منذ الستينيات يجوب في فيافي النص غائرا في أعماقه باحثاً في خلجات النفس عن جذوة القصيدة للولوج الى أسرارها ومخابئها والخروج بسرياليتها لمواجهة سريالية الواقع وتناقضاته.. رغم انشغالاته في الكثير من الحقول المعرفية كالشعر والرواية والقصة والنقد والمقال والترجمة والنصوص النثرية، لكن الشعر يبقى هو الألصق به واليه، والمعبّر الحقيقي عن الجانب الروحي المضيء إذ نجد ان ذلك الوهج الشعري ينبثق من بين كل نتاجاته الاخرى، بخصوصية متفردة في الرؤية والرؤى.. كان ضمن جماعة كركوك ومن أبرزهم وأغزرهم نتاجاً ساهم في أغناء الحركة الثقافية في العراق منذ الستينيات ولا يزال ضاجاً بعطاءاته.
في منفاه الاوروبي يتطلع العزاوي من خلال نافذته باتجاه الوطن البعيد القريب، ساكباً همومه وتطلعاته وأفكاره على أديم الورق حالماً بالفجر والحرية وبعالم مسكون بالشعر.
شاعر مثل فاضل العزاوي كيف يمكنني ان أبدأ الحوار معه وثمة تاريخ جيل كامل يتلاطم بأمواجه على الطاولة التي يجلس أمامها. ثمة بروق من الكتب والمنافي والمعارك الأدبية والأصدقاء، عليّ ان أختصرها أمامكم ببضعة أسئلة بدأتها هكذا:
r عرف عن فاضل العزاوي مشاكساته داخل النص بدءا من مخلوقاته على صعيد المنجز الشعري وحتى «الروح الحية» على صعيد الكتابة عن التجربة. هل هذه المشاكسة محاولة للتفرد وسط ركام النصوص أم انها ثورة الروح داخل قوالب الحداثة؟
n لا أعرف ما يمكن أن تعنيه المشاكسة داخل النص. ربما كنت تقصدين بها أمراً آخر. فالمشاكسة تعني أن ثمة من هو على حق وأنتِ تعرفين به، ومع ذلك تعارضينه أو تدخلين في صراع معه بدون اهتمام بالحقيقة، ربما للتفرد أو لأي غاية أنانية أخرى، وهو أمر لا ينتمي الى الأدب على أي حال, أما إذا كنت تقصدين بالمشاكسة، أن يمزق الكاتب أو الشاعر بنصه الجديد الأكاذيب والخرافات والأساطير الأدبية المنسوجة في ظل تخلف المجتمعات العربية، سياسياً واقتصادياً وفكرياً وجمالياً، حول هذه القضية أو تلك، أن يهدم مجد الأوثان الجاهلية التي تحرس باب المعبد، أن يمس النسغ الحقيقي الذي يسري داخل شجرة الحياة وأن يجعلنا نواجه مصيرنا بأسئلة زماننا فهذا هو بالذات ما يمنح الكتابة تلك اللمسة السحرية التي تبرر لنا عبء عرض أنفسنا على الآخرين.
هناك كتابة ميتة، هي ركام من النصوص بالفعل كما اسميتها أنتِ. كل نص يشبه أباه وحواء تنحدر دائماً من ضلع آدم. هو ذا العقل العربي الذي لا يؤمن الا بالأحادية ويكرر نفسه الى الأبد يقف هاتفاً في البرية «أنا الشمس ولا جديد تحتي». صورة أخرى، في الأدب هذه المرة، لطابور الدكتاتوريين العرب الذين لا يقبل الواحد منهم أن يكون أقل من إله. حالة سايكولوجية تستحق الرثاء، ومن سوء حظنا كعرب أننا لا نكاد نشعر بذلك.
محاولة التفرد؟ ماذا يعني ذلك؟ كل كاتب حقيقي هو متفرد بطريقة ما والكاتب الذي يعجز عن ان يكون متفرداً يصبح جزءاً من الركام المضاف الى ركام التاريخ الكثير. التفرد هو صنو الأصالة، أي ان يكون المرء نفسه وأن يحمل تلك الدمغة التي تميزه عن سواه، من المؤكد اننا نحمل داخلنا تراث البشرية كلها ونتأثر ببعضنا ونعرض أفكارنا ومفاهيمنا لوهج أفكار الآخرين ومفاهيمهم بيد أن كل واحد منا يظل يحمل وجها خاصا به وشكلاً لا يتكرر قط رغم كل هذه المليارات من البشر، إنها حكمة الطبيعة التي أهدتنا هذا التفرد، صانع الأصالة، الذي به وحده تعزف الحياة سيمفونية أصواتها المتعددة الهائلة فندرك كرمها وغناها.
r من الملاحظ أنك عشت فترة من الصمت بعد مغادرتك العراق، فما بين العام 1976 الذي نشرت فيه عمليك الشعريين «الشجرة الشرقية» و«أسفار» والعام 1989 الذي نشرت فيه مجموعتك القصصية «الهبوط الى الأبدية بحبل» وروايتك «مدينة من رماد» لم يصدر لك سوى عمل واحد هو «الديناصور الأخير» في عام 1980 لماذا هذا التوقف وهذا الإنقطاع؟
n أنني أستمتع بالعمل في الحقيقة وحينما لا يكون ثمة ما أفعله أشعر بأنني معلق من رأسي في الفراغ وأقلق كثيراً، شاعراً بدنو أجلي، مثل هذا الأمر حدث لي في الماضي، لكنه انتهى منذ سنوات، إنني اعيش الآن في الحقيقة من أجل كتابتي وحدها، بدون ذلك لا أجد معنى لحياتي بعد أن عشت فيما مضى لغير الكتابة أيضاً، حيث أهدرت سنوات من عمري تحت وطأة الأمل بما لا أمل فيه حينا واليأس من الأمل حيناً آخر، مثلما كدحت طوال حياتي لأظل على قيد الحياة، بدون عون من أي كائن في العالم. فحينما إنهار الوضع السياسي في العراق في نهاية السبعينات وكشفت الدكتاتورية عن وجهها الدموي السافر في محاولة منها لفرض ثقافتها الأحادية البدائية على المجتمع وصياغته على شاكلتها فقدت كل أمل في نجاة العراق من الكارثة التي تنتظره وتنبأت بها في العديد من نصوصي، وبالفعل لم يطل الأمر كثيراً حتى نشبت الحرب العراقية الايرانية التي استمرت ثمانية أعوام، وبعد أقل من عامين غزت إسرائيل لبنان وحاصرت بيروت. لقد شلني الألم في منفاي الألماني وأنا أشهد موت أجمل أحلامنا وآمالنا التي عكسناها دائماً في كتاباتنا.
حينذاك فقدت الثقة حتى بجدوى الكتابة، ماذا يعني أن تكتب قصيدة حيث الآلاف يقتلون ويستباحون كل يوم؟ ماذا يعني أن تتحدث عن الحداثة والحرية والحقيقة في عالم يحكمه الموت والكذب والغباء؟ فقدت القدرة على الأمل والكتابة معا، وجدت انني أهين الضحايا حينما أمسك القلم بيدي، طوال اكثر من عشرة أعوام لم انشر سوى كتاب واحد «الديناصور الاخير» الذي هو في الحقيقة اعادة كتابة لـ«مخلوقات فاضل العزاوي الجميلة» وانتابتني رغبة جارفة بأن ينساني الجميع في العراق. لم يكن مسموحاً بذكر إسمي ولو ضمن شتيمة، لحذفي من الذاكرة نهائياً، وفي الوطن العربي كان معظم الناشرين الذين يقبضون أرزاقهم من خزانة الدكتاتورية يتطيرون من أي اسم خارج قافلة البلابل المغردة. وكانت كل الصحف والمجلات العربية تقريباً، وهي في حمأة حماساتها لبطل القادسية وحامي البوابة الشرقية قد سجلت منذ البداية أسماءنا في قائمة الشيطان، حينذاك أيضاً ربما كتعويض عن خسائر ثقافتي القومية، وجدت الكثير من السلوى في قراءة الفلسفة والأدب باللغة الألمانية وبدأت محاولاتي الأولى للكتابة بها، ومهما بدا الأمر فكاهياً لي الآن فانني كنت غاضباً على الأمة العربية كلها: كلا، لن أكتب لمثل هؤلاء الأغبياء! وشعرت بسعادة أن أكون غائباً عن حفلة الجهلة والدجالين، أذكر أنني التقيت الصديق الشاعر ممدوح عدوان في تلك الأيام فقال لي مداعباً، وهو يكاد يصدق نفسه: لقد تركت الكتابة وانتهيت، أليس كذلك؟
في عام 1987 استعدت نفسي ثانية وبدأت كتابة رواية «آخر الملائكة» التي ربما كانت أفضل أعمالي مثلما كتبت مجموعتي الشعرية «رجل يرمي أحجاراً في بئر» ونشرت العديد من الدراسات والمقالات التي أعتز بها في مجلة «الناقد»، لقد عملت طويلاً فيما مضى في الصحافة التي لم تكن بالنسبة لي سوى وسيلة للعيش. ولو جمعت ما نشرته في الصحافة في حياتي لشكل مجلدات يمكن أن أنافس بها مجلدات الأعمال الكاملة لماركس وانجلز، وهو أمر قد أفعله ذات يوم إذا ما اسعفني الوقت. ثم تخليت منذ ما يقرب من عشرة أعوام عن أي عمل صحفي، مكرسا حياتي كلها للكتابة الإبداعية والثقافية وحدها، حيث نشرت خلال هذه الأعوام العشرة وحدها 15 كتاباً في الرواية والشعر والنقد والدراسة والترجمة. كما أنني أوشك على الانتهاء من كتابة رواية كبيرة جديدة وثمة ديوان جديد قد ينشر هذا العام، فضلاً عن الكثير من الدراسات التي يمكن أن تظهر في كتب أيضاً.
لقد تعلمت من تجربة الثمانينات المريرة إن على الكاتب، إذ يكون شاهداً على زمنه أن يترك لنفسه مسافة شخصية تفصله عن أحداثه وأن يتعلم أن يكتب من أجل نفسه قبل أن يكتب من أجل أي أحد آخر في العالم، فنحن نملك فرصة واحدة للحياة، لا تتكرر أبداً، وعلينا استثمارها، مهما كانت مريرة، حتى حافتها القصوى.
r تنوعت أعمالك الإبداعية بين الشعر والقصة والرواية والكتابة النثرية والصحافة والترجمة والكتابة باللغة الألمانية التي اصدرت بها الآن ديواناً كبيراً (90 قصيدة) بعنوان «في حفلة سحرية»، أين يجد العزاوي ذاته أكثر في زحمة كل هذه الفنون الأدبية وكيف أمكن لك تحقيق كل هذا التداخل؟ وما دام لكل شاعر مشروعه الشعري المغاير، فما هي مميزات مشروع العزاوي الشعري؟
n إنني شاعر قبل كل شيء، ولكنني أفهم ذلك بمعنى جديد يخيل الي إنه سيشكل بؤرة تطور الأدب في المستقبل، الشاعر بمعناه القديم، أي ذلك يولد فطرياً كشاعر ولا يجيد سوى صناعة الشعر، يوشك على الانقراض، كان ذلك مقبولاً في الماضي، قبل أزمنة الحداثة، حيث تتضمن القصيدة معارف القوم وتعكس عصبيتهم بدون الإخلال بوظيفتها الإجتماعية أو الجمالية، أما الآن فقد انحسرت وظيفة القصيدة الى الحد الذي يصعب فيه التعرف عليها، وإذا كانت لا تزال ثمة قصائد تتوسل عواطفنا الهشة فانها تعتاش في الأغلب على بقايا فهمنا الرومانسي للعالم الذي نعيش فيه وتستغل ذلك بكل جشع. أما قصائد الرأي الآيديولوجية فغالبا ما تتصنع المعرفة النبوية في زمن لم يعد فيه مكان للأنبياء. ولذلك راح الشعر منذ نهاية الستينيات بصورة خاصة – إنني أتحدث هنا عن حركة الشعر في العالم – يميل الى أن يكون شعرا مشاعاً، يكاد يمارسه الجميع، كل تلاميذ المدارس مثلاً يتدربون على كتابة الشعر، وهم يكتبونه بنفس الطريقة التي يكتبون بها مذكراتهم وخواطرهم للتعبير عن انفسهم وعواطفهم، ولا شك أن القصيدة، وخاصة ما صرنا نطلق عليه في اللغة العربية اسم قصيدة النثر، هي الأسهل منالاً وشخصانية من كل الأجناس الأدبية الأخرى. وفي مقابل ذلك يقل اليوم بعد الآخر عدد الذين يقرأون الشعر، ضمن الشعور المتزايد ليس بعدم جدواه وفائدته ولعجزه عن الصعود الى مستوى الأجناس الأدبية الأخرى الأكثر إثارة وجاذبية، ولكن أيضاً لافتقاره في الأغلب الى السحرية التي ميزته في الماضي.
ليس هذا في الحقيقة حجة ضد الشعر، وإنما ضد التكرار النمطي الذي استهلك نفسه في اعتيادية أقواله ومواضيعه وأشكاله المكررة، ,وإشارة في الوقت ذاته الى ضرورة الخروج من مفهوم الشعر بشكله السائد الى شكل جديد قادر على الحياة في زمن مثل زمننا. وهو لا يمكن أن يعني بالتأكيد الدعوة لقتل الشعر وإنما لبعث الروح فيه وتخليصه من ثقل الدم الذي يعاني منه ليكون أكثر جاذبية وإمتاعاً ضمن فهم جديد للشعرية، هذا الفهم هو الذي جعلني أكتب منذ البداية القصيدة بكل حرية الكتابة وبدون أي وصفة مسبقة لها، كما لو انني أبتكر الشعر لأول مرة، لذلك يمكن لبعض قصائدي ان يقترب من القصة القصيرة أو أن يتضمنها، مثلما يمكن تلمس الخط الروائي في مجموعتي الشعرية «الشجرة الشرقية» مثلاً. كما يمكن للمرء أن يقرأ «مخلوقات فاضل العزاوي الجميلة» و«الديناصور الأخير» و«كوميديا الأشباح» مرة كرواية وأخرى كشعر. وفي الوقت ذاته قد أدمج في القصيدة الواحدة الشعر الموزون بالنثر مثلما استخدم بحورا عدة، بل وربما لجأت في بعض أجزائها الى القصيدة العمودية أيضاً أو حتى الى الرسم.
إنني لا أريد بذلك بالطبع إلغاء الأجناس الأدبية. فالقصيدة تظل عندي قصيدة والرواية رواية والقصة القصيرة قصة قصيرة والمقالة مقالة، ولكن حيلتها تقوم على أن تكون نفسها، كجنس أدبي، وأكثر من نفسها في آن، مثل كائن حي يصعب تحديده في بعد واحد أو معنى محدد. وفي الطريق الى ذلك لا أهتم بالشعر وحده وإنما أيضاً بالرواية والنقد والقصة القصيرة والمسرح والسينما والفلسفة والإقتصاد والتاريخ والسياسة وعلم الجمال وعلم النفس والرسم والصحافة.. الخ..، ولكن أيضاً بالعلوم الطبيعية، وبصورة خاصة الفيزياء الفلكية التي تبهرني بأسئلتها التي تقترب من أسئلة الشعر. كل المعرفة البشرية هي منطادي الذي اصعد به الى الشعر. إنني أنظر الى نفسي في الضوء المنبثق من كل ذلك وأشعر بمتعة وغنى المادة التي أتعامل معها في كتاباتي.
يصعب علي هنا أن أتحدث عن مشروعي الشعري الذي هو في الوقت ذاته جزء من مشروعي الأدبي والحياتي، لكي لا أبدو مبتسراً ولكن يمكن لمن يهمه ذلك أن يعود الى قراءة «البيان الشعري» الصادر في عام 1969 والى كتابيّ النقديين «بعيداً داخل الغابة – البيان النقدي للحداثة العربية» و»الروح الحية – جيل الستينات في العراق».
r كيف تتفتح زهرة القصيدة في حديقة العزاوي؟ كيف تنمو وتكبر؟ ما هي ركيزتك الروحية في بناء نصوصك؟ هل تتركها للعفوية أم تخضعها لتحليلات مختبرك النقدي؟
n هناك قصائد ميتة وقصائد حية، كثير من قصائد الحداثة تقوم على السيلان اللغوي الفضفاض أو المناجيات العاطفية الرومانسية وتفتقر في الأغلب الى أي فكرة جوهرية وتعجز عن التماس مع الحقيقي في الحياة، أننا قد نجد فيها جملة جيدة هنا وأخرى هناك، ولكن أبياتها أو سطورها تتكدس فوق بعضها في الأغلب، بحيث لن يصعب علينا أن ننقل مقاطع من هذه القصيدة لنضيفها إلى تلك فلا يتغير الأمر كثيراً، تماماً كما هو عليه الأمر في القصيدة العمودية التقليدية التي يمكنك أن تحشوها بكل شيء مثل جراب الشحاذ، كما قلت ذات مرة.
ركيزة كل شاعر بالتأكيد هي رؤياه الداخلية الروحية ومخزون وعيه للعالم الذي يعيش فيه وحساسيته ومعارفه وتجاربه الشخصية. وهنا يدخل الحس النقدي في اختيار مادته التي يتعامل معها وأهمية قولها. طريقة كتابة القصيدة وتنفيذها على الورق تختلف من شاعر الى آخر وثمة تقنيات قد يحتفظ الشاعر بأسرارها لنفسه. في ما يتعلق بي تفرض القصيدة نفسها طريقة تنفيذها، وهي تخضع دائماً الى مراجعات نقدية صارمة جداً ومتكررة، حتى الفارزة أو النقطة تكون مدروسة. إنني أخضع كل شيء في القصيدة لحساب عسير، وفي النهاية يهمني أن أجعل كل ذلك يبدو عفوياً.
r كيف ترى الآن تجربتك بعد ما يقارب أكثر من ربع قرن على صدور مجموعتك الشعرية الأولى؟
n أشعر أنني لم أستكمل تجربتي الشعرية والأدبية حتى الآن. إن ما نشرته من دواوين وروايات وكتب نقدية يشكل جزءاً من مشهد روحي، لا المشهد كله ضمن تجربتي التي تقوم أساساً على تعدد الأشكال والرؤى. هناك الكثير الذي لم أقله بعد. وإذا ما حالفني الحظ وعشت بضع سنوات أخرى فسوف أنشر العديد من الكتب الجديدة التي أستكمل بها المشهد كله.
r بدأ مشهد الجيل الستيني واسعاً ومتشعباً ولم تبق منه اليوم الا أصوات معدودة. ترى كيف تنظر الآن الى عموم المشهد، وجذوره وأشجاره وشتاته؟ ومن هي الأسماء الإبداعية التي تستوقفك تجاربها؟
n قبل كل شيء انني أكره الفكرة الصبيانية الشائعة في الأدب العربي عن الأجيال التي تتبع التقويم العقدي الميلادي. وإذا كنت أنا نفسي قد أصدرت كتاباً عن جيل الستينات في العراق فذلك لكي أشير به الى ظاهرة إستثنائية خاصة جداً على المستويات العالمية والعربية والعراقية، وبالتأكيد ليس ضمن المفهوم العقدي السائد، فالستينات العراقية تمتد في نظري من العام 1964 وحتى العام 1973، وقد أوضحت معنى ذلك في كتابي «الروح الحية» لقد انتهت الستينات منذ فترة طويلة، ولكن الكتاب والشعراء الذين أسهموا في إغناء تلك التجربة الطليعية وواصلوا إبداعهم بعدها هم حتى اليوم الأكثر حضوراً وإبداعاً. لا أريد هنا أن أذكر أي أسم لأن ذلك قد يلحق الحيف بمن يمكن أن أنساهم ويثير الحساسية والبغضاء في جو مشحون أساساً بالتوتر والانتقاص من قيمة الآخرين، وهو أمر مألوف على أي حال في كل تجارب المنفى الأخرى أيضاً، فحينما يفقد المرء الأمل ويجد نفسه وحيداً ومعزولاً لا معين له، وربما خائباً أيضاً يدافع عن حياته باللجوء إلى الوهم ويفقد الحس بالواقع والحقيقة.
r إن جيلك، وأنت أبرزهم، عانى أكثر من أي جيل آخر السجن والمنفى والتشرد، كيف أثر كل ذلك على نصك؟
n لقد حاولت في نصوصي دائماً أن أضع يدي على نبض الحياة الحقيقية التي عشتها وأن أعكس روح زمني، كشاهد عليه، وإذا ما كان علي هنا أن أعترف بفضل القمع علي ككاتب وشاعر فانه قدم لي في فترة مبكرة من حياتي معرفة هائلة بالشرط الإنساني في التاريخ وأضفى على نصي حساسيته الخاصة به. كل ما تعلمته في حياتي تالياً كان تعميقاً لهذه الخبرات الأولى مع البشر، مع الضحايا والجلادين سوية، وهو تقسيم سيظل يشطر المجتمع البشري طويلاً، ليس في السياسة وحدها.
r حيث ترزح البشرية الآن في أغلالها تحت وطأة الظلم والدكتاتوريات وتناقضات الحياة وأحداثها المتسارعة ما الذي يستطيع أن يفعله الشعر إزاء كل هذا؟
n لا تملك القصيدة التي تنتمي إلى الشعر الحقيقي بندقية تقاتل بها، وحتى إذا امتلكتها فإنها سترمي بها في النار أو النهر، لأنها ضد بربرية التاريخ دائماً. لكن ثمة قصائد رديئة تفعل ذلك. السؤال الأهم هو: أي شعر يحتاجه زماننا؟ ذات مرة قرأت على جدار معتقل ما في العراق بيتاً من الشعر جعلني أفكر كيف يمكن للشعر نفسه أن يكون وسيلة للحقد والدمار:
أنا بعث إن مسني جنح ضيم
أحرق الأرض والسما والوجودا
حينما أتذكر الآن كل تلك القصائد التي نشرت في العراق وغير العراق لتمجيد الدكتاتورية تارة والحرب تارة أخرى أدرك كيف يمكن للشعر نفسه أن يكون خائناً للحلم الإنساني، ربما سيقول أحد ما إن هذا ليس شعراً. كلا، أنه شعر أيضاً نشر عنه النقاد العباقرة الكتب ومنحت لرسله الجوائز التقديرية ليس في العراق وحده، وبعضهم لا يخجل حتى من التطاول على الشعراء الذين ضحوا بكل شيء من أجل أن يظلوا أوفياء لشعرهم.
ومع ذلك يستطيع الشعر أن يفعل شيئاً واحداً سوف يعني الكثير في النهاية هو: أن يكون شعراً حقيقياً. فعندما يكون الشعر حقيقياً يمنحنا تلك الحساسية التي تصعد بنا الى مستوى آخر من الإنسانية التي تتحد فيها غايات الشعر النهائية مع مسعى كل الفنون والعلوم الأخرى التي تريد أن تجعل كوكبنا الأرضي آمنا وجميلا وقادراً على مواصلة الحياة.
r هل تعتقد أن النقد استطاع أن يتوغل في عالم العزاوي وأضاء خفاياه ورموزه أم أن هناك مساحات لم تكتشف بعد؟
n النقد؟ لا أعرف إن كان ثمة ما يمكن تسميته بالنقد في الأدب العربي، هناك كتاب مقالات صحفية عابرة يعرضون فيها الكتب أحياناً ويبدون آراءهم فيها بالقليل من الثقافة التي يملكونها، لا أعتقد أن ثمة أحدا درس أعمالي بطريقة جادة، والكثير من النقاد يتجنبونني، ربما لأنهم لا يعرفون كيف يدخلون الى عالمي المغلق أمامهم، بأدواتهم النقدية العتيقة، أو ربما لأنهم كما قال لي الصديق الشاعر محمود درويش ذات مرة ممازحاً: «إنهم يخشونك فيتجنبون شرك» ومع ذلك أود أن أشير هنا إلى دراسة جادة ومثيرة قدمها عن شعري مع شعراء آخرين د. سرور عبد الرحمن ضمن رسالة دكتوراه، سوف تنشر قريباً، دافع عنها في جامعة بغداد في العام 1996 (يا للعجب!) بعنوان «المحاولات الرائدة في قصيدة النثر العربية» ورسالة ماجستير قدمت في السبعينيات الى جامعة القاهرة عن رواية «القلعة الخامسة» مع روايتين آخريين، أعد الأستاذ أحمد خريس في جامعة اليرموك في الأردن رسالة دكتوراه عن مفهوم الميتا – قص Metafiction في رواياتي.
r بين الحداثة والتراث، بين قراءة الشعر العربي والعالمي أين يقف العزاوي؟
n أقف على أرضي الخاصة بي وأنظر بمرصادي إلى السماء فوقي. إنني لا أضع فاصلاً بين الحداثة والتراث، لإنني أفهم التراث بعين الحداثة مثلما أفهم الحداثة كتتويج للتراث الإنساني كله. إن خصوصية ثقافتي العربية لا تمنعني من أن أرى أفق الحضارة الإنسانية الموحدة الجديدة التي أنتمي إليها أيضاً. لقد انتهى الزمن الذي كانت فيه الثقافات القومية مغلقة على نفسها ومتناثرة مثل جزر في بحر. كلنا ننتمي الآن الى كوكب واحد انهدمت فيه الحدود بين الشعوب والناس ونعيش في الأساس المشاكل ذاتها، ساعين الى إلغاء الفجوات الحضارية التي لا تزال قائمة بين القارات والشعوب.
r وأنت تقف على برج كتابك العشرين كيف تنظر إلى:
r بغداد؟
n بعيدة وقريبة، حاضرة ومنسية، لكنها معي دائماً كخنجر في الجرح.
r كتاب الأغاني؟
n ذاكرة عربية للإبداع
r مقهى في برلين؟
n مقهى الـ Reisebüro في ساحة ألكسندر بلارتز، لكنه انتهى وتحول إلى مكتب للسفريات مثلما انتهيت أنا أيضاً من إدمان الجلوس في المقاهي وإن لم أفقد الحنين إليها.
r مقهى البرلمان في بغداد؟
n كنت ألعب فيه الشطرنج أحياناً، وأنا أتلفت يميناً ويساراً، باحثاً عن الرصافي أو الزهاوي اللذين كانا من رواده الثابتين. ذات مرة تحديت فيه أحد لاعبي الشطرنج الجيدين مقامراً فخسرت عشرين ديناراً، وهو مبلغ كان يعني ثروة حينذاك.
r سوق السراي؟
n كنت لا أزال في الإبتدائية عندما دخلته صدفة لأول مرة خلال زيارة لي مع والدي إلى بغداد فاشتريت من بائع كتب على الأرض قصيدة الأسلحة والأطفال للسياب بخمسين فلساً.
r اتحاد الأدباء في العراق؟
n لا بد إنه يشعر بيتم عميق. أعتقد إنه ينتظرنا جميعاً ليكون جديراً باسمه.
r سالمة صالح؟
n صبية كانت ترتدي ثوباً مقلماً عندما التقيتها لأول مرة في مجلة القنديل في العام 1965 وتقول «أي نعم!» كلما وجدت الآخر صامتاً، لتحثه أو تحث نفسها على الكلام.
r أدونيس؟
n إنه أحد الشعراء العرب المهمين الذين أسهموا في إغناء حركة الشعر العربي الحديث.
r قصيدة ضاعت؟
n لم تضع مني قصيدة واحدة فحسب وإنما قصائد كثيرة أتلفت بعضها بنفسي وبعض منها اختفى في اضابير مديرية الأمن العامة التي صادرتها مني. وفي العام 1963 ضاع مني ديوان كامل كبير، كنت قد أودعته عند أحد الأصدقاء ليحتفظ لي به في بيته.
r وأخرى لم تستطع كتابتها؟
n قصائد ونصوص كثيرة لم استطع كتابتها في البداية، ثم كتبتها فيما بعد او اهملتها نهائياً. أذكر انني حاولت ان اكتب رواية «آخر الملائكة» قبل عشرين عاماً من كتابتها فعجزت، كانت تنقصني حينذاك عاطفة وشفافية الحس الذي ينشأ من العلاقة المتوترة بين الغياب عن المكان وذكراه، بين حنين الروح إلى البدايات واستحالة العودة الى ما لا عودة اليه، وهو أمر ما كان ممكناً بدون تجربة المنفى الطويلة.
r وأخرى ندمت عليها؟
n لماذا ينبغي علي ان أندم على أي قصيدة؟ كل ما كتبته ينتمي الي ويمثلني واشعر بسعادة انني كنت نفسي دائماً في كل كلمة كلمة دونتها على الورق.