أمين الزاوي*
1
ما في ذلك شك، إننا ندخل زمنا ثقافيا آخر، بعادات جديدة في القراءة وفي طبيعة وشكل الوسائط الموظفة لذلك، وفي جماليات النص الذي نهدف إلى توصيله، وفي سيكولوجية القارئ نفسه، ومن بعد ومن قبل فقد تغيرت أيضا جاهزية الكاتب المعرفية واللغوية والنفسية داخل فضاء تكنو-سوسيولجي متحول بشكل مدوخ.
مع ذلك هناك مجلات لا تزال تحافظ على الورق والصورة والإخراج الجميل والاجتهاد في اختيار المادة، هذه المجلات على الرغم من قدمها، على الرغم من عمرها الطويل، إلا أنها تشبه النبيذ الذي كلما تعتق صار أجود، ومجلة نزوى ببلوغها السنة الخامسة والعشرين، فإنها تكون قد أصبحت واحدة من عميدات المجلات الأدبية في العالم العربي.
ليس من اليسير المحافظة على وتيرة الإصدار، وأكثر من ذلك على التجدد ومواصلة الإدهاش، والبحث عن الجيد دائما، وفي كل عدد.
المجلات كبيرة برؤيتها الصادقة، وبملاّحيها العارفين، وبقرائها المواظبين، وبكتابها المتميزين، وبموضوعاتها الجادة والمحيّنة، المرتبطة بفلسفة الجمال وبسؤال الراهن في علاقته مع المستقبل، وعلاقته أيضا مع الماضي. ومجلة «نزوى» خلال ربع قرن حاولت أن تظل وفية لخطها الافتتاحي، المدافع عن الحرية وعن الجميل وعن السؤال الفلسفي المعاصر، بعيدا عن الأجوبة الجاهزة والبلاغة المحنطة.
2
في ظرف ربع قرن من عمرها، وهو ليس بالقصير، أصبح لمجلة (نزوى) أفق استقبال مؤتمن، مفرداته المثقف والكاتب والقارئ، أفق استقبال يمتد من البصرة إلى نواكشوط.
أن تختار مجلة أدبية ثقافية اسمَها من اسم مدينة، تعتز بجبلها «الجبل الأخضر»، فهذا يؤكد شيئين التصاقها بالأرض وثباتها كالجبل ففي الثقافة والإبداع التنويري.
منذ انطلاقة مجلة (نزوى) العام 1994 وأنا أقرأها وأتابعها باستمرار وأكتب فيها، وفي كل مرة، ومع كل عدد جديد أسعد بموادها الأدبية والفلسفية وبملفاتها المثيرة، وأيضا بالأقلام القادمة إلى الكتابة ببهاء، أسماء نكتشفها لأول مرة فتصبح جزء من القراءة الجديدة، وأسماء أخرى مكرسة تواصل الحفر بكثير من الإبداع والذكاء والجرأة.
مجلة (نزوى) ليست رقما عشوائيا تراكميا يضاف إلى عدد المجلات العربية أو المتوسطية، إنها صوت التميز والمغايرة.
3
حلم الشاعر ليس أن يكتب قصيدة جميلة وفقط، بل حلم الشاعر أن يساهم في صناعة وطن جميل، بأطفال وحدائق وسماء ونساء ومدارس وحرية ومنابر للتنوير. وطن للكائنات الشفافة المشكّلة من اللغة، وطن للقصائد، وأعظم الأوطان تلك التي تحترم الشعراء ويكون دفئها من قصائدهم.
وكان صديقي الشاعر سيف الرحبي، منذ أن عرفته قبل ثلاثين سنة، من هذه الفصيلة النادرة التي تريد أن تبني وطنا للشعر، ولغة للعصافير، وماء للمطر، وسريرا للغيم.
رأيت «الجبل الأخضر» شعرا عند سيف الرحبي قبل أن أراه في الجغرافيا، كان أول عنوان قرأته من شعر عُماني حديث وحداثي مجموعة شعرية لسيف الرحبي بعنوان «الجبل الأخضر»، لأن الشعر أسبق من الجغرافيا وأكثرها بلاغة، الشعر بشفافيته يحفظ ذاكرة الأرض بصلابتها، ديوان «الجبل الأخضر» حفظ تراب وصخر وعلو الجبل الأخضر !!
تعرفت على صديقي الشاعر سيف الرحبي رئيس تحرير مجلة )نزوى( في دمشق، في ثمانينيات القرن الماضي حيث كنت طالبا في الدراسات العليا، وقد عرفني عليه صديق أصبح لاحقا علامة دمشق الأولى ومَعْلَمَةً من معالمها، إنه المثقف الموريتاني محمد البخاري، كان هذا الأخير يعرف دمشق المثقفين والإعلاميين والسينمائيين والصعاليك واحدا واحدا، بل كان قادرا أن يحدثك عن سيرهم الذاتية بالتفاصيل، وكان البخاري واحدا من أعز أصدقاء سيف الرحبي، وقد شاءت الظروف أن يقيم البخاري في بيتنا لفترة، غير بعيد عن شارع بغداد، بجادة عين الكرش، وقد أصبح مشردا بعد أن طرده صاحب البيت الذي كان يقيم فيه.
قبل أن ألتقي بسيف الرحبي كان البخاري قد سرد عليّ حياته بالتفصيل، بل وإنه كان يحفظ بعض مقاطع من ديوانه الأول «نورسة الجنون» صدر الديوان العام 1980.
كان سيف الرحبي مثقفا بمزاج خاص جدا، مثقف ضد المؤسسة، ضد الثبات والكساد، يمشي صامتا طول النهار ولا يتحدث إلا قليلا في آخر الليل، حين يتفرق الجميع ولا يبقى في المجلس إلا الشعراء أو التابعين لهم ويطلع سؤال الوجود.
كان سيف الرحبي قريبا جدا من الطلبة الجزائريين، معجبا بـ»شراسة» الجزائري التي يشبّهها بالقصيدة المستعصية، وله حكايات كثيرة عن ذلك؟ !
في تلك الأيام التي تعرفت فيها على سيف الرحبي، كنا نفكر في إصدار مجلة بعنوان «الزاوية»، وقد تشكلت هيئتها التحريرية من كل من الروائي الأردني غالب هلسا، والشاعر العراقي جليل حيدر، وأنا (كاتب هذه الشهادة). كان المثقفون على وقع صدمة وصول الجيش الإسرائيلي إلى بيروت وخروج المقاومة الفلسطينية منها، وكانت رغبتنا إطلاق هذا الفضاء كزاوية يحتمي فيها الأدب الحرّ بعيدا عن أدب التراكمات الذي امتلأت به المجلات الرسمية في تلك الفترة.
وأتذكر أننا اقترحنا على سيف الرحبي أن يلتحق بهيئة تحرير المجلة، وكان سعيدا وفي الوقت نفسه متوجسا، فالمؤسسة تخيفه، والانضباط والاجتماعات تقلقه. لم يعرف مشروع مجلة «الزاوية» النور، عدت أنا إلى الجزائر، وعاد سيف الرحبي إلى مسقط.
4
وحين عاد سيف الرحبي إلى بلده عُمان وإلى مسقط، هاتفني ذات ليلة والجزائر تدخل مرحلة من العنف الدموي غير المسبوق، وسألني عن الأحوال وعن وضعي الأمني في مدينة وهران حيث كنت أقيم، وأخبرني بأنه معية فريق سيطلق مجلة أدبية مغايرة وجادة تحت عنوان «نزوى»، وأذكر أننا تحدثنا عن تجربة مجلة «شعر» ليوسف الخال، و»الآداب» لسهيل إدريس، و»مواقف» لأدونيس، كان سيف الرحبي يبحث عن إطلاق منبر مغاير، شيء لا يشبه شيئا.
حين أنهينا المكالمة، قلت في نفسي هي عبارة عن «نزوة» من نزوات سيف الرحبي تسمى «نزوى» !!
ولكن الشاعر أصر، وسيف الرحبي برحابة صدره وبرودة أعصابه، تقدم خطوة وأخرى في المشروع. وبصدور العدد الأول العام 1994، تساءل الكثيرون من عصابة الكتابة والأوراق عن هذه المغامرة، مشككين في إمكانية أن يطول عمرها، فكم من التجارب ظهرت وما فتئت أن انطفأت، وأن أمر إصدار مجلة أدبية ثقافية دورية، في مجتمع عربي ومعرب لا يقرأ، هي بمثابة عملية تدخل في «فصل الحمق» والمغامرة الموسمية، سحابة صيف !!
لم ألحظ يوما على سيف الرحبي حماسا كما حماس الآخرين، فحماسه لعمله مؤثث داخل الشك والعناد البارد، والمثابرة، والهدوء الذي يشبه هدوء الصوفيين. يسكنه شك يريد أن يقول له لا وجود لعمل ناجح نسبيا بدون مراجعة وتوجس وقلق، وفي سيف الرحبي فلسفة عناد بارد، إنه يصر على أن معركة الثقافة والأدب هي معركة أيضا ذاتية وشخصية، فهي جزء من ذواتنا، وهي مثابرة تذكرنا بعمل النمل أو النحل، لا يمكن الإتقان أن يتحقق إلا إذا كان فيه الصبر والرؤية الواضحة.
5
قبل أن أكون كاتبا مساهما في مجلة نزوى بين الحين والآخر، فأنا قارئ لهذا المنبر باستمرار، وأحتفظ بالسلسلة كاملة تقريبا في مكتبتي الخاصة، ينقصها بعض أعداد قليلة جدا لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، وقد اقترحت على بعض طلبتي في الجامعة الجزائرية والأوروبية، العمل على إنجاز بعض البحوث عن تجربة مجلة «نزوى»، وهناك بحوث في هذا الاتجاه تنجز في بعض الجامعات، فهي الآن تمثل صوتا ناضجا ومتميزا في الإعلام الأدبي والثقافي المتميز الذي جاء بعد مدرسة مجلة الآداب اللبنانية ومدرسة مجلة «العربي» الكويتية. كما أصبحت المجلة مرجعا أساسيا من مراجع الباحثين في الأدب المعاصر، فلا تجد أطروحة واحدة تخلو من الإشارة إلى نصوص ومقالات صادرة بهذه المجلة.
أذكر أنني من بين ما قدمته لمجلة «نزوى»، هو إشرافي وإعدادي لملف خاص عن الكاتبة والروائية الجزائرية الكبيرة آسيا جبار، أول عربية ومغاربية وإفريقية تحصل على عضوية الأكاديمية الفرنسية، وحين صدر الملف في العدد رقم 80 شهر أكتوبر العام 2014، كانت آسيا جبار مريضة وبعيدة عن الأضواء، وقد كلمتها هاتفيا ففرحتْ لذلك فرحا طفوليا كبيرا، وأرسلت لها عددا من المجلة، توفيت آسيا جبار في السادس من فبراير العام 2015 أي بعد أقل من ثلاثة أشهر من صدور الملف الخاص بها، الملف الذي شارك فيه ثلاثون كاتبا، وأعتقد أن (نزوى) هي المجلة العربية الوحيدة التي احتفلت وكرمت آسيا جبار من خلال هذا الملف في حياتها تقديرا لتميزها الأدبي العالي باللغة الفرنسية ولنضالها التحرري دفاعا عن حقوق المرأة.
ظلت مجلة (نزوى) وخلال ربع قرن من عمرها على علاقة متينة بالأدب المغاربي بشكل عام المكتوب منه بالعربية أو بالفرنسية، حيث يحضر في كل عدد من أعداد تقريبا اسم من أسماء الكتاب المغاربيين، من الجزائر وتونس والمغرب، من محمد أركون مرورا بعبد اللطيف اللعبي وعبد الفتاح كيليطو ومحمد ديب ورشيد بوجدرة والحبيب السالمي وشكري المبخوت وأبوبكر العيادي وكمال الرياحي وألبير ميمي ومحمد شكري وعمار بلحسن وربيعة جلطي ومخلوف عامر وأحلام مستغانمي وعبد الحميد بن هدوقة والطاهر وطار…
ربع قرن من المسيرة، هو عمر من الكتابة ومصاحبة الأقلام الجديدة والقديمة، لم تخلف نزوى موعدها ولم تخن خطها الذي هو الخط الحداثي الذي يحتفل بالحياة أولا من خلال النصوص الأدبية الجميلة.
فشكرا لهذا التحدي ولهذا الحضور النوعي العالي الذي تحقق ويتواصل في التحقق بفضل فريق المجلة وبفضل قرائها وكتابها.