العلامة الرئيسية للعيش في سوريا هي التخوين . أنت خائن ، أنت خائنة ، عبارتان تُقالان ببساطة مرارا” في اليوم بين معظم السوريين ، والعذر الوحيد الذي أجده لشعبي المُروع أنه بتعامله مع بعضه البعض ، واستسهال إلقاء التُهم على الآخر ، فإنه يعكس تعامل النظام وتحديدا” كل فروع الأجهزة الأمنية مع المواطن السوري ، فشعار تعامل تلك الأجهزة الأمنية مع المواطن السوري : أنت مُتهم حتى يثبت العكس ، وهكذا يشعر كل سوري أن عليه كل يوم وفي كل موقف وحتى في كل كلمة ينطقها أن يُقدم براءة ذمة للنظام وأجهزته الأمنية ، ولأن ثمة ظاهرة هامة جدا” في علم النفس وهي (التماهي مع المعتدي) فإن الشعب السوري المُروع من قبضة الأمن يجد نفسه في أحيان كثيرة يتماهى مع سلوك النظام ويتبناه بل يقلده . وكم من شبان في اللاذقية هم في الأساس ضحايا ومظلومون كانوا يقلدون تصرفات الزعران الذين لا يطالهم القانون . وقد أبدع الدكتور مصطفى حجازي في كتابيه (سيكولوجية الإنسان المقهور وكتابه سيكولوجية الإنسان المهدور ) في وصف حالة التماهي مع المعتدي . أجد نفسي – رغما” عني – وبكل أسى وأسف مضطرة لنقل رأي الكثير من السوريين المُتماهين مع النظام السوري حول رأيهم في الفيلم الوثائقي العظيم ( الخوذ البيضاء) الذي حصل هذا العام على جائزة الأوسكار وهو للمخرج أورلاندو فون إينسيدل وللمصور السوري من حلب الشهباء الأستاذ رائد صلاح وللأستاذ مدير الدفاع المدني خالد الخطيب ، الفيلم رائع إذ يصور معاناة المسعفين والمنقذين للشعب السوري الأعزل من تحت الأنقاض وإسعافهم من كل الأذيات التي تلحق بهم من قصف الطيران الروسي وقد أنقذ أصحاب الخوذ البيضاء 82 ألف مدني ، وتعرضوا هم بدورهم لأذيات وإعاقات خطيرة ، ولأن الجهل والتخلف والخوف لحد الذعر متلازمة تُطوق الإنسان السوري فقد شهدت كملايين غيري على صفحات التواصل الاجتماعي المهزلة التي حصلت بسبب الفيلم الوثائقي (الخوذ البيضاء) فقد سرت إشاعة على الفيس بوك بأن مخرجه هو نجدت أنزور فأخذ الموالون للنظام يسبحون ويمجدون الفيلم (وبالطبع لم يشاهد الفيلم أحدا منهم ) ولم يقتصر الأمر على الموالين بل سرت الإشاعة على الكثير من المعارضين الذين سارعوا لحذف ما كتبوه سابقا” مُنتقدين وكارهين لنجدت أنزور ، وطرزوا مديحا” رائعا” له معتقدين بأنه مُخرج فيلم ( الخوذ البيضاء) . كلاهما وقع في المغطس ذاته الموالون للنظام والمعارضون له ، وهو ما يمكن تشبيهه بتجري الرياح بما لا تشتهي السفن ، أي أن مواقف العديد من السوريين سواء كانوا موالين أو معارضين ليست من صميم قناعاتهم بل كما تُملي عليهم الجهات المُسيطرة عليهم . وقد شن أحد الضباط وهو شاب جامعي وأظن أنه أستاذ جامعي أيضا” حملة شتم ونقد علنا” على صفحتي على الفيس بوك لمجرد أنني أوضحت أن مخرج الفيلم ( الخوذ البيضاء ) ليس نجدت أنزور بل أورلاندو فون إينسييدل ، ولم يجد أي حرج ولا خجل أن يتهمني بالسطحية والكذب ! وبأن أصحاب الخوذ البيضاء كانوا يرفعون علم داعش على رأس كل ضحية ينتشلونها من تحت الأنقاض !ومن حق القارئ أن أوضح له شخصيه هذا الضابط عالي الرتبة فهو وسيم أولا” ولا يمر يوم إلا ويُتحفنا على صفحته بصورة شهيد أو أكثر شبان سوريا في عمر الورود ، ويبارك لهم بالشهادة ويبارك لأهلهم وللوطن موتهم ، حتى أسميته بسري (رسول الموت) فهو لا يزف على صفحته على الفيس إلا الموت . ويستعمل العبارات الخشبية المُنافقة المُقززة نفسها في تمجيد الشهادة ! ولا أدري لم لا يهدي روحه وجسده للوطن طالما لا يُقدس في الحياة إلا الموت والشهادة . وأصابت السيد الظابط عالي الرتبة حالة من الهياج والجنون خاصة حين كتبت أن الفيلم ركز على آية في القرآن الكريم فعاد لكيل الاتهامات لي بالسطحية والكذب الخ ، وخطر لي أن أصعد النقاش العقيم وأن أسأله إذا كان أصحاب الخوذ البيضاء يضعون علم داعش أو يلفون الضحايا بعلم داعش أو النصرة ، فيا ترى المعتقلون السوريون الذين يموتون تحت التعذيب بأي علم يُلفون ؟ ومواكب أو كوكبة الشهداء من الجيش العربي السوري وكلهم في ريعان الشباب ويتوقون للحياة ، وبعضهم يظل مُختبئا” في بيته لأشهر كي لا يجروه لحرب لا يريدها ، فبأي علم يُلفون ! وما قيمة قطعة قماش تجاه روح إنسان ؟ من يُعطي المغزى والقيمة لقطعة قماش سوى الإنسان . أنا وملايين غيري حضرنا سرا” على يووتيوب فيديوهات لأصحاب الخوذ البيضاء ولم نجد أبدا” أيا منهم يرفع علم داعش ولا علم جبهة النصرة . كانوا جميعا” مُسعفين إنسانيين ووجدانيين وضعوا أرواحهم في فم الغول وقلب الخطر . وأنا واثقة أنه لو طغت مُجددا” إشاعة أن مخرج فيلم الخوذ البيض هو المخرج السوري الموالي بشدة للنظام فإن الضابط إياه سيمجد الفيلم وسيمجد كل نقطة وكل فاصلة في المقالات التي ستُكتب عن الفيلم الذي أخرجه نجدت أنزور ولن يجد أي حرج أن يغير موقفه وأن ينافس الحرباء في التلون حسب المصالح والإملاءات . اضطررت أن أحذف سيد الموت إياه من صفحتي على الفيس ليس بسبب رأيه فقط بالخوذ البيضاء وحسده الفظيع كيف قدرهم العالم وأعطاهم جائزة الأوسكار بل بسبب سوقيته وكيل الشتائم الفاقعة التي كالها لي علنا” . هذا ما جعلني وجعل كل من دافع عني أن يتساءل : تُرى كيف يتعامل مع المواطنين السوريين أو المُجندين السوريين المساكين الذين يوقفهم بتهمة ما غالبا” مُفبركة وخُلبية كتهمة : وهن شعور الأمة ! يا سبحان الله على هذه البلاغة .
أخيرا” كم أحس بألم حين أجد نماذج حاقدة ومُضلله وجاهلة والأهم تمارس رُهابا” على الناس البسطاء تشوه معاني رائعة مثل التضحية والغيرية والشجاعة والشهامة ، وتزور بوقاحة لا مثيل لها عملا” إنسانيا” رائعا” وتتهمه بالتخوين . مستغلة قطعة قماش كافية لإعدام نفس حية خلقها الله لتعيش ولتكون على صورته ومثاله . مستغلا” قطعة قماش تثير الرعب وتسبب الجلطات القلبية والدماغية هي علم داعش . علم داعش الذي يستخدمه أمثال هذا الضابط الحاقد المُزور للحقائق واللاوطني ليقتل السوري بدون أن يخسر رصاصة . بل القتل بالتلويح بعلم داعش والاتهام بالخيانة .
هيفاء بيطار