1
لماذا أنا ذاهبة مع «أسطول الحرية2» (Freedom Flotilla 2) إلى غزة؟ أطرح هذا السؤال على نفسي، برغم أن الجواب لن يكون إلا: وماذا أفعل غير هذا؟ أنا في السابعة والستين الآن، عشت بالفعل حياة ثرية ومثمرة، وأنا راضية بها وعنها. ويبدو لي في فترة الشيخوخة هذه أنه من الخير للمرأة أن تحصد ثمار تفهمها لما هو ذو قيمة، وأن تشيعه، لا سيما بين الشباب. وإلا، فكيف يتعلمون؟
بعض هذه الحكاية كتبته من قبل، ولكنني إذ أريد أن أكمله، مضطرة أن ألجأ إلى التكرار:
في السابع والعشرين من ديسمبر سنة 2008 ماتت إحدى شقيقتيّ، في الوقت الذي بدأ فيه الجيش الإسرائيلي قصفه الكثيف على قطاع غزة في هجوم سوف يستمر لاثنين وعشرين يوما وليلة. كانت أكبر مني، وحياتها كلها قضتها عمليا وهي مريضة. وكم فصلت بين روحينا الضغوط من جميع الأنواع، ولكن بقي الحب. وحتى على البعد القصي بيني وبينها، شعرت عند وفاتها أن قطعة مني ضاعت. كان مذهلا، ذلك الحزن. ثم عرفت في اليوم نفسه أن امرأة في غزة فقدت بناتها الخمس في القصف، وأنها هي نفسها كانت غائبة عن الوعي. فخطر لي على الفور أنني لا بد أن أذهب إليها وأقول لها إنني وإن أكن أمريكية، وإن أكن دفعت من خلال ضرائبي ثمن بعض أسلحة الدمار الشامل الوحشية التي انهمرت على أسرتها، فإنني لا أقر تدمير حياتها، ولا أرضى لها إن هي عاشت بهذا الحزن.
تلك كانت رحلتي الأولى إلى المناطق الفلسطينية التي تسيطر عليها إسرائيل.
وما وجدته هناك أخرسني، وألهمني كتابا ضغيرا هو «قهر الخرس: شاعرة في مواجهة أهوال رواندا والكونجو الشرقية وفلسطين/إسرائيل». كنت على مدار شهور قد استحال عليَّ الكلام عما شعرت به وأنا أمشي محاذية أطلالا كانت من قبل بيوت ناس ومستشفيات ومكتبات ومدارس. رأيت عجائز جالسين في الخرائب التي آلت إليها بيوتهم والتي أنفقوا على إقامتها أحقابا من حياتهم وجهدهم ومحبتهم، وسمعت عن ناس أصيبوا فهم يتعفنون من الداخل إلى الخارج (بسبب مادة دايم DIME الموجودة في القنابل). دمروا نظام مياه الشرب، ونظام الصرف الصحي أيضا. لم يبق من المدرسة الأمريكية غير تل من الأنقاض. جلست هناك وسط الخرائب، وقد تملكني اليأس. خمسة أشياء ـ بعد البشر والحيوانات ـ لا ينبغي العدوان عليها في ظني: المياه، والبيوت، والمدارس والمستشفيات والأرض. والجيش الإسرائيلي، عامدا متعمدا، حطم كل هذه الأشياء، وجعل من المستحيل على الشعب الفلسطيني أن ينتفع بها.
بعد قرابة عام، كنت في طريقي إلى غزة للمرة الثانية. في القاهرة ذهبت بصحبة جودي إيفانز Jodie Evans من منظمة «كود بينك» CODE PINK لنتكلم مع مسؤول في الصليب الأحمر. توسلنا إلى ذلك المسؤول ليسمح بدخول غزة لألف وأربعمائة شخص جاءوا من شتى أرجاء الأرض في مسيرة للسلام من أجل الشعب الفلسطيني الذي أرغمته الحكومة الإسرائيلية على «اتباع الحمية» إذ أنكرت عليه الطعام والدواء والقدرة على الهروب من محبسه في قطاع غزة الصغير. كان المسؤول شخصا لطيفا، وشعرت أنه رجل طيب. لا أظن أنه لم يكن يبالي وهو ينبئنا أنه ليس بوسعنا إلا أن نرسل بعشرات فقط من الألف وأربعمائة شخص إلى غزة، فليس مسموحا إلا بدخول حافلة واحدة فقط، وقدر ضئيل من معونات إنسانية تبلغ قيمتها ملايين الدولارات جمعتها كود بينك وغيرها من المنظمات. على الرغم من أن أبناء غزة يعانون بدرجة خطرة من سوء التغذية (أعني الذين لم يموتوا منهم بعد) بسبب سنوات الحصار الطويل وبسبب تضييق الخناق عليهم، لم يسمح لنا بمد يد العون إليهم، وإرسال مساعدات كالحليب والعصير «لأنها» كما قيل لنا «سوائل».
في هذه السنة، وبينما أشاهد انتفاضة الربيع العربي في ميدان التحرير بوسط القاهرة، كنت كثيرا ما أتساءل إذا كان الرجل الذي قابلناه في الصليب الأحمر لا يزال هناك، ما إذا كان يتذكر زيارتنا، ويتذكر إلحاح «جودي إيفانز» على الحصول على إذن لمساعدة المرضى والبائسين، الذين تحطم أبناؤهم على مرأى منهم، مثلما على مرأى من العالم كله. كنت أتمنى لو كان هذه الرجل واحدا ممن انضموا إلى المسيرات في الشوارع، وشهدوا فيما بعد، عندما خلع حسني مبارك وقبض عليه، بأنه، نعم، في حقيقة الأمر، لا بد أن نفتح معبر رفح (المصري) ونتيح للناس أن يخرجوا (فهذا هو المخرج الوحيد من فلسطين الواقعة تحت السيطرة الإسرائيلية).
كيف يتسنى للناس أن يعيدوا بناء أجسامهم وبيوتهم، ومستشفياتهم ومدارسهم وبناياتهم السكنية، ووزاراتهم، ونظامي الماء والصرف لديهم، وصوباتهم الزراعية، إذا هم حرموا من المواد المرسلة إليهم من خارج السجن؟ هذا هو السؤال. والجيش الإسرائيلي، الذي يسيطر في خرق سافر للشرعية وللقانون الدولي كله على مياه البحر المتوسط قبالة ساحل غزة، يهاجم من يحاولون من البشر والقوارب كسر الحصار المفروض على السلع والمواد الخام.
كانت آخر زيارة قمت بها للشعب الفلسطيني في ابريل سنة 2011، حينما دعيت لمحاضرة ضمن مؤتمر «تيديكس رام الله» TEDxRamallah الذي أقيم في بيت لحم. بعد ذلك اليوم الطويل والمدهش الذي مضى في اجتماع وإنصات للناشطين والفنانين الفلسطينيين، انضممت ـ من خلال اليوتيوب فيما أظن ـ إلى «احتفالية فلسطين» Palfest وهي عبارة عن مهرجان أدبي يقام كل عام، حيث تقل حافلة مجموعة من الكتاب والشعراء والموسيقيين والفنانين وتتنقل بهم من بلدة إلى بلدة داخل الضفة الغربية المحتلة للتفاعل مع من يظهر لهم من الناس. وفيما كنت أفعل هذا، أوشك الخرس أن يعاودني مرة أخرى حيال ما كنت أمر به.
في أول الأمر دخلت أنا وزميلي «كاليو لارسن» Kaleo Larson فلسطين (وهذا ما لا يتم بدون الدخول إلى إسرائيل) قادمين من الأردن. أصلا، ونحن في عمّان، وفي الفندق، حدث بطريقة غامضة أن اختفى كمبيوتري، الذي سيعاد إليَّ فيما بعد في رام الله وقد محيت منه كل الإشارات إلى ما يتصل بإسرائيل من ترتيبات لفعاليات قادمة. ثم كانت هنالك تجربة عبور جسر ألنبي الحدودي. هنالك، وفيما نعبر أول حاجز تفتيش مع سائق عربي، شعرنا بالتغير. صار السائق أشد حذرا وتوترا. مؤكد أنه عرف من أحد الجنود المسلحين أنه لن يكون بوسعه أن يسوق بنا، وبأمتعتنا، إلى الحافلة المنتظرة على الجانب الآخر من المبنى، والتي سوف تقلنا فيما كنا نأمل إلى فلسطين، بل عليه أن ينزلنا في الشارع. وذلك كان يعني أن علينا أن نجر أمتعة ثقيلة لمسافة لا بأس بها أبدا، دون مساعدة من سائقنا، ودون إرشاد من أحد. لم تكن لدينا أية فكرة عن موضعنا بالضبط، وعما ينبغي أن نفعله لاحقا. ومع ذلك فقد تعلمنا أننا لو قمنا بزيارة أخرى إلى فلسطين وكانت لم تتحرر بعد من السيطرة الإسرائيلية، فعلينا ألا نحضر حقائب ثقيلة.
2
لي ابنة أخت أدهشتني مرة حين قالت «خالتي: أنا بجد لا أتخيل كيف احتملتم هذا، التمييز العنصري». تعيش هي وزوجها في الجنوب الأمريكي، في سلام فيما يبدو، في حي مختلط عرقيا ما كان يمكن التفكير في وجوده قبل أربعين عاما. ومن النعم التي ينعمان بها أنهما أبوان لتوأمين، ولدا حديثا، وباستثناء موجات الفيضانات، والجفاف، والعواصف، يبدو أنهما الآن بعدما أصبحت قوانين جيم كراو Jim Crow (1) في ذمة التاريخ يعيشان حياة مختلفة كل الاختلاف، تفضل حياة السود التي عشتها أنا في شبابي.
ومع ذلك، وفيما كنا نبدأ عبور جسر ألينبي، في طريقنا إلى فلسطين، بدأت أرغب لو أن ابنة أختي ـ الملبوخة بتوأميها حتى عنقها ـ ترى المشهد معي. فقد كان ذلك مماثلا تماما للرجوع إلى ماضينا الذي كنا عليه أيام التمييز العنصري (أبارتيد الولايات المتحدة) بما كانت عليه من قسوة تجاهنا نحن الملونين «المواطنين» من الدرجة الخامسة.
أولا، أدركنا أننا بطريقة ما قد اخترنا الدخول إلى «المناطق» التي تحتلها إسرائيل والتي يستخدمها العرب بالأساس. وما كان لنا، وقد صرنا بينهم، أن نسمع كلمة طيبة أو نلقى نظرة طيبة على مدى ساعات تالية. عوملنا على الفور وكأننا أغبياء لا نفهم ما يقال لنا: لوقت طويل كانت العبرية والعربية تختلطان علينا. كان يشار لنا هنا إلى شباك، وهناك إلى شباك، والذين كانوا يشيرون كانوا نساء ورجالا يتكلمون في زمجرة وحشرجة. كل تلك الشبابيك كانت تقوم بتحصيل النقود. أخيرا، شققنا طريقنا إلى الحافلة التي كانت تنتظر بالفعل منذ وقت طويل، هناك تحت الشمس الحارة، والمحرك متوقف، والناس تروح على وجوهها، وبعضهم معه أطفال صغار. وما كان بوسع الأم التي بداخلي إلا أن تلاحظ أنه لا يوجد أيضا مكان يتبول فيه الصغار إن اضطروا إلى ذلك.
بعد انتظار طويل بلا سبب، تحركت الحافلة. تقدمت عابرة ستة حواجز تفتيشية، متوقفة عند كل واحد منها للتفتيش، قبل أن تنطلق ببطء إلى الحاجز التالي، إلى أن وصلنا أخيرا إلى النهاية. (حيرة). حقائبنا ذهبت في طريق، ونحن في آخر. لو أن هذا جسر، فأين هو الماء؟ هكذا تساءلت «المائية» التي بداخلي. في لحظة ما خضعنا نحن وأمتعتنا لتفتيش دقيق من شباب فيهم من الوقاحة والعدائية الكثير. أخذوا من محفظتي كل عملة أردنية فيها. الشابات منهم بالذات كن لي صدمة حقيقية: كن يصرخن في العرب (الرجال منهم والنساء، والشيوخ والأطفال) كما لو كن نسين كيف يكلمن البشر. كن يأمرنهم بطريقة لم أر الملونين يؤمَرون بها على مدار جيلين.
كان شخص ما في الحافلة قد أخذ منا جوازات السفر، وطلب منا أن نقف في طوابير طويلة، كل من فيها عرب، تنتهي إلى عدد من الشبابيك. وفعلنا هذا، ونحن نعمد إلى الجلوس كلما استطعنا ذلك، لمدة تسع ساعات. ولما لم تكن معي نقود أردنية، لم أستطع أن أشتري ولو زجاجة ماء. ومن حسن حظي أن اشترت لي امرأة فلسطينية زجاجة ماء، ورفضت أن تأخذ مقابلها نقودا أمريكية عرضتها عليها. وكانت تتخلل انتظارنا هذا محاولات محبطة لفهم المطلوب منا على وجه التحديد. هل ينبغي أن نقف هنا أم هناك؟ هل ستكون هناك حافلة؟ قارب؟ (كنت لا أزال أتوقع أن يكون هناك نهر ما دمنا على جسر) كنا نحاول أن نوضح أن هناك شخصا مبعوثا ليقلنا، وأنه سوف يذهب إذا لم يجدنا بسرعة. وبلغ انتظارنا أربع ساعات من التحقيقات.
في الولايات المتحدة الجنوبية عندما كنت طفلة، كانوا يقولون: ولد، أو بنت، أريد أن أتكلم معك. وكان ذلك معناه أنك ستختفي عن الأنظار. أو معناه أن الأنظار ستفزع إن هي وقعت عليك من فرط ما لحق بك من شر وما لقيت من ضرب حتى لتتمنى لو أن تلك الأنظار لم تكن وقعت عليك. أو معناه … ما علينا. كانت هناك شابة بدت لي جذابة إلى أن بدأت تضجرني (بالإنجليزية) بالأسئلة عن المكان الذي أنا ذاهبة إليه والأشخاص الذين سأقابلهم، ثم إن هذا الشابة راحت فيما يبدو لي تمارس نوعا من الرياضة مستخدمة جواز سفري فتنتقل به من هنا إلى هناك مختفية به وراء الحواجز التي تفصل مكان الانتظار عن بقية المبنى. كنت قد انتهيت من ملء استمارة قلت فيها كل ما أعرفه عن نفسي وعن رحلتي. ولكنني لم أدرج فيها عنوان بريدي الإلكتروني وقد قلت لنفسي: ومن هنا سيراسلني عبر البريد الإلكتروني؟ لكن لا، أتاني شاب في ضيق شديد وطلب مني إضافة هذه المعلومة. وكذبت: قلت إنه ليس لدي إيميل. قلت ذلك من ناحية لأوفر علي أنا ورفيقي حرج امرأة عمرها يكفي تماما لأن تكون جدة لهذا الشاب حين تضطر أن تقول: لا أريد أن أعطيك إيميلي. ولكنني فيما يبدو لم أكن بحاجة إلى هذا. فقد عقب على كذبي قائلا إن لديه وسائل يحصل بها على الإيميل وإنه ليس بحاجة إلى مساعدتي. قلت: لكن لماذا ينبغي أن أعطيك إيميلي؟ فرد قائلا: لأنك لو لم تفعلي هذا فلن نسمح لك بدخول البلد. قال ذلك بفُجر حملني أن أتساءل: هل أمه موافقة على التربية السيئة لهذا الولد؟
كان ذلك «الولد» هو الذي حقق معي لأربع ساعات. أشار لي أن أتجه إلى غرفة وراء مكان الانتظار، ولم يخبر رفيقي كاليو بالموضع الذي سيتم احتجازي فيه، فكان ذلك بالطبع عبئا شديدا عليه. عذبني في كل كبيرة وصغيرة، سألني عن بيانات سياسية كان يستعرضها على الكمبيوتر وكنت أنا نفسي نسيت أمرها. ذكرني كثيرا بفنانة يهودية اسمها «وندي كادن» Wendy Cadden كانت صديقة لي. داكنة الشعر، نحيلة، كان في سن يجعله مناسبا كأخ أصغر لها، أو ربما ابن، أو حتى حفيد، رحت أفكر في هذا، ركزت تفكيري عليه، في حين استمر هو، بشيء من الأدب الآن، ولكنه كان لا يزال المسؤول المستحوذ على جواز سفري المصرّ على أن أبقي كل ما يخصني خارج مكتبه باستثناء ما أرتديه.
في لحظة ما قلت له، وقد بدأت أنظر إليه كما كان يمكن أن أنظر إلى ابني (المنحرف): ألا تدرك أن هذا السلوك، أي إرغامك للعجائز والنساء والأطفال الصغار على الانتظار في طوابير طويلة، وهم يستجدون مجرد زيارة إلى عائلاتهم، ألا تدرك أن هذا السلوك خطأ وغير لائق منك؟ لم أستطع أن أحمل نفسي على وصفه بالعنصري ولكنني قلت: ألا تظن أن هذا السلوك ـ المهين والمسيء والمهدد ـ يجعلك تبدو أقرب إلى الألمانوي German-esque ؟ وكنت أعني الألمانوي بمعناها الذي كان في أواخر الثلاثينيات وأوائل الأربعينيات لا بمعناها الراهن. وللأسف. لم يبد عليه أي نوع من المبالاة.
غادرت مكتبه، وقد سألته عن اسمه، وهو نير Near وإن كان ينطق ناي [بألف ممالة] إير Nay-ear، وقادني في ازدراء واضح شابٌ آخر يرتدي زيا رسميا هذه المرة. أمسك جواز سفري وبدأ يسألني الأسئلة نفسها التي كنت قضيت أربع ساعات أجيب عنها. كنت في ذلك الوقت أشعر بالحر والجوع، فقلت في غضب: عارف؟ أنا موافقة. أنتم لا تريدونني في بلدكم وأنا لا أريد أن أدخلها. أعطني جواز سفري وسوف أرجع إلى بلدي. قلت أيضا: ألا تخجلون من أنفسكم وأنتم تقابلون ضيفة على بلدكم بمثل هذه الوقاحة؟ كان يبدو في الثامنة عشرة، وبدا عليه عدم الارتياح مما قلت. تساءلت: ألم يعد لفكرة الخجل مكان أصلا؟
فيما بعد، سيقال لي إن كل تلك الوقاحة، والانتظار في الطوابير الطويلة، وعدم وجود المياه، واختفاء الحمامات بمجرد النزول من الحافلات، وشتى أشكال المضايقات، وإرغام الحافلات على الانتظار بالساعات قبل أن تتحرك، هي جميعها جزء من خطة لمنع أي شخص يأتي عبر تلك البوابة من التفكير في الرجوع مرة أخرى إلى ذلك!
وتذكرت «ناي إير» وهو يسألني: لماذا لم تحضري من خلال تل أبيب؟ وكأنما كان يمكن أن أجنب نفسي نزرا من العذاب العربي. لكنني في واقع الأمر كنت سعيدة أننا سلكنا طريق العرب، كان ذلك أشبه بالجلوس مع أبويَّ وأجدادي في غرف انتظار الجنوب وحافلاته ومحطات قطاراته، تلك التي كانت تخصص للملونين على هذا الأساس العنصري. بل إنني فرحت لأنني أنا وكاليو لم نعرف أن هناك مسارا لكبار الزوار [الـ VIP] وأن كثيرا من الأثرياء العرب الأصغر منا سنا كانوا يستخدمونه. بل إن البعض منهم جاء إلينا يريد منا توقيعا في الأوتوجراف (!) موضحين لنا أنه كان بوسعنا في مقابل رسم معين أن نجلس معهم في ارتياح على أرائك بداخل قاعة صغيرة اتضح أنها كانت تحتوي أيضا على حانة.
عندما حان وقت السماح لنا بمغادرة «المحطة الإسرائيلية» بحسب تسمية الأصدقاء الفلسطينيين لمعبر جسر ألنبي، كانت الشاحنة المرسلة لتقلنا قد غادرت. وكان الوقت متأخرا من الليل. أقلنا تاكسي وانطلق. لم تكن لدينا فكرة عن الموضع الذي نحن فيه ولكن القمر كان قريبا من الاكتمال بدرا فاتنا. والقمر، لا سيما حين لا أعرف أين أنا، يذكّرني بـ«سوجرنر تروث» التي سلبت أولادها ليباعوا وهي عبدة: فقالت لهم أنا سوف أنظر للقمر وأنتم تنظرون للقمر، أو شيئا بهذا المعنى.
ربما بعد تجربة «أسطول الحرية 2»، سوف يتسنى لي أن أكتب عن التضامن والصداقة اللذين رأيناهما بين الشعراء والكتاب الذين قابلناهم وأغلبهم كان من العرب، ولكن كان بينهم أيضا يهود وفلسطينيون وأمريكيون. وأحب أن أتكلم عن بعض الاكتشافات غير المألوفة التي اكتشفناها: مثل كم من المسيحيين الفلسطينيين الذين لا يزالون هناك في «الأرض المقدسة» ومدى الطيبة التي أظهرها بعضهم تجاهنا. كم هو فريد أن ترى بشرا من شتى أرجاء العالم يتهافتون على ميدان المهد، وكنيسة المهد التي يقال إن يسوع ولد فيها، دونما مبالاة تذكر بأن يسوع الفلسطيني مجسدا في مواطنيه من أبناء هذا الزمن لا يزال معلقا على الصليب. لزوجة الاستهلاكية تجعل «الأرض المقدسة» سوقا صغيرة، ويتم تسويقها طوال الوقت ودونما هوادة. وتنهال عليها المنتجات الصينية والتايوانية كالطوفان. وكثير من الفلسطينيين الذين كانوا يمتلكون محلات تم إبعادهم من المناطق المميزة. حتى الأرض نفسها، التي ظلت لألف عام تعد الأرض المقدسة الوحيدة، امتهنت وابتذلت. قلبي أوجعني عليها. أي كارثة تنالها حين تنال هذه الشهرة، لا تمر عليك لحظة إلا وعلى وجهك قدم تدب. الأرض المقدسة حقا هي التي في الأفئدة، هذا ظني، وهذه هي أورشليم الحقة. ثم إن الأرض، كل الأرض، مقدسة، وبوسع كل امرئ أن يتعبد حيث يشاء. (وطبعا هذه فكرة لا يمكن أن تتحول إلى فلوس) إنما أنا أستطرد.
فكرت في ابنة أختي وأنا أقترب من طرق مخصصة «لليهود فقط»، في شاحنة ملأى بالعرب الفلسطينيين. توقف سائقنا ينتظر الشاحنة التي تحمل اللوحات المعدنية ذات اللون المناسب (التي سننتقل إليها فيتسنى لنا المرور في طرق اليهود). لوحات الفلسطينيين المعدنية خضراء، ولوحات الإسرائيليين صفراء. الحقيقة أننا في الليلة التي وصلنا فيها لاحظنا أن سائق التاكسي ينحرف عن الطريق السريع الكبير الجديد ذي المظهر الأمريكي إلى طريق مزدحم متواضع ولما وجده مغلقا تماما، غمغم وهو يدور في انعطافة خطرة ليعود إلى الطريق الرئيسي، حيث ساق بعصبية أدركت لاحقا أن سببها هو أنه كان يرتكب عملا غير شرعي بمجرد وجوده على هذا الطريق.
فكرت وقتها أنني الآن أشهد ما لم يفكر فيها حتى الجنوبيون البيض، أن يخصصوا الطرق أنفسها على اساس عنصري. برغم أنني أتذكر جديّ عندما كنت طفلة صغيرة في جورجيا، وهما على عربتهما التي يجرها البغل، حين كانا يضطران إلى إيقافها بأدب، ويتنحيان عن الطريق كلما سمعا بوق سيارة قادمة من خلفهما وعلى متنها شخص أبيض.
دائما أجد في نفسي هذا النكد في الصباح المبكر. كان اليوم الثالث أو الرابع لنا ووجدت نفسي عاجزة عن احتمال الحديث مع المؤرخ الفلسطيني الذي كان يجلس بجانبي يشرب القهوة وينفث دخان سيجارته. انتقلت إلى مقعد آخر. ومع ذلك، شعرت بمدى ضآلتي حينما رأيت هذا الرجل نفسه، الذي يحظى عمله بحفاوة ومحبة في فلسطين، وهو يقوم في هدوء، فيلملم أغراضه، وينتقل إلى مقدمة الأتوبيس ليخرج، هكذا في عرض الطريق، في مكان ليس فيه أي شيء يستدعي النزول. أوضح شاعر في مقدمة الأتوبيس أن المؤرخ لا يحمل تصريحا يخول له مجرد استقلال حافلة في مدينة القدس التي بدا أننا ذاهبون إليه.
3
أعتقد أن من جملة الأسباب التي تجعل من الصعب للغاية على كثيرين أن يتعاملوا مع قضية فلسطين/إسرائيل أن فيها الكثير للغاية مما لا يمكن تصديقه. حتى وأنت واقف هناك، وسط كل ذلك، يظل على العقل أن يجاهد عساه يفهم ما يجري. سواء ما جرى على مدار الستين عاما المنصرمة، أم الذي يجري على الأرض الآن. تماما مثلما يستحيل على ابنة أختي أن تتخيل كيف كان الإحساس بالجنوب الأمريكي وقت التمييز العنصري، يصعب عليّ أنا أن أصدق أن الإسرائيليين يفترضون أن بوسعهم العيش جيلا بعد جيل في ظل فرض القهر والقسوة على شعب يحتلون أرضه. والدليل الأكبر والأوضح على نيتهم هذه هي الجدار.
بمجرد أن وقعت في غرام أعمال الكاتبة الصينية العظيمة «دينج لينج» Ding Ling، ذهبت لزيارتها في بكين. كانت في الثمانينيات من عمرها، جميلة زاهية، وكانت تفكر في أيامها في عقد الستينيات من القرن الماضي بوصفها سنوات فريدة، برغم ما لقيته من انتهاكات بسبب الثورة الثقافية. وفيما كنت هناك ذهبت مع مجموعة لزيارة سور الصين العظيم. ما أعجبني هو أنه كل حين كان أحد الرسامين يحفر وردة على الجدار (او لعل هذا ما كنت أتخيله)، لكن أعجبني أيضا أنهم شرحوا لنا أن هذا السور لم ينجح قط في صد الغزاة لأن كثيرا منهم كانوا ببساطة يقدمون الرشاوى لحراس البوابات، فيفتحونها لهم. أما جدار الأبارتيد الذي بناه الإسرائيليون هائل. مرتفع وسميك بصورة لا تصدق. لا بد أن يكون ارتفاعه أعلى من عشرين قدما، وأحيانا يكون مقاما فوق مصاطب يبلغ عددها ما بين ثلاثة إلى خمسة فيزداد بذلك ارتفاعه. كما أن له كذلك عمقا يغوص في الأرض. ولقد تكلف إلى الآن ثلاثة بلايين ونصف البليون دولار (وذلك أكثر قليلا مما يرسله دافعو الضرائب الأمريكون سنويا إلى إسرائيل)، وهو موجود في كل مكان، وهو قبيح بصورة تفوق الوصف. نعرف أن الجانب الإسرائيلي من الجدار «مزيّن» ببلاطات متعدة الألوان، ولكنه من الجانب الفلسطيني خرسانة جرداء. لكن يحسب للفلسطينيين أنهم جعلوا منه مساحة حرة لفناني الجرافيت، وهكذا كثيرا ما ترون هناك فنا مؤثرا مذهلا.
أخذتنا صديقة جديدة، وشاعرة، في جولة لنرى الجدار عمليا. ذهبنا أولا إلى محل يبيع الكتب والمصنوعات الفلسطينية. لسوء حظ صاحبة المحل، وهي امرأة في منتصف العمر، جميلة ومجهدة، أن محلها «أقرب مما ينبغي» من مقبرة «راحيل» والنتيجة أن الجدار يمر عمليا من على عتبة محلها، فحرمت بهذا من رؤية أي شي إلا الجدار بحضوره الجاثم المهدد. كانت المرأة حبيسة محلها بدرجة ذكّرتني بحيوان صغير مذعور في قفص.
زيارتنا الثانية كانت إلى بيت ضئيل تعيش فيه أسرة من أربعة أفراد: أم وأب وصبيان صغيرين. كان يجري حفر قناة الجدار ونحن نتناول الشاي، فكان صوت الحفر قويا لدرجة أنه كان يهز البيت هزا. عندما يكتمل بناء الجدار، سينقطع الاتصال تماما بين بيت هذا الرجل وحقله، فيمتنع عليه هكذا رزقه، ويصبح على ولديه أن يعبرا كل يوم ثلاثة حواجز تفتيش كي يصلوا إلى مدرستيهما. كانت هذه الأسرة الصغيرة المعزولة في منتهى اللياقة معنا، بل وفي منتهى المرح، فتذكرت بهم أيام التمييز العنصري وتعذيب الأرواح في الجنوب الأمريكي. كان الصبيان يلعبان وكأنهما لا يفهمان شيئا مما تعانيه الأسرة، مثلما كنا نلعب ونحن صغارا، منعّمين بحب آباء مهمومين لكن قلوبهم لا تسمح لهم أن يثقلوا علينا وينبئوننا بكم الشر الذي نعيش تحت نيره. (ذكّرني كاليو لاحقا أن الصبي الصغير الذي حسبته يلعب الاستغماية كان يختبئ فعليا. وأنه كان قد تعرض لضرب مبرح من جندي إسرائيلي قبل أسابيع).
أما الزيارة الأخيرة فكانت إلى بيت الشاعرة، الذي تعيش فيه مع أقارب لها. حينما يكتمل بناء الجدار وراء بيتها بالضبط، سيحول بينها وبين الشروق. سماء الصباح. سأسميها فاطمة. كان لوجودي معها مثل طعم الوجود مع فقراء الميسيسيبي السود في الستينيات: حيثما كانت تصطحبنا لنرى الجدار، في موضع انتهى بناؤه حديثا، أو موضع من المنتظر أن يمتد فيه، أو آخر سوف يسرق فيه مساحة ملعب لكرة القدم من حقل عائلتها أو حقول غيرهم من الفلسطينيين، حيثما كانت تذهب بنا كان يتبعنا رجال في شاحنات بيضاء، يتبعوننا في صمت، وبطء، وعدائية، لنعلم طوال الوقت أنهم يعرفون بوجودنا، وأنهم يرفضونه. قلت لنفسي، ها هم بدلا من الملاءات البيضاء (2) لديهم شاحنات بيضاء، وهذه لا بد أنهم اشتروها بأموال أمريكية، بل لقد حدثتني نفسي بأن هذه الشاحنات لا بد أن تكون صناعة أمريكية. لاحظت أن الآلات المستخدمة في حفر القنوات الضخمة هي من صناعة شركة فولو Volvo. تذكرت الفولفو الجميلة الحمراء التي كانت عندي عندما كنا نعيش في الميسيسيبي ونعمل في مجال الحقوق المدنية (كانت أكثر سيارة استطعنا أن نتدبرها أمنا) وكيف أنني لم أمتلك سيارة غيرها قط.
في اليوم الأخير من مهرجان احتفالية فلسطين Palfest قام الجيش الإسرائيلي بإلقاء القنابل المسيلة للدموع على الخيمة التي كان ستقام فيها الفعالية المسائية. كنت وشريكي قد غادرنا فلسطين في ذلك الوقت فلم نخض هذه التجربة. ومع ذلك، ولأننا كنا «ارتبطنا» بقبيلتنا، وكذلك كنا نسمي أولئك الفنانين، فقد شعرنا بما حدث تماما. أما قبيلتنا، بتهور لا يعدمه الفنانون، فقد واصلت فعالياتها، وكذلك كان ينبغي.
ثبت أن الخروج من فلسطين عبر جسر ألنبي مرهق وضاغط على الأعصاب شان الدخول منه. برغم أننا صحونا مبكرين، وأخذنا تاكسي من الفندق، وبرغم أننا وصلنا بسرعة إلى حاجز تفتيش الجسر، وبرغم أنه لم يكن هناك في هذا الوقت المبكر غير عدد قليل من المركبات المنتظرة تصريح العبور، فقد أرغمونا على العناء ثلاث ساعات بسبب حافلات سياحية عملاقة جعلوها تحتل وحدها أحد مسارين إلى المدخل، وبسبب أن الحراس يفضلون بعضا من سائقي التاكسي والشاحنات فقدموهم علينا. وفي كل مكان من حولنا، كانت المركبات تتزاحم، فنلاحظ رجالا ونساء يضطرون كرها إلى الانتظار، فيخرجون من سياراتهم وشاحناتهم، ويستعينون بالأشجار ليستريحوا في ظلها. وأخيرا، في غضب وفي تعب أيضا من هذه المعاملة، طلب سائقنا من شريكي أن يكلم الحارس الحدودي ليسمح لنا بالتقدم. وذلك ما فعله شريكي، ولكن الأمزجة في هذه المرة كانت معتلة للغاية ومتوترة كل التوتر بين جميع السائقين الواقفين، فأوشك شريكي أن يتعرض لهجوم من سائق غاضب شعر أننا أعتدينا على حقه، وأننا سنعبر على حسابه. والحق أنه كان قد وصل للتو، فما كان له أن يعرف أننا منتظرون هناك منذ أمد.
داخل المحطة الإسرائيلية، سمح لشريكي بالعبور إلى الناحية الأخرى، وأنا احتجزوني. وجواز سفري مرة أخرى وراء أحد الحواجز. مرة أخرى، أرتبك ولا أعرف ما الذي ينبغي عليّ أن أفعله. في تلك اللحظة رأيت شابا يهوديا بدا وكأنه ابن أستاذ سابق لي. أوقفته وسألته عما يجري. فقال إنه لا يعرف، لكنه بلطف أرشدني إلى موضع أجلس فيه إلى أن ينتهي كل شيء. وسرعان ما انضممت إلى شريكي، وفي النهاية كنا في طريقنا. وجه ذلك الشاب، ذي الشعر الأسود، والعينين العميقتين، لم يزل يحضرني، ولم تزل طيبته التي لم تتلف بعد تدفئني ببساطتها.
4
لم أؤمن يوما بمحادثات السلام الإسرائيلية الفلسطينية. كنت كلما أرى الرجال يجتمعون ليتكلموا في السلام أتذكر الذي قاله الهنود لمستعمري أمريكا البيض لما جاءوا إليهم يكلمونهم عن السلام: «أين نساؤكم؟». فظهرت امرأة وراحت تشارك في المحادثات، لكن المحادثات جميعا كانت تطغى عليها الذكورة وتوجهها. يروق لي أن أتخيل أن الأمور ما كانت لتتردى إلى هذا الحد لو كانت النساء حاضرات على موائد المحادثات بمثل أعداد الرجال. ولكن هذا قد يكون مجرد سذاجة مني، لو تذكرت الشابات الإسرائيليات اللاتي لم أر فيهن شيئا من الاحترام عند حواجز التفتيش. على كل حال، هي اللحظة التي ترى الواحدة فيها المستوطنات الإسرائيلية بعد عقود من الاستماع إلى الكلمة، هي اللحظة التي قلت فيها «أها»، ومن بعدها لحظات أخرى كثيرة من الاندهاش. إنها ضخمة حقا، وإنها، مثل الجدار، حاضرة في كل مكان. وهي واضحة تماما، تنظر الواحدة إليها، فإذا هي عملاقة صلبة، بيضاء، وجاثمة، وكأنما بنيت هذه المستوطنات لتنقض على باقي فلسطين، وأن محادثات السلام لم تكن أكثر من حيلة لتزداد المستوطنات انتشارا فيتسنى للإسرائيليين اليهود أن يطالبوا بالأرض بقوة الحيازة [وضع اليد] فقط. الحيازة تسعة أعشار القانون. ذلك هو القول المأثور الذي عرفته من زوجي السابق الذي كان محاميا يهوديا. ربما يكون هذا الاعتقاد راجعا إلى التوراة. هي على أية حال فكرة قديمة جدا، والإسرائيليون أحسنوا استغلالها.
الفلسطينيون الذين نزعت منهم أرضهم وبيوتهم، وضربهم الفقر بسياطه، وصاروا لاجئين في بلادهم منذ نكبة 1948 عندما طردهم الإرهابيون الصهاينة من قراهم وبلداتهم ومدنهم، هؤلاء الفلسطينيون هم الذين أصبحو قسرا عمال بناء هذه المستوطنات يقيمونها للمستوطنين الإسرائيليين، ثم لا يسمح لهم بعد بنائها بالدخول إليها إلا خدما. ذلك شبيه بتاريخنا، في أمريكا، شبيه بإبادة السكان الأصليين ثم استعباد من بقي منهم، والعمالة القسرية للهنود والسود التي أقامت أغلب أمريكا، بدون استثناء للبيت الأبيض نفسه. أحيانا تتساءل الواحدة إن كان هذا الجشع المستولي على جوهر البشر جزءا من الـ«دي إن إيه». لا أظنه كذلك، عموما، أتمنى ألا يكون كذلك.
5
مركبنا- سفينتنا، «جرأة الأمل»، سوف تحمل رسائل إلى أهل غزة. رسائل حب وتضامن. ذلك كل ما تتضمنه الحمولة. لو هاجمنا الجيش الإسرائيلي، سيكون كمن يهاجم ساعي البريد. تلك أشياء لا بد أن يسجلها التاريخ في حولياته الهازلة. لكن لو أصروا على مهاجمتنا، وإصابتننا، بل وقتلنا مثلما فعلوا مع ناشطين في أسطول الحرية الأخير، فما العمل؟
هناك مشهد في فيلم «غاندي» يؤثر فيّ كثيرا: عندما يصطف المتظاهرون الهنود العزل في مواجهة القوات المسلحة التابعة للإمبراطورية البريطانية. الجنود يضربونهم بلا رحمة، ولكن الهنود يبعدون موتاهم ومصابيهم في حنان عن مكان الموقعة ويتوافدون ويتوافدون. وهكذا، فيما أتصور، ما سيكون عليه حالنا نحن. الريح الآن مواتية لهذا الموضوع الذي ظل الناس في شتى أرجاء العالم، وعلى مدار أجيال، إما يتألمون له أو يعمدون إلى تجاهله، وما لشيء أن يوقف هذه الريح. وكموج المحيط، مهما تكن المعارضة لنا، سنظل على اللاعنف (وكم هو أجمل من العنف) ولا بد أن نبقى نتوافد.
بجانب صورة أتباع غاندي الشجعان هؤلاء، هنالك بالنسبة لي وعي بردّ الدين للناشطين اليهود في حركة الحقوق المدنية الذين واجهوا الموت وهم يقفون إلى جانب شعب الجنوب الأسود حينما كنا بحاجة ماسة إلى ذلك. وإنني لمدينة بصفة خاصة لمايكل شورنر Michael Schwerner وآندرو جودمان اللذين سمعا صراخنا واستغاثتنا ـ حينما كانت حكومتنا كما الحكومة الآن بطيئة بطء الجليد في استجابتها لحماية المتظاهرين السلميين ـ فجاءا ليقفا بجانبنا. ولقيا من الضرب بالهراوات والرصاص ما لقيه صبية نيشوبا كاونتي والميسيسيبي، فضربا وماتا بالرصاص بجانب جيمس تشيني James Cheney ذلك الشاب الأسود الشجاع الذي مات معهما في بسالة. لذلك، وبرغم أن سفينتنا تحمل اسم «جرأة الأمل»، هناك رايات أخرى تحمل أسماء جودمان وتشيني وشورنر سترفرف فوق هذه السفينة داخل قلبي.
وماذا عن أبناء فلسطين، الذين لم يأت لهم ذكر في آخر خطاب لرئيسنا عن إسرائيل وفلسطين، والذين تعرضوا للفقر، والترويع والتمييز العنصري، بل وللسخرية من كونجرس الولايات المتحدة حينما رحب أعضاؤه وقوفا برئيس إسرائيل؟ لقد شاهدت بعيني شجاعتهم، وهم يحاولون حماية أحيائهم وبيوتهم، وما لهم من ذخيرة في ذلك غير الحجارة، يلقون بها المصفحات الإسرائيلية (التي يشتريها الأمريكيون) وهي تخرب أراضيهم، وأحياءهم، وتحطم بيوتهم، وتقضي على أسرهم، لقد شاهدتهم، وتأثرت بما شاهدته مثلما تأثر العالم كله. ولاحظت أذرعهم في بعض الحالات وقد كسرها الجنود الإسرائيليون جزاء إلقائهم الحجارة، ولاحظت أبناء التاسعة من العمر أو العاشرة وقد تعرضوا للتعذيب وتركوا ليصبحوا مراهقين حزانى خاوين في السجون والزنازين.
أرى الأطفال، الأطفال فقط، أراهم أغلى موارد الإنسانية وأثمنها، فهم، وهم وحدهم الذين ستوكل إليهم مهمة رعاية هذا الكوكب. ومن ثم فلا يجب تقديم طفل على طفل، حتى في الحوارات العادية، ناهيكم عن الخطب التي تتردد في أنحاء الكوكب، وإن من يفعل ذلك إنما يلحق بهذا العالم كارثة. ونحن الكبار، لا بد أن نؤكد طول الوقت أن الطفل العربي، والطفل المسلم، والطفل الفلسطيني، والطفل الأفريقي، والطفل اليهودي، والطفل المسيحي، والطفل الأمريكي، والطفل الصيني، والطفل الإسرائيلي، والطفل الأمريكي الأصلي إلخه، جميعهم سواء، لا فارق بينهم وبين غيرهم على هذا الكوكب. ولا بد أن نفعل كل ما في قوتنا لكي نوقف أي تصرف من شأنه أن يجعل الأطفال أينما هم يخافون.
أخيرا، وفيما أفكر في ابنة أختي التي لا تستطيع أن تتخيل كيف كان حال الولايات المتحدة أيام التمييز العنصري، تخطر لي ذكرى أدهشتي أنا لما اكتشفت ـ أثناء حركة الحرية للجنوب ـ مدى التعاضد والتضامن بين السود والبيض. لم أستطع أنا الأخرى، مثلها تماما، قبل انتقالي إلى الميسيسيبي أن أتخيل ذلك الأمر. ولكن الأمر كان بالغ الصدق إلى درجة أنني لما وصلت إلى جاكسون تضايقت حينما رأيت أن البيض سبقوني إلى هناك، وأنهم يعملون كل يوم تحت ضغط شديد، ولحسابنا نحن. وسألت مرة زوجي في تلك الفترة، وهو أيضا أعز أصدقائي، وكان أخلص من رأيت في حياتي دفاعا عن حقوق السود الإنسانية: كيف وجدت طريقك إلينا، نحن الشعب الأسود، الذي كان في أمس الحاجة إليك؟ أية قوة تلك التي صاغت موقفك هذا من الظلم السافر الواقع على الملونين في ذلك الزمن؟ وحسبت أنه قد يشير إلى الخطب، أو المسيرات، أو أمثال مارتن لوثر كينج الابن Martin Luther King, Jr وغيره في الحركة ممن كانت تتجلى فيهم آيات الشجاعة والنبل. لكن لا. لقد حكى لي واقعة ترجع إلى طفولته، واقعة هي التي قادته قسرا إلى أن يناضل معنا. أيامها كان صبيا صغيرا راجعا إلى بيته من مدرسة ييشيفا Yeshiva اليهودية التي كان يذهب إليها كل يوم بعد انتهاء يومه الدراسي العادي في المدرسة النظامية. كانت أمه ـ وهي صاحبة متجر لبيع الكتب ـ لا تزال في العمل، ومن ثم فقد كان وحده. وكان كثيرا ما يتعرض لمضايقات من الأولاد الأكبر سنا في المدرسة النظامية، وذات يوم اختطف اثنان منهم طاقيته اليهودية، وانطلقا يجريان بها وهما يسخران منه، ثم ألقيا بها أعلى السياج. وظهر ولدان أسودان، فرأياه يبكي، ووزنا الموقف، ثم شرعا يجريان وراء الصبيين اللذين اختطفا منه الطاقية، حتى لحقا بهما، ثم أرغماهما على تسلق السياج واستعادة الطاقية، وتنظيفها مما علق بها من غبار، وإرجاعها مرة أخرى، وباحترام، إلى رأسه.
هي العدالة والاحترام، هي إزالة الغبار، ذلك ما أريد العالم، ودونما تراخ، وبرقة، أن يقوم به إزاء رأس الطفل الفلسطيني. ولن يكون الاحترام كاملا، ولا العدالة كاملة، لأن الظلم كان فادحا، والمهانة كانت بالغة. ولكنني أؤمن أن علينا أن نحاول. ولذلك سوف أكون على متن السفينة.
الهوامش
j نشرت هذه المادة على مدونة أليس ووكر الشخصية في 10 يونيو 2011
j أليس ووكر شاعرة وروائية أمريكية، تعد مؤلفاتها الروائية من أكثر الكتب الأمريكية رواجا حيث بيع منها ـ بحسب صحيفة لوس آنجلس تايمز ـ ما لا يقل عن عشرة ملايين نسخة. تعد ووكر من أهم الأصوات في الحركة النسوية السوداء بل ومن رموزها البارزة. حصلت ووكر على بولتزر عن روايتها «اللون الأرجواني» التي تحولت على يد «ستيفن سبيلبرج» إلى فيلم شهير.
(1)هي القوانين العنصرية التي كانت سارية في الولايت المتحدة بين 1876 و1965، وبموجبها كان يتم تخصيص المدارس وووسائل النقل والمطاعم وغيرها على أساس اللون.
(2)لعل الملاءات البيضاء هذه إشارة إلى عصابات كوكلوكس كلان العنصرية .
أليس ووكر ترجمة: أحمد شافعي
كاتب ومترجم من مصر