زاهر الغافري
1
لستُ متسولًا، أنا رجلٌ نبيلٌ، لكن النبالة منذ القرن السابع عشر كانت بحاجة إلى ترخيص، إلى مزاعم أكثر من أن تكون حقيقية. اليوم صباحًا استيقظتُ من الفراش وفي رأسي إغماءة كمن شرب كثيرًا من النبيذ حتى وقتٍ متأخر من الليل. آه رائحة القهوة في الصباح، لمسةٌ أثيرية تخاطب الروح قبل الخروج من البيت، من “الهايمات” من الملاذ الأخير للإنسان. أخرج من البيت إلى الحديقة هناك نافورة تنتظرني لأداعب شعرها. في الحانة أو النادي ألتقي بأصدقائي القليلين، نشرب ونتحدث ونضحك، أمام بحر عُمان العظيم. في المساء يذهب الجميع إلى بيوتهم وأنا أذهب وحدي إلى حانة أخرى لكي أرقص في ضوء الشموع. في الحانة قد أصادف أحيانا بعض الأصدقاء في حمام الحانة جميل أن تفرغ مثانتك لأنك تشرب البيرة. في الحمام لوحة جميلة معلقة على جدار، امرأة جميلة مظللة قليلا باللون الأزرق أو الكحلي.
2
في الثانية صباحًا أذهبُ إلى امرأتي وهي نائمة في شقة فندقية. لأنني رجل حالم ويجانبني النوم أفتح زجاجة نبيذ في الغرفة. أفتح الستارة، مشهد مسقط الليلي مدهش أحسُ كأنني أعيش فوق سطح القمر لكن مع ذلك أجد نفسي أشرب النبيذ تحت سلم ثم أنام هناك. أنام على هيئة رضيع في رحم الأم قد يشكل هذا وسواسًا قهريًا عن الخوف أو الموت من يدري؟ قلتُ لنفسي سأكتب قصيدة، لكن هذا الأمر سيبدو كما لو كانت علاقة محرمة، فأنت لا تستطيع أن تكتب قصيدة وأنت تفكر فيها، واستحضرتُ عبارة هنري ميشو، أن تفكر بكتابة قصيدة يكفي لقتلها. أظن أن ميشو كتب هذه العبارة بعد تناوله مادة المسكالين. لقد جربتُ الحشيشة والكوكائين في شبابي وهو ليس مخدرًا بل هو المنبه الأعظم بما نطلق عليه الجنس الإيروتيكي عندما لم أفكر في القصيدة جاءت هي لوحدها كامرأة استيقظت توًا من الفراش.
كانوا في انتظاركَ
في أيديهم أحجار مضيئة
لكنها لا تصل إلى الجذور
إنها كلماتٌ
والكلمات ليست شجرة
القصيدة قد تسمم الشاعر إذا فكرَ بقتلها
في تلك اللحظة ستكون صامتًا كأنك خرجتَ من
الفردوس في يوم
غائم.
3
والآن هناك خطان متوازيان يلتقيان في اللانهاية تفتح ستارة النافذة وإذا أنت أمام مكتبة هائلة، عندما تفتح كتابا ما، تجد نفسك أمام أوراق بيضاء، لمسة، إعجاب، جنس إيروتيكي، خبز وحشيش وقمر. ماذا يتوقع المرء وهو أمام مكتبة أليس هذا إنصات للذات أليس هذا هو الدليل الشعري للوصول إلى قلب العالم؟
الخطر أمل وسادة موضوعة تحت الرأس، والكتاب والنبيذ يُجوهران الذاكرة. في النوم تبدأ الحكايات ولا تنتهي أنت لا تسمعها مرد ذلك أنك رجل ميت وبالكاد تتنفس ببطء مثل بجعة تسبح بهدوء بجناحيها الكبيرين في نهر أو كما قال فالتر بنيامين: لا سيطرة لأحد على رجل ميت. في لحظة حضور الذات يبزغ أمل متلاشٍ، الرهينة الصافية للملذات وأخواتها، إنه شعور طيب، لكنه لا يخلو من الآلام. من المدهش أن الضحك لا ينفصل أبدًا عن الألم، وداع قصير إنما هو مبتذل، كما لو كنت تشعر بنمو أجنحة صغيرة في يديك المتعبتين وإذا تتبعتَ دروب الفكر ستشعر أنك تتبع طريقًا منثورة بالأزهار. أن تعي هذا يعني ذلك أن تمشي في حياة كالصاعقة. في مرحلة الطفولة والصب كنتُ أحب حياة العقارب، بل كنتُ أداعبها كما يداعب طفل كلبه، بحيث كنتُ أذهب إلى الصلاة فجرًا وأنا أتحسس الجدران فتأتي العقارب إلى يدي وذراعي دون أن تلدغني كنتُ أكتفي بالضحك. هل كنتُ محظوظًا لأنني نجوتُ منها؟ لا أعتقد كيف يكون محظوظ من يسرق النار وينام تحت سلم البيت. بيتي في صوفيا لوند في السويد محج للحمامات تحت نافذة المطبخ وعندما أطعمها بالقمح أو الأرز تقدم إليَّ الحمامات تحية امتنان بأجنحتها في المقابل بينما كنتُ أحب العقارب كنتُ أخشى من الأفاعي وكنت على عناد معها وأحيانًا أقتلها دونما أي سبب خصوصًا ما نطلق عليها في عُمان “الهامشة” وهي أفعي قصيرة ذات قرنين صغيرين. كانت هذه السيدة تُعذبني في الليل بل هي منبع كوابيسي الليلية. إذا لدغتكَ هذه السيدة هناك طريقة واحدة فقط لكي تنجو من الموت وهي حزّ موقع اللدغة بسكين أو خنجر ثم شفط السم ومن يقوم بذلك ينبغي أن تكون أسنانه سليمة وفمه بلا جروح وإلا سيتسرب السم من الأسنان أو الجرح إلى الجسد.
4
الكتابة ليست سهلة، والقراءة؟ إنها أشد صعوبة.. هذا ما أدركته عندما كنتُ يافعا. في الكتابة ينفتحُ لك نهر كنهر بويب، في القراءة تنفتح لك المحيطات، هو المجهول الذي ينتظركَ في أعلى سلم الخليقة. كنتُ أحب ومازلت دومًا القطارات، القطارات التي تأخذني إلى الحقول البعيدة، إلى الأراضي المنسية والمهملة، إلى المدن التي يمكن فيها شم رائحة النبيذ. حدث لي هذا في جورجيا وأنا أغادر تبليسي إلى بوتامي، لقد اختبرتني القطارات منذ السابعة عشرة من عمري من بغداد إلى تركيا، لكن عندما تصعد إلى القطار تجد نفسك في حلم القطار أمثولة حلم في رأس الشاعر وأنا الذي جبتُ الآفاق يتراءَى لي أنني لم أغادر قريتي سرور ولم أغادر عقاربها. لماذا لم تلدغني العقارب حينها وأنا صبي هل لأنني من برج العقرب؟ ربما، وربما لأن الأبراج إشراقة جميلة للوهم. من صفات برج العقرب يقال الذكاء والإبداع والثقة بالنفس. حسنا لكنني أنا عقرب مائي لا أجد نفسي إلا في الماء العميق، منذ طفولتي وحتى الآن وأنا أنام في الماء العميق. أتذكر مرة في سرور كنّا أبي وأمي وإخواني وأختي الأصغر نتغدى باليد من صحن واحد عريض، فجأة دون أن يلاحظ أحد سقط عقرب من السقف في يد أمي وهي تتناول اللقمة لدغها في اللسان وإذا بأمي تضحك، أخذت ليمونة ومصّتها وانتهى الأمر. أمي الطويلة، الفارعة، بشعرها الأسود الطويل الذي كان يغطي نصف العالم، أمي الحقيقية كانت حنونة وماتت مبكرًا. لدي أصدقاء شعراء خلدوا أمهاتهم لأن العلاقة مع الأب دائما متوترة مع الأم، هناك لمسة، «حنية»، دفء، وابتسامة، هناك شعور لا يوصف كأنك في الرحم قبل أن تولد. الأبناء ينامون أحيانًا في أحضان أمهاتهم.
5
كنتُ أريد أن أكتب عن الله وإذا أنا أكتب عن الأم. في الحضارات القديمة كانت الأم هي الإله أو الآلهة كانت الأم مقدسة، جبينها يضيء الليل والنهار. عفوًا أيتها الصبيّة أنا لست ناسك الحجر، أنا الحجر نفسه عندما تكونين تمثالا في الريح في قطار نوافذه مفتوحة في اتجاه البحر ورأيتُ شقًا أصيلًا بين فخذيكِ وأنتِ ترتفعين وتنخفضين وكان عليَ أن أطرد الأرواح منك. لا تُطرد الأرواح إلا من قبل التلاميذ، أعمارهم في العشرين أو الواحد والعشرين، عندما تهب الريح في الخارج وفي الغرفة يلمع ضوء شمعة. في قصور الذاكرة، كل ذاكرة تتحدث بوضوح، كل ذاكرة تتحدث من غرفة أخرى. سأصف الأمر كما يلي: هناك مهرجان من الأصوات في كل غرفة من غرف الذاكرة إن جاز التعبير. لم يكن هذا التعبير سوى انبثاق في زمن مغاير، زمن قديم عندما كنتُ جالسًا في حانة في فندق الميناء القريب من حارة الشمال في مطرح. كانت الحانة مطلة على الميناء والبحر وكانت مليئة بزبائن أغلبهم من عمال الميناء وسائقي سيارات الأجرة، كنتُ وحدي أشرب نبيذًا وأتفرس في الوجوه، كنتُ أريد أن أعرف من الذي حملني صغيرًا من الباخرة وعبر بي إلى إفريز الميناء وأنا قادم من زنجبار لكنني لم أر أحدًا.
6
في وقت ما، قبل أكثر من أربعين عامًا، كان لأخي الأكبر مني بسنة واحدة موهبة الرسم والعزف على الغيتار. مازلتُ أتذكر اللوحة التي رسمها، فتاة شابة بشعر طويل، فاحم، هذا الجانب من اللوحة كان يُشكل ليلا بلا نجوم، وفي يمين اللوحة بدا النهار واضحا، عمل أشبه بأعمال الانطباعيين في منتصف القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. فجأة انبثقت هذه الفكرة التي قالها كارل كراوس واستبدلتُ الكلمة باللوحة، فأصبحت العبارة كلما نظرت عن كثب إلى اللوحة، كلما نظرتْ هي بعيدًا إلى الخلف.
لكن هناك حالة من الانتشاء تنتابني ليس بسبب الفتاة في اللوحة، بل ربما بسبب المرور من حالة الليل إلى النهار أو بالعكس. من الضروري التركيز على هذا النشاط الشعري الذي تقوم به المخيلة.
حانةٌ سريةٌ لا يعرفها أحد
الساقيةُ صبيّةٌ تمشي
برنة الكلام واللمس
كما لو كانت تدلُ المراكب إلى البحر.
إن حاولتَ أن تنظر في عينيها
السحيقتين
ستجدُ مغاورَ الذئاب والصبيّة هي نفسها تسقيكَ من
يديها الكريمتين.
7
كنتُ نائمًا، مغمض العينين وأنا أحلم، سمعتُ ضحكات ابنتي الصغيرة قادمة من بعيد.
بأسلوب لوذعي بدأتُ أتساءل هل هناك خطرٌ على حياتها؟
هل هناك من يُسيئ إليها؟
فجأة انزلقتُ وسقطتُ من أعلى الدرج ثم استفقتُ حائرًا.
ابنتي نائمة في سريرها بينما أنا نائم تحت الدرج. حاولتُ أن أتعامل برقة من الأشياء والكلمات لكي لا يُساء فهمي.
8
موعظةٌ حول الأسلوب، قصة قصيرة كتبتها في عام ١٩٨٤، تتحدثُ عبر حوار مُطول بين كواباتا الكاتب الياباني مع تلميذه الكاتب ميشيما، والحوار كله يتمحور حول فن الأسلوب، لا ينتهي الحوار بل يذهب إلى حال سبيله ومن بعيد يُنادي ميشيما أستاذه كواباتا، لكن لم نعرف بعد ما هو الأسلوب يا أستاذي، فيجيب كواباتا دون أن يلتفت قائلا: الموت هو الأسلوب والحزن هو مجرفة الرب. حينها أدرك ميشيما أن كواباتا الحاصل على جائزة نوبل عام ١٩٦٨ يفكر في الانتحار، وهذا ما حدث تماما في العام ١٩٧٢ عندما انتحر كواباتا بالغاز لأنه لم يتحمل مقدار الجمال في هذا العالم.