايرة، بينما تلتحم المعاناة بقيمة «التعدي»، أي أنها ممتدة عاطفيا ومتصلة بما هو مشترك مع الآخرين، إذن فتجلياتها مفارقة للألم، إنها «انعكاسه» على الذات الباطنية وعلى الكيانات المتصلة بها بأحاسيس الارتباط والتضامن.
ولما كانت المعاناة متعدية فقد شخصت اللحظة الدقيقة للوضع العاطفي المشترك بين شخصيات رواية «من قال أنا»؛ ذلك ما يمكن استيحاؤه -منذ اللحظة الأولى- من صور السرود المتعددة لشخصيات «أحمد الناصري»، و«منار السلمي»، و«عبد القادر الشاوي» وشخصيات أخرى لا تسمى، عن الألم الممتد الذي اخترق الأحشاء ونقلها إلى مشارف العطل. يقول «أحمد الناصري» في صورة من النص:
«عدوت خارجا من المصحة تطاردني الصورة الأليمة التي كان عليها عبد القادر الشاوي، من المفهوم أيضا أن الصورة تلك كانت تطاردني من ألم أحسست به عندما وجهت بصري نحو الرجل الذي كان إلى فترة قريبة في منتهى الحيوية التي بقيت للمتعبين مثله. الأسى إذن ولا شيء إلا الأسى وأنا أغادر المصحة مصعوقا أغالب دمعي الذي لا يطاوع بكائي. لا أريد مواجهة نفسي بالحقيقة النهائية التي أشعرتني بالرعب الشديد»(12).
ليس من شك أن المتألم في الصورة هو السارد المعافى لا البطل السقيم، الخارج من تجربة أسر مريرة، لقد أمسى ألم العلة بديهة خرساء في غياب الوعي المدرك لها، وتحولت قوتها المنتشرة في المحيط إلى مصدر للتفاعل الخارجي. هكذا تتحدث الصورة من حلال الخلفيات والأجواء المهيمنة وتيار الوعي الذي يصوغ تفاصيل الأسى، فتنقلب الأدوار بين «الرائي» و«المرئي»، وتغدو الرؤية وعاء للألم الوجداني المجاوز للعلة وللجسد المسجى، والمحصلة أن الذات السقيمة للمعتقل السابق تصير مجرد مثير لهواجس الرعب، والتمزق وفقدان التوازن.
والطاهر أن امتداد الألم إلى كيان «الآخر» المعافى، والناقل للرؤية، يكتسب، في السياق الروائي، وظيفة تخييلية محددة، من شأنها تكييف الألم المشاع ومنح مفعوله آثار متباينة، إنما بصيغة تترك الباب مفتوحا لتأويلات المتلقين المحتملين؛ فأحمد الناصري يتألم بعمق وحدة، وتنقل وجهة نظره السردية المعاناة بحساسية بالغة، تعيد تخليق الأوجاع الساكنة في ذات البطل الفاقد للوعي. إننا هنا أمام «تذاوت» يشظي الوجع، ويمنحه كنها مفارقا لأصله، في الآن ذاته الذي يحوله إلى إحساس براني قابل للتأويل وتدخل الإدراك.
والحق أن هذا الاسترسال «التذاوتي» للألم في رواية «من قال أنا» يمنح أقانيم: «الرعب» و«الفقدان» و«العزلة» و«التطهير» ملامح ومضامين تتبدل تبعا لعمقها الانفعالي في ذوات الشخصيات الناقلة للمحكي الروائي، بنحو يتجلى معه الألم بوصفه دالا فارغا من المعنى، يجاوز الوجع، والرعب من تخايل النهاية، إلى نوع من الإحساس الذهني الرامز إلى تعقيد الكائن البشري، وهشاشته الفطرية. من هنا تتجلى تمثيلات الشخصيات الروائية، في النص، للحظات الفحوص، والجراحة الدقيقة، واستعاداتهم المطردة لماضي الاعتقال، مرورا بانفعلات الشفقة والتطهير إزاء الجسد الفاقد للوعي، بوصفها تشذيرا لمعنى كلي مبهم، توحي به الرحلة المؤلمة للبطل لأول وهلة، كما تمثل كمسعى أسلوبي محبوك لملء درجات الألم بالمعنى الإنساني، تنضاف إلى تلك التي تطالعنا في نص «الألم « للعربي باطما، وقد أنهكته العلة، وتنجدل مع إيقاع التلاشي والخواء الجسدي والعطش المقيم في فصول نص «الزنزانة رقم 10» لأحمد الرزوقي، وتتفاقم مع متابعة وقائع العنف والقسوة والجنون ومشاعر الفقدان والتيه، وضياع المنبت والأهل والأفق، في غيرها من روايات السجن والمنفى والمرض.
لكن ماذا بعد تمثيل الشاوي لمجاهل «الألم الممتد» أكيد أن ثمة مأرب السخرية من بلاهة المحيط المتلهف لتأبين الآخرين؟ لكن ثمة أيضا تراسل مع إيمان ثابت، في كون الذات بؤرة العالم، حتى حينما تكون مصادرة من قبل روايات «الغير». في هذا السياق يمكن فهم المقطع التالي -الوارد ضمن الفصل الخاص برواية «منار السلمي»-:
«أشعر الآن أن الفترة التي قضيتها في الدار البيضاء بعيدا عن جميع العلاقات المتأججة التي تثير الشرر لم تفلح بتاتا في إخماد الحنايا الملتهبة. لا أبدا. وهذا أمر غريب، فقد أردت أن أترك لفعل الزمن إحباطاتي، عبثا؟، الزمن أليم أيضا، وخصوصا حين يمضي كأنه القدر المدمر الذي لا يأبه بالعواطف المستجيرة به. فكيف أدركت رشيدة أنني على استعداد تام للانهيار أمام جميع الأخبار المحزنة، وهل يكون هذا الخبر بالذات مدمرا بحيث لم تدرك أنها حركت به جميع الأحزان الهاجعة؟»(13).
يتضح جليا أن معاناة الساردة ما هو إلى تفاقم صوري لصمت الذات المعتلة في السياق النصي، إنه صورة لما عبرنا عنه بالتذاوت الألمي، وعينة أسلوبية لنهج تشذير الرؤية التي لا تنبهق في السياق إلا لتضويع التمزق، ورفده بدلالات جديدة تنقل تحققه من الشرط الفردي المضمر إلى أعطاف التفاعل العاطفي المدرك، المواكب لإيقاع التأزيم الممتد عبر الأحداث والوقائع السردية. لذا وجب النظر إلى هذا المقطع –الذي يرد بعد توصل «منار» بمكالمة من صديقتها رشيدة تنبئها فيها بدخول عبد القادر الشاوي المصحة في وضع بالغ الخطورة- من حيث هو نتاج لإيقاع «الامتلاء» الصوري، لخطاب الألم، إذ إنه وإن انطلق من بؤرة حصرية «مختزلة» إلا أنه سرعان ما أنشأ مجالات أرحب، ومن ثم ما فتئت تشكيلاته تنفتح على دلالات ومضامين تكشف تدريجيا عدوى الألم وتكثيفه اللاإرادي لأجواء «الرعب» و«العزلة»، و«الفقدان».
في مقاطع لاحقة يستثير الرواة صور الأوجاع السرطانية متماهية مع ذاكرة الأسر في بشاعتها الجهنمية، كما يقفون على أحوال «البرودة» و»العزلة» والخواء المستشري، وتضمن في السياق مشاهد بالغة التفصيل عن عملية التخدير والجراحة الدقيقة، بيد أن المشترك في تلك المقاطع جميعا، أن الألم يتجاوز فيها وعي الذات البطلة إلى المحيط الخارجي، عبر منطق الصداقة والحب والانتماء إلى دائرة إنسانية مشتركة. لذا غالبا ما يلتبس خطاب الألم بنزعة التعاطف المأساوي، ويضحى بؤرة لتلاقي أحاسيس وانفعالات متباينة ومتناقضة أحيانا. وهو ما يفتح بلاغة التمثيل الروائي للألم على آفاق جمالية متغايرة، تنضاف إلى مثيلاتها في نصوص محمد خير الدين وعبد اللطيف اللعبي والعربي باطما، وأحمد المرزوقي وصلاح الوديع وفاتحة مورشيد وغيرها من النصوص الذي أثرت رصيد سرديات المرض والسجن في الرواية المغربية المعاصرة.
4-تركيب:
تلك كانت بعض تجليات خطاب الألم في الرواية المغربية الجديدة، تجليات مطبوعة بنزعة التنويع والإبدال لمعنى العذاب الجسدي والنفسي، تمثل عينة نوعية للنـزوع الروائي إلى طبع تشكلات المعاناة الإنسانية، وصياغة تعددها، وإذا كان بإمكاننا أن نخلص من محاور التحليل الراهن إلى خلاصات عامة، فإنها لن تهم نصوص «الألم» للعربي باطما، و«الزنزانة رقم 10» لأحمد المرزوقي، و«من قال أنا» لعبد القادر الشاوي فحسب، بقدر ما ستنفتح على مجمل الأسلوب النوعي لمحكيات المرض والسجن المغربية؛ وعليه:
4-1. فإن تجليات «الألم» السردي، في هذه النصوص، تشكيل صوري تمتلك فيه اللغة الحادة، العارية، كفاءة تمثيلية مؤثرة، لعوالم الخواء والصمت والخراب الجسدي، وقدرة أسلوبية نافذة على تطويع إمكانيات الكلام المرجعي لغايات التخييل القريبة من المتعين والظاهر، وهي بهذا التخصيص صور لليومي المتعلق بالنماذج البشرية المعذبة، وبالوقائع والأفكار والعواطف الإنسانية المتعلقة بلحظات الخلل وفقدان التوازن.
4-2. لذا ليس غريبا أن تهيمن على صور الألم خصيصة التفصيل، قرينة المباشرة والتعيين، بحيث يضحى وجود الشخصيات وفعاليتها في السياق الصوري مغمورا بعلاقاتها في الفضاء والزمن وتواتر الأحداث، وملتبسا بمنطق الإمكان في رصد خصائص الطبع والسلوك الإنسانيين، ولذا فعندما تستبطن الصور مظهرا معينا للغرائبي /الاستثنائي في لحظات المرض والسجن، فإنها تترجم في الآن نفسه قيم البلاغة النوعية في التقيد بنطاق المحتمل، وتقريب خصائص الظاهر والمألوف.
4-3. ولا غرو إذن أن يمتلك «الألم» السردي، قدرة فريدة على ترجمة العنف الاجتماعي، واستبطان مكامن الهشاشة الجسدية والفراغ النفسي للكائن الفرد؛ فالألم في نصوص السجن والمرض ماهية وجودية متشظية تتسرب إلى صلب علاقات التساند، وتكيف شروط التواصل والتفاعل السرديين، وهي تستمد وقعها النافذ من الطبيعة المعقدة للكائن البشري.
4-4. ويغتني المعجم «الألمي» بمراتب الدلالة ومقامات المعنى، المؤدية لصور الأزمة الفردية والجماعية في النصوص، بيد أن هذا التعدد يرتد إلى سمات تكوينية نوعية مشتركة بين العديد من نصوص المرض والسجن المغربية؛ وهي سمات: «العري» و«الرعب» و«العزلة» و«الفقدان» و«مقصدية التطهير»… وهي السمات الثابتة التي سرعان ما تجد لها تجليات متغايرة، ولا تلبث إطاراتها أن تنفسح تدريجيا، عبر آليتي «التنويع» و«الإبدال»، على قيم دلالية وجمالية مرتبطة بالخصوصية الفردية لتجربة الألم.
4-5. ولا جرم، بعد ذلك، أن تجنح الصور في هذا النوع من الخطاب إلى رسم مدار لترابطها النصي، تفرد بمقتضاه المتنوعات الصورية المتغايرة بسمة بلاغية تكون لحمة إنجازها وتداعيها، وأساس جدلها وتعدّيها في السياق النصي، من قبيل: «التوتر المضمر» و«الكثافة العرضية» و«التذاوت» و«تشذير الرؤية»… وغيرها من السمات الضابطة لتفاعل وظائف التخييل في الصور الجزئية؛ حيث تنجدل بطبيعة الخراب الجسدي والنفسي في النص السردي، وتلتحم بسمات وعي الشخصية، وتطبع مكونات الوصف، ومباني السرد، ومقامات التمثيل الحسي والذهني، وسجايا الاقتصاد والمبالغة التعبيريين.
الهوامش
1 -يانكو لافرين، نيتشه، ترجمة: جورج جحا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1973، ص 66.
2 – Eric Gagnon, Les promesses du silence, Essai sur la parole,
Ed. liber, Montréal, 2006, p. 125.
3 – أسئلة الرواية أسئلة النقد، منشورات الرابطة، الدار البيضاء، 1996، ص 64.
4 – يقول السارد في متن الرواية: «هي لعبة تعتمد طرح ما يؤلم ويسبب الوجع وصداع الرأس» ص 133 (طبعة دار الأمان، الرباط، 1992).
5 – دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 2004. وهو الجزء الثاني من سيرة المبدع المغربي «العربي باطما»، بعد جزء أول حمل عنوان «الرحيل».
6 – نفسه، ص 7.
7 – نفسه، ص 43.
8 – نفسه، ص 41.
9 – دار طارق للنشر، الدار البيضاء، 2003، ص 104-105.
10 -نفسه، ص 154.
11 -أنظر:
– Ricœur P. « La souffrance n’est pas la douleur », Revue Autrement – souffrances, n°142, février 1994.
12 – من قال أنا، منشورات الفنك، الدار البيضاء، 2006، ص 30.
13 – نفسه، ص 42.
شرف الدين ماجدولين
باحث وأكاديمي من المغرب