حوار: آنا فرناندث بارّيا
ترجمة الملف: أحمد عبد اللطيف- كاتب ومترجم مصري
خلال 40 عامًا، كرّس الفنان العراقي الإسباني حنوش حنوش حياته للفن التشكيلي، لقد اكتشف مبكرًا جدًا، حين كان طفلًا في الكوفة ومراهقًا في بغداد، أن اللوحة هي مصيره، وأن الألوان طريقته للتعبير عن نفسه. ومنذ استقر في مدريد، منذ ثمانينيات القرن الماضي، اختار لنفسه أسلوبًا فنيًا دمج بين الثقافة العربية والإسبانية، بألوان زاهية ومبهجة، وكان أبطال لوحاته نساء سمينات، لكن ليس على طريقة الفنان الكولومبي فرناندو بوتيرو. لقد انتصرت لوحاته على طول كل تلك السنوات لجمال المرأة المختلف، وللخيال في مقابل الواقع، والحلم في مقابل الحقيقة.
هذا الملف المخصص للفنان العراقي، تنشره مجلة « » مترجما إلى العربية بالتعاون مع مجلة بانيبال الإسبانية.
المترجم
رسام ومصمم وأكاديمي، حاصل على الدكتوراه في الفنون الجميلة من جامعة كومبلوتنسي بمدريد. درس الفنون الجميلة ببغداد بين عامي 1974-1979، ثم قرر السفر إلى إيطاليا أولًا ثم عدة دول أوروبية، قبل أن يلتحق بكلية الفنون الجميلة بالعاصمة الإسبانية عام 1984، ويحصل بعد 7 سنوات، في عام 1991، على درجة الدكتوراه، بأطروحة حول “أعمال الواسطي” بدرجة امتياز مع مرتبة الشرف. أثناء ذلك درس تاريخ الفن والفلسفة وعلم الجمال.
أقام 39 معرضًا فرديًا وأكثر من مائة معرض جماعي، وخلال مسيرته حصل على العديد من المنح الدراسية، من بينها منحة وزارة الخارجية الإسبانية ومعهد الثقافة العربي الإسباني (IHAC)، وحصد 41 جائزة حتى الآن.
تُعرض أعمال حنوش في العديد من المتاحف في مختلف المؤسسات العامة والخاصة، سواء في إسبانيا أو في بلدان أخرى، إذ منذ 1981 يعيش في مدريد ويحمل الجنسية الإسبانية، ويعمل فنانًا تشكيليًا وبروفيسورًا.
وبجانب الفن التشكيلي، حنوش قارئ عظيم للشعر والأدب الشرقي والغربي، وهو مستشار فني في مجلة بانيبال في نسختها الإسبانية،وهنا حوار معه:
* لقد ولدت في مدينة الكوفة بالعراق، هلا تحدثنا عن هذه المدينة التي ارتبطت بالعلم والأدب منذ بداياتها.
– تقع الكوفة جغرافيًا بالقرب من مدينة النجف ونهر الفرات، على بعد 173 كم جنوب بغداد؛ وكانت واحدة من أهم المدن في جنوب بلاد ما بين النهرين، ومقر الحكم للعديد من الخلفاء، وعاصمة العالم الإسلامي قبل نقل العاصمة إلى بغداد. والكوفة مع البصرة، هما أول مدينتين أنشأهما المسلمون في السنوات الأولى من الفتح، وسرعان ما استحالتا مركزين حضريين هامين، تعج بهما الحياة الدينية والفكرية. وكانت الكوفة مهدًا للعديد من المفكرين والفلاسفة والشعراء والمثقفين؛ أبرزهم المتنبي، ويعتبر أعظم شاعر عربي على مر العصور.
من ناحية أخرى، يعتبر الخط الكوفي أقدم أشكال الكتابة العربية، ويتمتع بمكانة مرموقة إذ استُخدم كخط في كتابة القرآن الكريم.
مع ذلك، لم يكن للكوفة أن تحظى بهذه الأهمية لولا خصوبة أرضها، ووجودها بالقرب من النهر الكبير المقدس ومدينة الحيرة، التي تقع إلى الجنوب بحوالي خمسة كيلومترات. تأسست الحيرة في الفترات الأولى من العصر المسيحي، وهناك تعايشت ثقافات مختلفة؛ اختلط الساسانيون والمسيحيون النساطرة والعرب في الفترة الأخيرة من بابل، وشكلّوا المدارس الثقافية الكبرى.
لسوء حظي، حين ولدتُ في عام 1958، لم يتبقَّ شيء من كل ذلك، إذ مع دخول المغول عام 1258، دمروا العراق بأكمله. يقول لي أصدقاء إنني، بما أني ولدت في الكوفة، فقد تنفست هواء تلك العظمة التي كانت فيها؛ ربما كوني كنت محاطًا بتلك البيئة الثقافية وشربي لمياه الفرات بعض التأثير على طريقة شعوري الحالية.
* وكيف كانت بيئتك العائلية؟
– البيت الذي عشنا فيه يشبه كل بيوت الكوفة تقريبًا، بل ويشبه بيوت العالم العربي بشكل عام: مغلق تمامًا من الخارج، حيث لا يُفتح سوى باب واحد على الواجهة مع نافذتين قليلتي الاستخدام. وحول فناء داخلي مفتوح على الهواء الطلق، تتوزع الغرف والحمّام والمطبخ، وحديقة بها ثلاث نخلات تمدنا، طوال الشتاء، بتمر لذيذ أفتقده بشدة؛ لقد كان عيدًا لنا حينما نقطفه في نهاية أغسطس. وكان لدينا كذلك شجرة تين وفرن طيني ريفي، كانت أمي تخبز فيه الخبز يوميًا. في هذا المكان، عاشت الحيوانات الأليفة معنا، الماعز والدجاج والديوك الرومية والبط والحمام والقطط. كان بيتنا على بعد أمتار قليلة من نهر الفرات، لذلك ربما تعلمت السباحة قبل أن أتعلم المشي؛ ونظرًا لقرب النهر، كان بإمكاننا تناول الأسماك الطازجة الخارجة للتو من الماء، حتى السلمون المرقط كان يصلنا حيًا ونلعب به.
بشكل عام، يقوم النظام الغذائي في هذه المنطقة، وفي عموم العراق تقريبًا، على النظام النباتي عمليًا، ويتكون بشكل رئيس من البقوليات والأرز وتنويعة واسعة من الخضار الطازج. كانت أمي تعد هذه الأطباق التقليدية بمهارة فائقة، تتبلها بتوابل وأعشاب عطرية تمنحها نكهة لا مثيل لها ويصعب نسيانها، وهي واحدة من أفضل ذكريات حياتي في بلدي، فضلًا عن الموسيقى، وبلا شك المحيط العائلي وحب أمي الهائل.
* متى بدأت تنجذب إلى الرسم واللون؟ وهل كنت واعيًا لرغبتك في أن تكون رسامًا؟
– بالإضافة للرسم، كانت البيئة الثقافية في الكوفة موجهة نحو الأدب والأشكال المختلفة للتعبير الفني. طفولتي، كما أشرت، كانت سعيدة نسبيًا، خاصة بفضل الخيال والأحلام التي صنعتها في ذهني للحصول على كل ما لم أستطع الحصول عليه ماديًا. كنت أراقب أساتذتي وهم يعرضون المواضيع المختلفة التي كانوا يرسمونها على السبورة؛ كان أمرًا سحريًا لي أن أرى كيف تتحرك الطباشير. تساءلت كيف يمكنني أن أفعل شيئًا مشابهًا، ومنذ تلك اللحظة فصاعدًا، استيقظ في داخلي حلم أن أكون رسامًا؛ في الواقع، كان الرسم بالنسبة لي، ولا يزال، مثل ملجأ صغير يعزلني عن كل ما لا أحبه. لقد كنت محظوظًا لأن لدي ابن عم بعيد كان رسامًا رائعًا، فبدأت بمساعدته. تعلمت استخدام الألوان الزيتية، إذ عندما شممتها لأول مرة انبهرت بهذه الرائحة. كان الرسم، ولا يزال، ضرورة حياتية بالنسبة لي. لقد كنت دائمًا خجولًا جدًا، الآن أقل خجلًا بسبب السن، لكني أردت أن أفعل شيئًا يمكنني القيام به بمفردي، شيئًا ليس جماعيًا. كنت أسعى لأن أشغل وقتي بهدوء، دون الحاجة إلى الآخرين. لقد أدركت أن الفن التشكيلي عالم، سواء رسمت أم لم أرسم؛ هو بالنسبة لي أسلوب حياة.
* لقد أشرت إلى الرسم كـ”ضرورة حياتية”، كيف استطعت أن تحقق إشباع هذه الحاجة؟
– بتشجيع من أستاذ ربما رأى فيّ شيئًا ما، قررت أن أدرس الفنون الجميلة، ولهذا السبب اضطررت إلى الانتقال إلى بغداد. كنت محظوظًا لأن عائلتي لم تعترض على دراستي لهذه المهنة واضطراري إلى الانتقال إلى مدينة أخرى. كنا نعيش في الكوفة حياة متواضعة، أما في بغداد فقد أعطانا خال لي، وكان يشغل منصبًا رفيعًا في الإدارة، بيتًا بحديقة، مشيدًا على الطراز الأوروبي، وعلى بعد حوالي عشرة أمتار من نهر دجلة. كان لديه كل وسائل الراحة من ثلاجة وتلفزيون وجميع ضروريات البيت. وكانت غرفتي في الطابق العلوي، غرفة كبيرة، ولم يعرف أقاربي وقت تناول الغداء إن كنت هناك أم لا، إذ كنت أرسم في صمت على صوت الإذاعة. وخلال أشهر الصيف، كنت أحاكي الانطباعيين. كان البيت مكونًا من طابقين وحديقة على جانبيه، لكنها خالية من النخيل والحيوانات الأليفة، ما جعلني أشعر بالحنين كلما استحضرت عالمي الحميمي والدافئ ببيت الكوفة. مع ذلك، شعرت بالتعويض لأنه أتاح لي الفرصة لتحقيق أحلامي بالدراسة. ولأني كنت انطوائيًا، وخجولًا بشكل مبالغ فيه، فإن معظم تجاربي الحقيقية لم يكن لها علاقة بالبيئة المحيطة وحياة الآخرين؛ لقد سكبت فانتازياتي وعالمي الخيالي في ذلك الكون الشعري والسحري الذي كنت أود أن أعيشه في الواقع، ونتيجة لذلك، كان الرسم بالنسبة لي هو الوسيلة التي سمحت لي بتغيير فكرة المكان.
كابن لمدينة الكوفة، مكان السكينة والحميمية، إذ تكاد لا تمر سيارات، استغرقت كثيرًا للتعود على تلك الحياة الجديدة، وحركة المرور الفوضوية، والتأخر كثيرًا للانتقال من مكان إلى آخر. كانت الشوارع تعج بالناس في كل مكان. كنت أحدس بأن الطريق لن يكون سهلًا في مدينة مختلفة تمامًا عن بيئتي المعتادة. لكل هذا شعرت بأنني في غير مكاني تمامًا، لكن الرغبة في تثقيف نفسي كانت كبيرة جدًا، لأنني عرفت منذ صغري أن الرسم هو الطريق المناسب لي، حيث يمكنني التعبير عن حساسيتي وقدرتي على الإبداع. وبفضل هذه الحاجة الحياتية للدراسة الأكاديمية، تمكنت من التغلب على كل هذه العقبات ووضعت كل شغفي وحماسي في الرسم.
عندما كنت في معهد الفنون الجميلة، وفي الأيام الأولى من العام الدراسي، تفاجأت بمشاركة الدروس مع طلاب عراقيين من مختلف المدن والعادات والأديان، وحتى البعض من بلدان أخرى. ومن أكثر ما أدهشني ملاحظة النساء بملابس متحررة في الشوارع وفي الجامعة؛ ولم أكن قد رأيتهن هكذا إلا في بيوت العائلة والأماكن المغلقة. وكان التواصل مع الزملاء ثريًا جدًا.
لقد درست بمعهد الفنون الجميلة ببغداد عام 1974، ببرامج دراسية مماثلة لتلك المعمول بها في الأكاديميات والكليات الأوروبية، بالإضافة لمواد لم تكن تدرس في أوروبا مثل الزخرفة الهندسية والخط العربي. أكثر ما راق لي حينها دراسة الفن الغربي مثل الانطباعية والتكعيبية، وهي حركات شعرت معها بتماهٍ فني. لم يجذبني الرسم الكلاسيكي كثيرًا، ونسخت أعمال أكثر الفنانين الذين أحببتهم، ومعظمهم من الانطباعيين. لقد كانت فترة ثرية جدًا، تخصصت خلالها في الرسم. لمّا بدأت الدراسة كنت واحدًا من أسوأ الطلاب، لكني انتهيت من بين العشرة الأوائل بعد بذل جهد كبير. كنت محظوظًا لأن جميع أساتذتي كانوا فنانين متحققين، ولم يصححوا بشكل أكاديمي، إنما أعطوني الحرية، وكان هذا الموقف مهمًا جدًا بالنسبة لي، لأنني تلقيت تدريسًا مجانيًا ومعاصرًا وليس أكاديميًا. في النهاية حصلت على نتيجة مرضية تمامًا. وفي السنتين الرابعة والخامسة من دراستي بدأت بالمشاركة مع أساتذتي في معارض مختلفة، أقيم معظمها في متحف الفن المعاصر في بغداد.
* وفي تلك اللحظة الحاسمة في مسيرتك الفنية، قررت الرحيل إلى مدريد. ما الدافع؟
– حالما أنهيت تكويني في بغداد، قررت مواصلة الدراسات العليا خارج بلدي لتوسيع معارفي. دائمًا كنت أحتاج إلى التعلم، وأنا الآن في الرابعة والستين، ولا أزال كطفل يريد مواصلة التعلم واكتشاف تجارب جديدة. ورغم أني زرت روما قبلها، إلا أني قررت أخيرًا الهجرة إلى إسبانيا. كان الحاسم في هذا القرار الاحتياج الحياتي إلى العيش في بلد مستقر سياسيًا، يمنحني فرصة عيش حياة هادئة، دون أي مشاكل، ويتيح لي أن أكرس نفسي بالكامل لميلي الكبير والعثور على مأوى وحماية فقدتهما عندما ودّعت أمي. في تلك الفترة التقيت في العراق بصديق كان درس في مدريد وتحدث معي بشكل إيجابي عن كلية الفنون الجميلة في جامعة كومبلوتنسي، بالإضافة لابن عم كان رجل أعمال في إسبانيا، لهذه الأسباب قررت المجيء إلى هنا.
* وكيف كان لقاؤك الأول بمدينة مدريد؟
– وصلت إلى مدريد عام 1981، وكانت صدمة مهولة: لقد وجدت نفسي في ثقافة مختلفة تمامًا، لم أكن أعرف عنها سوى القليل جدًا أو لا شيء تقريبًا، ولم أكن أتحدث الإسبانية. كان الجهل باللغة عائقًا كبيرًا، إذ افتقدت القدرة على التواصل، خاصةً في العامين الأولين، بالطبع بدأت دراسة الإسبانية في إحدى الأكاديميات، وعلّمني الشارع والتلفزيون.
في تلك الفترة، في بداية الثمانينيات، كانت مدريد، مثل مدن إسبانية أخرى، في طور الانفتاح على تيارات جديدة من الخارج. كان عدد الأجانب قليلًا جدًا، وقد رحبت بي “الحركة الإسبانية” الجديدة بأذرع مفتوحة، رغم أني لم أكن أفهم ما يحدث مع وجود الكثير من الأنشطة الثقافية والكثير من الحرية. كان يكفيني العيش في بلد أستطيع أن أمارس فيه فني بحرية. بالتأكيد لم أشارك في جميع أنشطة “الحركة”، خاصة لصرامة تربيتي والحفاظ على قيمي. لكني انبهرت بالتغيرات السياسية والاقتصادية التي حفزتني وأعطت معنى لعملي.
برفقة صديق زرت متحف الفن المعاصر، ولم يكن متحف الملكة صوفيا موجودًا حينذاك؛ حتى ذلك الوقت، لم أكن قد شاهدت إلا لوحات مقلّدة بالأبيض والأسود، فشعرت بالتوتر عند مواجهة الأعمال الأصلية. بدأت بزيارة المعارض الفنية والمؤسسات التي تعرض اللوحات الحديثة والمعاصرة، وقضيت ساعات وساعات أتأمل أعمال الفنانين العظماء، بيكاسو وخوان جريس باقتراحاتهما الجذرية، وسوريالية ميرو بتشظيه اللوني الدقيق، من بين أعمال لرسامين إسبان وأجانب. كان ذلك مثل حلم. ومع ذلك، لم تمنحني رؤية أعمال الفن الكلاسيكي، لأول مرة، الإحساس نفسه. في الواقع، تأخرتُ كثيرًا في زيارة متحف البرادو. لقد اعتدت أن أذهب وحدي لأعيش هذه التجربة، وأستمتع بها بشكل حميمي وأبقى هناك كل الوقت الذي أحتاج إليه.
كانت الحركات الطليعية هي أكثر الحركات الفنية التي تركت بصمتها عليّ، وبالأخص التكعيبية، إذ أحدثت باقتراحها الجذري ثورة في أسس الإبداع التشكيلي خلال العقود الأولى من القرن العشرين. لقد وجدت نفسي أمام نظرة جديدة ومبتكرة، ذات حداثة هائلة، وجمالية لافتة أثارت اهتمامي، من وجود الخط، واستخدام اللون والتركيب، وتشظي العناصر وتفكك الأشكال، حتى يصعب عليك التعرف عليها. منذ تلك الفترة بدأت أعيش على اتصال مباشر بعالم الفن ومارست نشاطي دون قطيعة.
في عام 1982، التحقت بكلية الفنون الجميلة بجامعة كومبلوتنسي بمدريد، وانتظرت معادلة شهادتي الجامعية. بدأتُ العام الدراسي، وحين ظهرت المعادلة نقلوني إلى الصف الخامس مع دراسة مواد لم تكن ضمن برنامجي الدراسي في بغداد. كنت حينها أمتلك مدخرات كافية جئت بها من العراق، فأقمتُ في البداية في بنسيون قريب من “لا بويرتا دل سول”، وظللت هناك لعام كامل في راحة تامة، حتى أصبحت صديقًا لصاحب البنسيون وأصبح يخفّض لي سعر الغرفة ويسمح لي بالطبخ. حينها بدأت شراء أوراق وبدأت الرسم، ورسمت لوحات كثيرة ملونة لا زلت أحتفظ بها حتى الآن.
* وماذا فعلت لتعيش بعد نفاد مدخراتك؟
– سألت نفسي: والآن ماذا أفعل؟ حينها قال لي أصدقاء إنه يمكنني أن أتقدم لجائزة وإن الجوائز قد تكون مصدرًا للدخل. كانت إسبانيتي قد تحسنت، لكن فهم شروط الجوائز كان صعبًا، فساعدني صديق في فهمها لأستطيع التقدم لها. في البداية رفضوني، لكنهم منحوني بعد ذلك جائزتي الأولى التي كانت بمبلغ كبير يسمح لي بالعيش. وعرفت حينها أن أعمالي تستحق، وأنها تثير اهتمامًا. نحن نتكلم عن 1984 تقريبًا. منحتني الدولة الإسبانية كذلك منحة لمدة سبع سنوات، وبفضلها، بالإضافة إلى الجوائز، استطعت أن أعيش بشكل جيد، استأجرت بيتًا وتفرغت للرسم والدراسة.
بعد معادلة شهادة الجامعة، قررت إعداد أطروحة دكتوراه في الفنون الجميلة. وكان قراري حاسمًا في العمل على رسومات الواسطي، فنان المنمنمات العربي في القرن الثامن عشر، وكان عضوًا رئيسًا في مدرسة بغداد. تفرغت لثلاث سنوات بحثية في العمل على رسوماته، وقارنت رسوماته برسوماتي، إذ رغم أني تطورت كثيرًا كرسام في إسبانيا، إلا أني لم أحب أن أنفصل عن جذوري. من خلال تركيب الأشكال، رحت أبحث عن نقطة التقاء، بين مفهوم مجرد وآخر تصويري، باستخدام الهندسة وخصائص اللون للربط بين المساحات والأماكن، وتركيب منظورات أمامية أو متواجهة، ودمج تقاليد متعارضة ظاهريًا لمنظورات مختلفة، تتحد لخلق مساحة خاصة بها وكشف تلك الدوامة المعقدة من المنظورات.
* ما الأفكار التي مدت بها دراسة الفلسفة وعلم الجمال مشروعك الفني الذي سعى لـ”دمج تقاليد متعارضة ظاهريًا”؟
– لمّا أنهيت أطروحة الدكتوراه عملت كبروفيسور بالكلية، لكني لم أستمر في هذه الوظيفة لأني كنت أريد أن أرسم، وكنت حينها أفوز بالجوائز وأبيع كل لوحاتي. حينها انغمست كليةً في تيارات الفن التشكيلي المتنوعة، وبانتهاء الأطروحة عام 1991 قررت دراسة تاريخ الفن والفلسفة وعلم الجمال في دراسة حرة بمؤسسة خوان مارش، ومتحف الملكة صوفيا، ومتحف البرادو. ومنذ 1995 حتى اليوم لم أتوقف عن الدراسة. لقد حضرت بدون مبالغة أكثر من ألف محاضرة عن الفن، ما مدّني بمعارف كبيرة، كرسام، وسمح لي بتقدير الرسم وعشقه أكثر من ذي قبل. وهذه المعارف هي ما أحاول أن أنقله إلى تلاميذي حتى أحفزهم على الإبداع.
خلال كل تلك السنوات راكمت خبرات جديدة، وكشيء منطقي ظهر واقع جديد متعدد. لم أتوقف عن البحث بعمق في اكتشاف تكنيكي ذاته ولغة تخصني، أحررها من دورها الوصفي وأمدها بطاقات جديدة. هذه المعارف المكتسبة ساعدتني في البحث حول الفن والثقافة العربية، التي أنتمي لها، وأعتقد أن بذورها أيضًا في الفن الإغريقي الكلاسيكي، مثل الفن الأوروبي. وبلا شك، فالثقافة العربية ليست ثقافة صورة مثلما هي الثقافة الغربية، وإنما ثقافة الكلمة. ورغم أن القرآن لم يحرم التمثيل بالصورة صراحةً إلا أن ثمة إدانة لها بالتشبه بالأصنام.
يقول أفلاطون “لو أنك نسخت صورة كما هي، فأنت تنسخ صورة من صورة، وبذلك تبتعد عن الحقيقة”. لم أرسم أبدًا صورًا فوتوغرافية: وأنا ضد رسم الصور، والتفت لذلك عند دراستي لأفلاطون. لقد كتبت من قبل مقالًا صغيرًا بعنوان “من الفرات: الصورة كمصير”، ورحت فيه إلى أن تحريم الصورة الإنسانية في الفن الإسلامي ليس فقط موضوعًا دينيًا، وإنما كذلك يتلاقى مع أفكار أفلاطون حول الفن.
* ما التغيرات التي حدثت في ذوقك الفني بناء على هذه الدراسات؟
– بدأت أهتم بفن عصر النهضة. لقد أدى تجاهلي للكلاسيكيين إلى تأخر زيارتي لمتحف البرادو خمس سنوات منذ وصولي لمدريد. بعدها زرته بتكرار، بالتأكيد أعترف بقيمة فناني عصر النهضة بشكل عام، وأثرهم الواسع في الفعل الثقافي ونشر الأفكار الإنسانية واستعادة عناصر من الثقافة اليونانية اللاتينية.
* ما العمل الذي يشغلك مؤخرًا؟
– جاءت أعمالي في شكل سلاسل، مدفوعًا بقلق أدبي وعاطفي أو ذي طابع اجتماعي. منذ عامين أعمل على مشروع ألف ليلة وليلة، لقد فتنتني حكاياتها، وعندما تعرفت على صموئيل شمعون وكُتّاب عرب آخرين، حمّسوني للبحث أكثر وأكثر حول الموضوع.
* منذ عام 1981 حتى اليوم لم تتوقف عن العمل والرسم. لقد فزت بـ 41 جائزة وطنية، وأقمت 39 معرضًا فرديًا ومئات المعارض الجماعية. أنتجت أكثر من 4 آلاف لوحة أصلية ومئات الرسومات. كيف تنظر إلى مسيرتك من الآن نحو المستقبل؟
– أتمنى بكل تواضع اعترافًا رسميًا أوسع. أرغب أن يعترف بعملي هذا الجيل وأجيال أخرى قادمة، رغم أن الاعتراف موجود وتُدرّس لوحاتي في عدة جامعات، وهذا العام أشارك في ندوة بمتحف الملكة صوفيا تحت عنوان “معاصرون آخرون”، سيشارك فيها بعض الفنانين الشرقيين، من الصين واليابان، وأنا أمثّل العالم العربي، وأظن أني سأكون من فنانين عرب قليلين أتيحت لهم فرصة الحديث عن أعمالهم في إسبانيا. رغبتي أن أواصل العمل، وأن أطور فني وأن أكتسب معارف جديدة ودروسًا جديدة. وأتمنى أن أثري عملي وأن أنتج أفكارًا جديدة وتأملات، ليس للجيل الحالي فحسب، وإنما للأجيال القادمة.