* وجدت في المعجم الصرفي تلك الغنائية التي يفتقدها جل شعرنا المعاصر.
* القصيدة العربية المعاصرة حققت تطورا من ناحت
المضمون بسبب المخاضات السياسية والأيديولوجية.
*لا يمكن فصل السيرورة الشعرية لدى الشاعر عن محطاتها المختلفة.
* تعدد المواهب لا يعني اطلاقا امكان النحاح المتعدد.
إن تجربة المبدع محمد السرغيني تختصر ما في تجربة الكتابة الابداعية الحقة من مكابدة وصبر وشغف دائم بالجديد والمدهش _ إنها _ بكل المقاييس تجربة لها ما لتجارب المبدعين الكبار من تعقيد وتشابك وخصوبة وغنى وتشعب أخاذ.
وكشوفه الشعرية العميقة والخلاقة، وترجماته المؤثرة،وعبر حواره العميق مع نفسه وتأمله للعالم من حوله، يعتبر واحدا من المبدعين المهمين والذين تركوا بصماتهم جلية على الحياة الثقافة المغربية في الربع الأخير من هذا القرن.
إن شأن الشاعر المغربي محمد السرغيني يظل كبيرا، ودوره أكبر لدرجة نشعر معها بالامتنان لأنه بيننا، ولأن إسهاماته الشامخة وسعة أفقه وشمولية فكرد وعمق اطلاعه وتواضعه الجم لا غنى عنها إطلاقا.
* أريد أن أسألك عن البدايات أو المكونات الأساسية التي حدت بك الى الابداع الأدبي عامة؟
*كنت في البداية رومانسيا، كأغلب المنتمين الى جيلي، ذلك أن الرومانسية كانت استجابة لظروف حضارية كانت الأمة العربية تسير في ركابها: إن سلسلة من الخيبات السياسية. تلك التي كان على الأمة أن تعيشها، فرضت هذا النوع من التقوقع الذاتي. لكنه مع -ذلك – تقوقع يرهص بأنه مسار مؤقت، يوطيء لما سيأتي بعده، يضاف الى ذلك الجو الرومانسي الذي خلقته بوالا ير الترجمات عن الغرب وزكته مدرسة المهجر بموقفها الذاتي المتسائل.. ويمكن القول بأن هذا الجو الحضاري المفعم غنائية، صادف في نفسي هوى كبيرا، ذلك أن المثالية والاخلاقية اللتين هما في الحقيقة مراهقة فكردية، عملتا عملهما الأكيد في دفعي الى الابداع.
* ما تفسيرك لتعداد اهتماماتك الأدبية، فقد عالجت القصة والرواية القصيرة والشعر والنقد الأدبي والتشكيلي والمسرح الشعري؟
* إن تعدد المواهب لا يعني إطلاقا إمكان النجاح المتعدد. وما يبدو من ممارستي في البداية لهذه الأنواع الأدبية المختلفة، إنما هو نوع من البحث عن الذات. والحقيقة انني احتفيت بالشعر، وبالشعر المسرح عما عداهما، لأنني وجدت فيهما تلك المسافة الإبداعية التي كنت أتوخاها. على أنه من جهة أخرى يمكن أن أؤكد أن الأنواع الإبداعية المختلفة، عبارة عن روافد تؤملي الإبداع الشعري، وتهبه كل القوة اللازمة من أجل أن يكون إبداعا حقا. إنها بشكل آخر عناصر تثقيفية لا تكتمل الرؤيا الإبداعية الشعرية إلا بها. من يستطيع إذن أن يفصل فصلا ظالما بين التشكيل كحركة " كديمومة وبين عملية الإبداع الشعرية ؟ كذلك من يستطيع أن ينكر الضغط الغنائي الذي تمارسه الموسيقى على نفس هذه العملية، إيقاعا وتنضيدا، كذلك أيضا تمارس دينامية السرد القصصي وعنف الحوار على هذه العملية نفسها، ما يمكن أن يجعل من الشعر لقطات متحركة أبدا.
* أنجزت كتابة بعض الأعمال الشعرية المسرحية التي لم تنشر بعد. هل من الممكن أن نعرف أبرز القضايا التي عالجتها فيها:
* بالفعل، كتبت مسرحيتين شعريتين "التابوت والسكينة " و"الطوطميون الثلاثة " أعالج فيهما قضايا التحرير في العالم العربي انطلاقا من وجهة نظر عربية، أما على المستوى الفني. فلم أحقق فيهما إلا شيئا واحدا، هو مسرحة الشعر بالمعنى المفهوم للكلمة في قاموس المسرح الطلائعي، ذلك أن الأحداث فيهما، تنعدم لصالح حركة داخلية يفصح عنها الشعر نفسه. الأبطال يتناسخون ويتحركون بعيدا عن المنطق المألوف المتهافت،وهم في تناسخهم أشد تعبيرا عن البلبلة والإحباط اللذين يهيمنان على العالم العربي.
* في ندوة شعرية سالفة، قلت إنك حددت تعاملك مع اللغة – على صعيد الشعر- بأنها موت بمراحل ثلاث، هل يمكن معرفتها:
* كنت حددت بالفعل تعاملي مع اللغة في مراحل ثلاث: – مرحلة اللغة المباشرة، لأن جماهيرية الشعر كانت تستفزني.
* مرحلة تطويع القوالب القديمة، لتعبير أكثر معاصرة، ذلك أن المعجم الشعري العربي في هذا الوقت ضاق حتى صار في الإمكان البحث في مجموعة من الشعراء عن صورة واحدة لشاعر واحد متميز، الشيء الذي جعل من هؤلاء مجموعة من الاسقاطات والاجهاضات والتكرار. فأردت بذلك أن أبحث لمعجمي الخاص عن روافد من التراث اللغوي والصوفي منه على الخصوص، لكن هذه المرحلة استنفدت أغراضها ولم تعد معبرة عن طموحي، زيادة على أنها أسقطتني في هوة التفكير باللغة،
– أما المرحلة الثالثة، فهي مرحلة سيمانتية أي أن تعاملي مع اللفة، اتخذ مسارا جديدا،فمن حيث إنه كان في المرحلة الثانية تعاملا مع ركام، اجتهدت في أن أعيد اليه الحياة، بقطع النظر عن الالته، صار في هذه المرحلة تعاملا دلاليا. ومن هنا اكتسب هذا التعامل قيمة الرمز أحيانا. وقيمة الممارسة اليومية اللغوية أحيانا أخرى. وبما أن هذه المراحل الثلاث، كنت أعلنت عنها وأنا بصدد تجريب المرحلة الثالثة. فهي الأخرى استنفدت أغراضها، وأنا الآن بصدد كتابة الشعر بلغة بدائية. وهذا يعني أن العلاقات التركيبية والمورفولوجية، أخذت تشكل في مفهومي عائقا يمنعني هن ممارسة الإبداع الشعري بالصورة المريحة. إن حروف العطف وأدوات التوكيد من شأنها أن تعطيني طابعا منطقيا للغة الخطاب، ولكنها في الشعر تمسخ أكثر مما تبعث، ولذلك أكثرت من إهمالها إهمالها عيني على القيمة (الفلاشية ) للصورة الشرية فحيث تبطل جدوى الروابط اللغوية، يتاح المجال للصورة الشربية أن تكون قصه.ة معبرة، والا تكون مركبة أو متداخلة.
* بماذا تعلل توجه بعض قصائدك الأخيرة الى الاستفادة من البعد الصوفي؟
* إنني ما أنجزت أطروحة عن التصوف إلا من أجل الشعر، وليس لأغراض أكاديمية كما تبادر الى ذهن بعضهم – ذلك أنني وأنا في بحث جاد عن معجم خاص بي، وجدت في المعجم الصوفي تلك الفنانية التي يفتقدها جل شعرنا المعاصر، إلا أنه ينبغي التذكير بأنني تعاملت مع التصوف كمعجم لا كحضور، على العكس مما وقه فيه بعض الشعراء الآخرين، لقد كنت أعرف مسبقا أن الفكر الصوفي تواكل واستسلام ورضاء بالوجه العقيم للواقع، ولذلك وفضت هذا الحضور، من حيث استعملت أدواته استعمالي الخاص (القبض عندي يعني المصادرة، والبسط يعني أيضا الاحتواء) في حين أن معنى الكلمتين في المعجم الصوفي في ذلك على الإطلاق.
* هناك وأي يقول: اننا لا نستطيع التوقف عند أحد الشعراء الجدد لأنه لا يملك تصورا خاصا للعالم، هل يمكن معرفة رؤيتك للعالم ؟
* السبب في انعدام هذا الرؤيا للعالم كامن عند بعض الشعراء في أنهم عبارة عن عارضة أزياء في معرض أزياء. وهذا مرض تبدو اعراضه في سوء هضم البدع الفكرية والفنية الآتية من البعيد، فهو من وجهة نظر أخرن استلاب متعدد الوجود وتبعية غير مشروطة. أما رفى يقي للعالم، فهي بكل بساطة تشكل. المعادلة الآتية: إنسان عربي + يعيش في منطقة متفجرة + مجموعة من الإحباطات، بسبب فوضى التجربة السياسية + شعور حاد يتجاوز هذه الاشكالات إنسان عربي يهفو تغيير العالم لصالح عروبته.
أعرف – كذلك – بأنك في أواسط الستينات أعددت دراسة حول السياب بعنوان (السياب ظاهرة جديدة في الشعر الحديث ) كيف تنظر للسياب الآن؟ ما موقعه من الحركة الشعرية العربية المعاصرة بعد هذه المدة ؟
* جاء السياب تتويجا لآخر رمق في المرحلة الثانية من رومانسية الشعر العربي. وهي رومانسية خرجت فيها الفردية من قرقعتها لتتحول الى فردية جماعية، فهي بهذا المفهوم توطئة حضارية لابد منها لكي يتحول الكائن العربي من فرد في فرديته، الى كائن جماعي لا يرى له من وجود إلا داخل المنظومة المجتمعية، وداخل نسق ايديولوجي يذوب فيه الفرد لصالح المجموعة، لذلك استرعى السياب انتباهي كما استقطب انتباه الآخرين.
أما الآن فهذا الشاعر، على كل الأصعدة، كف عن أن يكون رافدا لحركة الشعر العربي المعاصر، ذلك أن هذه الحركة اتخذت ممارسات أخرى في طريقها الى تطور حتمي، يجعلها ذات إشعاع خاص، وهذا لا يعني بالذات جحود القيمة الفنية والتخييرية التي أحدثها هذا الشاعر الفذ في تاريخ تطورنا الشعري.
* الا ترى أننا في حاجة ال قراءة جديدة لشعرنا المعاصر يتخلى فيها العقل كن ضفوط القوالب النقدية القديمة التي طفت على الأساليب النقدية حقي بالنسبة لبعضي الوجوه الناقدة الشابة )
* إننا بالفعل في حاجة الى إعادة قراءة شعرنا المعاصر قراءة متأنية قصد استكناهه والبحث فيه عن ذلك المزج الغريب الذي شل في الأخير كيمياءه. ذلك أن ما كتب حوله يمكن أن يلخص فيما يلي:
1 – دراسات أكاديمية باردة لم تستطع أن تضع أيدينا فيه على جوانب الابداع.
2- قراءة آنية هدفها الإعلام، والإعلام فقط، تنشر في الدوريات والجرائد، وتقوم على أساس المدح المجامل أو القدح المتصلف.
7 – دراسة "الشلل الأدبية " التي لا ترقى في أحسن حالاتها الى أن تكون ولو تحليلا بسيطا للنص، مما يجعل من هذا النوع من الدراسة نوعا من "المافيا الأدبية ". أما القراءة الجديدة التي نطمح اليها، فيجب أن تتخذ مسارين:
أولا: البحث عن العلائق الاجتماعية في العمل الشعري من حيث المضمون.
ثانيا: تحليل هذا الشعر تحليلا اجتماعيا من حيث الشكل، وبهذا نكون قد حققنا نظرية علم اجتماع الشعر، تلك التي تهيمن الآن على الأوساط النقدية في الغرب، والتي تعد صيحة صادقة تبعد النقد عن التأثرية والتقريظ والقدح، وتلقي الضوء الكاشف على تحرك الشاعر في مسافة الواقع سلبا وايجابا.
* مامدى التطور والتحولات التي طرأت على بناء القصيدة العربية الجديدة؟
* حققت القصيدة العربية المعاصرة بالفعل تطورا من ناحية المضمون ويرجع السبب في ذلك الى المخاضات السياسية والآيديولوجية التي يعيشها الشعب العربي الآن. وهي مخاضات فرضت على الشعراء الآن أن يتصلوا اتصالا مباشرا أو غير مباشر بالحركة الشعرية العالمية، الشي ء الذي جعل هذا التطور ملموسا إذا نحن قارنا بينها وبين الإرهاصات الأولى، وبينها وبين البدايات بالفعل. ولكنها من حيث الشكل لازالت تجتر تلك الايقاعات الصافية – بتعبير نازك الملائكة – وقد كان من المنتظر أن تبحث لنفسها عن آفاق إيقاعية جديدة مستوحاة من الفولكلور العربي الخصيب، والى أن تفعل ذلك، أتمنى أن تخرج من هذا الخندق الإيقاعي الذي لم تستطع تجاوزه (أغلب ما ينشر من الشعر، إيقاعه من الحبب أو المتقارب أو الرجز) وقد كان من المنطقي أن تكتشف هذه القصيدة إيقاعا داخليا يتجلى في عملية التركيب بين الألفاظ، كما هو الشأن في القصيدة العربية المعاصرة، أي أن تتحول الى قصيدة نثر تكتسب قيمتها الايقاعية من تجانس التركيب اللغوي، ومن قدرتها على الاغتصاب والتنكر لسكونية القوالب المألوفة.
*حين يطلب منك وأي ؤ قصيدة ما قرائها، ما القياس الذي تتخده في الحكم عليها؟
* إن قراءة القصيدة لاتعني أبدا محاكمتها بقدر ما تعني محاولة افتضاضها والبحث عن عالمها البكر. ذلك العالم الذي بدونه لا تكون القصيدة قصيدة. ولذلك فليست عناق مقاييس للحكم، وانما أملك أن أقول: إن عالم هذه القصيدة مركب أو بسيط، وهو في كلتا الحالتين واصل الى أن يدمجني فيه أو يرفسني منه.. وعملية الادماج هي التعاطف، كما أن عملية الرفس هي انعدام التعاطف. وحين يتم هذا التعاطف، يكون ذلك إيذانا من القصيدة بأنها استكملت عناصرها الضرورية أي أنها تكور حينئذ عملية تحليل لبسائطها، من أجل إعادة ربطها، لتحقق الرؤيا التي كان الشاعر يهدف اليها حال كتابته قصيدته. أما عدمه فينبيء عن افتقاد هذه العناصر الى حالة من التآلف، تجعل الرؤيا غير مكتملة بل غير واضحة.
* كيف توى واقع الشعر المغربي المعاصر ؟
* أنا من المتفائلين بهذا الواقع. ويرجه السبب في ذلك الى الكثرة الكثيرة من الاسماء التي تكتب الشعر في المغرب.
* هل تعتقد أر لجيلك الشعري تأثيرا مباشرا أو عير مباشر على جيل الشعراء الشبان عندنا؟ خاصة وأنك تابعت كتاباته ناقدا وقارئا.
* أعتقد أن جيلي من الشعراء قد مارس تأثيرا طفيفا على من أتى بعده، وذلك في بداياته، أما الان فالتأثير الواضح اما شرقي واما غربي هذا من جهة ومن جهة أخرى فجيلي نفسه جيل تجريب، لأنه غير مستقر، وهذا ما يجعل التأثير صعبا.
* كيف ترى واقع النقد عندنا، والموجه الى أعمالك الشعرية خاصة ؟
* إن نقاد الشعر في المغرب لازالوا بعد في دور نقاهة نقدية، ولذلك كانت ممارستهم النقدية في حاجة، هي أيضا الى نوع من التقويم، ومن أجل ذلك، يمكن أن يصنفوا الى ما يأتي:
1 – نقاد متحالفون، من أهدافهم إحياء عهود المدح والهجاء، من غير أن يتسلحوا لذلك، ولو بالحد الأدنى من المعرفة الشعرية.
2- نقاد إسقاطيون يغلب تكوينهم الإيديولوجي على حاسة استنطاق النص الشعري، وبهذا كانوا دوغماتيين أكثر منهم نقادا.
3- نقاد موسميون، يقومون عند قيام الندوات والتجمعات، ويسكتون بعد ذلك، هؤلاء تستفزهم اللغة، وتكبو بهم القوالب العتيقة التي أساءوا هضمها ولذلك لازالت الدعوة ملحة الى قيام نقد شعري حقيقي. إن هذا يعني من جهة أخرى أن الحركة النقدية عندنا لاتواكب في مسارها المسيرة التجريبية التي يقطعها شعرنا، فهي دونه بكثير، ومن أجل هذا أيضا يمكن الاعتقاد بأن كل ما حققه شعرنا راجع الى رغبة شخصية نابهة من القيمة الثقافية والنقدية التي يتمتع بها شعراؤنا، فلا فضل لهذه الحركة النقدية على هذا الشعر.
وفيما يتعلق بالنقد الموجه الي شخصيا، فإنه يكاد ينحصر في نقطة واحدة: هي إنني أستعمل لغة غير مألوفة، وأحيلك الى جوابي على سؤالك الرابع.
*هل هناك من خلاصات ؟
*نعم وهي الآتية:
1- حين أكتب عن الشعر، لا أهدف الى جعل كتابتي تنظيرا، وانما أهدف من وراثها الى بلورة بعض جوانبها التي بقيت غفلا. ذلك أن إلقاء الضوء على هذه الجوانب، وجعلها مسارقة لوجهة نظري الخاصة عن الشعر، من شأنه أن يجمع شتات المتفرق منها، بحيث يبح في الإمكان الحديث عن تنظير عام يشملني وغيري فيما هو مرصود الى أن يلتقي فيه أكبر عدد من ممارسي الكتابة الشعرية.
2 – هذا ولا يمكن فصل السيرورة الشعرية لدى الشاعر عن محطاتها المختلفة التي رست عندها منذ الممارسة الأولى الى التوقف القسري حين حلول زمن النضوب: البدايات المهجرية التي تعكس وجدانا رومانسيا ينحو نحو الأنا الجمعي، متخذا سبيل التأمل في المفارقة الجامعة بين واقع تخيلي وواقع ملموس، بين عالم المثال وعالم الزيف. ثم الالتجاء الى الواقعية، تكفيرا عن إثم التأمل الهارب من الزيف الى المثال، وذلك بعد ذيوع فكرة الالتزام واستحواذها على الأذهان في الخمسينات والستينات. ثم الاحتماء من طغيان الإديولوجي المسطح بالبحث عن انلاذ في التصوف، لا باعتبارا ممارسة، بل باعتباره لغة شفافة وفكرا نافذ البصر والبصيرة، وكان ذلك رد فعل للأفكار القسرية التي جثمت على المبدعين من خارج العملية الإبداعية لا من خلالها. وفي الأحوال الثلاثة، انطلقت من أرضية جامعة بين الوطني والقومي والإنساني.
3- ثم إن اللغة الصوفية ليست بالنسبة الى إلا بابا فتحته في وجهي بعد ما وصلت في الضفة الأخرى الى الباب المسدود. والباب المسدود هذا انتهى بي الى استهلاك اللغة على أنها نماذج، لا على أنها حيز لاستيلاد الصور والأفكار، وتطويه المخيلة الى الاستجابة لهذه الصور وتلك الأفكار. فج هو هذا الاستهلاك، وقد سقط في شركه الشعر العربي المعاصر. فج لأنه عبارة عن ترداد، يحول دون استبطان الأشياء، بحيث يجعل البديهة أسيرة أنماط مقبولة من التعبير، تقعد بال دع عن أن يجري وراء الصور والأذكار المعبرة عن زمانها ومكانها، على أن الاحتماء باللفة الصوفية هو أيضا يمكن أن يسقط في النمذجة إن جرد من قيمته الرمزية ودلالة مدلولاته التاريخية، بحيث تقدم اللغة فيا على أساس أنها زينة أو أثاث تتخذهما العملية الشعرية بهرجا لها. فكيف إذن نتجنب هذه النمذجة ؟ نتجنبها إذا نحن وهبنا هذه اللغة حياة، وهي مندمجة في سياقها الرمزي والالتها التاريخية، وما هذه الحياة سوى تبنيها هن العمق لا من السطح. وهذا يخي أن تبنيها من العمق يسبقه تمثل لهذه اللغة انطلاقا من التاريخ والفكر والممارسة، ثم تعقبا القدرة على توطينها التوطين الحداثي، في سياق جديد بعيد عن أن يكون اقتباسا هجينا، أو تضمينا يزرع في تربة ليست له. والا فبعكس هذه الخطوات لا يختبر تبني هذه اللفة الصوفية إلا سطحيا، لا يعتبر إلا ثرثرة يقصد بها الإبهار المؤسس على فراغ، لا يعتبر تمثلا، بل تقمصا على غير مقاس. ذلك بأن التمثل هو عيث ر اللغة هذه بالشاعر وفي الشاعر لا العكس، هو عيشها على أنها مقولة تتوالد، لا على أنها مسلمة عقيم، هو عيشها باعتبارها نسقا يقبل التكيف، لا باعتبارها معايير جامدها ومائعها يتعايشان في طمأنينة. ليست اللغة الصوفية إذن ترداد أذكار، بل حضورا يتناسل لحظة الكتابة، ويترعرع بعدها. وفي هذا التناسل حياتها، فمن أجله استعيرت، ومن أجله انفتح المغلق وانجلى المبهم، من هنا فإن هذه اللغة الصوفية ليست معجما ولا منجم مصطلحات، ولكنها تجاوز للمعجمية وتخط للمصطلحية، إنها ارتداء لباس ان استوحى زيه من اللحظات الزائلة، فلكي يطعمه بنماذج من الواهنة والأتية. فمم إذن ينسج هذا اللباس ؟ إنه نسيج شفاف الرؤية والرؤيا، أي أنه يقلب ناتج المعادلة الى حد التباس العقلاني باللاعقلاني ,الى حد افتراض أن الأنا وهي في أنويتنها قادرة على انتشال الأ نوات الأخرى من متاهة وجدانيات حسية، أو من وجدانيات روحية متكلفة، الى حد افتراض أن هذه الأنا ليست كائنا طقوسيا، ولكنها كائن فاعل في محيطه يرى ويروى، ينفذ الى الأشياء وتنفذ اليه الأشياء حتى تلامس نسفه، هذا باختصار ما يمكن أن يقال عن اللغة الصوفية التي غزت الشعر العربي قديما وحديثه (ابن الفارض، عفيفي مطر) والعجمي قديمه وحديثه (جلال الدين الرومي، رامبو، بروتون ).
4- إن حضور الخارق في القصيدة ليس خاصية عرف بها الشعر الصوفي العالمي (القديسة تيريزا الأبيلية، بول كلوديل، إليوت في أربعاء رماده، بوشكين، جوته ) ولكنه حضور موجود في الشرهي هله (الغلو والمبالغة، الصور الحسية المستحيلة الوقوع، تخلف العادة في الملاحم القديمة ) أما خارق الشعر الصوفي، فهو في تفلفل العدسة اللاقطة في المرئيات الى حد تحجيمها، أي سيرورتها لا مرئية بالعين المجردة، ذلك بأن العدسة اللاقطة هذه إذ تختزن المرئيات، تقلص حجمها لكي يتم احتيازها فيها. وهذا التقليص هو سر تحول المرئي الى لا مرئي، وتحول الملموس الى الهلامي. أما كيمياؤها فيتوصل اليها بالممارسة وبنفوذ البصيرة على البصر. لذا فالتصور الحقيقي للشعر يطعن بين العدسة وفعلها للالتقاط، بين المرئي زي الحجم الطبيعي، واللامرئي المتقلص، أي أنه يكمن في الأشياء المجردات والمحسوسات، في الجهات أطوالا وأبعادا وعمقا وسطحا. ظاهره يحيل على باطنه، وباطنه يعكس ظاهره. على أن انتساب التجريد اليه (مع السريالية ) لا يعني أن هذا التجريد يستغرقه كلية، إنه ينال منه نفس ما يناله منه المحسوس. وفي هذا المزج المحكم الكيميائي بين هذين النقيضين سر قوة الشعر. فهبر عبارة عن تدخل المجرد في المحسوس، وتراوح المطلق مكان المقيد، والعكس صحيح أيضا.وهذا ما يؤدي في النهاية الى ما يمكن تسميته بجمالية المفارقة، جمالية الشي ء بضده ولضده.
5 – ليس الزمان بالنسبة الى الشعر ذا مدلول فلكي. إنه امتداد يفترض أن له أبعادا ثلاثة متضمن بعضها في البعض الآخر، لا يدري له أول ولا آخر. دعك من الزمن الاعتزالي. أو الأشعري، أو زمن فانط، أو الزمن الوجودي. أن كل ذلك تقنين يكاد يكون فلكيا، يؤطر فيه الفكر من أجل التوصل الى صياغته صياغة فلسفية رؤياوية، فهو مراد لغيره. أما مع الشعر فهو غير مقنن، ولا مراد لغيره بل لذاته ذلك أن الزمني يختزل الشعري، والشعري يستوعب الزمني إن هما اتسعا وساعد كل منهما الآخر على تحققهما المزدوج الموحد. لذلك فتاريخ كتابة القصائد فلكي هو الآخر، لأنه يؤرخ لميلاد النصوص لا غير، إذ أنه لا يلعب دور الربط الجدلي بينهما.
منجزاته الإبداعية والفكرية:
1-ويكون إحراق أسمائه الآتية: ديوان شعر _ المحمدية ط1، 1987.
2- بحار جبل قاق – ديوان شعر _ منشورات إفريقيا الشرق بالبيضاء ط1،1991.
3 – الكائن السبإي _ ديوان شعر _ منشورات السفير بمكناس ط ا، 1992.
4 – من فعل هذا بجماجمكم ؟ ديوان شعر – منشورات كلية الآداب ظهر المهران بفأس ط 1، 1994.
5 – محاضرات في السيميولوجية. سلسلة الدراسات النقدية. دار الثقافة للنشر والتوزيع بالبيضاء، ط 6، 1987.
6 – العناصر الأربعة في شعر صلاح ستيتيه، بيروت، لبنان مطبعة خضير (بدون تاريخ ).
7 – وجدتك في هذا الأرخبيل _ رواية سيرة _ منشورات الجواهر بفاس، ط1، 1987.
8 – مقدمة ديوان (غروب الشمس شرق القمر) للفيتوري _ المجلس القومي للثقافة الرباط، ط 1، 1987.
9 – ترجمة الرواية المسوحية لفرناندو أرابال (أغنية القطار الشبه ) عن الإسبانية نشرت ضمن سلسلة: المسرح العالمي. بالكويت.
10 – بد العارف لابن السبعين _ تحقيق _ رسالة دكتوراة السلك الثالث _ نوقشت بالسربون باريس فرنسا 1970.
11 _ العرض النقدي للفلسفة الإسلامية من خلال ابن السبعين _أطروحة دكتوراة الدولة بالفرنسية _ جامعة المصوبون بباريس. فرنسا 1985، (ترجمت الى الاسبانية ).
تحت الطبع:
1- دراسة موضوعاتية في الشعر العربي المعاصر: وقاحة الكلمة.
2- رؤية باطنية للرسم التجريبي المغربي / دراسة بالفرنسية.
أجرى الحوار: حسن الغرفي (أستاذ جامعي من المغرب)