في سوريا جيلٌ شعريٌّ بات يُعرَفُ بجيل السبعينات، كانت ولادته الشعريَّة من رحم هزيمة حُزيران ومع تصاعد العمل الفدائي، فامتزجت في روحه صدمة الهاوية الرهيبة والأمل الغامض الذي تصنعه اسرابٌ لا تنتهي من الشهداء.
إنه جيلٌ لم ينشأ في قلب الآلة الثقافية والاعلاميّة، بَلْ كان غالباً جيلاً ملعوناً من الجميع تقريباً، جيلاً متمرداً على كُلِّ شيء.. على تقاليد الحياة السياسيّة والاجتماعيّة، والثقافيّة ومن ثَمَّ على التقاليد الفنيّة التي ورثها.
وقد تفاوت شعراؤه البارزون في طرائق التعبير، وأن جمعهم القلق الحارق في الشعر والحياة،
وشاعرنا الراحل إبراهيم الجرادي أحد رموز هذا الجيل، أحد الذين اختاروا أن يكونوا أكثر تجريباً وتخريباً في خارطة الشعر كما رسمها السابقون.
ومنذ البدء كان يصدم القارئ والناقد معاً بقصيدةٍ لا تهدأ ولا تستقر، قصيدة فيها جُرأةُ اقتحام الأشكال جميعاً، لا الأشكال في التعبير فقط، بَلْ الأشكال في الإيصال أيضاً، حيثُ يلعبُ الحرف وطريقة كتابته وطباعته والبياض والرموز والخطوط والصور دوراً هاماً في الإيصال.
ويجمع الجرادي في شعره بعنف بين هجائية سياسية ساخرة وأليمة ومأساوية وبين حسية تهتك أستار الجسد باستفزاز واضح واقتحام ضارٍ،لكأن أفق الحريّة لا ينفتح أصلاً إلا انطلاقاً من جسدٍ ينطبق على رغباته، وكأن الرغبات المنفلتة بداية الانتصار على القهر.
وفي شعر الجرادي حوارٌ حيٌّ مع اللغة بكل ما فيها من طراوة أو قسوة من توريات ومجازات وتضادات.
وهو على حد قول الناقد الهام “محمد جمال باروت” لا يتورعُ عن اقتراف أية ممارسات كتابيّة تجريبيّة إلى حد القصيدة المُشتركة.
إنه أحد الذين ثاروا على ذلك الفهم السطحي لعلاقة الشعر بالحياة، فأعادوا للشعر جلاله ككتابةٍ خاصة، وللحياةِ كنسيجٍ حي في عروق الكلمات.
وإذا كان هذا الكلام يبدو الآن عادياً أو طبيعياً فقد كان عليه قبل عشرين سنة أن يُقاتلَ حتى لا يتوكأ الشعر على الموضوع، وألا يأخذ مشروعيته من أهميّة الحادثة، لا من مشروع الكتابة الذي فيه.
مع تقدم تجربته، أخذَ يضعُ شهوة التجريب في اطار أهدأ من ذي قبل، وراح ينزع من القصيدة زوائدها التي تدفع بها حماسة الاختلاف، ليشارك مع غيره في تخليص قصيدة السبعينات من بعض التهور الذي صنعته الساحة الشعريّة الملتهبة بالصراع.
إنني أكتب هذه الكلمات في مناسبة رحيل زميلي الشاعر إبراهيم الجرادي كأحد الشهود القلائل على جيلٍ شعريٍ قَدَّمَ الكثير المعجون بتراب الفن، ودم الرحلة.
لقد التصق إبراهيم باليمن منذ 1991، وهناك جمعتنا حياة مشتركة، وإن كنا نعمل في محيطين مختلفين، وأحياناً متضادين في النوازع والمسارات، لكن كان إبراهيم دوماً قريباً مني، سواء في الخصوصيات أو الهم الشعري، مع كل ما تحمله شخصيته من ظرف ودفء وضجيج.
عاد إلى سورية وقد خيبت اليمن بدمها المسفوح أمله في مواصلة العيش فيها، وراح يتخبط في وطنه الذي وجده يسبح بدمه، بل كانت مدينته “الرقة” العريقة والجميلة عاصمة لأبشع لعبة ظلامية في منطقتنا، وقد انتهى بها المطاف أن تبقى شبح مدينة!
كنت أحس أن إبراهيم نفسه قد تهدم كمدينته، وفيما تركه بين يدي من شعر عكس ذلك شعراً غاضباً راثياً وطناً بأكمله.
جرب العمل النقابي وقد فاجأني بحماسته ليكون في قيادة اتحاد الكتاب العرب في سورية، وهو الساخر تحديداً منه ومن آليات عمله، لكن مقامه لم يطل، حيث استقال مع زملاء له محتجاً على العبث واللصوصية التي قال لي أنه لمسها بالوثائق والممارسة.
صار إبراهيم أحد خبراء الهيئة العامة السورية للكتاب من خارجها، وأخذ يسهم في الكتابة والترجمة، لكن أخذ يترنح صحياً، وكنت أشجعه، على الرغم من رؤيتي لشبح الموت يقترب منه، ومنذ شهر تقريباً، ذهبت مع صديق نعوده بلا موعد، وقبل أن ندخل البناية، اتصلنا هاتفياً به فردت ابنته:
-مات أبي قبل دقائق.
مات إبراهيم بما يشبه الصمت، وبجنازة فقيرة، وباهتمام أكثر فقراً بذكراه.
ليس قليلاً يا إبراهيم أن أرى أوراقك قد ائتمنتني لأكون الوحيد-من بين من عرفت- الذي تختاره ليحتفظ بها، ويقوم بما يستطيع لإخراجها إلى النور.
بيان الصفدي *