وليد النبهاني
كاتب وباحث عُماني
في المقهى جالسًا على كرسيٍّ وثير، كما تصفه اللغة المستعادة، إذ ليس لدي خيار في ابتكار معنى جديد لشيء يمكن أن تجلس عليه، بل أن تستلقي عليه، وتنام إذا كنت في بيتك مثلا. أنا الحيُّ الوحيد هنا، ومع ذلك كنت ساكنا، بل إن كوب الشاي الأخضر كان أكثر بلاغةً مني في التعبير عن حركته، على الأقل حتى يبرد ويتوقف تصاعدُ البخار منه، فيسكن مثلي إلى أن أرفع يدي نحوه، فيتحرك في شكل رشفة أولى مركَّزةٍ ومُرَّةٍ، كما يحلو لي أن أشربه.
أنا هنا في هذه القصة، وأنا من يكتبها. لكنني مجرد مخلوق ورقي ستنتهي دورةُ حياته مع آخر كلمة فيها. ربما أكون الآن مع كاتبةٍ مثلي، تودُّ أن تعرف ما الذي سأقوله في قصة جديدة، وهل ستكتب أفضل منها لو كتبت؟ أو أكون مع أبي الذي لا يجد شيئًا مثيرًا فيما أكتبه، لكنه سيقرأ ليجاملني مجددًا. وربما أكون مع قارئ ناشئ فرض عليه شغفُه أن يطالع كتابًا في القصة، ليقرر بعدها هل سيمضي أم لا. وربما أتقوقع في مكتب مرتفع من مكاتب المدينة المُحدَّثة، ليُنظرَ في أمري: «أسيما أخت مقزَّح» فعلا؟ وهكذا يمكن أن أمضي مع سلسلة طويلة من الافتراضات إذا شئتم. إنني معني بشيء واحد هنا، بشيءٍ حدث قبل كينونتي الورقية، بشيء أحدثني فعلًا من عدم.
لم تكن جلسته تَبينُ عنه، بل عمامته البرتقالية وشاربه المقوس من طرفيه. لقد تناقَص أعدادُ السِّيخ منذ مدة، إن آخر مرة شاهدت فيها «ساردارا» قد تعود إلى عشرين عاما. ولم يعد لهم وجود يلحظ إلا في الأفلام الهندية، ونشرات الأخبار، وبقايا أحاديث الناس هنا. وهنا على بعد مترين مني انبثق هذا الهنديُّ الأبيض، بل إني أنا الذي اخترت أن أكون على هذه المسافة منه في الكرسي الوثير، وفي هذه الزاوية التي تناسب مُخبرًا أكثر مني. لقد ارتكز في تلك الزاوية كمشهد نادر، ولولا وجوده الحقيقي، لقلت إنه مجرد تلفاز مركون في محل حلاقة، تضطر إلى مشاهدته حتى يحين دورك في كرسي الحلاق الهندي. كان مشهدًا نادرًا، ومع الوقت أصبح أكثر ألفة، حين أطلت امرأةٌ، لم يُخفِ تأنقُها ملامحَها الهندية، وجلست في مواجهته. لا بد أنها جلسة لمِّ الشمل، ولِمَ تكون كذلك في هذا المقهى الأمريكي؟ سيكون أكثر واقعية لو التقيا أمام معبد هندوسي، أو مطعم هندي يستمتعان بمذاق وجبتهما الحارَّة.
إنني أمعن في التعبير عن واقعية الأشياء كما ترون، أو أحاول فعل ذلك قدر إمكاني. ولم يكن ليعبر عن واقعية المشهد سوى جهاز لابتوب احتلَّ المنضدة بينهما. في غفلة مني لم أشاهد من منهما استخرج اللابتوب من حقيبته، وخاصة أن اتجاه شاشته كان موضوعًا بشكل محايد بينهما، بشكل لا يفصح عن ملكيته لأي أحد منهما. جاء اللابتوب كما جاءت قدم آدم في الأساطير، حين وطئ العالم في مهبطه الفردوسي، ففصلتْ أرضًا هندية عن هندها، وكانت سيلان أو سريلانكا. هذا اللابتوب شرطيُّ حدودٍ في زي رأسمالي. وماذا يفعلان في أرض عربية سوى استخراج المال؟ إن المخطط جاهز بلا شك، وسيكون هذا اللقاء لوضع اللمسات الأخيرة عليه.
لكن ما إن بدأتُ في التقاط الكلمات من حيزهما الضيق جدًّا، بدا لي غريبًا، لا يمكن تركيبه على أي من اللغات الهندية التي بإمكانك سماعها من أقصى شمالنا إلى أقصى جنوبنا بوضوح بالغ، وإن كنت لا تميز معاني الكلام. يبدو كلامهما غريبًا، بل أكثر غُربةً وغَرابةً من لابتوبهما المحايد. كلام لا ينتمي إلى هندِهما، بل كلام أقرب إلى المنفى منه إلى وطن، وعلى رأس التحديد كلام هذا المقهى الأمريكي المتملص من لكنة بريطانية جافة.
ما الذي تفعله هذه الكلمات بينهما؟ ما الذي يجعل الممتِنعَ الهندي سهلا هكذا ومتاحًا لكل من هم هنا؟ لو لم يكن الأمر متعلقًا بقصة قصيرة لا شغل لها بتفاصيل الكلام التجاري، لكان موضوعًا جيدًا لمخلوق لديه فرصة ثمينة ليطيل عمره الورقي. كنت أظنها هندًا واسعةً جديرة برواية تطيلني لآلاف الكلمات. لكنها كانت أضيقَ من هذا المقهى، محشورةً في طاولة دائرية بكرسيين، على بعد مترين منها بدأتُ ألفظ أنفاسي الأخيرة.