يا شجر السنديان
ويا سموّ الصفصاف
حنوّك على الموتى
حنوّ المرضعاتِ على الفطيم
وأعمق منه:
حنوّ الأم السوريّة
على ابنها القتيل..
* * *
دموع اليتامى
في صفائها الملتهبْ
في انسيابها المضطرب
جدولٌ شفيفٌ
أضاعه في زمنٍ ما…
نهرُ بردى
فها هو يبحث عن قبلته
وسط الأزقة والحطام
دموع اليتامى
تهيئ العالم لمعركةٍ قادمة.
* * *
تبكي الشجرة أكثر على الثمرة، على الورق المسّاقط من الغدران والأغصان، تصحبها بالنظرات الوجِلة في رحلتها الحزينة نحو الأرض. متذكرة حين كانت برعماً يتفتح مع الفجر بين البراعم الأخرى، بدمعة نَدى وقطرة مطر: ما أصعبَ الفراق بين الشجرة والثمرة، بين الغابة والشجرة، بين الأب وطفله، وبين الساحل الرمليّ والبحر..
* * *
كان يمسّد على شعرها
الذي كان جميلاً وطويلاً
يرشد النبع إلى الغابة والظِلال
كان يمسّد على شعرها
وسط الأنقاض والحطام
لقد نجيا من المذبحة
أُبيد القوم عن آخر طفل وامرأة
وتهدّمت المنازل والديار
بمحض الصدفة بقيا على خيط الحياة الرهيف
لكن ماذا يعملان بهذه الهِبة الغامضة،
بهذه النجاة
إلى أين سيذهبان؟
السماء لا تحنو على أبنائها
ورعود الغضب دمّرت كلَّ
الملاجئ والطرقات
حيث الأرض بكامل أرجائها
منذورةٌ للخراب..
* * *
يجلس الحاكم العربيّ، صباح مساء، على أرائك الذهب والحرير مفكراً: كم حُر لم أستعبده بعد، كم امرأة لم أثكلها، كم جائع لم يقضِ نحْبه، كم قطعة تاريخ وأرض لم ألحقها بمزرعتي المترامية الجهات، واسمي. كم طفل لم أقتلع براءته أمام أهله، شهود المذبحة، كم رجل لم ينضمَّ إلى ركب الخصيان..؟ إلهي، ما هذه الأحمال من المسؤوليات الجسام، هبني أعماراً كثيرة كي أستطيع حسْمها وإنجازها..
وإن لم تعطني سأهب نفسي.. أنا القادر على كل شيء.. وهذا من فضل ربي أن جعلني أشاركه المطلق والصفات، جلّت قدرته وقدرتي.. لقد تجلى جمال وجوده في ذاتي العظمى. فعلى الخلق جميعاً، النظر في هذه الذات، كي يستشفوا قبساً من نور خالقهم، جلّت قدرته وقدرتي. وان لم ينظروا وراودهم الشك والوسواس الخناس، فلا أتردد في إبادتهم عن بكرة سلالتهم واستئصالها، لأبقى وحيداً، أوحداً، على عرش أبديتي وشبّيحتي ومدافعي وطائراتي التي استوردتها من أرقى مصانع العالم، هذا العالم الذي أصبح يقود المؤامرة تلو الأخرى على عرشي الممانع المنيف، حتى وهو على شفا قعر المزبلة والزوال.
* * *
ثقيلة هذه الأرض وهي تميد على رأسه
ثقيلة وغليظة
غلظة عصا الجلاّد وهي تطيح الرؤوس
كل ثانية ولحظة..
لا يهدأ أوار الغضب
إزاء خرابها
إزاء بشرها السارحين
كالجعلان..
هنيهات تمرُّ على أديمها النتِن
تحسبها قروناً
سُحب همجيّة سوداء
تدفع بأحمالها إلى الأعماق
أعماق الكائن المصنوع
من أغلال وقبور
الغيوم يجف ضرعها الخصيبُ
حين تمر في سمائها
الطيور تنفق متفحِّمة في الهواء
البراعم يسحقها العطشُ
قبل الولادة
وكذلك الأطفال
عالقين بيأس في مضيق الرحم..
أي الكَلِم
تستطيع الاقتراب
من هذه المسوخ
الجاثمة كترسانةٍ من نذرُ وقيامة
من هذه (الكوابيس المكيّفة)()
أخطبوط الأكوان
لحظة المحاق
أي الكَلِم، أي اللغات
تغامر بانتحارها
لحظة الاقتراب
* * *
يحنّ القاتل إلى نقيضه
يتلبّسه أحياناً
حدَّ البكاء والنحيب..
لكن ذلك النوع الرخيص من القَتَلة، يعشق أفعاله حدّ التوحد والحلول..
ولا يرى معنى لسلوكه خارج هذه المرآة الباهرة الجمال في فقء عيون ضحاياه، في الأذية والتنكيل وتدمير حياة الآخرين، هِبة الخالق عزّت قدرته..
ليست الضحيّة بالنسبة له إلا وسيلة لسفح غرائزه المنفلتة من أي هاجس أخلاقي وحضاري وديني، وبالطبع في وحشيتها اللامحدودة هذه، ضد الطبع والفطرة، إنها القوة العارية في صحراء الدم والانحطاط.
* * *
هدوء عاصف يخيّم على الحديقة المتاخمة للغابة. الفراشات تختال، كاختيال تلك المرأة ذات الشال الأخضر وهي تذوب في الغابة.
خيلاء المطر وهدأة الغيوم.. الفراشات بألوانها وبالخفّة التي لا تكسر غصناً كأنما جاءت إلى العالم بما ينقصه من فرح ولطافة خيالٍ وطمأنينة..
ولا شيء يكسر هذا الضجَر العريق..
* * *
تميل الشمسُ تدريجياً حتى تختفي خلف الغابة، تستلُ أشعتها الصفراء من جذوع الأشجار المتعانقة ومن الأوراق والجذور، لتترك سلالة الليل وأطفاله تحتل الأمكنة والحيوات… تأخذ زادها من ذكريات النهار وتسافر في غروبها الأزلي.
* * *
إنني أحسَّ بالنأي عميقاً
في روحي
أحس بالسأم ودُوار الهاوية
الماء يقرّبني من الطفولة
والله..
* * *
باسقةً، منتشيةً تقف الشجرةُ
بانتظار هجوم الريح
* * *
بماذا يفكر (الطاويّ)
وهو يجلس مخطوفاً
بين أشجار الدانتيلا والحور؟
الكأس الفارغة تتحرك
فوق طاولة الخشب
الفضاء يتلفع بخُواء أكبر
واللامعنى
يحاصر الأبدية بلقاح السقوط
* * *
هذا الطائر الذي يقيس أبعاد المسافة برادار عينيه النافذتين، يقف مشرئباً في صحو الفضاء الأجرد، حيث تسافر النظرةُ إلى ما خلف الحُجب والمحيطات.
* * *
طائر صغير لا يكاد يُرى وسط صخب الطيور وأوراق الشجر المتساقط، حبكة ريش أخضر متناغمة الألوان والحركات..
ينقرُ رزقه وسط تلاطم الريح البحريّة، ويفرض حضوراً كثيفاً على لامبالاة العالم المحيط.. كما تفرض تلك السمكة الصغيرة حضورها الجماليّ الفريد وسط وحوش البحر وهوام الأعماق.
* * *
كل حين ولحظة تتطلع إلى الساعة المثْبَتة على رسغك، كما الخيّة المثبتة، جيدا في رسغ الحيوان المحبوس في الحضيرة (كم الساعة الآن يا سيدي؟) ما الفرق بين ضحى الأمس وضحى الغد، بين ليل باريس وليل الصحراء اللاهبة؟ (وما هو برنامجك للعام القادم يا سيدي؟) وما الفرق بين لصوص القرن الثامن عشر، وأولئك القادمين من القرن الثلاثين؟ ألا تفكر لحظة في الراحلين الأكابر، الذين كانوا يقفرون الأمكنة والأزمنة والنجوم من غير ساعة ولا أي حيلة هندسية، وينامون على أسرّة فارهة من عواء الذئاب وحنين الغزلان الصغيرة إلى الأمهات؟
* * *
الطائرات تقصف المسافات بقدرة العقل على هتك حُجب الطبيعة وخفاياها.. والموت يقصف الجميع، بشراً ومعدناً وعلى كافة الجبهات.
* * *
لماذا أرثي على كل شيء مصيرَه؟… وطفولة البحر الضاجّة تغمر كياني بكل ما هو نفيسٍ وحميم.
* * *
أيها النجم الذي يرمقني من وراء الشجرة، ولسان حاله يقول:
(أتصحو أم فؤادك غير صاحِ
عشيّة همَ صحبك بالرواحِ)
* * *
ها هو النسيم العذْب الذي يشبه صَبا نجدٍ، يهبّ على البسيطة الخضراء بعد حبْسةٍ خانقة..
أي رسائل تحملها أيها النسيم من أحبّة غيّبهم الزمان، وآخرين تواروا خلف أجداث ثاوية؟
* * *
تنام الغابة هانئة، متوحّدة بروح أشجارها والأسلاف.. سلالات الليل المترحّلة في الظلام تعانق روح القوة الأزليّة..
* * *
الأيام تحنو على فسائلها الدقائق والساعات، تمد أرخبيل الزمان بالألق والنضارة الدائمين..
* * *
(أسربَ القطا هل من يعير جناحه
لعلّي إلى من هويتُ أطيرُ)
الأجنحة، الطيران والرحلة، شغفُ المكلوم في حلم الوصول إلى المحبوب.
* * *
يترنح السمك الحرون من فرط القلق والنعاس.. في حوضه الكبير يتقلَب بعصبيّة، يحسبه الناظر في لحظة احتضار.
لقد مرّ عليه يوم من فرط عصْفه كأنما قادم من تخوم الجحيم..
* * *
نامي يا أسماك المغيب..
فحياتك القصيرة لا تحتمل كل هذا الألم والارتجاف..
* * *
ملكة الليل، حسناء النهار
تضوّع الأفق
بأريجها المدرار
* * *
كانت الأودية في الأزمنة الغابرة، تأتي محمّلة بالزبد والقعت ورائحة الأشجار النديّة، محملةً بجذور الأثل والغاف وبأرواح الجبال الخبيئة في تيّارات المياه.. لتتآخى لاحقا مع أرواح البحار والمحيطات، التي انفصلت عنها منذ أحقاب ضوئيّة، فيما يشبه الجرح أو الصدْع الوجوديّ الذي يعذّبه الحنين دوماً، إلى تلك الوحدة الأولى والالتئام..
* * *
النجوم ترسل أضويةً، تتخلل أشجار الغابة، ماسحة خفاياها، كأنما تبحث عن سر أضحى عصيّ المنال..
* * *
القمر يضيء سطحَ الغابة، سطحها فقط..
القمر خدعة العشّاق البلهاء
والغابة تبعث الحياة في الخلائق والأقوام من غير ادعاء ولا مديح.
* * *
المرأة القادمة من ألمانيا، تجلس على شرفة الفندق، تدخن بانخطاف، تشفط الدخان كأنما تريده أن يصل إلى أعمق جزء في كيانها المبعثر في مهبّ الجهات.
* * *
الجداجد في ليل الغابة
تردد لحنَ الأبديّة
* * *
تبسط الغابة ذراعيها
ككلب حراسة على العالم
* * *
شرّعت الغابة أبوابها
بانتظار فجر الإنسانيّة الكاذب..
* * *
لقد أُطفئت نار المواقد والديار
صَمتتْ الأغنية والموّال
مات آخر عاشق في هذا الزمان
* * *
ذلك الذي، كانت الجملة تبدأ لديه بالغياب
وتنتهي بالعَدم الكاسر والضَباب..
كأن لم تكن حضورات الوجود إلا ظلالاً عابرة أو بروقاً تضيء خطْفاً، ثم تنطفئ في قعر هاوية أو محيط..
* * *
كان يجلس في الشرفة المطلّة على الشُهب والزهور، مأخوذاً بالأضرحة التي تتنزه في الأفق.. لابد أنها ستلحق بالمقبرة الكبيرة في فناء البلدة..
المقبرة المكشوفة الجماجم والعظام.
أولئك المدفونون وقوفاً
على جري العادة في تلك القفار..
كان يفكر في جنازة العالم
في الحروب والإبادات
إلى أن انبلج طفل من روحه
قاده من يده كالأعمى
إلى حديقة الحيوان والورود
تنزها بين الأفاريز والجنبات
تنزها طويلاً… أزمان مرّت من اللعب والحبور حتى ناما متعانقين في مهد الخليقة الأولى
في غابة الحيوان والزهور.
* * *
قادماً…
أخاله شبحاً من عالم الأموات
بيده النحيلة يلوّح لي..
ربما يحمل رسالة من أصدقاء
تواروا خلف تلال المدُن والسُخام..
* * *
ما الذي تريده منا هذه الصدفةُ
يا امرأة؟
صروف الليالي دمّرت حبَّنا
وشرّدت كل واحد في طريق.
أتذكرك الآن
على وقع أغنيةٍ لطائرٍ
حطَّ على غصن شجرةٍ تهزه الريح
* * *
غراب في غسق دمويّ
يهمّ بالنزول على شجرة
لا، إن هذا الطائر الفاحمَ
أكبر من غراب
يمكن القول انه غداف
قادم من أزمنة الطوفان الأولى
* * *
إلى متى تنوحين أيتها السناجب
بجسدك الرشيق
وصوتك الشجيّ الآسر
(في الماضي كنتُ أحسبه صوت
طيور مهاجرة)
تتسلقين الأشجار
مثل طفولةٍ هاربة
* * *
الكل يتمنى موت صاحبه
أن تنزل عليه نائبةٌ
أو تبتلعه كوبرا
أن يختنق بشربة ماء
أو كسرة خبز
أن يجرف الطاعون أطفاله
ويمشون في جنازتهم الجماعيّة
حزانى مرتدين السواد
أن يموت الآخرون
ويبقى وحده..
شاهد الفجيعة واللذة
(صوت ينفجر من قلب الغابة)
لا تستعجلوا يا إخوان
جائحة الموت ستجرف الجميع
وستكنس أرواحكم القذرة
من غير هوادة ولا تأخير
* * *
صباح مساء، يتمايل بطيبة لا تعرفها الملائكة، عيناه مُسبلتان بحزن مُفتعل وهداية كاذبة.. اليد المنقوعة بالسّم، تمتد بلطف بالغ. والابتسامة التي تخبئ الخنجر والطلقة.. إنه النموذج الأكثر انتشاراً في أزمنة الضِعة والانحدار. وهو العلامة الأعمق لوجودها، الذي بسببه تلاشت مكاسب البشر الإنسانية والجماليّة التي حوّشتها عبر الأزمنة الطويلة والمشقّات.
تُرى، أي إلهٍ جبّار يستطيع دحْر هذا الصنف الوضيع الذي نما واستفحل وحاز على الفضائل والصفات التي تضعه بين الأعيان والقيادات.. وربما يضفي أو يُضفى عليه مسحة القداسة المغدورة والمعجزات..
* * *
بإيماءة عابرة يحييِّ الغرباء بعضهم، في صباحات الحديقة المزهرة، بعد ليل ممطر: الشجرة بعثاكيلها تبتسم للفضاء. والغرباء يبتسمون للفراغ السيّد، وللهواء العميق..
* * *
(وترنو بعينيها إليّ كما رنا
إلى ربربٍ وسط الخميلة جؤذرُ)
لكن المرأة ذات عيني البقرة الوحشيّة لا ترنو ولا تنظر إلى أحد حولها.. بل تركز نظرها في الكتاب الذي تقرأه بنهم وتوحّد يصل حدَّ نسيانها للمكان وما فيه.. يمكن النظر إليها الآن مضطجعة بين الأشجار الكثيفة ورذاذ مطر ربيعيّ، وإن كان الفصل غير ربيع، في مكانها الذي يأخذ زاوية نصف مضاءة بفعل الغيوم التي أخذت في التوافد… يلج العابر وهو يستعيد خياله البدويّ الذي سُرِق منه، يلج شِقّها كجدول صغير يجري مكللاً بظلال مفاصل صخريّة في المفازات البعيدة التي أبدع ابن أبي ربيعة في ربوعها مثل هذا الشعر العصيّ على الزمن والنسيان..
* * *
في الليل وقد أرخى سدولاً وسُجُفاً، حيث (الروح الكلّية) تتجلى في كل ورقة تسقط وشجرة.. في السناجب والحشرات والمياه.. في جوف هذا الليل استمع إلى موسيقى الغابة الوحشيّة، تبعث برسائل حبِّ إلى البشر الموغلين في طريق الهلاك..
* * *
بعد قليل توقف عابر وتمتم إليها بكلمات، ربما تشبه مدخلاً للتعرف المعهود بين البشر في مثل هذه الحالات.. لكنها لم تعره انتباها ولم تحرك حتى رأسها الموجه كلّياً إلى الكتاب الذي يمثل هذا السحر الآسر الذي يستغرق كيانها ويأخذه إلى أصقاعه النائية.
بدأ المطر في الهطول وأخذ المتنزهون والسابحون في التوزع نحو الملاذات التي تقيهم عصف المطر الآسيويّ المتصاعد، بين المظلاّت والشجر.. وهي الوحيدة، تلك المرأة ذات العينين الجؤذريتين والقوام المشدود مثل قوسٍ على أهبة الانطلاق، لم تبرح مكانها، حتى اللحظة، والكتاب.
* * *
كأني بتلك المرأة من خلال الحركة والالتفاف الذي غالباً من غير هدف، على عجلة من أمرها، صوبَ شيء غامض ونهائي.. حدّستُ أنها تسكن في قلب الغابة، وليس على حوافها ، في بنسيونات الحديقة التي يستسهلها السيّاح، بعيداً عن خطر الغابة واحتمالاتها..
كانت بين الحين والآخر ترفع رأسها عن الكتاب، وتأخذ في الكتابة، على نوتات صغيرة كدستها إلى جانبها في الطاولة..
ترفع رأسها بنوع من عصبية وتكتب بسرعة واندفاع، كأنما ثمة لحظة إلهام برقت وتريد اقتناصها، قبل أن تهرب كالحيوان، وتضيع في تضاريس الغابة وتفقدها..
بين الحين والآخر أيضا ترسل نظرات إلى العالم الضاج المحيط. نظرات لا أظن أن فيها من الشفقة والحنان، بقدر ما فيها من جفاء وعدوانيّة، مجهولة الأسباب والنتائج بالنسبة لوعيها المشوّش الملتبس. لكن حين تلحظ مرور طفل بجانبها، تخرج من حالتها المحتدمة تلك وتأخذ في تدليله ومداعبته، كأنه طفلها الوحيد، أملها الأخير على هذه الأرض، التي وصفتها في شذرة من كتاباتها: بحضيرة السموم البلهاء ومستنقع الخنازير والأوبئة.
* * *
تخرج المرأة من الكوخ الخشبي وتدلف الغابة، غير عابئة بالحشرات السامّة والبعوض. تتوسل طقساً سرياً كأنما تحتفي بكل دَفْق الشبق وعنفوان الحياة.. هكذا حتى يغلبها النعاس وتعود إلى الكوخ، لتبدأ في اليوم القادم من جديد..
* * *
قاب قوسين أو أدنى، من الظفر
بفرح السلحفاة.
بقلب الغيمة الشاردة..
* * *
تحيل اللذة، أعمق من اللذة نفسها.. أشفَّ وألطف وأقل عنفا في الممارسة التخيليّة، من الواقعية:
أمامي الآن امرأة شبه عارية، تتمرغ على سرير المسبح، قِلباً قِلباً، على مدار الأعضاء الوثيرة كافةً.. جميلة بضّة، لابد أنها قادمة من النرويج، أو من جبال القوقاز حيث المنابع الجبليّة بلون بحيرة في الجنة تخضّب الأنهار والغابات.
بعضو خيالي اخترقها شلواً شلواً، أهتك أسرار الجسد المنيعة على غير العاشق المتيّم وهو يهيم بخيال معشوقته المجهولة، بالأحرى بظلال شهوتها الافتراضيّة العارمة.. ولا بأسَ من إضفاء لمسة رومانسيّة، حيث سنحلّق كطائرين في ضفاف هذا الطقس الرائب، ولا أجمل، محمولين إلى البعيد البعيد، حيث أودَع أول عاشق في تاريخ الحبّ سرّه الأبدي.
* * *
المرأة تستيقظ من غفوتها المدلّلة في خيال رجل مجهول، لا تكاد تنظر إليه بطرف عينها، عين الحوريّة المتمارضة الكسولة.. المرأة تتجه نحو زوجها في الطرف الآخر من المسبح تاركةًَ مجهولها يرفس مع خيالاته المتكاثرة تحت أشجار جوز الهند والسنديان المأهولة بأصداء الفقْد والنحيب.
* * *
أولئك البداة، الذين تتقاطع بهم الصحراء مع دروب السماء المكتظّة بالملائكة والسراب.
السراب يطبق على القافلة، والكلاب تنبح في وجه الأبديّة اللاهبة.
النساء يتدثرن بألوان الجبال الرمليّة التي أخذت الزوابعُ تدفعها من مكان إلى آخر..
القافلة تسير في غيبها الليلي، ميمّمة شطر سماء تلفحها الرعود والبروق والنيازك تتهاوى فوق منصّات السهول والهاويات التي لا يحدّها سقف ولا قرار.
* * *
بكرتِ قليلاً يا عصافير الصباح، الخريف يقرع أبواب المدينة، وأنتِ تتقدمين الموكبَ الذي يأخذ مدى المنتصر على الربيع الراحل.. تبعثرين الأوراق المنفصلة عن أشجار تلبس بهاء عريها الساطع، كنت في الماضي تتنبئين بمقدم الضيف (عصفور البابو) إلى دار العائلة والدُور المقابلة في ضفة الوادي الذي أضحى أثراً لعين حمار شريد بين الأودية الجافة واليباب.
* * *
تتبختر المرأة بشالها الأخضر المتموّج مثل موجة دافقة، ردفاها يهتزان مع ريح خفيفة، نهداها يلامسان قبّة سماء زرقاء.. تدخل المرأة بموجتها إلى الغابة. تلفها الغابة بأمواجها.. تذوب المرأة بشالها الأخضر في الخضرة اللانهائيّة وتغيب، لتبقى رغبة الافتراس في فمي شرِهة تبحث عن فريسة لا تجدها إلا في الكلمات.
* * *
نبع صغير تسبح فيه أسماك ملونة، يستطيع أن ينتشلك من هوة الدمار القادم، ويجعل روح الكون تصطخب في الأعماق الموشكة على الانطفاء.. تفعل ذلك اليمامة أيضاً، في تحليقها الشفيف وسرب القطا وهو يهوي على النبع، وطفلة تبتسم على منحنى زقاق في بلاد مجهولة الاسم والهويّة، رأيتها في واحد من أحلامك المترحلة دوماً..
النعامة في البرّية والسنجاب وهو يقفز بمرح من شجرة إلى غصن، والزهرة التي توشك على التفتح في ليل العالم الدامي.
هذه الحيوات بمقدورها أن تبعث معجزة الحياة، وتجعل البهجة على مرمى بحيرة وهذيان طائر يتقلب بنشوةٍ بين الضفاف.
* * *
عصفوران يتلاقحان
في الهواء الطلق
والشجرة
شاهدة هذا الزواج السعيد
* * *
نزلت تلك الأيام كما ينزل الطاعون
الأيام التي يستجدي فيها الفلاحون
عبور غيمة عاقر
احتشدوا على رؤوس الأودية
والأفلاج
جاءوا، بالأطفال والنساء
والحيوانات
يجرجرون أثقال المرض
والجفاف
أطلقوا صرخات فزعٍ
واستغاثة
إلى العليّ القدير
وعيونهم شاخصة
نحو سماء جرداء قاحلة.
* * *
أصوات المغيب
تتعإلى من قلب الغابة
لتعانق صوت الحوت الأزرق
في قلب المحيط
نشيد الآلهة الحنون
على أبنائها التعساء
* * *
يسترخون في يوم قائظ
بين أشجار (الفيفاي) والنخيل
تلفحهم ريح الغربيّ
وحشرجات نساءٍ شبقات..
* * *
بعد المطر
يغتسل الشجرُ بدموع الآلهة
وتنزل السماء السابعة بجنانها
إلى أرض البشر.
* * *
صوتك في الأثير
هو ما تبقى لي من أبديّة عابرة
مثل سفينة جانحةٍ
بين جبال من جليد
* * *
الغيوم تمضي باحتمالاتها
نحو المحيط
والبشر، إلى الحُفر المظلمة
في صحراء أو حديقة
وسعيد ذلك الذي ضمته المياهُ
في بساتينها البعيدة..
ذلك الذي:
ذكر الله والزمن،
ففاضتْ عيناه بالدم والدموع
* * *
أي فرح يضمّخ الفضاء الجهْم،
ينشره الدُوريّ، وهو ينقر
الحبَّ من يد العابرين في الطرقات العامة؟
هل تذكّر شجرة الفرصاد
في صحن البيت الكبير
حين كانت الظهيرةُ
تحفر ذاكرتها في الصخر؟
* * *
لا غيمةَ في الأفق
ولا فراشة تحوم
بألوانها على الشجرة
والسناجب تقفز من بهو سنديانة
إلى أخرى
تسبقها شآبيب الظهيرة
المائجة
والمرأة الغربية تسبح
في بحر اضطرابها
وتسافر
* * *
منحدرات أزمانٍ
وذكريات
تخلفها فجوات الغيوم
وهي تتسارع بنشوة مجنونة نحو المحيط
* * *
قال:
أشتم في نَحرها رائحة العشب
وفي ثديها
غبارَ طلع الفصول
رضابها عسلُ الجنان الموعودة
وخمرها…
والردفان، لم يجد لهما وصفاً
وكذلك اليدان والثغر وبريق الابتسامة
الخاطف للألباب والعقول….
فانتهت القصيدة يتيمة ناقصة
تبحث لها عن حقل
شاسع ووقود..
* * *
تموتين
لتعودي إلى النبع
نقيّة وطاهرة
حلمك الأسمى كان…
أمنيتك العميقة
وأنت تكابدين بؤس العالم
* * *
يحلمون جميعهم بالرحيل
إلى البلاد البعيدة
والقريبة:
كم كان الهواء مسموماً
في ديارهم
والأحلام مقتولة
وما تبقّى من شجيرات الغروب
في المرابع أتت عليها الرياح الهُوج
فلم يبق أمام العشيرة غير
حلم النجاة العصيّ
والهروب
* * *
غيوم على شكل عواطف ودموع:
ربما ستجود بها السماء
على حصانٍ وحيد، تائه
في البراري الوحشيّة
أو على امرأة فقدت فلذة
روحها، عزاؤها الأخير في
خضمّ الخيبات المتقادمة…
ولكيْ تتوحّد بشبح الغائب،
لاذتْ بالفرار إلى الصحراء العاتية..
* * *
صباح مرعد وممطر على وتيرة عالية تكاد تمزق زجاج المقهى الذي أجلس فيه لشرب القهوة التي أفتح بها يومي في هذه الجزيرة الآسيويّة. أنظر إلى السنجاب يتسلق أسلاك الشارع العام بسرعة وتوتر جيئةً وذهاباً، وبيدو في غير محله الطبيعي، مضطرباً في هذا المنفى القاسي على الأسلاك البشعة الخطيرة.
(لماذا انفصلت عن رحمك الغابيّ
يا رسول الخفة والرشاقة؟)
تنبلج شجرة من الفراغ لينزل عليها محدّقاً في الطريق المؤدي إلى الغابة.. ألاحظ صغر حجم سناجب هذه البلاد مقارنة بأقرانها في البلاد الأوروبيّة. فهي مثل البشر في هذا المنحى..
أتذكر الشاعر سركون بولص، حين كان يطعمها الخبز في إحدى حدائق تلك البلاد الفارهة، وتتجمع حوله متحدرةً من الأشجار السامقة لتأكل من يده مباشرةً وكأن أطفالاً يتامى حول أب رؤوم. أتذكر ذلك قبل إصابة سركون بالمرض العُضال، وكأن الشاعر يودع وصاياه وحنانه إلى تلك المخلوقات المسالمة.
* * *
تحترق على نار الموقدْ
تودّعك نظرة
وترحلْ
في المطارات والمحطّات
حيث العابرون إلى بلدانهم يتوزعون
أفراداً وجماعات
يختفي الجميع
وتبقى تلك النظرة
شاهدة اللحظة
في انقراضها السريع..
اسم رواية للأمريكي هنري ميلر.