لم تكن حميدة السنان الفنانة التشكيلية السعودية قد بلغت الحادية عشرة من عمرها عندما فازت بالجائزة الأولى في مسابقة أرامكو لرسوم الأطفال.. تلك الطفلة التي دفعتها شعلة الفن المقدسة المتأججة في قلبها وروحها أن تبدع لهذا العالم فناً رائعاً وأن تصبح فيما بعد أماً لطفلين هما ( آدم وحواء )!! الفن والرسم والأمومة هم ما يلخص حميدة السنان بكلمات قليلة .. فالصبية التي تعلمت أصول فن الرسم على أيدي الفنانة الأكاديمية سهير الجوهري ، حيث كانت أولى تلميذاتها، أخذها الفن إلى تجارب مختلفة كرست لها نفسها. فجربت كثيراً من التقنيات كالطباعة والكولاج ومعالجة سطح اللوحة وغيرها وجربت بلوحات تقترب من فن الإعلان السياسي والكاريكاتير كونها رسامة مقتدرة.
وكانت أعمالها مثقلة بالأفكار والتجريب والسيطرة على كل ما توفر لها معرفته من تقنيات. كما اهتمت بالأفكار الكبرى والعامة والمدارس الفنية التي تقترب من الأدب كالسريالية، ذلك لأنها بالإضافة إلى شعلة الرسم والتصوير التي تعتمل داخلها هناك أيضاً شعلة الأدب وعشقه وخاصة الشعر ولذلك نراها سرعان ما تعلقت بالسريالية واشتهرت أعمال كثيرة لها وعرفت بأنها فنانة سريالية أكاديمية في الرسم وغرائبية مشتقة من الحلم في الرؤيا مع تقشف واضح في اللون. وبعد ولعها بالتقنيات قدمت أعمالا متخصصة بالكولاج والطباعة وكأن الكولاج مدرسة فنية بعينها وليس مجرد تقنية تخدم اللوحة التشكيلية. كما مالت في خضم تجربتها الفنية إلى المقولات الكبرى والمعقدة التي يصعب فهمها مثل مجموعتها البرزخ والذي بحثت فيه في الموت عند الإنسان وهذه المرحلة الفاصلة بين موت الإنسان وانتظاره في قبره القيامة ويوم الحساب !! وكانت تجربة البرزخ فرصة لها لتقدم أعمالاً مشبعة بالتقنيات المختلفة ، فركزت على إعداد السطح باللصق عليه خامات مختلفة بحيث يصل الشكل النهائي للعمل إلى ما يشبه النحت النافر أو الغائر ( ريلييف ) . وسيطر هذا الاهتمام بالتركيز على التقنيات ، ومحاوله التركيز على الفكرة الغامضة (البرزخ ) على حساب اهتمامها باللون حتى سيطرت الألوان الباهتة والقريبة من الرماديات في معظم أعمال هذه المجموعة. وللفنانة تجربة مهمة أخرى تؤكد مقدرتها الكبيرة كرسامة متمكنة فابتكرت مجموعة حنين الأيدي والتي وظفتها في تجربتها السريالية (وهي شكل مشهور في أعمال الفنانة حيث زاوجت بين رأس الطائر وكف الإنسان ضمن أشكال تعبيرية عميقة) وانتهت أخيراً إلى مجموعتها (أحلام آدم) التي نتناولها الآن بالتحليل والحوار.
مجموعة ( أحلام آدم )
ليس الفن هو الإتيان بالمعجزات والبحث عن المواضيع المعقدة. فالمواضيع والمعاني ملقاة على قارعة الطريق كما قال يوماً الجاحظ.بل المهم أن يريني الفنان هذه المواضيع والمعاني بعينيه الخاصة ويقدمها بأسلوبه الخاص.. يريني ما لم أره فيها مع أننا شاهدناها سابقاً. سألوا مرة شاعر داغستان الشهير رسول حمزاتوف: ما الذي أوصل قصائدك إلى العالمية؟ فقال: لقد كتبت عما حولي . خرجت من بيتي في قريتي الصغيرة . كتبت عما رأيته : المروج والجبال والخيول والناس بصدق وبساطة..
وهنا في هذه المجموعة تلفتت الفنانة إلى ما هو قربها.. إلى ابنها آدم وراحت ترسمه وهو يغط في نومه فتصوره في مراحل مختلفة . تصوره وهو غارق في أحلامه.. موضوع بسيط كما فعل حمزاتوف ولكنها تمنحه العمق الإنساني والعمق الفني. تبدع في التصوير الواقعي للطفل النائم بعمق تعبيري وحيّ لأنها صورته مباشرة عنه وهو نائم في حالات وفي أوضاع مختلفة. وفي حين كان التصوير واقعياً حياً كان التلوين عكس ذلك فمرة تصور آدم بالأزرق ومرة بالأحمر ومرة بالبرتقالي ومرة بالأصفر .. الخ.
البحث اللوني:
ربما كان أهم ما يميز هذه التجربة هو العناية باللون والجرأة اللونية وقوة الألوان المتضادة التي استخدمتها الفنانة، فقد ساد التضاد اللوني معظم اللوحات وبألوان تقترب من ألوان الوحشيين. وهنا نرى الفنانة تتعامل مع اللوحة بصفتها سطحا ملون لذلك نراها تستخدم الألوان الرئيسية الثلاثة (الأزرق والأصفر والأحمر) وبعض مشتقاتها ومكملاتها كالأخضر والتركواز .. الخ وهي تدرس الألوان من حيث هي ألوان حارة أو باردة وتحرص على أن تخلق من تجاورها تضاداً (كونتراست) قوياً لتصعّد الدراما داخل العمل. فالأحلام قد تكون وردية أو خضراء ، حمراء أو زرقاء، ناعمة أو خشنة ، قوية أو ضعيفة ممتعة أو مؤلمة .. وهذا التضاد يوحي للمشاهد بسلسلة طويلة من الثنائيات التي لا تنتهي والتي يمكن أن تغني الحياة وتغني ما يهجس به طفل في أحلامه!! ولا تنسى الفنانة استخدام الدرجات اللونية ضمن نطاق اللون الواحد أو الممزوج وتستخدم عادة الألوان المكملة للألوان الرئيسية كالأخضر والبرتقالي , الأزرق والأحمر وتتالى هذه الألوان عبر 13 لوحة تمثل الصبي وهو نائم رسمت مباشرة عن الواقع وتنتهي بلوحة جدارية مكونة من أربع لوحات ولوحة صغيرة نرى فيها آدم نائماً وإلى يمينه لوحة فيها نوافذ يطل منها على أحلامه وفي بقية اللوحات نرى أحلام آدم فيها رمز البيئة المحلية سعف النخيل ورسم ظلي (سلوهويت) لرجل وامرأة لا يكادان يبينان . وهنا الكثير من الشغل على السطح من تقنية الطباعة وإعطاء إحساس خاص بالسطح واستخدمت الفنانة اللون الممدد في بعض الأماكن وكأنه لون مائي لتعكس الشفافية والتدرج اللوني . وأدخلت الأسود والرماديات لكن بسطوح متحركة وبإحساس عميق إضافة إلى تقنية ترك اللون الممدد ينزل من أعلى إلى أسفل.. وقد هدفت الفنانة من استخدام هذه التقنيات المتعددة للتأكيد على الموضوع والغنى : وهو تبيان أحلام آدم بحيث تأتي اللوحة الجدارية كنتيجة للوحات السابقة والتي عبرت عنها بالألوان الصريحة غير الواقعية . ولا يمكن للمشاهد الخبير إلا أن يلاحظ النضج اللوني لدى الفنانة مقارنة بأعمالها السابقة ومدى ملاءمتها للموضوع والفكرة التي تعبر عنها: أحلام ملونة .. غير واقعية. لقد وظفت الفنانة بمقدرة عالية الألوان والرسم والتصوير بشكل عام واستخدام التقنيات لتصل إلى غايتها برفع التعبير العميق عن الموضوع المشبع بعاطفة الأمومة الصادقة . إنها رؤيا الأنثى لولدها الفتى و أحلامه ومستقبله . وفي اللوحات الست الأخيرة تتخيل الفنانة أحلام الفتى فمرة يحمل كتاباً وزهوراً ، ومرة وهو في طور الشباب يحمل الزهور لحبيبته القادمة ومرة أخرى ، نرى أمامه سمكة وهي رمز معروف للرزق والخير فهي تصوره في مراحل مختلفة من عمره وتستخدم أيضاً الألوان القوية والعميقة. وهذه اللوحات الست أعمق وانضج لونياً من بقية اللوحات. وهي تستخدم فيها حيناً سحب المساحات من الألوان المتجاورة والمتضادة عمودياً كما في لوحة الفتى بالكتاب والزهور. أو تستخدم الشخبطة بالريشة لتكون جوانب من الشكل البشري وهي دائماً تدرس اللوحة بعمق من ناحية الانسجام اللوني (الهارموني) ومن حيث استخدام التضاد اللوني بين الألوان المتجاورة (كونتراست)بقوة ومقدرة . وفي هذه اللوحات يسيطر ازرق كوبالت العميق فيها وتنوع الفنانة عليه بالألوان الحارة كالأصفر أو الأحمر أو الباردة كالأخضر وغيره.و في أحيان أخرى تستخدم الأزرق لرسم الفتى وتستخدم نقيضه أحمر (فيرميليون) في قميصه وفي الخلفية كذلك ضربات الريشة بالأزرق لتخلق ترابطاً مع الشكل الرئيسي. وقد تستخدم الأزرق المصفر للخلفية فيكون الشكل البشري بالأزرق والأرض بالأحمر.. ودائماً هناك غنى لوني وموسيقى بصرية تطرب العين.
التقنيات والأسلوب الموحد للفنانة:
لقد وظفت الفنانة خبرتها الطويلة في مجال التقنيات المختلفة في هذه المجموعة فنراها هنا اشتغلت على السطح في معظم اللوحات التي صورت فيها آدم وهو نائم فابتعدت عن سطح الكانفاس العادي لتجعله متعرجاً غنياً بالتضاريس باستخدام مواد مختلفة لإغناء السطح وأبعاده عن اللوحة التقليدية. كما استخدمت في لوحتها الجدارية تقنية الطباعة لتعطي المساحة اللونية إمكانيات تغني التعبير وخاصة في المساحات الرمادية . واستخدمت تقنية ترك اللون المائع يجري في خطوط حرة من أعلى اللوحة إلى أسفلها. وساد أسلوبها في أعمال هذه المجموعة الألوان الرئيسية كما ذكرنا ودرجاتها المتنوعة. وتميز أسلوبها بالرسم الواقعي المباشر عن الطفل الحي وهو نائم على عادة الأساتذة والمعلمين الكبار في تاريخ الفن دون اللجوء إلى الصور الفوتوغرافية وغيرها مما أعطى العمق والغنى التعبيري للطفل الحالم. ومما يميز أسلوبها أيضاً الانتقال من الحار إلى البارد أو العكس أحياناً مباشرة لخلق تضاد قوي (كونتراست) واستخدام درجات اللون (تونات) مرهفة لخلق انسجام (هارموني) في العمل. وتميز أسلوبها بدراسة الإضاءة والتعتيم والانتقال من المظلم إلى المضيء بغية تحفيز الحركة الدرامية للمشهد البصري. وتميز أسلوبها أيضاً بالواقعية في الرسم والتعبيرية العميقة في الوجوه البشرية التي رسمتها وبالغنى اللوني والقوة في التلوين فهي هنا ملونة متميزة وجريئة تعرف كيف تسيطر على المساحات حتى الكبيرة في اللوحة دون أن تقع في الرتابة وانعدام الحركة والأنغام في الألوان.
و ربما كان من الأفضل للفنانة لو استخدمت فن اللمسة ( touch ) في أماكن معينة لإحياء مساحات في الوجه البشري أو إبرازها أو في مساحات أخرى في خلفية اللوحة. إن فن اللمسة السحرية هو فن الأساتذة الكبار في فن اللوحة ( painting ) ومن يجيد هذا الفن حقاً فقد وجبت له الأستاذية في الفن (master) وإني لأعتقد جازماً أن الفنانة المجتهدة حميدة السنان ستصل قريباً إلى ذلك في تجربتها القادمة.
لقد أحسنت الفنانة القديرة حميدة السنان أن تناولت موضوعاً من حياتها المباشرة يبدو للوهلة الأولى بسيطاً ولكنها بكل تأكيد أعطته من المعنى والعمق ما جعله مدهشاً وممتعاً ويمسّ العمق الإنساني لكل منا. ( أحلام آدم ) وهل يمكن للإنسان أن يعيش بلا أحلام؟ لقد أثبت العلم أن الإنسان لا يستطيع أن يعيش بدون أحلام. وهذه الأحلام هي أحلام آدم ، وهل آدم إلا كل إنسان منا؟ فنحن جميعاً أبناء آدم ذكوراً كنا أم إناثاً ! فالموضوع الذي اشتغلت عليه الفنانة هو موضوعها الخاص والشخصي في أحد جوانبه : (أم تنظر بعين وحنان الأمومة إلى ابنها فلذة كبدها وتشعر بأحلامه أثناء نومه) . ومن جهة أخرى هي أحلام آدم أحلام الإنسان أي إنسان . وهذا دأب الفن العظيم : أن يحول المفاهيم الخاصة إلى مفاهيم تخص أي إنسان. ومن هنا تأتي أهمية وعمق هذه المجموعة من أعمال الفنانة حميدة السنان. لقد قدمت لنا متعة بصرية ومعانيّ إنسانية رفيعة في آنٍ واحدٍ. وهي بذلك حققت المعادلة الصعبة التي لا يمكن لأحدٍ أن ينجزها إن لم يكن الفن والأحاسيس الإنسانية أقانيم حياته الأساسية.