من يتكلم يا ترى في كتب صامويل بيكيت؟ من هي هذه الـ "انا" التي لا تتعب، والتي يبدو انها تقول دائما الشيء نفسه؟ ما غايتها؟ ما يأمل المؤلف الذى لابد انه قائم في محل ما؟ ما نأمل، نحن الذين نقرأ أم أنه انتهى الى حلقة يدور فيها بظلام، يجذبه الكلام التائه، كلام ليس مجردا من المعنى وإنما يفتقر الى المركز، كلام لا يبدأ، ولا ينتهي، مع ذلك فهو نهم، ملزم، أبدا لن يتوقف، ولا نحن بالقادرين على احتمال توقفه، فسيكون علينا آنذاك أن نواجه الاكتشاف المريع، أن هذا الكلام، عندما لا يتكلم فهو يواصل الكلام أيضا، انه عندما يتوقف، يستأنف، لا يعرف السكوت أبدا فالصمت يكلم فيه نفسه أزليا.
تجربة بلا مخرج، مع أنها، ومن كتاب الي آخر، تتواصل بصورة صافية ملقية عنها بالقوى الواهنة التي ربما كانت ستمكنها من آن تواصل.
وهذه الحركة هي ما يصعق بدءا، هو ذا رجل لا يكتب من أجل المتعة الجديرة التي تعود له بالاحترام من جراء تأليف كتاب جميل، ولا كذلك بفعل هذا الالزام الجميل الذي نعتقد أن بالامكان دعوته بالالهام، ليقول أشياء هامة يقدر أن يقولها لنا، أو كان هذه هي مهمته، أو لأنه يأمل، إذ يكتب، أن يتوغل في المجهول. أمن أجل الانتهاء من هذا كله، اذن؟ ألأنه يحاول الافلات من الحركة التي تجتابه وذلك بان يهب نفسه الانطباع بأنه ما يزال سيدها، وانه مادام يتكلم فهو يقدر أن يتوقف عن الكلام؟ لكن أتراه يتكلم؟ ماهر هذا الفراغ الذي يصنع من نفسه كلاما في الصميمية المفتوحة لهذا الذي يتلاشى فيه؟ أين سقط يا ترى؟ "أين الآن؟ متى الآن؟ من الآن؟".
في منطقة الخطأ:
انه يناضل: هذا شيء جلي. يناضل بسرية أحيانا، وكما لو انطلاقا من سر يخفيه علينا، وكذلك على نفسه، يناضل لا من دون مكر، وبهذا المكر الأعمق المتمثل في الكشف عن لعبه. تتمثل الاستراتيجية الأولى في أقنعة وصور بينه وبين الكلام. ما يزال مولوي Molloy كتابا يحاول فيه هذا الذي يفصح عن ذاته أن يتخذ الهيئة المطمئنة، هيئة حكاية، وهي بالتأكيد ليست بالحكاية السعيدة، لا عبر ما تقوله فحسب، وهو بالغ البؤس، ولكن كذلك لأنها لا تفلح في أن تقوله. ان هذا التائه الذي تنقصه من قبل وسائل التيه (ولكن ما يزال لديه ساقان، بل وحتى دراجة هوائية) الذي يدور أزليا حول هدف غامض. مخفي، معترف به، فمخفي من جديد، هدف له علاقة بأمه المتوفاة، ولكن التي هي دائما رهن الاحتضار شيء لأنه يدركه منه آن يبدأ الكتاب "أنا في حجرة أمي، وأنا من يعيش فيها الآن"، فهو يحكم عليه بالتيه حوله من دون انقطاع، في غرابة ما يتخفى ولا يريد التكشف، هذا الجواب نشعر تماما بأنه مغلول بخطأ أعمق وأن هذه الحركة المتراطمة انما تحدث في منطقة الهوس غير الشخصي، ولكن مولوي، مهما كان من عدم انتظام الرؤية التي نتلقاها عنه، يظل شخصية قابلة للتشخيص، واسما مؤكدا يحمينا من تهديد أكثر ريبة. هناك في هذه القصة مع ذلك حركة تفكك مقلقة: انها هذه الحركة التي، لكونها لا تقدر الاكتفاء بعدم استقرار انسان جواب، تلزمه أيضا بأن يزدوج في النهاية، ويصبح آخر، يصبح الشرطي "موران" الذي يلاحقه من دون أن يمسك به، وفي طريق هذه الملاحقة يدخل هو الآخر في طريق الخطأ الذي لا نهاية له. على غير علمه يصبح مولوي موران، أي آخر، أي شخصية أخرى مع كل شيء. تحول لا يمس اذن عنصر التطمين في الحكاية في الأوان نفسه الذي يدخل اليها فيه معنى مجازيا، ربما كان مخيبا، لأننا لا نحمس بأنه بضخامة العمق الذي يتخفى ها هنا.
تبدو (القصة الطويلة الأخرى) "مالوين يموت"، وهي تذهب أبعد. هنا، أصبح محتضرا، والفضاء الذي ينبغي عليه أن يتيه فيه ماعاد ليقدم مصادر المدينة بشوارعها المائة، والأفق الحر للغابة والبحر، الذي كانت (القصة) مولوي ما تزال ترفدنا به، ليس هنا سوى الحجرة، والفراش، والعصا التي يجتذب بها المحتضر الأشياء أو يبعدها، موسعا بذلك من دائرة ثباته، وخصوصا القلم الذي يوسعها أكثر اذ يمنح من فضائه الفضاء غير المتناهي للكلمات. والحكايات. شأن مولوي، يمثل مالون اسما، ووجها، وهو كذلك سلسلة من الحكايات، ولكن هذه الحكايات لا تستند الا الى نفسها، بعيدا عن أن تكون محكية ليصدقها القارئ، تكون هي مدانة على الفور في حيلتها كحكايات مخترعة: "هذه المرة أعرف أين أنا متجه… انها الآن لعبة، انني سألعب.. أعتقد أنني أقدر أن أقص على نفسي أربع حكايات، كل واحدة في موضوع مختلف". لم هذه الحكايات المجانية: لملء الفراغ الذي يحس مالون بأنه يسقط فيه، ويدافع من القلق أمام هذا الزمن الفارغ الذي سيصبح الزمن غير المتناهي للموت، ومن أجل عدم السماح لهذا الزمن الفارغ بأن يتكلم، والوسيلة الوحيدة لاسكاته هي اجباره على أن يقول مهما كلف الثمن، شينا ما: أن يقول حكاية. هكذا لم يعد الكتاب ليمثل سوى وسيلة للاحتيال على نحو مكشوف، من هنا المساومة الناشزة التي تطبعه بالاختلال، هذا التراطم للحيل الذي تهدر فيه التجربة، لأن الحكايات تظل حكايات، ان حدتها وبراعتها المتهكمة، وكل ما يهبها شكلا وأهمية يفصلها كذلك عن مالون، هذا الذي يحتضر، يفصلها عن زمن موته ليعيد شدها الى الزمن المعتاد للحكاية الذي لا نؤمن به، والذي لا يهمنا هنا، لأننا ننتظر شيئا أكثر أهمية بكثير.
اللامسمى:
صحيح أن الحكايات تحاول في "اللامسمى"، أن تصمد. كان للمحتضر (في القصة السابقة)، سرير، وحجرة، أما ماهود Mahood [في "اللامسمى"] فهو فضلة معتقلة في الجرة الكبيرة التي تزين مدخل مطعم. هناك أيضا وورم Worm هذا الذي لم يولد والذي لا وجود له سوى عذاب عجزه. عن أن يكون وفي الأوان عينه تمر الوجوه القديمة. أشباح بلا جوهر، صور فارغة تدور آليا حول مركز فارخ تشغله الـ"أنا" التي لا اسم لها، الا أن كل شيء قد تغير الآن، والتجربة تنفذ الى عمقها الحقيقي. لم نعد أمام شخصيات محمية بتطمين اسمها الشخصي، ولا أمام حكاية، حتى اذا كانت موجهة في الحاضر الهلامي للمناجاة الداخلية، ان ما كان حكاية أصبح نضالا، وما كان يتخذ شكلا، حتى اذا كان شكل كائنات ممزقة ومفرومة، هو الآن بلا شكل، من يتكلم هنا؟ من هي الـ"أنا" المحكوم عليها بالكلام بلا هوادة هذه التي تقول: "أنا مجبر على الكلام. أبدا لن أسكت أبدا؟" ان تقليدا مطمئنا يدفعنا الى الاجابة: انه صامويل بيكيت. عبر هذا نبدو مستقبلين ما هو ثقيل الوطأة في وضعية لأنها ليست بالمتخيلة فهي تستحضر العذاب الحقيقي لوجود فعلي. تطمح المفردة "تجربة" الى تسمية ماهر متكبد حقا. ولكن عبرها سنحاول أيضا استعادة تطمين اسم، وموضعة "محتوى" الكتاب عند هذا المستوى الشخصي الذي يحدث فيا كل ما يحدث عبر ضمانة وعي، في عالم يوفر علينا المعيبة الأكثر فداحة، مصيبة فقدان القدرة على قول "أنا". ولكن "اللامسمى" هو بالتحديد تجربة معيشة تحت تهديد اللا – شخصية ومقاربة كلام يتكلم وحيدا، ويخترق من يصغي اليه، كلام لا صميمية له، ويستعبد كل صميمية، ولا نقدر أن نسكته، لأنه اللا-منقطع اللا-متناهي.
من يتكلم هنا، اذن؟ أهو "المؤلف"؟ لكن ما يقدر أن يحدده هذا الاسم، مادام هذا الذي يكتب لم يعد في جميع الأحوال بيكيت، وإنما الالزام الذي اجتذبه خارج نفسه، جرده واحتجزه، أسلمه الى الخارج صانعا منه كائنا بلا كيان، لا يقدر لا أن يعيش ولا أن يموت، لا أن يتوقف ولا أن يبدأ المحل الفارغ حيث يتكلم عطل كلام فارغ تغطيه كيفما اتفق "أنا" مسامية ومحتضرة.
هذا التحول هو ما يعلن هاهنا عن نفسه. في صميمية هذا التحول يتيه، وفي تجواب ثابت يناضل، عبر مواظبة لا تدل على قدرة أو سلطان وإنما على لعنة ما لا يقدر أن يتوقف، نقول يتيه ويناضل محضر بقاء ناطق، البقية المظلمة التي لا تريد آن تستسلم.
ربما كان علينا أن نجهر بالاعجاب بكتاب يحرم نفسه طوعا من جميع المصادر ويقبل بالبدء في تلك النقطة التي لم تعد فيها من بقية ممكنة، ويقف فيها بعناد، بلا خديعة، وبلا مهرب، ويسمعنا طوال ثلاثمائة صفحة، الحركة المتراطمة نفسها، ومراوحة من ليس يتقدم أبدا. ولكن هذا ما يزال يمثل وجهة نظر القارئ الغريب، الذي يتأمل بهدوء ما يبدو له وهو يشكل لعبة حاذقة. لا شيء يبعث على الاعجاب في امتحان لا تقدر الافلات منه، كلا، لا شيء يدعو الى الاعجاب في أن يكون أحد معتقلا ويدور في حلقة مفرغة في فضاء لا يقدر هو أن يخرج منه حتى الموت، لأنه، حتى يسقط فيه، فهو لا بد وأن يكون بالضبط قد سقط من قبل خارج الحياة. لم يعد للمشاعر الجمالية هنا من وزن. ربما لسنا أمام كتاب، بل لربما تعلق الأمر بما هو أكثر من كتاب: بالمقاربة الصافية للحركة التي تأتي منها جميع الكتب، ولهذه النقطة التي يضيع فيها العمل بلا شك أبدا، والتي تهدد، دوما، العمل بالخراب، وتجدد فيه العطل الذي لا نهاية له، ولكن التي عليه أن يدعم معها، أيضا، علاقة هي دائما أكثر بدئية، والا لتحول الى عدم، ان اللا مسمى لمحكوم عليه بأن يستنفذ اللانهاية: "لا شيء لدي لأقوم به، أي لا شيء ذو بال. على أن أتكلم، وهذا شيء مبهم. علي أن أتكلم، ولا أريد أن أتكلم، وعلي أن أتكلم لا أحد يجبرني على ذلك، ما من أحد، انه حادث، أمر واقع. لا شيء سيقدر أبدا أن يعفيني منه، ما من شيء، لا شيء ليكتشف، لاشيء ليقلل ما بقي أن يقال، أمامي البحر لأشربه، هناك اذن بحر".
جنيه
كيف حدث هذا لقد أبان سارتر كيف أن الأدب، بتعبيره عن "الشر" العميق الذي كان على جنيه أن يتكبد اكراهه، منح جنيه شيئا فشيئا الهيمنة والقدرة، جاعلا اياه يرتفع من السلبية الى الفعل، ومن الهلامية الى الشكل، بل وحتى من شعر متردد الى نثر مهيب وحاسم. أدان سيدتنا سيدة الأزهار، وان لم يفكر المؤلف بذلك، لهي يوميات شفاء من ادمان، يوميات تحول: يشفى جنيه من ذاته ويلتفت الي الآخر، بل ان هذا الكتاب ليحقق الشفاء بالذات: وليد كابوس، نتاج عضوي، تكثيف أحلام،ملحمة للاستمناء، وهو ينجز عبر هذا كله، سطرا سطرا، عبورا من الموت الى الحياة، ومن الحلم الى اليقظة، ومن الجنون الى العافية، حافلا بالسقطات…" "بحقنه ايانا بأذاه، يشفى هو منه، وكل واحد من كتبه انما هو أزمة مسكونية تطهيرية، ودراما نفسية: لا يبدو كل كتاب في الظاهر الا معيدا السابق، ولكن عبر كل كتاب، يصبح هذا المسكون أكثر فأكثر هيمنة على الشيطان الذي يسكنه..". (2).
هذا شكل تجربة تقليدية يمكن أن ندعوها بالكلاسيكية، تجربة منح صيغتها التفسير التقليدي لمقولة جوته: "ان الشعر لهو خلاص". تشكل "اناشيد مالدرور" تدليلا عليها أيضا، مادمنا نرى بفعل قوة التحولات، والهيام بالصور، وعودة الموضوعات الدائمة الاستحواذ، نرى الى كيان جديد طامح الى أن يعثر في اشعاع النهار على حقيقة صورته، وهو ينبثق شيئا فشيئا من مهاوي الظلام، ويفعل الظلام نفسه: هكذا يولد لوتريامون. لكن سيكون من غير الحذر الاعتقاد بأن الأدب، عندما يبدو وهو يقود الى النهار، يقود الى اللذاذة الهادئة للوضوح العاقل. ان الهيام بالنهار المشترك الذي يدفع لدى لوتريامون الى تفخيم للابتذال بالغ الخطورة والى الهيام باللغة المشتركة الذي يتحطم اذ يصبح توكيدا صارخا للمواطئ المشتركة وللمحاكاة، يدفعانه، أيضا، الى الضياع في لا -محدودية النار الذي يتلاشى هو فيه. وعلى النحو عينه، فقد رأى سارتر جيدا، فيما يتعلق بجنيه نفسه، أن الأدب، اذا كان يبدو وهو يقود المرء الى مخرج ويسهل له النجاح والهيمنة، فهو انما يكشف، عندما يكون كل شيء قد أفلح، نقول يكشف فجأة عن غياب المخرج الخاص به، أو يكشف أيضا عن الفشل المطلق لهذا النجاح وينحل هو نفسه في عادية مسيرة أكاديمية. "في عهد سيدتنا، سيدة الأزهار، كانت القصيدة هي المخرج. ولكن اليوم: وقد استيقظ، وعقلن، وأصبح بلا قلق حول الغد، وبلا ذعر، لم سيكتب؟ ليصبح من رجال الأدب؟ هذا بالتحديد ما لا يريده هو… اننا نتخيل أن كاتبا ينتج عمله عن حاجة هي بمثل هذا العمق، كاتبا أسلوبه سلاح مبتكر في مقصد هو بمثل هذا الوضوح، كاتبا تلخص كل صورة منه، وكل فكرة، وبهذه الصورة الجلية، حياته بكاملها، أقول ان كاتبا كهذا لا يقدر أن يشرع فجأة بالكلام على شيء أخر.. من يخسر يربح: بربحه منزلة كاتب، يخسر، في الأوان نفسه، الحاجة الى الكتابة، والرغبة بها، والوسيلة".
يبقى أن ثمة، بالفعل. طريقة كلاسيكية لوصف التجربة الأدبية، نرى فيها الى الكاتب وهو يتحرر بنجاح وسعادة من الجانب المظلم من ذاته في عمل يصبح فيه لم هذا الجانب) كأنما بمعجزة، سعادة العمل ووضوحه، ويجد، أي الكاتب، ملاذا، بل وأكثر من هذا تفتح أناه المتوحدة، في تواصل حر مع الغير. هذا ما أكد عليه فرويد عندما توقف بالحاح عند حسنات التصعيد، وبهذه الثقة المؤثرة جدا التي بقي متمسكا بها، الثقة بقدرات الوعي والتعبير. ولكن الأشياء ليست دائما بل بهذه البساطة ويجب القول أن ثمة مستوى آخر من التجربة نري فيه الى سيكيل – انج وهو يصبح أكثر فأكثر مذابا، والى جويا وهو يمسي أكثر فأكثر مسكونية، والى نرفال الواضح، والفرح وهو ينتهي عند عمود الضوء (حيث شنق نفسه)، والى هولدرلين وهو يموت أمام ذاته، أمام الإمساك العقلاني بذاته لأنه دخل في الحركة البالغة القوة للصيرورة الشعرية.
مقاربة كلام محايد:
كيف يحدث هذا؟ لا نقدر هنا الا أن نقترح حقلين للتفكير: الأول، هو أن العمل ليس أبدا لهذا الذي يعكف على الكتابة، مجالا مسورا يقيم فيه، داخل ذاته الهادئة المحمية، في منجى من مصاعب الحياة،. ربما حسب نفسه بالفعل محميا من العالم، ولكن ليعرض نفسه الى تهديد أكبر بكثير، وأكثر تهديدا، لأنه، أي التهديد، يلقاه مجردا (من كل سلاح): التهديد، تحديدا، الذي يأتيه من خارج، من حقيقة اقامته هذه في الخارج.. وهو ليمس عليه أن يدافع عن نفسه ضد التهديد، بل بالعكس أن يستسلم له. ان العمل ليطالب بهذا، أن يضحي الانسان الذي يكتب نفسه للعمل، أن يصبح آخر، لا أن يصبح (انسانا) آخر، ولا أن يتحول من الكائن الحي الذي كانه الى الكاتب مع واجباته واكتفاءاته ومصالحه، وانما، بالأحرى، أن يصبح لا أحد، المحل من الفا رخ والمنتعش الذي يتعالى فيه نداء العمل.
ولكن لم يلزم العمل بهذا التحول لأ يمكن أن نجيب: لأنه يبحث عما لا يقدر أن يجد نقطة انطلاقة في المألوف، ولأنه يبحث عما لم يفكر به بعد، ولم يسمع، ولم ير، ولكن هذه الاجابة تبدو وهي تدع الأساسي جانبا. يمكن أن نجيب ايضا: لأن العمل يحرم الكاتب، الانسان الحي، والعائش في الجماعة التي يقبض وسطها على المجدي ويستند على صلابة الأشياء المنجزة والتي تنتظر الانجاز، ويساهم شاء ام أبى، في حقيقة مشروح مشترك، نقول لأنه يحرم هذا الحي من العالم مانحا إياه، كمقام، فضاء المتخيل، وهذا بالفعل، جانب من عسر انسان سقط خارج العالم، وبقي، في هذا الانزياح، عائما الى الأبد بين الكينونة والعدم، عاجزا منذ ذلك الحين عن الموت وعن الولادة مخترقا بالأشباح، مخلوقاته التي لا يؤمن بها والتي لاتقول له أي شيء، (هذا الانسان) الذي "يصوره" لنا "اللامسمى". ومع ذلك فليست هذه هي الاجابة الحقيقية. اننا نجدها بالأحرى في الحركة التي تعيد العمل، كلما سعى الى الاكتمال، تعيده الى تلك النقطة التي يواجه فيها امتحان الاستحالة. هناك، لا يتكلم الكلام، بل يكون، ولا شيء يبدأ فيه، لا شىء يقال، وإنما يكون من جديد، ومن جديد دائما يبدأ.
هذه المقاربة للأصل هي التي تحيل تجربة العمل مهددة دائما، مهددة لهذا الذي يحبل به، ومهددة للعسل. ولكن هذه المقاربة هي أيضا وحدها التي تجعل من الفن بحثا اساسيا، ولأن "اللامسمى" أحالها محسوسة على النحو الأكثر فظاظة فهو يتمتع بالنسبة للأدب بأهمية تفوق بكثير أهمية أغلب الأعمال الناجحة التي يمدنا بها (هذا الأدب). لنحاول أن نسمع "هذا الصوت الذي يتكلم، عارفا بأنه كاذب، غير عابئ بما يقول: أكثر هرما، ربما، وأكثر مهانة من أن يقدر أبدا أن يقول الكلمات التي تجعله يتوقف، ولنحاول النزول في هذه المنطقة المحايدة التي يندفع فيها، وقد صار دريئة للكلمات، هذا الذي،حتى يكتب، فهوقد سقط في غياب الزمن، هناك حيث عليه أن يموت موتا لا نهاية له: "… في كل مكان هي الكلمات، في، خارجا عني، عجبا، قبل لحظات كنت بلا سماكة، اسمعها لا حاجة لسماعها، لا حاجة لرأسي، هي متعذرة الايقاف، أنا كلمات، أنا مخلوق من كلمات، كلمات الآخرين، أي آخرين، المكان ايضا، الهواء كذلك، والجدران والأرضية، السقف، كلمات الكون كله هاهنا، معي، أنا الهواء، الجدران، المحبوس بين الجدران، كل شيء يستسلم، ينفتح، يطوف، يفيض، ندف، أنا كل هذه الندف، التي تتقاطع، تتوحد تنفصل، أينما رحت القاني من جديد، أهجرني أسعى الي آتي مني لا شيء سواي، سوى شق مني، مستعاد، مضاع، مهدور، كلمات أنا كل هذه الكلمات، جميع هؤلاء الغرباء، كل هذا الغبار من الكلام، حيث لا غور لتستقر، ولا سماء لتتلاشى، تتلاقى لتقول، ويهرب بعضها عن بعض لتقول، انني هي جميعا، هذه التي تتحد، وهذه التي يجهل بعضها البعض، ولاشيء آخر، بلى، شيء آخر، شيء صامت، في مكان حرج فارغ، موصد، ناشف، ناصع، أسود، حيث لا شيء يتحرك، لا شيء يتكلم، والذي اليه أصغي، وأسمح، وأبحث عنه، كحيوان ولد في قفص حيوانات، ولدت في قفص حيوانات ولدت في قفص..".
هامش
1- الكاتب الايرلندي صامويل بيكيت Samuel Beckett الذي توفي قبل رأس السنة 1990 بساعات، في احد المستشفيات الباريسية، عن ثلاثة وثمانين عاما، معروفا في العربية عبر مسرحه بخاصة. مع ان عبقريته الأدبية وتجديده قد برزا أول ما برزا في أعماله الروائية والقصصية، هذه المقالة لموريس بلانشو Maurice Blanchot وهو من أبرز النقاد والروائيين والفلاسفة الفرنسيين، تعتبر من اعمق ما كتب في "روايات" بيكيمت بلانشو كتبها في الخمسينات وضمها فيما بعد الى مجموعته النقدية "الكتاب القادم" (المترجم).
2- هذه القبسة والسابقة، وقبسة لاحقة، مأخوذة بطبيعة الحالي من كتاب سارتر: "القديس جنيه، ممثلا وشهيدا" (المترجم).
ترجمة: كاظم جهاد (شاعر ومترجم من العراق يعيش في باريس)