د. خديجة زتيلي واحدة من أنشط الأصوات الفلسفية الفاعلة والمتفاعلة في الفضاء الفلسفي الحديث في الجزائر وعلى المستوى العربي.
تشغلها في العمق تلك الأسئلة الفلسفية الملحّة على مستوى القيم والنيو/ ميتافيزيقا، ومواطنة المرأة العربية، وتجديد الخطاب الديني، وأخلاقيّات السياسة، ومدارات فلاسفة الغرب المعاصرين (نقداً وتقويماً) أمثال: تشومسكي وهابرماس وموران وباديو وجيجيك وباومان وتيودوروف وجوليا كريستيفا… إلخ.
وتشغلها في الصميم أيضاً قضية الفلسفة النسوية، وفي هذا المجال ترى أنه من الإجحاف القول بأن الجندر، هو الذي يحرّك الفكر عند الفيلسوفات ويدفعهن إلى إعادة كتابة تاريخ الفلسفة من زاوية نظر نسوية. فالشغف بالحكمة ومحبة الحق والخير والجمال من آفاق الفكر الفلسفي الإنساني الذي لا يقتصر على جنس دون غيره.
كما وأن الخوض في «الذات الأنثوية»، لا ينبغي أن يفهم فهماً ناقصاً ومشوّهاً، فبالاستناد إلى علم النفس، تتأكد الفروقات النفسانية الموجودة بين الجنسين التي من شأنها توسيع مجال الفهم وتعميقه وإسباغ التصورات الدلاليّة المطلوبة. و«الذات الأنثوية» بهذا المعنى لا تقدم نفسها على أنّها الذات العارفة الوحيدة في الفلسفة النسوية، بل إحدى الذوات العارفة. ومن الأهمية بمكان التذكير في هذا المقام أن الموجة الثالثة من الفلسفة النسوية في الغرب، اشتغلت على هذا التصور وجادلت فيه. وفي ضوء جهودها المعمقة والمتواصلة، باتت الفلسفة النسوية من المباحث التي يحسب لها حساب في القرن الحادي والعشرين.
أما عربيّاً، وبحسب د. زتيلي، فثمّة تجارب فلسفية نسوية لا يجوز إغفالها اليوم، وإن كانت ليست بالزخم والفاعليّة الموجودة عليها نظيراتها في الغرب.
لدى د. زتيلي العديد من المؤلفات في الفضاء الفلسفي نذكر منها: «أفلاطون: المعرفة، السياسة، المرأة» – 2011. «بنديتو كروتشه والنزعة التاريخية المطلقة» – 2016. «في دروب الفكر والكتابة» – 2018.
هنا حوار مع د. خديجة زتيلي، الأمينة العامة للجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية وأستاذة التعليم العالي في فسم الفلسفة في جامعة الجزائر , تناولنا فيه قضايا فلسفية عدة، أبرزها الفلسفة النسوية ومفهومها المتنامي باطراد.
إلى أي حدّ تحملين في ذاتك قلق السؤال الفلسفي الشائك و»المغامِر» في مجتمعات ما يزال اللاعقل فيها يسود على العقل؟
– يدعوني واجب الوفاء لذاتي وقناعاتي وللفكر العقلاني وقيم التنوير أن أكون قلقة متوجّسة متشبّثة بالسؤال الفلسفي رغبة في المعرفة وتحرّي الحقيقة التي تتجلّى نسبيّة على الدوام.
أحبُّ أن أغنّي خارج السرب، وأفكّر بعيداً عن الأسيجة الدوغمائية المغلقة، فالمعرفة الفلسفيّة تُعلّمنا أن نُخاصم اليقين والمطلق والقوالب الجاهزة، وأن يكون أفق المعرفة رحباً يتسّع للاختلاف والتعدّد. فمذْ وعيتُ حجم المآسي التي يعاني منها الإنسان في بلادي والعالم العربيّ وفي العالم بأسره، لم أهدأ، فكلّ شيء من حولنا في غير موضعه الصحيح وبغير مفهومه اللائق، فمن أين تأتي الطُمأنينة يا ترى؟ ففي خِضمّ هذه السياقات المحليّة والعالميّة يسْتعِر الشكّ ويتعمّق اللايقين وتشتدّ المغامرة نحو مراتع للعقل والحريّة قد تخفّفُ من غلواء المآسي ومن كوارث العالم. لذلك أهربُ كثيراً إلى القراءة والكتب لاستلهام المعنى والاهتداء بنورها.. صحيح أنّ مجتمعاتنا العربيّة مُنهمكة اليوم في مشاكلها ومُكبّلة بالجهل المقدّس، لكنّني أحاول ما استطعتُ من موقعي، كأكاديميّة وكاتبة تنتمي إلى المحلّي والكوكبي، تحريك الراكد والمضيّ في دروب الفكر والبحث والكتابة، فأنا لا أحبُّ التفرّج على خيْباتنا ومآسينا بدمٍ باردٍ وأفضّلُ فهمها لتجاوزها.
حتى الآن، ما يزال القول الفلسفي الخلاق لدى المرأة في العالم العربي خجولاً، وربما متردّداً بحدود كبيرة.. لماذا برأيك؟ وماذا تقولين في اللائي حملن وما زلن يحملن هذا القول، ولو في سياق تفكّري يعزز الجدل الفلسفي وتطوّره في حقول معارفنا المختلفة؟
– لا يمكن الإجابة عن هذا السؤال من دون الانْخراط في التاريخ والعودة إلى تُراثنا الفكري والديني لفهم السبب الذي يجعل القول الفلسفي لدى المرأة في العالم العربي خجولاً أو متردّداً على حدّ توصيفك، إذ لا يمكن الإنصاف في هذه المسألة بلا قراءة حصيفة وموضوعية لأحداث الماضي، التي تَكشف في حقيقة الأمر عن الزوايا المعتّمة وممارسات التسلّط والتهميش والإقصاء التي طالت النساء بفعل الهيمنة الذكوريّة وتعسّف القوانين التي أُحْكمتْ صياغتها بما يتناسب مع أهداف العقل البطريريكي. ولا شكّ أن التاريخ يُعلّمنا أن الأقوى هو الذي يُسيْطر ويصنعُ مصيره ومصير الآخرين. فكيف لك أن تضع كائناً في السجن وتمْنع عنه الحياة والهواء والحريّة، ثم تسأله لماذا لا يتحرّك ولا يقول شيئاً، أليس هذا من المغالطات؟
كان هذا هو وضع النساء في صورة مُختصرة في مجتمعاتنا العربيّة والإسلاميّة، فقد كنّ يُحتقرن ويُعتبرن مواطنات من الدرجة الثانية لأنهنّ إناث، وكنّ ممنوعات من المشاركة السياسيّة والاجتماعيّة بمسوّغ بيولوجي لا يمتّ إلى العقل والمنطق بصلة. واليوم وإنْ تحسّن وضع المرأة العربيّة بشكل عام، بفضل نضالات مستميتة أعادتْ صوغ المفاهيم من جديد، فإنّها ما تزال تعاني من الإقصاء بتأثير من النسق الثقافي المهيمن، تفاقمه إكراهات الإسلام السياسي والخطاب الفقهي الأصولي المتوسّلين بالدين لتطويق حرية النساء وجعلهنّ كائنات دونيّة. ولذلك أقول للمتردّدات اللواتي بإمكانهنّ خلخلة الأشياء بأنّه لا وقت للتراجع إلى الخلف، وأؤكد لنفسي ولمثيلاتي ممن اكْتوين بجمر السُؤال وامتلأن بشغف البحث الفلسفي وبالرغبة في الفهم والتغيير، بأنّه لا مجال لأيّ إرجاءٍ يؤخّرنا عن القول والفعل، فوسط التحديات الكبيرة الإقليميّة والعالميّة الراهنة، إمّا أن نكون أو لا نكون، وتلك قضيّة كينونة عميقة يجب الاشْتغال عليها.
نزعة كره النساء عند أرسطو
منذ أرسطو وغيره عند الإغريق.. إلى نيتشه وغيره في الزمن الوسيط والمعاصر.. والمرأة تتعرّض للإهانة والاستهانة في مقّدرات عقلها الفلسفي والمعرفي، حتى إن أرسطو ذهب إلى القول «إن الطبيعة التي لا تفعل شيئاً باطلاً، هي التي جعلت المرأة على هذا القدر من الدونيّة، وليس للعادات أو التقاليد أو أفعال المجتمع – ولاسيما الذكوري – دخل في تحديد هذه الدونية».. ما تعليقك على هذه النزعة «الميزوجينية» (كره النساء) لدى أرسطو، وكيف يكون «معلّماً أول» من ينطق بمثل هكذا كلام؟
– من الواضح جدًّا أنّ فلاسفة اليونان، وأهمّهم أفلاطون وأرسطو، بالغوا في احتقار المرأة والاسْتهانة بعقلها تحت تبريرات عُنصريّة، فقد أفرزتْ الفلسفة اليونانيّة ثُنائيات هرميّة: الأعلى والأدنى، المركز والهامش، الرجل والمرأة، وهذا التصنيف أسهم في تكريس الفكر الأبوي الذي كانت نتائجه وخيمة وكارثيّة على النساء، وأدّى إلى تردّي الإنسانيّة وتقهقرها إلى الوحشيّة. فقد وقعتْ البشريّة لاحقاً تحت تأثير اليونان ومُسلّماتهم التي استمرّتْ سُطوتها على العقول إلى العصر الوسيط في أوروبا، ولم يسْلم منها حتىّ العصر الحديث عندما ردّد فلاسفته أطروحات اليونان التي تُعلي من شأن الذكر وتبخس الأنثى، وصارت تلك الأطروحات تُقَدّمُ بوصفها حقائق لا تَقْبلُ الجدال ولا تَحْتمل الطعْن في صحّتها.
ولذلك لا يجب الاستغراب من القول الأرسطي الذي يستخفّ بالمرأة والذي ضمّنتهُ في سؤالكَ، فأرسطو لا يشذّ على القاعدة اليونانيّة في هذه القضيّة، بل يحرص على احترام تعاليم المجتمع اليوناني الكلاسيكي وما جاء في دساتيره التّي جعلتْ من المواطنة الفعليّة حقّا للرجال وحسب. أما النساء فلم مواطنات فعليّات وكانت مرتبتهنّ الاجتماعيّة كمرتبة الغُرَباء والعبيد، ما يعني أنّ السُلطات المطلقة لم تكن تمنح إلاّ للرجل، زوجاً كان أم أباَ أم أخاً لإدارة شؤون المرأة والحلّ محلّها فيما يتعلّق بممتلكاتها وأطفالها وكلّ ما يرتبط بها من قرارات مصيريّة، وإيقاع هذا الفكر، في واقع الأمر، كان يسري بالوتيرة نفسها على الفلاسفة اليونان، وأرسطو كان واحداً منهم أخلصَ للنسق الثقافي الذي كان سائداً.
لذلك تسعى الدراسات النسويّة الحديثة والمعاصرة إلى إعادة قراءة التاريخ قراءة جديدة بعدما انتقلتْ المرأة من موضوع للخطاب إلى صانعة له. وإذا كان أرسطو قد اشتهر بلقب المعلّم الأوّل، فلنبوغه في المنطق واستحداثه له كمبحث معرفيّ غير مسبوق في العالم القديم، وقد استفادت منه الإنسانيّة أيّما استفادة، ولا ريب في ذلك، ثمّ طورتهُ لاحقاً إلى ما بات يعرفُ بالمنطق الرياضي المعاصر، لكن فيما يتعلّق بالموقف السياسي والأخلاقي الأرسطي حيال المرأة، فإنّ نتائجه كانت وبالاً خطيراُ على الفكر الإنساني برمته، وقد بقي نقطة سوداء في فلسفته.
ألا يصدمك كذلك الحدّ الذي وصل إليه الفيلسوف نيتشه من احتقار المرأة باحتقار أمه وأخته في كتابه «هذا هو الإنسان».. وقوله بأن المرأة هي «فخ نصبته الطبيعة للرجل».. ألا ينمّ ذلك عن حقد ممزوج بانفعال عاطفي مريض؟
– لم يكن نيتشه وحده من صدمنا باحتقاره للمرأة، فقبلهُ كان الفيلسوف شوبنهاور، الذي انْقلب ضدّ المرأة متأثراً بسلوك والدته التي جرحتهُ عندما أهملتْ والده المريض وراحت تصرف المال بسخاء على عشيقها، وهو ما جعله يكره النساء ويحتقرهنّ. والموقف من المرأة هذا ينبع من العاطفة وخلفيّتهُ نفسيّة بحتة، وهو حصيلة تجربة شخصيّة، لكنّ شوبنهاور وتحت رحمة هذه التجربة القاسيّة، راح يحتقر النساء ويتهمهنّ بالخيانة، وهو التعميم الذي لا يقبله العقل.
وتكشف حياة نيتشه هي الأخرى عن ألم عميق ظلّ عالقاً بالروح، وسيؤثر لاحقاً على صحّته وسلامته العقليّة، فقد كانت لتجربته العاطفيّة الفاشلة مع حبيبته «لو سالومي» أثرها العميق على حياته. كانت «لو» امرأة جميلة وذكيّة ومثقّفة وتحترف التحليل النفسي وتفتخر بأنّها من تلاميذ فرويد، فضلاً عن كونها شغوفة بفلسفة كانط وسبينوزا، وعندما التقاها نيتشه وقع في غرامها، واعتقد أنّ الحظّ ابتسم له بهذا اللقاء، فلعلّ هذه الحبيبة تنقذه من عزلته ووحدته التي جعلته خشن الطباع، وأحبّها بكل ما للعشق من جنون وضعف، لكنه عندما طلبها للزواج رفضته، كما رفضت غيره ورحلت تاركة إياه يكابد آلام الجوى والفراق، ولنا أن نتصوّر حجم الألم والبؤس الذي تسبّبت به «لو سالومي» لنتيشه. يقول في كتابه «هكذا تكلّم زرادشت»: «أنتَ ذاهب إلى المرأة لا تنسى إذن سوطك»، ولكن العارف بالحياة العاطفيّة يدرك أن «لو سالومي»، هي التي سحبتْ السوط منه وجلدتهُ به، في تجربة قاسية ستفرز حقداً ضدّ النساء يحمله نيتشه في صدره بقيّة عمره.
ديكارت هل أنقذ الموقف؟
ديكارت، بوابة الحداثة الفلسفية والفكرية بوجه عام، هو الذي وضع حداً للفكرة الأرسطيّة السلبيّة تجاه المرأة، وعبّر مع تلاميذه بأن العقل لا جنس له، وأن دماغ الرجل مساوٍ لدماغ المرأة، والدماغان يعملان بالطريقة عينها. ما تعليقك، خصوصاً وأن بعض التنظيرات النسوية، ممثلةً بسوزان بوردو، كانت قد شكّكت بأنوارية ديكارت في هذا الجانب، وقالت إن فلسفته العقلانية ظلت مشدودة إلى الذكورة و «تفوقها»، بدليل قوله لاحقاً «إن النساء لا يصلحن لأمور كثيرة كبرى، فهنّ لسن مصنوعات للتفكير، بل هنّ أكثر اتكالاً على الحدس من العقل».. ما تعليقك؟
– راهنَ ديكارت في كتابه «مقال/خطاب في المنهج» على فلسفة جديدة تقوّضُّ مبادئ الفلسفة السكولاستيكيّة ومنطق أرسطو، وتُعلي من شأن العقل، الذي وصفه بأنّه «أعدل الأشياء توزّعا بين الناس»، ما جعل منهجه المستحدث يُفجّر ثورة علميّة غير مسبوقة عُدتْ من فتوحات الحداثة. فقد وجّه أب الفلسفة الحديثة عناية البشرية إلى إِحكام تمسّكها بالعقل في مضامينه الجديدة. وقد خلع هذا الموقف مزيداً من الرصانة على الطرح الديكارتي، في الوقت الذي تقهقرتْ فيه الفكرة الأرسطيّة حول العقل الإنساني وتهافتتْ تحت مِعول النقد. ولكنّ السؤال الوجيه في هذا السياق هل كان ديكارت يتغيّا هذا المفهوم للعقل الإنساني الذي يتساوى فيه الناس جميعاً، أم أنّ المبنى غيّر المعنى؟
من المعلوم أنّ ديكارت أُعْجب في زمانه بملكة السويد «كريستينا»، وبعلمها وفلسفتها واستجاب لدعوتها إلى بلاطها الملكي بتأثير من مؤلّفاته، كما وأنّ مراسلاته مع أميرة بوهيميا «إليزابيت» التي كانت ضليعة في اللغات وشغوفة بالفلسفة، هي موثّقة وشاهدة على مقدرتها على التفكير والمحاججة وعلى مجاراة ديكارت لها في النقاش الفلسفي في مسائل إشكاليّة غاية في العمق. لكن الالتباس يقع عندما يعثر المرء على رأي مخالف لما قيل، كالذي تتبنّاه الأميركيّة «سوزان بوردو» وتحاول من خلاله إظهار المجازات الذكوريّة المختبئة وراء ادّعاءات العقلانيّة وديكارت ينضوي تحت هذا الاتّهام، الذي ينتهي إلى نزع صفة الأنواريّة عنه.
ولا شكّ أنّ باحثة بحجم بوردو لا تتجنّى على ديكارت من دون دليل، فكيف يتمّ التصرّف عندئذ مع الميراث العقلاني له ومع الكوجيتو الديكارتي «أنا أفكّر إذن أنا موجود» إذا كانت النساء لسن مصنوعات للتفكير؟ لا شكّ أنّ تلك المفارقات العجيبة تجعل الشكّ يطال معنى العقلانيّة لديه.
ثمة من يتحدث عن أن انفصام الذات النسوية بين مظهر مطلوب ومرغوب اجتماعياً وبين جوهر مسلوب ومحبب ذاتياً، ولّد لدى المرأة الفيلسوفة ازدواجية في الشخصية خارجية وداخلية.. ما تعليقك؟
– إذا كانت المرأة فيلسوفة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فلا تكون مزدوجة الشخصيّة وبوجهين: واحد اجتماعي والثاني شخصي، فليس كلّ ما هو مرغوب فيه اجتماعيّاً يمكن الثقة به وأخذه على محمل الجدّ. ففي ظلّ واقع عربي تنهش أوصاله الأميّة والجهل، ويكرّس دونيّة المرأة، وتنحسر فيه حقوق المواطنة، وتغيب الديمقراطيّة عن مؤسّساته، ويهيمن الخطاب الديني الأصولي على منظومته الثقافيّة، لا يمكن للمرء أن يهادن ويسير خلف القطيع. ومن يدفن رأسه في التراب عندئذ، هو هزيل النفس ضعيف الشخصيّة وقارئ سيئ لتاريخ الفكر الفلسفي، الذي يعلمنا أنّ الفكر الحرّ لا يحابي ولا يتملّق ولا يخضع، ولعلمكَ فإنّ هذه الطينة المقاومة موجودة في الواقع، وهي تُقدّم تضحيات كبيرة على قلّتها وصعوبة مهامها من أجل أن تتماهى مع ذاتها الأنثويّة وتُخْلِص للمبادئ التي اسْتلهمتها من الفلسفة الحقّة. لكنّ الذي أريد أن ألفت إليه في هذه السطور، هو وجوب التفرقة بين من يحصل على شهادة في الفلسفة ليشتغل ويؤمِّن وظيفة بها، وبين من يجعلها أسلوب حياة يتماهى فيه الاجتماعي والشخصي.
الفيلسوفات الحديثات في الغرب اليوم
ما الذي تقولينه في أطروحات الفيلسوفات الحديثات في الغرب أمثال: أديت شتاين وحنّا أرندت وسيمون دو بوفوار وجوليا كريستيفا وسوزان لانغر.. وغيرهن.. وغيرهن. أي إضافات جديدة جئن بها ويمكن أن تسهم في تعميق مسار تاريخ الفلسفة؟
– إنّ الفلسفة بصيغة المؤنّث في الغرب خليقة بالاحترام، حتّى وإنْ اختلف المرء مع بعض أطروحاتها، فقد خاضتْ الفيلسوفات الحديثات في قضايا فكريّة وسياسيّة وأخلاقيّة شائكة بجرأة وعمق، وبرهنتْ غير مرّة بأنّ موازين الفكر قد انقلبتْ رأساً على عقب، عندما تجلّى بهنّ وفيهنّ تاريخ فكري جديد يحاول أن يقطَع الوصل مع ممارسات الماضي بنقد الأبنية الفكريّة الأبويّة والخوض فيما كان يعدُّ من المحظورات. فقد تمتعتْ الفيلسوفة «إديث شتاين» (1891-1942) التي تتلمذتْ على يد الفيلسوف الألماني هوسرل بنفاذ البصيرة، وحاولتْ من خلال بحثها «تسرّب الانفعالات والعواطف» الذي أنجزتهُ لنيل درجة الدكتوراه، أن تتجاوز علم النفس إلى علم يعتني بالظواهر الإنسانيّة لاستكناه بواطن النفس المعبّر عنها بالحدوس الانفعاليّة والعقليّة، وقدّمتْ أعمالاً أخرى تُركّز فيها على سيرتها الذاتية الحزينة.
أما «حنّا أرندت» (1906-1975) فشُهرتها طارت في الآفاق بفضل أعمالها النقديّة الجريئة في مجال الفكر السياسي على وجه الخصوص، ويكفي أن أشير هنا إلى بعض مؤلّفاتها، التي خاضتْ فيها في قضايا الحريّة والدمقرطة والعدالة والكرامة الإنسانيّة، لتقدير مكانتها الفكريّة في الأزمنة الحديثة مثل: «في العنف»، «في الثورة»، «حياة العقل»، «أصل التوتاليتارية» وغيرها؛ ويعدُّ الكتاب الأخير من أهمّ الكتب السياسيّة في القرن العشرين، ويجبُ التذكير أنّ أرندت قد اغْترفتْ في مُنجزاتها الفكريّة من تجربتها الشخصيّة التي وضعتها أمام تحديّات صعبة.
وتعدّ الفيلسوفة «سيمون دو بوفوار» ((1908-198) الجدّة الحقيقية للفكر النسوي الحديث، وكتابها «الجنس الثاني/الآخر»، هو بمثابة إنجيل الحركات النسوية الحديثة، انتقدت فيه الطريقة التي عوملت بها النساء عبر التاريخ. فقد كتبت عن القضايا الاجتماعيّة وعرّت من خلالها المنظومات البطريريكيّة المتسلّطة، وأسهم كتابها المشار إليه الصادر عام 1949 في انطلاق الموجة الثانية من النسويّة. ونظرا لطرافة أفكارها وجرأتها، قام الفاتيكان بمصادرته ووضعه على لائحة الكتب المحرّمة والممنوع تداولها.
وينقلنا الحديث عن الفيلسوفات الغربيّات، فضلاً عمّا قيل إلى سيرة الفيلسوفة «جوليا كريستيفا» التي ولدت عام 1941 في بلغاريا وتعيش حالياً في فرنسا، وتجربة هذه الأخيرة لا تقلّ أهميّة عن نظيراتها، وهي مُفعمة بالنشاط في تخصّصات مختلفة، فهي ناقدة أدبيّة ومحلّلة نفسيّة وروائيّة وناشطة نسويّة وأستاذة جامعيّة وفي حوزتها أكثر من ثلاثين مؤلَّفاً، ويحسب لها ألف حساب في مجال التحليل النفسي والدراسات الثقافيّة والنقد الأدبي وعلم اللسانيات، كما تحظى محاضراتها وندواتها ومؤلّفاتها راهناً بمتابعة كبيرة، وتحاول كريستيفا، وهي المتأثّرة بمناهج ومدارس فكريّة مختلفة، إعادة صوغ جملة من المفاهيم تتعلّق بالسياسة والثقافة واللغة والمرأة.
وأختم هذا المحور بالفيلسوفة سوزان لانغر (1895 = 1985) التي أولتْ أهمية للفنّ والمنطق والفلسفة، وقد واصلت في مؤلّفاتها بحوث الفيلسوف «أرنست كاسيرر» (1874 – 1945) في الرمزيّة. وإذا كانت لانغر قد شقتّ طريقها في هذا المجال بعدم التماهي مع جميع أطروحاته، فإنّها سارت على خُطاه في اعتبار الإنسان كائنا رامزا، لذلك ألحّتْ في نصوصها على ضرورة الاعتناء بهذا الجانب، لأنّ الرموز هي السُبل الكفيلة بمعرفة أعمق للفلسفة واللّغة والفنّ والتاريخ والطقوس الدينيّة والأساطير.
وبعد الذي قيل، ألا تُضيف كل هذه الأفكار، التي أوجزتُ في تقديمها، قيماً أخلاقيّة وفنيّة ومعرفيّة للإنسانيّة، تسهمُ بها في تعميق مسار تاريخ الفلسفة؟
ماذا تقولين في ظاهرة تيار الفلسفة النسوية الذي ظهر في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين في فرنسا والولايات المتحدة، مستفيداً كما يقال من صعود الوجودية والماركسية وما بعد البنيوية؟
– هناك عوامل تاريخيّة وفكريّة أسهمتْ في ظهور تيّار الفلسفة النسويّة في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي أو ما باتَ يُطلقُ عليه اسم الموجة الثانيّة للنسوية. فإذا كانت الموجة الأولى للحركة النسويّة في القرن التاسع عشر قد تميّزت بالمطالبة بالحق في التعلّم والشغل والترشّح للانتخابات، وتولّدت عنها حركة سياسيّة تدعو للتحرّر من الهيمنة الذكوريّة، فإنّ الموجة الثانيّة كانت أكثر نُضجاً ووعياً وعمقاً من سابقتها، إذ راحتْ تبحثُ عن صيغة نظريّة للهويّة النسويّة، مستفيدة من فلسفة الحداثة والمناهج الجديدة، ومتكئة على كتاب سيمون دو بوفوار «الجنس الثاني/الآخر » الذي أحدث ضجّة بعد صدوره. وقد اسْتهلتهُ الكاتبة بعبارة شهيرة «المرأة لا تولد امرأة، بل تصير امرأة»، في إشارة منها إلى أنّ المجتمع هو الذي يُعيد صياغتها وفق منظومتهِ الثقافيّة، فالطبيعة ليست هي التي جعلت المرأة ضعيفة ولا تكوينها البيولوجي، بل المجتمع هو الذي أسهم في توطين تلك المفاهيم الخاطئة، وهو نفسه الذي قسّم المجتمع على أساس جندري. لِنَشهد ابتداء من ثمانينيات القرن العشرين على ميلاد الموجة الثالثة للنسويّة التي سُميّت بالنسويّة الجديدة، وقد جاءت كردّ فعل على الإفراط في المطالبة بحقوق النساء، وكان من خصائصها تعاطيها مع نصوص «ما بعد الحداثة» بُغْية إعادة صوغ الفكر الفلسفي المعاصر والكشف عنْ بِنيات القمع والخضوع السائدة فيه.
ويجب أن أشير هنا إلى أنّ الموجة الثالثة للنسويّة والمستمرّة إلى يومنا هذا، متّنتْ علاقتها بالنساء الأكاديميات اللواتي كنّ يسعين إلى رؤية حضاريّة عالميّة تُخَلْخل مفاهيم المركز والهامش، وتُعيد النظر في مركزيّة الحضارة الغربيّة ومركزية الرجل الأبيض ومركزية العقل. ولا شكّ أنّ الحركة النسوية بموجاتها الثلاث ظهرت كنزعة نقديّة تأسستْ على جدل الواقع والفكر.
ما تزال النظرة التفكّرية العربية إلى الفلسفة النسوية على أنها محض تيار فلسفي يشكل عامل الجندر، أو الجنوسة، أساس منطلقه.. ماذا تقولين؟
– تهتمُّ الفلسفة النسويّة عموماً بمقاربة الفلسفة من زاوية نسويّة، وبالتعاطي مع الموضوعات التي ترتبط بوضعية النساء في المجتمع كالهويّة والذات والمواطنة والجنس والجنوسة وقضايا الحقوق فضلاً عن ذلك، ولا يرتبط الأمر في هذا المنحى الثاني بالفيلسوفات وحسب، لأنّ الفلاسفة هم أيضا يهتمّون بهذه القضايا، ولذلك من الإجحاف القول بأنّ الجندر هو الذي يُحرّك الفكر عند الفيلسوفات ويدفعهنّ إلى إعادة كتابة تاريخ الفلسفة. فالشغف بالحكمة ومحبة الحقّ والخير والجمال من آفاق الفكر الفلسفي الإنساني الذي لا يقتصر على جنس دون غيره. كما وأنّ الخوض في موضوع «الذات الأنثويّة» لا ينبغي أن يُفهم فهماً ناقصاً ومشوّهاً، فبالاستناد إلى علم النفس تتأكّد الفروقات النفسيّة الموجودة بين الجنسين التي من شأنها توسيع مجال الفهم وتعميقه، ويكون بمقدور الذات الأنثوية أن تضيف زاوية إلى الزوايا الأخرى وتسبغ عليها من تصوراتها الخاصّة. وهي بهذا المعنى لا تقدّم نفسها على أنّها الذات العارفة الوحيدة في الفلسفة النسويّة، بل إحدى الذوات العارفة. ومن الأهمية بمكان التذكير في هذا المقام أنّ الموجة الثالثة من الفلسفة النسويّة في الغرب اشتغلت على هذا التصوّر وجادلتْ فيه، متوسّلة بنصوص «لاكان» و«دريدا» و«فوكو» وبفلاسفة «ما بعد الحداثة» بوجه عام، وفي ضوء جهودها تعدُّ الفلسفة النسويّة من المباحث الفلسفيّة في القرن الحادي والعشرين التي يحسب لها حساب. وفي العالم العربي اليوم تجارب نسويّة لا يجوز إغفالها، وهي تمارس الفلسفة بالصيغتين المذكورتين أعلاه، ولكنّ نظراً لأننا لا نزال في حيرة من أمرنا في مسألة الهويّة بين القدامة والحداثة، وتتجاذبنا أفكار متناقضة لا نطمئن لأيّ منها، ومنظومتنا الأخلاقيّة والسياسيّة، ليس باستطاعتها الحسم في مسائل الحريّة والمساواة بين الجنسين والعدالة الاجتماعية والديمقراطيّة والفصل بين السلطات، فإنّ وجود فلسفة نسويّة عربيّة بالزخم والفاعليّة الموجودة عليها في الغرب لا يزال مبكّرا. فالأنثى عندنا، وفي زماننا هذا، تعاني من الوأد بأشكال متعدّدة، والثقافة الذكوريّة، التي زاد الخطاب الأصولي المتطرف في تضخيمها، لا تزال تمارس إكراهاتها وتطوّق الفكر الحرّ.