كان الموت ولا يزال أحد أهم المسائل الوجودية الغامضة التي شغلت عقل الإنسان منذ الأزل، ولا نبالغ إذا قلنا إن بنيان الحضارة الإنسانية المتعاقبة عبر التاريخ ما هو إلا محاولات لتفكيك طلاسم هذه المشكلة المعلقة، فتشييد بنيان الحياة الحالي يتوقف على طبيعة المصير الذي يرتجيه خلف بوابة الصمت الأزلي المسمى بالموت، فهاجس الخلود كان هو المخرز الذي ظل يدمي طمأنينة الانسان في هذه الدنيا، فحينما رأى «جلجامش» الجبار قسوة الموت الذي حل بخله الوفي «أنكيدو»، فزع وضاقت علية الأرض بما رحبت، فلبس جلد الأسد وهام على وجه في الصحارى يبحث عن جده «أوتو-نبشتم» القاصي الذي نجى من الطوفان، فيسأله عن لغز الموت والحياة، عله يجد عنده سر الخلود كما هو مسطور بالكتابة المسمارية على الرُقم الطينية قبل آلاف السنين في بلاد ما بين النهرين (باقر، 2014)، أو كما تصورها الأديان الإبراهيمية من خلال قصة طرد آدم من الجنة إلى الأرض، بعد أن ذاق الشجرة المحرمة، لتبدأ بعدها رحلة صراع ابن الإنسان مع الشيطان في هذه الأرض للعودة من جديد للفردوس المفقود بعد الموت. مع كل هذه السرديات الغيبية وغيرها حاول العقل منذ القدم دفع شبح الموت الغامض والإمساك بسراب الخلود، لكن كل مرة يرجع الإنسان خائباً مدحورا، وعلى حد تعبير باسكال « إنني في حالة جهل تام بكل شيء، فكل ما أعرفه هو أنني لا بد أن أموت يوماً ما، ولكنني أجهل كل الجهل هذا الموت الذي لا أستطيع تجنبه» (بدوي، 2007), سيحاول هذا المقال استنطاق بعض الآثار المكتشفة والنصوص التراثية لمحاولة الاقتراب من منظومة الاعتقادات والطقوس المتعلقة بالموت عند سكان إقليم عُمان في مرحلة ما قبل الإسلام، وعلى الرغم من أهمية هذه المرحلة التي تمثل الأساسات التي بنيت عليها منظومة الاعتقاد حالياً، إلا أنها تظل أكثر المراحل غموضاً وضبابية من تاريخ عُمان الحضاري بشكل خاص، والجزيرة العربية بشكل عام، والتي ما زالت تنتظر من يزيل عنها غبار التاريخ، لكي نقترب أكثر من فهم نمط الاعتقاد وتطوره عبر الزمن.
تنتشر القبور القديمة في مواقع أثرية شتى عبر طول الجزيرة العربية وعرضها، لكن أكثر ما يلفت الانتباه في بعض القبور الأثرية المكتشفة في عُمان والإمارات وقطر وغيرها من دول الجزيرة العربية قبل الإسلام، هي انتشار قبور الجِمال التي كانت تدفن بجانب أصحابها، ولا شك بأن انتشار هذا الطقس الجنائزي يعبر عن رؤية اعتقادية يحملها أفراد المجتمع في تلك الفترة عن مرحلة ما بعد الموت، فقد وجدت هذه القبور بمنطقة العيون التابعة لنيابة سناو بولاية المضيبي وتعود لحقبة ما قبل الميلاد، حيث عثر على قبر يقدر عمره بحوالي 2300 عام، ويضم رفات رجل توفي في عمر الخمسين، ودفن معه أسلحته الشخصية، كما وُجِد بالقرب من قبره هيكلان عظميان لبقايا جملَيْن، أحدهما جملٌ ذكر والآخر ناقة، ويتضح من معاينة بقايا الهيكل العظمي أنهما تمت التضحية بهما بعد وفاة صاحب القبر، حيث دفنا في حفرتين مشيدة جدرانهما من الحجارة (البلد، 2014)، كما عثر على قبر لناقة دفنت قرب صاحبها وهي في وضع البروك ورقبتها ملتوية وممدودة إلى الخلف في منطقة الدّور في دولة الإمارات حالياً تعود لمرحلة ما بين القرن الثاني ق.م والقرن الثاني الميلادي، كما اكتشف في نفس المنطقة عدد آخر من هياكل الجمال بنفس الوضعية بقرب أضرحة أصحابها، وفي منطقة مليحة اكتُشف زهاء اثنَي عشر قبراً للجمال خضعت لنوع من الطقوس الجنائزية التعبدية، بحيث أنيخت وقيدت في القبر وهي حية وتمت التضحية بها بحيث تشير رؤوسها نحو المركز وهو مكان دفن الميت، كما وجدت نفس هذا الطقوس الجنائزية القديمة في منطقة الأميلح في سهل الذيد ودبا بالإمارات وموقع المزروعة جنوب غرب الدّوحة بقطر، وفي موقعين آخرين في بات وموضع أملح/الفودية بسلطنة عمان وجد كذلك عدد من قبور الجمال (بن صراي، 2011).
وهذا الانتشار الواسع لهذا الطقس الجنائزي القديم يعبر بلا شك عن وظيفة تؤديها هذا القرابين لمرحلة ما بعد الموت، ومن حسن الحظ أن كتب التراث حفظت لنا بعض النصوص التي نستطيع من خلالها فهم هذا النوع من الطقوس، يذكر الشهرستاني المتوفى سنة 548 في «المِلَل والنحَل» خلال حديثه عن معتقدات العرب في الجاهلية بعضاً من نماذج عقيدة الدفن الجنائزي عند العرب قديماً فيورِدُ ما نصه:
«وكان بعض العرب إذا حضره الموت يقول لولده: ادفنوا معي راحلتي حتى أحشر عليها، فإن لم تفعلوا حشرت على رجلي.
– قال جريبة بن الأشيم الأسدي في الجاهلية وقد حضره الموت، يوصي ابنه سعدا:
يا سعد إما أهلكن فإنني … أوصيك إن أخا الوصاة الأقرب
لا تتركن أباك يعثر راجلا … في الحشر يصرع لليدين وينكب
واحمل أباك على بعير صالح … وابغ المطية، إنه هو أصوب
ولعل لي مما تركت مطية … في الحشر أركبها إذا قيل اركبوا
– وقال عمرو بن زيد بن المتمني يوصي ابنه عند موته:
أبُنيَّ زودني إذا فارقتَني … في القبرِ راحلةً برحْلٍ قاترِ
للبعثِ أركبٌها إذا قيل اظعنوا … مستوسقينَ معا لحشرِ الحاشرِ
من لا يوافيه على عيرانةٍ … فالخلقُ بين [مدافّعٍ] أو عاثرِ
وكانوا يربطون الناقة معكوسة الرأس إلى مؤخرها مما يلي ظهرها، أو مما يلي كلكلها وبطنها، ويأخذون ولية، فيشدون وسطها، ويقلدونها عنق الناقة،ويتركونها حتى تموت عند القبر، ويسمون الناقة بلية، والخيط الذي تشد به ولية. وقال بعضهم يشبه رجالا في بلية: «كالبلايا في أعناقها الولايا» (الشهرستاني، 2013، الصفحات 651-652).
كما حفظت قصائد أخرى لعدد كبير من الشعراء الجاهليين هذا الشكل من طقوس البلية الجنائزي عند العرب، منهم الجميح الأسدي، وبِشْر بن أبي خازم، ولبيد بن ربيعة بن مالك الكلابي، ومطرود بن كعب الخزاعي، وأبو زبيد الطائي، والحارث بن حِلزة، وخداش بن زهير العامري، وعويمر النبهاني (بن صراي، 2011). كما تنقل كتب السير بأن قريشاً أرسلت عمير بن وهب الجمحي قبيل نشوب معركة بدر الكبرى لاستطلاع ومعاينة جيش المسلمين، فلما عاد من مهمته قدم تقريره الذي ذكر فيه: ((..ولكني قد رأيت، يا معشر قريش، البلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع…» (ابن كثير، 1995، صفحة 269). وهذه النصوص التاريخية تعكس بشكل واضح ما توصلت له الكشوف الأثرية التي سردنا بعضاً منها، ومن خلال دراسة طريقة وضع هذه القرابين في القبور مع أصحابها وطريقة التضحية بها، فهي بلا ريب تتطابق مع ما ذكره الشهرستاني وغيره من طقس البلية الجنائزي عند العرب قبل الإسلام, الذي تشد فيه الناقة أو الجمل بحبل خاص يعرف بالولية، وتنحر أو توضع في قبر خاص بجانب الميت حتى تموت لتؤدي غرضاً خدماتياً للميت في العالم الآخر كما كانت تصوره عقيدتهم الدينية في تلك العصور الغابرة، فكانوا يعتقدون بأنه إذا حانت ساعة البعث، وخرج الناس من الأجداث يتدافعون ويعثرون وهم يساقون نحو المحشر، يجد هذا الميت سعيد الحظ دابة لكي يركب على ظهرها، لتخفف عنه شيئاً من أهوال هذا اليوم العسير.
ويمكن أن نرى شكلاً آخر من طقوس الموت عند أهل عُمان قديماً من خلال رواية نقلها السجستاني المتوفى سنة 248 هجرية في كتابه الماتع «المعمرون والوصايا»، فقد نقل في أحد المواضع تحت عنوان «وصية أبي جهم بن حذيفة العدويّ» حكاية حدثت في مجلس قريش»: ((قال أبو حاتم، وحدثنا الثقة عن أبي يعقوب الثقفي عن عبد الملك بن عمير اللخمي قال: جاء أبو جهم بن حذيفة العدويّ، وهو يومئذ ابن مائة سنة إلى مجلس قريش فأوسعوا له عن صدر المجلس « وقائل يقول، بل كان عروة بن الزبير « .فقال أبو الجهم: يا بني أخي، أنتم خير لكبيركم من مهرة لكبيرهم .قالوا: وما شأن مهرة وكبيرهم؟، قال: كان الرجل منهم إذا أسنّ وضعف أتاه ابنه أو [ولُّيه] فعقله بعقال، ثم قال: قم. فإن استتَّم قائماً، وإلاّ حمله إلى مجلس لهم يجري على أحدهم فيه رزقه حتى يموت، فجاء شابّ منهم إلى أبيه، ففعل ذلك به، فلم يستتم قائما، فحمله، فقال: يا بنيَّ، أين تذهب بي؟ فقال: إلى سنَّة آبائك. فقال: يا بني، لا تفعل، فوالله لقد كنت تمشي خلفي فما أخلِّفُك، وأُماشيك فما أَبذُّك « أي أسبقك « ، وأسقيك الدُّواية « يعني اللبن « قائما .وكانت العرب إذا أُسقى الغلام اللبن قائما كان أسرع لشبابه. فقال: لا جرم، لا أذهب بك. فاتخذته مهرة سنَّة» (السجستاني أ.، 2017، صفحة 47).
فمن خلال تفحص هذه الرواية يمكن التعرف على شكل آخر من أشكال طقوس الموت كانت تمارس قديماً في منطقة المهرة التي تقع حالياً بين سلطنة عُمان وجمهورية اليمن والمملكة العربية السعودية، ويمكن أن يفهم بأن المجلس الذي كان يعزل فيه الشيخ الهرم هو أقرب لدار العجزة في عصرنا، لكن في تلك الفترة القديمة لم تكن هذه القبائل المرتحلة بطبيعتها تملك هذا النوع من الرفاهية الاجتماعية والاستقرار بحيث تصرفه لتشكيل مأوى خاص لكبار السن، كما أن المهرة لو كان لها من الوفرة الاقتصادية ما يكفي لإطعام شيوخها الهرمين حتى الموت حسب سنتهم القديمة لما احتاجت من أساسها أن تعزلهم في ذلك المجلس الخاص حتى يأتيهم داعي الموت، فلا بد من إعادة قراءة هذه السنة الاجتماعية المندثرة عند قبيلة المهرة بشكل مختلف، هذا إذا علمنا أن العلاقات الاجتماعية المتينة والعصبية بين أفراد القبيلة الواحدة تجعلهم يدافعون عن بعضهم حتى الموت، لكن يرجح بأن هذه السُنة عند المهرة كانت تمارس في مواسم القحط والجفاف، حين تشح فيها الموارد الطبيعية ويتهدد الموت أفراد القبيلة، فيُضَحى بالأفراد الذين يمكن أن يشكل وجودهم عبئاً على باقي أفراد القبيلة – وهم هنا بعض العجزة والشيوخ الهرمين الذين شارفوا على الموت – من خلال عزلهم في مكان خاص مع بعض الطعام القليل، ويحدث ذلك العزل القسري بعد اختبار قاسٍ بأن يعقل الرجل الهرم ويطلب منه الوقوف، فإذا فشل واستبان ضعفه، حُمل لمثواه الأخير ليقضي فيه آخر أيامه، أو قد لا يكون هذا الطقس مرتبطاً بالضرورة بأوقات الشدة الاقتصادية، وإنما هو سُنة اجتماعية للتخلص من الأشخاص الذين تشكل حالتهم الصحية معوقاً للقبيلة عن سرعة التنقل خلف الكلأ والمرعى، أو تتطلب العناية بهم جهوداً خاصة لا تسمح بها الطبيعة القاسية لحياة الصحراء والغزوات.
وقد تبدو هذه العادة بشعة في التخلص من الأعضاء الذين انتهت صلاحيتهم وأصبحوا عبئاً على المجتمع، لكنها في الحقيقة نوع من الانتقاء الطبيعي الذي كانت تمارسه المجتمعات القديمة لحفظ النوع، خصوصاً في وقت شح الغذاء والجفاف، أو في وقت الخطر،ويمكن ملاحظة هذا النوع من طقوس الموت في اليابان القديمة والتي تعرف بطقسUbasute (Ubasute, 2017), حيث أنه في أوقات الشدة الاقتصادية يُحمل العجزة من الرجل والنساء إلى جوف الغابة مع قليل من الطعام والشراب ليهلكوا بعد ذلك جوعاً وعطشاً، كما يمكن ملاحظة طقس الموت الاختياري عند بعض الطوائف الدينية البوذية في اليابان القديمة عندما يعمد الراهب لعملية الموت البطيء من خلال طقس الـSokushinbutsu (Sokushinbutsu, 2017)، أو كما يقوم به الرهبان في الديانة الجينية في الهند حتى الآن من خلال طقس الموت البطيء والذي يعرف Sallekhana من خلال الامتناع المتدرج عن الطعام والشراب حتى يهلك جوعاً وعطشا (Sallekhana, 2017)، وهذا الشكل التطهيري لا يتعلق بالحالة الاقتصادية، وإنما هو جزء من العقائد والسنن عند هذه الديانات، ويتعلق بشعور الانسان المتدين بأنه قد قضى من هذه الحياة ما يريد واقترب أجله، وأصبحت صحته عبئاً عليه وعلى المحيطين به، فعليه أن يتخلص من حياته بأقل ضرر على من حوله، كما كان يمارسه أهل المهرة قبل الإسلام.
وهناك أشكال أخرى من طقوس الموت كانت تمارس قديماً ويمكن ملاحظة بعضها آثارها حتى اليوم، فما زالت مجتمعاتنا تتخلص من ثياب الزوجة وفراشها بعد أن تفرغ من فترة الحداد على الزوج المتوفى، وتمنع أن يستفيد منه أحد، وهذا الشكل من التعطيل لمتعلقات الميت يمكن ملاحظته في أحد أبيات مالك بن الريب التي يرثي بها نفسه، حينما يأمر صاحبيه بأن يعطلا قلوصه التي كان يركب عليها، في ديار قومه بعد موته، فيقول:
وعـطل قَلوصي في الرِّكاب فإنـها… سَـتَفـلِقُ أكبـاداً وتُبـكي بواكـيـا
وفي رواية «واحة الغروب» لبهاء طاهر يصور طقس الغولة في واحة سيوة في صحراء مصر الغربية، وهي المرأة التي يموت عنها زوجها وتحبس في غرفة لا ترى فيها ضوء الشمس خلال شهور الحداد، ولا يدخل عليها إلا امرأة خاصة تقوم على خدمتها، وإذا خرجت قبل انقضاء عدتها فإنها سوف تنشر الموت والخراب في كل شيء يقع عليه بصرها. وهذه الطقوس لها جذور قديمة تتعلق باتصال روح الميت بكل هذه المتعلقات الشخصية التي كان يملكها الميت في حياته سواء أكانت راحلته الخاصة أو زوجته، فيجب أن تخضع لطقوس تطهيرية خاصة حتى تفارقها روح الميت بحيث يمكن الاقتراب منها من جديد كما هو حاصل في طقس الحداد الذي تدخل فيه المرأة، وقد عكف عالم الأنثروبولوجيا أرنولد فان جينيب «Arnold Van Gennep» على دراسة هذه النوع من الممارسات البشرية عند عدد من الشعوب البدائية في حالات الحمل والولادة والطفولة والبلوغ والزواج والوفاةK واستنتج نمط من الطقوس والشعائر أطلق عليها مصطلح «طقوس العبور Rites of Passage» دأب الYنسان على تكريسها منذ القدم في الحالات الانتقالية الحرجة من حياته، بحيث يخضع الشخص التي تجري عليه هذه الطقوس لثلاث مراحل أساسية من العزل Separation,ثم التحول Transition, وأخيراً الاندماج Incorporation (Gennep، 1961), وطقوس العبور هذه يمكن ملاحظتها في بعض العادات الاجتماعية في سلطنة عُمان حتى اليوم، حيث ما زالت بعض العائلات الملتزمة بالعادات والتقاليد في ولاية صحار وغيرها، تجبر المرأة المعتدة على حبس نفسها حتى عن ضوء الشمس طوال مدة العدة، وتخدمها امرأة خاصة بحيث لا يدخل عليها إلا بنات جنسها والذكور الذين هم فقط من محارمها، وفي آخر يوم تُعزل بشكل كامل في غرقة مغلقة بحيث لا يقع فيه بصرها على كائن بشري أو حيوان وإلا سوف يهلك أو يصاب بالجنون، وعند قضائها لفترة العدة تُعصب عينها وتؤخذ لمكان معين بحيث تفتحها ليقع بصرها أول ما يقع على شجرة معينة أو البحر، وبعض الشعوب تتطرف في طقوس تطهير المرأة التي يموت عنها زوجها، فلا تقبل إلا أن تموت الزوجة بالنار لتلحق بزوجها، كما هو حاصل في طقس الساتي Sati الهندوسي القديم الذي منعته سلطات الاستعمار البريطاني رسمياً مع نهاية القرن التاسع عشر،, لكن لا يزال يمارسه بعض الهندوس المتشددين سراً في الأرياف حتى الآن، وحتى السندباد البحري في حكايات «ألف ليلة وليلة» خبِر هذا النوع من طقوس الموت الجنائزية, ففي الليلة 553 قصت شهرزاد كيف تورط السندباد بالقوم الذين زوجوه من امرأة عظيمة، لكنه لم يكن يعرف بأن من عادتهم أن يدفنوا الرجل أو المرأة في جب عميق إذا ما مات الزوج، وهو ما وقع للسندباد بعد أن ماتت عنه زوجته، لولا أنه تخلص من جب الموتى ذاك بذكائه وشجاعته بعد أن قاسى الأهوال والشدائد (الف ليلة وليلة، 2008).
وهناك المزيد من الآثار والنصوص التراثية التي لا تزال ترقد في المتاحف وتحت الأرض وبطون الكتب تنتظر الباحثين الجادين لكي يقلبوا جوانبها، ليقتربوا أكثر من عقلية ذلك الإنسان القديم الذي سكن أرض عُمان ومشى في مناكبها قبل آلاف السنين، ويتعرفوا أكثر على الأفكار والتصورات التي كان يحملها لمجابهة تلك التساؤلات الكبرى التي لطالما شغلت ذهن الإنسان، وأقضت مضاجعه ولا تزال، وهي: من أين جئنا؟، وما غاية وجودنا هنا؟، وإلى أين نحن ماضون بعد بوابة الصمت الكبرى تلك التي تسمى الموت؟. وما زالت قبور الجِمال وحضارة أم النار وحضارة السوق وحضارة سمد وغيرها من الحضارات التي تعاقبت على أرض عُمان شاخصة وتنادي لكي تُبعث من تحت ركام الزمن، ترفض إجابة شاعر العراق محمد مهدي الجواهري عن سؤال الموت والغيب وهو يناجي قبر زوجه أم فرات (ديوان الجواهري، 2000):
تجري على رِسلها الدنيا ويتبعها…رأي بتعليل مجراها ومعتقدُ
أعيى الفلاسفة الأحرار جهلُهمُ … ماذا يخبّي لهم في دفتيه غدُ
طال التمحلُ واعتاصت حُلولهمُ … ولا تزال على ما كانتِ العقدُ
كما تقاوم في نفس الوقت مصير الحياة الذي ارتضاه الشاعر الألماني غوته في أواخر أيامه وهو يقرأ أبيات قصيدته (جوته، 2013):
في ذرى الأطواد صمت شامل
وسكون قد غشى الكون الفسيح..
خيمَ الصَمت على الغاب، فلا
صوت طيرٍ فيه أو نسمة ريح..
كل شيء مستريح هادئ
وقريباً أنت أيضاً تستريح . !
المصادر:
Arnold Van Gennep. (1961). The Rites of Passage
(الإصدار
Reprint edition). University of Chicago Press.
Sallekhana. (27 May, 2017). Sallekhana.
تاريخ الاسترداد
9 June, 2017
من
Wikipedia: https://en.wikipedia.org/wiki/Sallekhana
Sati. (9 July, 2017). Sati (practice).
تم الاسترداد من
https://en.wikipedia.org/wiki/Sati_(practice)
Sokushinbutsu. (8 June, 2017). Sokushinbutsu.
تاريخ الاسترداد 9 June, 2017،
من
Wikipedia: https://en.wikipedia.org/wiki/Sokushinbutsu
Ubasute. (10 May, 2017). Ubasute.
تاريخ الاسترداد 9 June, 2017،
من
wikipedia: https://en.wikipedia.org/wiki/Ubasute
أبو حاتم السجستاني. (3 يونيو, 2017). المكتبة التراثية. تم الاسترداد من الوراق:
http://www.alwaraq.net/Core/waraq/coverpage?bookid=2017
البلد. (10 6, 2014). صحيفة البلد الألكترونية. تم الاسترداد من اكتشاف مقابر عمانية تعود إلى حقبة – قبل الميلاد-:
http://albaladoman.com
الحافظ ابن كثير. (1995). البداية والنهاية- الجزء 3. بيروت: دار ابن حزم.
الف ليلة وليلة. (2008). الف ليلة وليلة. بيروت: دار صادر.
جوته. (2013). فاوست/ترجمة: محمد عوض محمد. القاهرة: المركز القومي للترجمة.
حمد محمد بن صراي. (2011). الإبل في بلاد الشرق الادنى القديم وشبه الجزيرة العربية, تاريخياً-آثارياً-أدبياً. أبوظبي: هيئة أبوظبي للثقافة والتراث -المجمع الثقافي.
ديوان الجواهري. (2000). ديوان الجواهري-المجلد الثاني. بيروت: بيسان للنشر والتوزيع والإعلام.
طه باقر. (2014). ملحمة جلجامش (الإصدار الطبعة الثالثة). لندن: الوراق للنشر.
عبدالرحمن بدوي. (2007). مشكلة الموت. القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة.
محمد عبد الكريم الشهرستاني. (2013). المِلَل والنَّحَل. بيروت: منشورات الجمل.
إسماعيل بن علي المقبالي