الشاعر المكسيكي (اللبناني الأصل) خايمي سابينس (جيمس الصغبيني) لا تنفصل حكايته عن حكاية شعره، والشعب أو الأدب او الفلسفة وكل مناحي الكتابة والابداع تتميز بهذا البعد الحكائي التي تمتزع فيها – كما لاحظ بول ريكور- الحكاية والحياة، فلا يعد ثمة فرق بين حكاية الحياة وحياة الحكاية.
خايمي الصغبيني و«قصائده المختارة»، ترجمها شاعر لبنان آخر (قيصر عفيف)- يعيش بدوره مترحلاً بين لبنان والمكسيك- بحساسية العلاقة الحكائية نفسها والتناص اللغوي- الوجودي، والمعنى والتجربة الانسانية المشتركة.
والشعر حين يخضع للترجمة- لا مناص- يفقد بعض مائه، ووهجه، وألقه، لأن الكتابة الشعرية هي الأكثر التصاقاً باللغة بين الأنواع الأدبية الأخرى الى درجة عدم القابلية للترجمة في كثير من الأحيان. وذلك لأن كل كتابة على الشعر هي كتابة ثانية، وكل ترجمة هي «خيانة» للغة في لعبة الأصل والفصل.
هل نجح الشاعر قيصر عفيف في اعادة خايمي الصغبيني الى ضيعته، وبلده الأصلي، ولغته العربية، في جدلية عدنان وإسبان، المكسيك ولبنان؟- هذه مسألة نسبية- ولكن تبقى اهمية المحاولة في المحاولة نفسها، وقد أسعدني شخصيا ان اقرأ الشاعر صغبيني مترجماً بلغة شاعر آخر هو الأكثر قرباً إليه من الوجهة الروحية والانطولوجية، ويمتلك ذات الحساسية الشعرية في مقتطفات- شذرات- لشاعر لا يقل، بل قد يزيد أهمية عن أوكتافيوبات، الذي يصفه الأخير بأنه أهم شاعر في المكسيك، من الرعيل السابق لجيله (جيل اوكتافيو) ومن الاكيد ان باث قد تأثر بالصغبيني في لغته الشعرية، التي تحمل في ثنايا صورها، وبيانها، وأسلوبيتها اضفاءات قديمة للغة قادمة من مناخات ألف ليلة وليلة»، وألف شاعر وشاعر، عممتها العربية في الأدب العالمي، عامة، والأدب الاسباني خاصة، أدب لوركا، وبورخيس وخايمي سابينس أخيراً.
ان تاريخ الهجرة اللبنانية الذي بدأ منذ منتصف القرن الثامن عشر لم يكتب ولم يوثق بعد- يقول الشاعر المترجم قيصر عفيف- ولم يتناول حكاية الهجرة التي جعلت من لبنان في ديار الاغتراب «أمة عظمى» بثروتها الادبية والعلمية والانسانية تفوق بحجمها وجغرافيتها حجم لبنان وجغرافيته، وديموغرافيته ونظامه الطائفي العتيد ، ومحدودية الرؤيا والرؤية لدى ابنائه المقيمين.
فما أكبر لبنان برسالته وكينونته وما أصغر لبنان بكيانه!
من ثلاثة اخوة استقر ريمون وشقيقه ابراهيم في كوبا. أما خليل الصغبيني – ابن صغبين في البقاع- الشقيق الثالث فاستقر في المكسيك والتحق بالجيش الجمهوري تحت قيادة الرئيس كارنزا ووصل الى رتبة رائد وعُرف باسم خوليو.
أمضى الشاعر خايمي (من مواليد 1926) – وهو ثالث اخوته خوان (ولد في العام 1920) وخورخي (العام 1923) – طفولته في كنف أبيه اللبناني الأصل، وأمه المكسيكية (يسميها في قصيدة مهداة اليها «نور») ولم يذكر قيصر عفيف اسمها.
في مدرسته الابتدائية كان «خايمي» طالباً عاديا لكنه ما ان بلغ السنة السادسة الابتدائية حتى بدأ الهرب من الصف للتنزه على ضفاف نهر (سابينال) القريب وكانت الطبيعة تسحره فيظل ساعات على ضفاف النهر حتى كاد أن يعيد سنته الدراسية- كما يقول الشاعر- في حكاية الطفولة.
يقول الشاعر «ان سنوات الوحدة والالم هي التي نصعت الشاعر»، وقد تعلم الوحدة والقلق في الحياة البشرية، فلجأ الى الكتاب المقدس، وقرأه لا قراءة دينية وانما قراءة أدبية، ككل أديب وشاعر يغرف من الكتب المقدسة مادته الادبية.
والتحق الشاعر الصغبيني عام 1949 بكلية الآداب والفلسفة في الجامعة الوطنية في مكسيكو، وادرك ملكته الشعرية وقدره الشعري في سنوات الدراسة هذه، وفي عام 1950 أيقن ان له صوتاً شعرياً خاصاً وقرر ان يصدر مجموعته الاولى Horal. وحين عرض عليه الشاعر كارلوس بيسر Carlis Pellicer كتابة مقدمة للمجموعة رفض رفضاً قاطعاً، وعلل رفضه بأنه لا يريد المشي على عكاكيز يستعيرها من شاعر آخر.
في عام 1953 اقترن بصديقته منذ المراهقة جوزفين رودريغز سيبادا وأنجب منها أربعة اولاد، هم خوليو، جولييت، ياسمين، وجوديث.
وأغوته السياسة فانتخب نائبا عن ولاية تيابس- بلدته- من سنة 1976 الى 1979، وعضواً في الكونغرس عن العاصمة مكسيكو سنة 1988.
مجموعاته التي تنتظر من يترجمها الى العربية عديدة- وأغلبها أسماء علم لأشخاص أو أمكنة- هي على التوالي: Senal (1950)، Horal (1951)، Uria (1976)، Tarumba (1956)، Adam& Eva (آدم وحواء) (1952)، Algo Sobre LA Muerte del Mayor Sabines (سيرة موت الرائد سابينس) (1973)، Maltieupo (1972)، Uno es el Hombre (واحد هو الانسان) (1990).
نال سابينس عدداً من الجوائز أهمها جائزة الأدب الوطني (1983)، هذا مع ان النقد الاكاديمي في المكسيك لم يقبل ويستسيغ لغته المميزة بالبساطة التي تحمل المعاني الوجودية العميقة للحياة البشرية، فهو يكتب عن أي شيء، وحين سئل عن النصائح التي يعطيها للشعراء الشباب اجاب بأن عليهم أن يعيشوا صخب الحياة (إذا لم نكتب عن الحياة فعن أي شيء نكتب؟) والحياة برأيه هي كل الأشياء التي تحيط بنا. ولهذا أطلق على الصغبيني لقب «شاعر الحياة والموت». ولكن يبدو ان دراسته للفلسفة قد اثرت في تكوينه، وقد تاثر بهيدجر، فيلسوف الزمان والكينونة، فكان الصغبيني بدوره شاعر الحياة والزمان والكينونة، وفي نقده لمجتمع الاستهلاك وقيمه، أكد على أهمية «المقدس»، إذ اكتشف بأن ابناء مجتمع الاستهلاك المنزوع- القدسية desacralise يطوقون الى القداسة ولو بمعناها الدهري والانتروبولوجي (الإناسي).
ويبدو تأثره بفلسفة الوجود والعدم، في قصيدته عن الموت الذي يرى فيه خاتمة الحياة، وشرطها العدمي:
«الموت ليس الموت
الموت ملجأ وملاذ»
المرأة في حياة الشاعر امرأة وجودية، نجدها في الهواء، والماء، وحتى على اوراق الشجر، في القول والفعل والحياة:
على حافة الهواء
(ما نقول؟ ما نفعل)
وحتى الآن ثمة امرأة
في الجبل الممتد، فوق العشب
ان بحثنا بعناية
نجد امرأة،
تحت الماء،
وراءك،
أمام، إذا التفت
كورقة على شجرة
تختفي امرأة.
ولا يدرك الشاعر شاعريته، في توائم حكاية الشعر وحكاية الحياة فيقول في قصيدته «أحد المارة»:
يشاع في الصالونات وفي الحفلات ان خايمي
سابينس شاعر عظيم. مقتنعا بذلك يخرج
الشاعر الى الشارع، ومقتنعا يصل الى البيت،
لكنه يدرك أنه لا في الشارع ولا في البيت يدرك
انه شاعر: لماذا لا توضع نجمة على جبهة الشعراء؟
وفي لعبة ليلى والليل العربية بامتياز، يبحث الشاعر عن اسم حبيبته في قصيدة «اسمك» فيترادف الاسم والفجر، والليل في حالة الأرق والسهر:
أحاول أن أكتب اسمك في الظلام
أزرع الغرفة ذهاباً واياباً مجنوناً بك، مملوءاً
بك، وعاشقاً، أعمى، منيراً
أردد اسمك دون تعب وأنا على يقين بأن الفجر آتٍ.
و«عن الاسطورة»:
اخبرتني أمي أني بكيت في أحشائها
قالوا لها: سيكتب له الحظ،
وثمة من اخبرني عن حياتي
بهمس وتأن:
عش، عش، عش!
وكان الموت هو الذي يحدثني.
و«عن السقوط»:
أشعر بالفراغ
أريد أن اتكلم، أن اقول شيئاً
لكني لا استطيع
لم اعد قادراً مع نفسي
أبحث عن امرأة لا وجود لها
وموجودة في كل زمان.
غير أن أجمل ما يقرأ المرء لخايمي الصغبيني في مجموعته قصيدة «العاشقون»، التي تشبه بروحها روح فلسفة الحب عند العرب كأنها من عيون الشعر العربي الغزلي حيث للحب في لغتنا ستون اسماً وأكثر:
يسكت العاشقون
لان الحب هو السكوت الأسمى
يعيش العاشقون كما المجانين
لانهم وحيدون، وحيدون، وحيدون
يؤرقهم الحب
يعيش العاشقون ليومهم
دائما تراهم ذاهبين الى مكان ما
ينتظرون،
لا ينتظرون شيئاً
لكنهم ينتظرون
ويعرفون أنهم لن يجدوا ما يبحثون عنه أبداً
العاشقون يجدون عقارب تحت الشراشف
ويطوف سريرهم على بحيرة!
يخرج العاشقون من كهوفهم
مرتجفين، جوعى
يسخرون من الناس الذين يؤمنون بالحب
كأنه قنديل لا ينضب زيته!
يضع العاشقون بين شفاههم
أغنية لم يتعلموها
ويشرعون بالبكاء
يبكون الحياة الحلوة.
هل الذي كتب هذه القصيدة- لم نورد إلا بعض شذراتها- مكسيكي أم عربي؟ الأرجح- بل الأكيد- انه الاثنان معاً: شكراً لخايمي الصغبيني الذي عرّفنا بأشعاره الجميلة، وشكرا للشاعر قصير عفيف الذي عرّفنا به، على أمل أن تترجم أعماله الأخرى كاملة الى العربية، في عودة الشعر الى لغة الشعر الاولى (لغة الضاد).
جميـــل قـــــاسم كاتب وأكاديمي من لبنان