مترجم من المغرب.
كشف بورخيص للروائي خوان خوسيه سايير في سنة 1968 عن البعض من مفاتيح عمله، في حوار ظل غير منشور حتى وقت قريب.
في الخامس عشر من شهر يونيو بعد الظهر، تواجد كل من خوان خوسيه سايير وخورخي لويس بورخيص، بسانتا في (Santa Fe) بالأرجنتين. وفي المساء، كان الأمر يقتضي على بورخيص الحديث بخصوص عوليس (Ulysse) جويس (Joyce). تناقشا طيلة ساعتين بحضور مسجل صوت، وقد ظل هذا الحوار غير منشور إلى حدود 1988، وهي المدة الزمنية التي رأى فيها النور في المجلة الأرجنتينية (Crisis). ما ينيف عن الثلاثين سنة بعد هذا الحوار، غير المنشور بالفرنسية، يكون باستطاعتنا ملاحظة سايير باحثا في فكر بورخيص، وبورخيص يقوم بتعليقاته حول القضايا التي كان سايير يقوم بطرحها فيما يخص الأدب. فقد تحدثا عن نفسيهما وعن الآخر. اقترحت علينا السنوات جوابا آخر:
عمل الباحث خورخي لويس بورخيص:
لقد كنت عاشقا لبودلير. بإمكاني استظهار أزهار الشر (Les Fleurs Du Mal) بلا نهاية، إلى ما لا نهاية تقريبا. ومن ثم نأيت بنفسي [عنه] لأني شعرت- وقد يكون لذلك ربما علاقة بأصلي البروتستانتي – انه كان مؤلفا يؤذيني، أنه كان كاتبا أشد الإنشغال بقدره الشخصي، بسعادته وبشقائه الشخصيين. وهو السبب الذي جعلني أنأى بنفسي عن الرواية. وأعتقد أن قراء الروايات يمتلكون نزوعا للتطابق مع أبطالهم. وقد يحدث أخيرا أن يتخيلوا أنفسهم أبطالا للرواية. ففي رواية ما، من الأهمية بمكان أن يكون البطل محبوبا، أن يحب من دون أن يكون محبا، أن يستجاب إلى حبه… وربما إذا ما قمنا بحذف تلك المصادفات، فإن جزءا مهما من روايات ممتعة لهذا العالم قد يصاب بالتلاشي. وأعتقد أنه كي نعيش – لن أقول بسعادة لأن هذا صعب جدا- لكن في طمأنينة معينة، فإن الأمر يقتضي تأمل تلك المصادفات الشخصية بأقل قدر ممكن. وفي حالة بودلير (Baudelaire) – كما في حالة بو (Poe)، أستاذه – فإن الأمر يتعلق بكاتبين مؤذيين بحق، ضمن الإنطباع الذي يجعل القارئ يقوم بتقليدهما، أن يتخيل نفسه شخصية مثيرة للعواطف. وأنا لا أعتقد أنه يتوجب على المرء أن يعتبر نفسه شخصية مثيرة للعواطف. فالذي يصير لائقا في الحياة- ما لم أتمكن من تحقيقه بطبيعة الحال تماما- الأجدر أن نشعر بأننا… على أحسن ما يرام، مثلما قال فيثاغوراس، مثل شخصية ثانوية، أليس كذلك؟ ولا أعتقد أن قراءة أزهار الشر، أشعار بو، أو بشكل عام جدا روائيين وشعراء رومانسيين بإمكانها أن تساعدنا في هذا الإطار. فأنا أومن بما قال ستيفنسون (Stevenson): إن كاتبا يربح قليلا من المال، قد لا يصبح شهيرا- وبشكل عام فإنه لن يكون كذلك- لكنه يمتلك موهبة التأثير على أشخاص عديدين. وبالنسبة لي، فأنا أحاول أن أحوز تأثيرا مثمرا.
خوان خوسيه سايير.
ll قد يمت ذلك بصلة إلى بعض أولى أبحاثكم حول أدب السعادة؟ هل تتذكرون بحثا يتعلق بفراي لويس دي ليون (Fray Luis de Léon)؟
– الحق يقال، إن أدب السعادة نادر جدا.
ll ذلك ما كان يشكل أطروحة تلك الدراسات تماما.
– إلى درجة أن من أسباب عشقي لخورخي غيلين (Jeorge Guillen) هو كونه كان شاعر سعادة، فمثلا عندما يكتب : «كل ما في الهواء عصفور» … وفي واقع الحال فإن السعادة توافق معنى: «كل وقت انصرم كان الأحسن». وبالمقابل، فإن من فضائل والت.وايتمان (Waltwhitman) هو إحساسه أحيانا بسعادة حاضرة، ولو أنه يلبسها ربما ثوبا فيه شبهة، يلاحظ أنه كان يلزم نفسه بأن يكون سعيدا. غير إني أعتقد أنه من الأفضل أن يلزم المرء نفسه بأن يكون سعيدا منه من أن يلزمها بأن تكون تعيسة أو مثيرة للإهتمام… وجديرة بالشفقة، لأنه يبدو لي أنه من المحزن جدا الإحساس بالشفقة نحو شخص ما، أليس كذلك؟ … حتى وإن كانت مبررة.
ll وإذن، فإن رفض بو وبودلير يمكن أن يكون…
– مملى بواسطة حكم مسبق، بواسطة قلق أخلاقي. وربما من أصل بروتستانتي. لقد لاحظتم بأن للأخلاق أهمية كبرى، في البلدان البروتستانتية. سيكون الأمر جليا، فيما بيننا أن شخصا ما هو مهذب أو ليس مهذبا، لكن ها هنا، وبصفة عامة، لا تناقش الوساوس الأخلاقية. لذلك فأنا لا أظن أن الناس أقوياء معنويا في الولايات المتحدة، لكني أعتقد أنه في ذات الوقت، أن أول سؤال يطرح هناك بخصوص شيء ما هو معرفة هل ذلك مبرر أخلاقيا. بطبيعة الحال، لا يمكن الإجابة عن هذا السؤال بسفسطة أو بتبرير نفعي، على أن لا أهمية لذلك، فذلك السؤال هو أول شيء يتجلى في أي نقاش مهما كان، أليس كذلك؟
ll لكن ليس لذلك علاقة بالقيمة الجمالية للأعمال. أنتم تؤمنون بأن بودلير شاعر كبير وبو سارد كبير…
– بالطبع، حتى وإن كنت أومن أنه من أجل التحقق من عظمة بو، توجب المرور عبر الذكرى، بمعنى ينبغي الحكم عليه في مجموعه. وهو ما حدث مع ليخو نيس (Lugones) بشكل طفيف. فإذا تم التفكير في كل عمله، فإنه كاتب كبير، غير أنه إذا ما تم تقييمه صفحة صفحة، والأسوأ من ذلك سطرا سطرا، فإن ضعفا كبيرا يتم اكتشافه. على أنه ربما أهم ما في عمل كاتب ما هو الانطباع النهائي الذي يتركه لكم.
ll وبخصوص دوستويفسكي، ماهو الانطباع الذي تكون لديكم عنه؟
– في حقبة ما، اعتقدت أنه كان الانطباع الوحيد، فأعدت قراءة الجريمة والعقاب والممسوسون مرات عديدة. ثم، وفي غمرة حماستي، أدركت أني وجدت صعوبة كبيرة في تمييز شخصية عن أخرى. فكلها كانت تشبه بنوع مقبول دوستويفسكي وأنه كان يبدو أنها شخصيات ترضى بالتعاسة، أليس كذلك؟ وأن ذلك أزعجني. في ذلك الحين توقفت عن قراءته ولا أشعر أني أقل شأنا من خلال ذلك الغياب.
ll ألم يوجد هناك، من جهتكم اختيار لاشعوري بشأن ما ينبغي أن تكون عليه مهمة كاتب ما في لحظة الكتابة؟ بمعنى أنه في هذا البلد…
– لا . لا. أظن أنه يوجد شيء آخر لم أفهمه حينئذ وها أنا أفهمه الآن. إنه من بين المذاقات المختلفة للأدب، فإن المذاق الذي أستسيغه بعمق هو المذاق الملحمي. فعندما أفكر في السينما، مثلا، أفكر غريزيا في فيلم ويسترن (Western). حينما أفكر في الشعر، أفكر في لحظات ملحمية: أقوم حاليا بدراسة شعر السكسونيين (Saxons) القديم. فما هو من طبيعة ملحمية يثيرني أكثر. ثمة جملة لليخونيس- أجتهد كثيرا كي تكون مكتوبة، لكن على الأقل أقرؤها، وهذه فضيلة أيضا، أليس كذلك؟ – والتي تتلفظ بها شخصية من شخصيات رواية ضعيفة جدا، (La Gerra Gaucha) : … «وبكى من النصر». إني أعي ذلك بعمق. فحينما أبكي لعلة جمالية، فليس لأنه حكي لي عن تعاسة ما، بل لأني كنت أمام جملة تجسد الشجاعة. طيب، وقد يكون هناك أيضا تأثير لقرابتي العسكرية، بفعل الشعور بالحنين بحياة كانت محرمة علي، وسيكون من النموذجي على الأدباء بالتفكير في أن نمطا آخر من الحياة هو أعلى مرتبة من النمط الذي انصرم من حياتهم. فربما أن ذلك الطعم الملحمي، فليس أبطال الملحمة هم من يتذوقونه بل الكتاب، أليس كذلك؟
ll لكن تمجيدا لشجاعة الموجود في أعمالكم- وقد صرحتم بذلك في مناسبات أخرى- أليس بالأحرى شعورا مستجملا؟ أريد أن أقول أنه وراء العنف والشجاعة، ثمة فوضى إنسانية وألم فظيعين…
– نعم، فإذا ما اعتقدت بأن ذلك حسن، وكون أن، أضف إلى ذلك، لصالح سبب مهما كان- لا يهم إن كان عادلا أو ظالما لأنه في الحركة كل الأسباب بإمكانها أن تظهر عادلة أو ظالمة- رجل ما ينسى قدره الشخصي.
ll بورخيص، ثمة مقال من مقالاتك، فن السرد والسحر، والذي فيه…
– لا أتذكره بوضوح.
ll وأنا كذلك في اللحظة الراهنة، لكن أطروحتكم هي أن …
– اه، نعم. أعرف. إن أطروحة المقال النقدي تتمثل في أن، شأنه شأن السحر يمارس أفعالا تؤثر في الواقع كما يجد المرء في فن السرد ظروفا أقل أو أكثر إدراكا تتنبأ بما سيقع لاحقا، أليس كذلك؟
ll نعم. وتوجد نظرية تتعلق بالنزعة الاسمية (Nominalisme) والواقعية.
– أنا لا أتذكر ذلك، أنتم تتذكرون عملي أحسن مني.
ll أعتقد أنه كان أحد المقالات الأكثر إفادة الذي كتبتم، أو على الأقل هو واحد من تلك المقالات التي تروقني أكثر.
– إني أتذكر تلك الملاحظة بشكل ملتبس جدا. أردت القول أن ما يحدث في عمل سردي ينبغي أن تتم دراسته. وأن مايصير حينئذ يتخذ دور عمليات سحرية صغرى، أليس كذلك؟ أعتقد بأن ذلك حصل…
ll ألا تتذكرون بأن ذلك المقال يتحدث عن ترجمة لتشاوسر (Chaucer) بخصوص الاغتيال، إذ يتعلق الأمر بغرس سكين. وقد قمتم بتحليلها بصيغة تعبير غير مباشرة ترجمها شاوسر بصيغة مباشرة جدا…؟
– لا. الآن أتذكر. أنا أقول أنه خلال وقت ما تم المرور من الاستعارة إلى الرواية. أعني من الواقعية إلى الاسمية. وإذا شئنا تدقيق ذلك التاريخ، توجب علينا البحث عنه في تلك اللحظة التي ترجم فيها شاوسر ذلك السطر الذي يقول: «بالخنجر المخفي، الخيانات» ب «إن من يبتسم بخنجر تحت قبعته». يكون باستطاعتنا تعريف تلك اللحظة، المثالية بطبيعة الحال، أشبه باللحظة حيث يتم فيها المرور من الإستعارة التي يكون فيها المتخيل هو الواقع، إلى الرواية التي ليس الواقع فيها هو الإغتيال أو الجريمة بل، راسكو لنكوف (Raskolinkov) على سبيل المثال.
ll بطبيعة الحال. كنت أرغب في البداية من هناك بغية الإحالة على بنية الرواية، وعلى الخصوص بنية الرواية الحديثة. أنتم تعتبرون مترجما كبيرا لفولكنر (Faulkner)، أنتم لكم دراية عميقة بعوليس جويس، بروست (Proust) وكل السرد الحديث…
– أعتقد أنه بإمكاني أن أنتحل – يتوجب علي ان أنتحل- حينما قال شاو (Shaw) عن أونايل (O’neill) أن لاشيء كان جديدا لديه سوى تجديداته. أعتقد أنه في حالة فولكنر- وربما حالة بروست، وإن كنت أتكلم عنه بكثير من التقدير أكثر من فولكنر، مع تقديرهما معا- فإن تلك الحيل تنتهي بالإضجار. والتي نعود إليها في : «في ناحية من نواحي إقليم المنتشا لا أريد أن أذكر لها اسما…»(1) إضافة إلى ذلك أعتقد أن مؤلفا شابا كان ينبغي عليه البدء بالبساطة وليس بالتعقيد.
ll ألا تعتقدون أن ذلك شبيه إلى حد ما بما قاله فاليري (Valery) فيما يخص بودلير (Baudelaire) الذي عقد العزم على أن يصبح كلاسيكيا لأنه كان عليه أن يتعارض مع رومانسية سابقة؟ بمعنى أن كل تلك التجديدات لا غنى عنها من أجل أن يتعقبها نشوء كلاسيكية جديدة تستطيع التجلي في الرواية، أن يتواجد جدل داخلي – إذا جاز لي ذلك- في تاريخ الأدب…
– طيب، لكن بالدفع بالشيء إلى حدود برهنة بواسطة العبث، فإن ذلك كان يعني أن فولكنر، فيرجينيا وولف (virginia woolf) وبروست كان سيضحى بهم كي يكون في النهاية كتاب جيدون… لا، إني أمزح، فما تريدون قوله أن تلك السيرورة ضرورية، إنها تشبه نوعا من المد والجزر، والذي لا يمكننا شطبه ويمكنه –بطبيعة الحال- أن يتحقق بكثير أو قليل من السعادة، فمثلا، نجد أن فيرجينيا وولف جسدته بشكل جيد في أورلاندو (Orlando) وفي كتب أخرى، فقد جسدته بسعادة أقل. أما فيما يتعلق بفولكنر، أعتقد أنه انتهى بالضياع وفي متاهاته الخاصة. ففي إحدى رواياته حيث -من أجل إذلال القارئ إذلالا أكبر- توجد شخصيتان تحملان نفس الاسم، على سبيل المثال..
ll في ضياء غشت.
– حسنا، لا أتذكر لأني لم أذهب إلى النهاية في تلك المتاهة، وإن كان ذلك على ما أعتقد يزعجني.
ll إحدى الشخصيات تحمل اسم لوكاش بورش (Lucas Burch) وتحمل الأخرى اسم بايرون بونش (Byron Bunch). وبينهما يوجد التباس ما. إلا أن لذلك صلة بحبكة الرواية.
– في يوم من الأيام اقترح علي إخراج فيلم لقصتي الموت والبوصلة. هناك تطابق بين القاتل والضحية، بشكل غامض، حتى في اسمهما – بما أن أحدهما يحمل اسم روث (Ruth) ويحمل الآخر اسم شارلاش (Scharlach)، أحمر وقرمزي- فذلك ما جعلني أفكر أنه إذا ما تم نقل ذلك سينمائيا، فقد توجب أن يقوم بالدورين ممثل واحد، كي نتبين، بشكل معين، أنه لم يكن قتل فقط، بل انتحار أيضا. أليس كذلك؟
ll بالإضافة إلى ذلك، ففي الإنتظار، يحمل اليخاندرو فيلاريه (Alejandro Villari) نفس اسم قاتله.
– صحيح. غير أنه من الآن فصاعدا، أتمنى أن أحسن التصرف وألا أخاطر بتلك الأشياء.
ll غير أن لتلك الألعاب معنى ما، أليس كذلك؟
– بلى. وعلى أي حال لن أقوم بها بهدف «إذهال البورجوازي». بالإضافة إلى ذلك، فغالبا ما كان البورجوازي يصاب بـ«إذهال» إذ يفغر فاه حين يراد إدهاشه. فمن المقرف توظيف تعبير دقيق.
ll يبدو لي أنه توجد في كل أعمالكم اتجاهات وميول معروضة بطريقة خطابية تم تطويرها من قبل كتاب الرواية الجديدة الفرنسية. فقد سبق لكم أن قمتم بطرح قضايا وقاموا بتطويرها فيما بعد على مستوى بنائي في رواياتهم.
– حسنا، سنفترض أن ثمة شيئا جديدا في عملي، أليس كذلك؟ سنتخذ ذلك كفرضية. بشكل عام، حينما يتوصل كاتب إلى تحقيق هدف ما، يعتقد أنه وصل إلى ظروف نهائية. ولما يطور آخرون ذلك الوضع، يصاب بالغيظ، أليس كذلك؟ لأنه يعتقد أنه وصل إلى النهاية. أتذكر حالة كسول سولار (Xul Solar)، مصور جريئ جدا وأنه يغتاظ من كل ما نسميه اليوم فنا تجريديا، فقد بدا له أنه قاد تلك المسيرة إلى ما استطاعت أن تصل إليه. بحيث إنه إذا ما لجأت إلى شجب ما يحدث اليوم، فذلك يعني أنني قمت بخطوة، مهما كانت متواضعة. فقد أصاب بالغيظ أن آخرين ذهبوا بعيدا. إلا أن الأمر يتعلق بتطور لا يتوقف على إرادتي. فكثيرة هي الأشياء الشاذة التي حدثت مع كتبي: كنت في تكساس، فسألتني شابة إذا ما كنت أثناء كتابة قصيدة «الغوليم» (le Golem)، أجري تغييرا على قصتي الأنقاض الدائرية، وهي كتبت منذ زمن طويل جدا. فكرت لحظة، شكرتها على ملاحظتها وقلت لها أنه لم يسبق لي أن فكرت في ذلك، على أنه في الواقع أن القصة القصيرة والقصيدة كانتا بشكل جوهري، تشكلان شيئا واحدا.
ll أحد الكتب النقدية الأكثر أهمية قامت بتأليفه أنا ماريا بارنيتشيا (Ana Maria Barrenechea) حول عملك. ماذا تعتقدون بخصوص ذلك؟
– نعم، لقد تمت ترجمته إلى الإنجليزية تحت عنوان: صانع المتاهات، أو مهندس المتاهات. أعتقد أنه كتاب جدير بالتقدير. لم أقرأه، بدون شك لأن الموضوع لا يعزيني كثيرا… أشعر بالإنزعاج حينما أقرأ شيئا يخصني. إلا إني أعتقد أنه أفضل الكتب، على أي حال فقد استحق أن يترجم وأن ذلك قدم لي خدمة جليلة.
ll ففي الجزء الأخير من هذا الكتاب، لمحت أنا ماريا بارنيتشيا إلى قضية موقفكم السياسي الذي هو مثار جدال.
– طيب، أعتقد أن موقفي بسيط جدا. انتميت إلى الحزب المحافظ. وقد فسرت أنه أن تكون محافظا، في جمهورية الأرجنتين، هو نوع من الشكوكية، (SCEPTICISME)، وأن التموقع في مسافة وسيطة بين الشيوعية والفاشية، هو حزب وسط. أعتقد أنه في العهود التي كان فيها المحافظون في السلطة تماثل عهود كرامة، فلماذا الإحجام عن عدم ذكر ذلك، [عهود] رفاهية. كنت جذريا.غير إني كنت جذريا لأسباب أخجل من ذكرها: لأن أحد أجدادي، إزيدورو أتشفيدو (Isidoro Acevedo) كان صديقا حميما للياندرو أليم (Leandreo Alem). لا أعتقد أن لتلك الأسباب الجنيالوجية قيمة ما. أيام قبل الانتخابات الأخيرة، قابلت هاردوي (hardoy) فقلت له «بأني أريد الالتحاق بالحزب المحافظ آنذاك. فقال لي: «لقد جننت تماما، سنفقد الإنتخابات». حينئذ قلت له بعض الكلمات كالتالي، ضاحكا. قلت له «إن إنسانا مهذبا لا يهتم سوى بالأسباب الضائعة». فأجابني: «حسنا، فإذا كنتم بصدد البحث عن سبب ضائع، لا تقدمون على خطوة إضافية. لقد عثرتم عليه». فعانقني بالأحضان مستقبلا إياي. بلا ريب هل أتكلم بطيش عن أشياء ذات أهمية كبرى. إلا أني أعتقد أن آراء كاتب تحتل لديه أهمية دنيا. إن رأيا، أو الإنتماء إلى حزب سياسي، أو ما نسميه بالأدب الملتزم، يستطيع أن يقدم لنا أعمالا رائعة، ضعيفة أو مقيتة. ليس الأدب أكثر سهولة. إنه لا يتقيد بآرائنا، إنه شيء لا تصنعه آراء. أعتقد أن الأدب أكثر عمقا من آرائنا، فبإمكان هذه الأخيرة أن تتغير ولهذا فإن أدبنا لن يكون مختلفا، أليس كذلك؟
ll لقد قلتم ذلك مرات عديدة بخصوص كيبلينغ (Kipling).
– بطبيعة الحال. فقد قال ان للكاتب قدرة على حبك خرافة إلا أنه لا يكون قادرا على معرفة أخلاقها. وقد التزم بذلك آخرون، فيما بعد. وقد قال ذلك بحزن معين لأنه كان كاتبا ملتزما، فقد خصص عمله لدعم أو لتبرير الإمبراطورية البريطانية وفي آخر أيام حياته، أدرك أن ما قام به كان شيئا آخر، فقد كتب بعض القصائد ومحكيات رائعة وأن مشروعه السياسي ربما كان فاشلا.
ll فيما يخصكم، بورخيص يمكن أن يفهم موقفكم تجاه البيرونية (péronisme) كونه موقفا عدوانيا.
– أظن أن كلمة عدواني ضعيفة شيئا ما. إن ما أشعر به هو الإشمئزاز. وأعتقد أني أستطيع قول ذات الشيء بخصوص أحد آبائي البعيدين، والذي كان يحمل اسم خوان مانويل دي روزاس (Juan manuel de rosas)،(2) شخصية كريهة .
ll ومع ذلك، فأثناء قراءة المؤلف،(3) يتم اكتشاف قصة قصيرة، قصيدة نثرية تقريبا، الشبح. هل تتذكرونها؟
– نعم، لقد استمعت إلى حكايتها من خلال رجل بكورينتيس (Corrientes)، وبواسطة آخر بريززتنسيا (Resistencia). وبما أن أولئك الأشخاص لم يكونوا على وفاق سياسيا، افترضت أن الواقعة كانت حقيقية. بيد أنه إذا كانت تلك الأقصوصة دفاعا عن البيرونية، حينئذ – كي أستعمل تعبيرا أقل أصالة – كنت سأقطع اليد التي كتبتها بها.
ll كلا، لا أعتقد أن تلك الأقصوصة تنافح عن البيرونية، إلا أنها تفسير حساس جدا للظروف الخاصة والأحداث التي وقعت حينذاك في البلاد، لأن الأقصوصة تنتهي بجملة تعتبر في تصوري، دالة جدا : «ورع سكان الضاحية الساذج…»
– نعم، إن ذلك صحيح. غير أني لا أعتقد أن الورع الساذج لسكان الضاحية يبرر تواطؤ المركز. أعتقد أن الأمر يتعلق بشيء آخر. أستطيع احترام الورع الساذج لسكان الضاحية، إلا أني لا أدين بأي احترام لشخص ما يصبح بيرونيا بشكل لائق والذي، إضافة إلى ذلك، يقوم بدون انقطاع بدعابات عن بايرون (Peron) كي لا يعتقد أنه كان غبيا.
ll اللافت للنظر، أن الأقصوصة توصلت إلى أن تقدم للبيرونية صورة حديثة، بدون أي نوع من العدوانية، وأن تعمل على إزالة أشياء كانت تعتبر إيجابية في البيرونية حقيقة.
– إني أتأسف لذلك كثيرا، لكن إذا كنت أنا من كتب تلك الأقصوصة، هل يتوجب علي تأويلها؟ ومع ذلك فإنه لم يسبق لي أن فكرت في ذلك. فحينما كتبتها، اعتقدت أنها طرفة (anecdote) أكثر فضولا، أضف إلى ذلك أنها كانت حقيقية، والتي في حالة ما إذا كانت غير حقيقية، فإنها كانت تستحق أن تبتكر، أليس كذلك؟ على أنه يوجد حينئذ العديد من موضوعات النقاش في العالم، فلماذا الحديث عن السياسة والتي هي موضوع لا أجيده كثيرا حيث أنجر وراء أهوائي؟ والذي أفهمه علاوة على ذلك مثل قضية أخلاقية. لقد لاحظتم جيدا أن لي انشغالات أخلاقية. أثناء حديثنا عن بودلير، دوستويفسكي، بو…
ll ما حدث، أنه يتم الإهتمام بما تعتقدون بسبب عملكم، الذي يمتلك أهمية كبيرة.
– طيب، فإن كان يتمتع بذلك الإهتمام، لا أعتقد أن ذلك لا يعطيني حقا أوفر من آخرين من أجل تفسيره. على الكاتب، أساسا، أن يكون وديعا وتلقائيا، بحيث إن ما أستطيع قوله عن عملي أقل شأنا مما قالته عنه أنا ماريا بارنيتشيا، أو شخص آخر أيا كان. أنا لم أكتب قصصي القصيرة إلا مرة واحدة، وتقرأونها أنتم مرات عديدة. إنها تنتمي إليكم أكثر مني. فقد بذلت قصارى جهدي كي لا تتدخل آرائي في عملي. بحيث إنه حينما يقال لي إني أعيش في برج عاجي، أقول بأن تلك الصورة – مقتبسة من الخيبات- هي خاطئة. بما أنه لا أحد يملك ذرة شك حول ما فكرت فيه. غير أني لا أعتقد أن ما أفكر فيه بشأن السياسة أو بشأن الدين – ماله أهمية كبرى- يؤثر في ما أكتب. أحدهم قال لي يوما إني اعتقدت أن التاريخ كان دوريا (Cyclique) لأنه يوجد في إحدى قصصي القصيرة أشكال يتم تكرارها. إلا أن ما قمت به، هو الإفادة من الإمكانيات الإستتيقية لنظرية الدورات. بيد أن ذلك لا يعني أني أومن بها. ولا يعني كذلك أني لا أومن بها. فأنا أولا وقبل كل شيء أديب، فبارتكازه على انشغالاته الخاصة جرب الإستفادة من الإمكانيات الأدبية، الفلسفة، الميتافيزيقا والرياضيات، وبطبيعة الحال فإني لا أمتلك أي نفوذ حتى أتكلم بوصفي فيلسوفا، رجل علم ولا بوصفي عالم رياضيات.
ll غير أن لعملكم أهمية أساسية …
– كلا، كلا، لا أعتقد. لقد حددت لنفسي التسلية كهدف وربما انشغال البال. بيد أني أعتقد أن الناس يملون بشكل سريع جدا مما أكتب.
ll لكن، لنفرض أنه يكون خطوة راسخة من أجل توطيد لغة – من بين أشياء أخرى- لن تكون لغة محلية.
– آه، إذن ، ذلك نعم. لقد أتيت، بحق، إلى هناك بعد أن ارتكبت كل الأخطاء الممكنة. لما شرعت في الكتابة، كنت أرغب في أن أكون إسبانيا كلاسيكيا إنسانيا، من القرن السابع عشر. بعد ذلك، قمت بشراء معجم الأرجنتينية ثم نويت القصد على أن أكون كاتبا محليا. فعملت على حشد الكثير من الكلمات المحلية التي لم أكن لأفهمها قط دون غوث معجمي، على إثر ذلك آليت على نفسي ألا أخضع إلى التجربة. وأعتقد أني أكتب، في الوقت الراهن، كمثل أرجنتيني عادي. أكتب بالأرجنتينية بشكل عادي. يعني أني لا أحاول أن أكون إسبانيا لأن ذلك سيجعلني متنكرا، وألا أحاول كذلك أن أكون أرجنتينيا لأن ذلك سيجعلني متنكرا أيضا. أعتقد أني توصلت إلى أن أكتب بوداعة معينة. لا أومن باللغة المحلية، ولا بالعامية (Argot) التي هي تخييل أدبي فقير بنوع مقبول، أليس كذلك؟ وبالأحرى تعاقد أدبي. مؤخرا، كتبت «ميلونغات» (Milongas)،(4) واحترست من ألا أضمنها أي كلمة عامية، لأني أدركت أنه إذا ما خضعت إلى تلك التجربة آنذاك سيفسد كل شيء وحينئذ يتم توهم الكاتب ماسكا بمعجمه في يده محاولا أن يكون «أوريلليرو» Orillero (5)… وأعتقد أنه كون أن يكون المرء أوريلليرو يتموضع بالأحرى في الصوت.
الهوامش
عن المجلة الفرنسية: (Magazine littéraire) عدد 376 ماي 1999 ص: 20-25 ، ترجمة فيليب باطايون Philippe Bataillon ، (الهوامش من إعداد فيليب باطايون) خوان خوسيه سايير وخورخي كونتي.
(1 ) – يتعلق الأمر بالجملة الأولى من رواية دون كيخوتيه
(2 )- خوان مانويل دي روزاس (Juan Manuel de Rosas)، أحد ملاك الأرض الكبار، ساد الأرجنتين كديكتاتور دموي من 1835 إلى 1852.
(3 )- خورخي لويس بورخيص، المؤلف ، ونصوص أخرى، غاليمار 1965
(4 )- ميلونغات (Milongas): أغنية ورقص شعبي لريودي لابلاتا Riodela plata تكون مصحوبة بالقيثارة. تعتبر أصلا للتانغو.
(5) – أوريلليرو (Orillero) : ساكن الأحياء الشعبية لميناء بوينس إيرس، أحياء تغنى وترقص فيها الميلونغا.