رغم بُطء الناشر وغموضه، كان يتصدى بشجاعة لترجمة كتبٍ ذات رؤى مركزية مُحتفىً بها في ثقافتها الأصل، كتبٌ مهمّة لكُتّاب مهمين، لكن الحصول على ثقة المؤلف والناشر الأصل لم تكن بالأمر الهين، لقد استغرق الأمر سنوات من المراسلات والاتصالات والمداولات. وإزاء استمراره في إنتاج الأفكار الجديدة والرؤى الحديثة في الثقافة العربية، فقد كان مستعدا دائما للتأقلم مع سلبيات الترجمة العلمية المتخصصة والتي تكمن في محدودية القرّاء وصعوبة ترجمة المصطلحات العلمية.
دراسته المتخصصة في علوم الأحياء الجزيئية هي التي جعلته مؤهلاً لفهم النص الأصل فهماً دقيقاً. المترجم الشاب حمد الغيثي الذي يشتغل جنباً إلى جنب برفقة أسماء عُمانية أخرى في مجال الترجمة لرفع جودتها، ولضمان وجود أكثر من دماغ واحد في مسألة ترجمة المصطلحات العلمية. صدر له أيضاً: “إنسان النياندرتال” و”الخلايا الجذعية: مقدمة قصيرة جداً”، كما شارك في مراجعة وتحرير كتاب “العاقل: تاريخ موجز للنوع البشري”، ويعملُ حاليا على ترجمة كتب أخرى في السياق ذاته.
حاز على جائزة السلطان قابوس للثقافة والعلوم والآداب في عام 2016 عن ترجمة كتاب “أشكال لا نهائية في غاية الجمال” الكتاب المشترك بينه وبين المترجم عبدالله حمد المعمري، الأمر الذي عزز لديه الثقة بمشروعه وقلل من إحساسه بعبثية ترجمة هذا النوع من الاشتغالات.
uu لنبدأ مع هذا السؤال: ما الذي قادك إلى الترجمة؟
u أيّ فعل إنّما هو تعبير عن الذات، لذا فالترجمة هي أساساً تعبير عن الذات. لكن عن ماذا أعبّر؟ ولماذا؟
إنّ غايتي الأسمى هي فتح منفذ للأفكار الحديثة في العالم العربي، كقاطرة لحركة الحداثة في هذه المجتمعات. وإدراكي لأهمية الترجمة في هذا المضمار يرجع إلى مشاركتي في أحداث الربيع العربي التي امتدّت إلى عُمان في عام 2011 وتحديداً إلى مدينة صُحار، حيث موطن أسرتي. وقد كنتُ شاهداً على الأحداث التي دارت هُناك ومآلاتها. ورغم المواقف المتضادة للسلطة والخارجين عليها، إلاّ أنه حين إمعان النظر فإنّ كلا الفريقين كانا -في العموم ومع وجود استثناءات هامشية- يمتحان من رؤية واحدة وينظران في إطار واحد، وهذا الإطار ينتمي بالضرورة إلى عصور ما قبل الحداثة. وفي هذا الإطار يوجد منظور قديم لعلاقة الأفراد ببعضهم البعض، وما في ذلك من قيم ومثل أخلاقية، ولهيئة المُجتمع والدولة، والديناميات التي تشكّله. ولم تكن تلك الملاحظات شيئاً خاصاً بعُمان وحدها، وإنّما تكررت في بقية المجتمعات التي ضربها الربيع العربي.
وإطار الأفكار السائد هذا ليس اختياراً محضاً، بل هو صورة لبنية المجتمعات العربية ولأنماط الإنتاج فيها. وينبغي أن نذكّر أنفسنا أنّ مجتمعاتنا العربية لم تشهد ثورات علمية وصناعية وتقنية إلخ، وبالتالي لم تحدث فيها تغيّرات اجتماعية تتبع هذه الثورات، ولم تنبلج في هذه المجتمعات تيّارات فكرية أو فلسفية تضعُ الإنسان في مركز الكون، قائداً له، وكاتباً لمصيره، ولا هي استوردت بفاعلية تيّارات فكرية تؤدي هذا الغرض. وللمفارقة، فإنّ آخر حركة فكرية كبرى شهدها العرب كانت حركة الصحوة السلفية، ومكمن المفارقة هنا أنه لكي تتقدم هذه المجتمعات إلى الأمام، فإنها يجب أن تستردّ صورة الماضي.
تلك كانت إجابتي المسهبة على سؤالك، وإجابتي الموجزة: هي أني أترجم كي أنشر أفكاراً ورؤى حديثة في الثقافة العربية.
uu يبدو لي من إجابتك السابقة ثمّة وعي بأحداث الربيع العربي عموما، وكأنما تقول ليس المهم الخروج بالشعارات الصاخبة، قدر ما ينبغي زلزلة الثوابت الراسخة –بالمعنى العقيم- عبر المعرفة والعلم والبحث؟
u قد يكون للشعارات الصاخبة تأثير كبير في حشد الحشود وتوجيهها، لكنها ذات تأثير آني ولحظي، ووحدها لا تقدّم رؤى جديدة. إنّ الأحداث الكبرى تهزّ العلاقات القائمة، تمنح فرصة للتغيير، لكنها وحدها لا تغيّر شيئاً. لابد من وجود منطلقات ورؤى فكرية منافسة جاهزة للدخول في حلبة الصراع الاجتماعي والسياسي، لتنافس القديم وتحلّ محله. إن لم يحدث ذلك فسوف ترجعُ العلاقات السائدة السابقة إلى سابق عهدها؛ وذلك لأنها لم تتغيّر. وهذا ما حدث في أعقاب الربيع العربي، أعادت الأنظمة الاجتماعية والسياسية إنتاج نفسها بأفقع مما كان. والأمر لا يخرج عن أبسط قوانين الديناميكا الفيزيائية.
لقد شهدت الثقافة العربية في عصر النهضة، أيّ في نهاية القرن التاسع عشر بوادر التحديث، فرأينا حراكاً فكرياً حديثاً وتيّارات متجادلة في مصر وبلاد الشام وبلاد المغرب، لكن “دورة الأفكار” لم تأخذ مداها. طُرحت أفكار حديثة لكنها لم تأخذ حيّزاً ووقتاً كافياً لتتجادل مع الأفكار القديمة كي تُنشئ بناءً جديداً، وبعبارة نيتشويّة: لم تتجاوز الثقافة نفسها، ولم تفتح أفقاً جديداً تنبعثُ منه. وأسباب ذلك كثيرة، وتتراوح ما بين التغيّرات الاجتماعية والظروف السياسية الداخلية والتدخلات الخارجية وغياب مساحة الحرية والإرادة الواعية إضافة عوامل ذاتية في ثقافة المجتمعات العربية. كلّ هذه العوامل أبقت المجتمعات في بوتقة قديمة، فانعزلت عن صيرورة العالم المعاصر.
uu وما الذي برأيك عطّل الصيرورة الطبيعية للتيارات الفكرية والفلسفية.. لماذا نستورد كل ما هو “استهلاكي” بمجرد ما أن يصل إلى السوق ، ولا يحدث أن نستورد أيضا الأفكار الجديدة؟
u الاستهلاك سهلٌ وبسيط ويريح المستهلك نفسياً، إذ يوهمه أنه متماثل مع الآخر في مأكله ومشربه وعاداته الظاهرية، بينما يجب أن يجد استيراد الأفكار الحديثة ظروفاً مواتية كي يكون فعّالاً، لابد من إرادة واعية وفاعلة في هذه المجتمعات، وتغيّر في البنى الاجتماعية والسياسية القائمة بما يتفق مع الجديد.
uu أمام سيناريو استرداد الماضي بالمعنى البغيض والمشحون بالطائفية المدمرة ، ما هي مسؤولية المؤسسة والفرد أيضا؟
u أعتقدُ بوجود مسؤولية على كل فرد قادر وعلى كل مؤسسة وعلى كل مجتمع عربي في كسر هذه الحلقة المفرغة، ويجب أن نعمل جميعنا على ولوج عصر الحداثة، بما فيه من مُنطلقات فكرية حديثة وأنماط إنتاج حديثة. ومما يتميّز به عصر الحداثة هو مركزية المنهج العلمي في استجلاء الحقيقة. ولا يمكن -كعرب- أن نبدأ هذه الرحلة إلاّ عبر طريقين اثنين. أمّا الأول، فهو أن نبدأ من الصفر، معيدين اكتشاف قوانين الطبيعة لمعرفة صيرورتها، وهذا طريق طويل عسير لا داعي له. وأمّا الثاني، فهو أن نستورد -عبر الترجمة- علوم الآخرين، فنهضمها ونفهمها ثم نبني عليها. ولمسلك ترجمة العلوم ميزات جمّة، منها أنه يقود إلى توسعة مفردات اللغة الهدف -وهي العربية- عبر اشتقاق ونحت مفردات جديدة تستوعب المصطلحات العلمية. والميزة الأخرى المهمة، هو أنه مسلك يمكن إسراعه إن كان جُهداً جمعياً مؤسساتياً تبنته الدولة العربية.
uu رغم عمرك الصغير نسبياً، ما الذي قادك تحديداً إلى هذا النوع من الترجمة المتخصصة والعلمية الصعبة، وهل كونك متخصص في علوم الأحياء الجزيئية سهّل عليك لغة المصطلح العلمي؟
u لقد ترجمتُ حتى الآن ثلاثة كتب علمية، وهي كتاب “أشكال لا نهائية غاية في الجمال” و”إنسان النياندرتال” و”الخلايا الجذعية: مقدمة قصيرة جداً”. وشاركتُ في مراجعة وتحرير كتاب “العاقل: تاريخ موجز للنوع البشري”، وأعملُ حالياً على ترجمة كتب أخرى. وقد ترجمت الجماعة التي أعمل معها ونشرت مجموعة من الكتب مثل “الطب النفسي” و”ماذا يعني هذا كله؟” لحسين العبري و”الداروينة” و”قصة الخلق” لعبدالله حمد المعمري. جميعُ هذه الكتب هي إمّا أنها كتب علمية أو تستند على رؤية علمية صلبة. وكوني متخصصاً في علوم الأحياء الجزيئية يجعلني مؤهلاً لفهم النص الأصل فهماً دقيقاً، لكن إشكالية ترجمة المصطلح العلمي هي المعضلة الكبرى التي تواجه المترجم، وفي تقديري هذا هو أحد أسباب عزوف العرب عن الترجمة العلمية.
uu كيف أمكنكم التغلب على إشكالية غياب المصطلح العلمي في اللغة العربية ؟
u حينما بدأنا مشروع الترجمة وضعنا معايير لمعالجة هذه الإشكالية، وهي أنّ المصطلح العربي المُتَرجم يجب أن يكون بديهياً للقارئ العربي، ومتسقاً مع لغته، لا مقعّراً غريباً. وسأستعرضُ مثالاً على ذلك، ففي كتاب “الأشكال” واجهنا مصطلح ape، وهذا يشير إلى مجموعة من حيوانات الرئيسيات من أسلاف البشر المباشرين. لقد درج المترجمون العرب على ترجمة المصطلح إلى “قرد”، وبذلك شاع في الثقافة العربية أنّ القرد هو من أسلاف البشر المباشرين. لكنّ ذلك غير صحيح علمياً، فـ ape لا يعني قردا في الإنجليزية، والترجمة العربية خاطئة، وقد تسبّبت بحدوث لبس في فهم الحقائق العلمية لدى المتلقي العربي.
ولقد صححنا هذا الخطأ في الترجمة المذكورة عبر وضع كلمة ape في سياقها العلمي الأصل، وهي مرادف شعبي لمجموعة تصنيفية تُدعى Hominoidea، التي منها تنحدر مجموعة تصنيفية هي Homonids، والتي تنحدر منها مجموعة تصنيفية أخرى تسمّى Hominins، ومنها تنحدر مجموعة Homos، التي يكون أحد أفرادها هو الإنسان العاقل (Homo sapiens). ولقد لاحظنا أنّ أسماء المجموعات التصنيفية السابقة هي مشتقة من كلمة إنسان باللاتينية، وبالتالي ارتأينا أن تُعرّب هذه الأسماء عبر اشتقاقها من جذر كلمة “إنسان” بالعربية. وبالتالي غدا لدينا التالي: ape Hominoidea نسّانون، Homonids نسّانون كبار، Hominins أناسن، Homos أناسي، Homo sapiens إنسان عاقل. وهكذا أوجدنا حلاً للبس الذي أثارته كلمة ape، وغدا النسّان، وليس القرد، هو سلف البشر المباشر.
uu يبدو الأمر أشبه بنحت كلمات جديدة؟
u باستخدام هذه الآلية، وآليات أخرى، نجحنا فعلا في نحت مفردات عربية جديدة بديهية ومألوفة نأمل في أن تترسّخ لدى الطالب والقارئ العربي حين سماعها أو قراءتها للمرة الأولى.
uu يبدو أنّ لهذا الخيار (أعني الكتب المتخصصة) الايجابيات والسلبيات.. فهي من جهة منطقة غير مُجربة كثيراً، تحديداً في عُمان، وهو رهان صعب لا يخوضه مُترجم لمجرد أنّه يمتلك لغة بالتأكيد. فهل تأسرك هذه المواضيع بشكل شخصي أو لأنّ الذاهبين إليها قلة من المترجمين العرب عموما؟ الأمر الآخر يتعلق بأن جمهور هذه النوعية من الكتب ليس بالتأكيد كجمهور الروايات. جمهور قليل. دعنا نقول جمهورا نخبويا ومتخصصا. إلا أنّه من جهة أخرى تُشكل هذه الكتب فارقا بالنسبة للمكتبة العربية؟
u لا، ليست مسألة لغة، وإنّما إيمان شخصي أنّنا في أمسّ الحاجة إلى نهضة عربية حداثية كُبرى، وأنّ الترجمة العلمية هي أبرز أدواتها. وأنا مستعدٌ للتأقلم مع سلبيات الترجمة العلمية المتخصصة، وهي محدودية القرّاء وصعوبة ترجمة المصطلحات العلمية.
إنّ الرؤى العلمية الموجودة في الكتب التي ترجمناها هي رؤى حديثة أنتجها البحث العلمي في العقود القليلة الماضية، وفيما يتعلق بكتاب “إنسان النياندرتال” فهو منشور في لغته الأصل عام 2014 ومؤلفه هو الذي قاد المجهود البحثي حول أصل الإنسان الحديث وتطوره، ويتضمن الكتاب الرؤية العلمية حتى عام 2011 في المقابل، لم أجد في العربية كتاباً علمياً واحداً تناول الأنواع البشرية المنقرضة. إننا نترجمُ معرفة وعلماً في صميم الأسئلة الوجودية التي تشغل الأفراد والشعوب.
uu بما أنك تقول: “لم أجد في العربية كتاباً علمياً واحداً تناول الأنواع البشرية المنقرضة” ، هل تظن بأنّ كتبك هذه حتى اللحظة وجدت لها أرضية عربية حاضنة ومُهتمة، ما الأثر الذي تركته عربيا ؟
u قطعاً لا. إنّ كتاباً أو اثنين لن يكون لهما أثر سحري آني. لا وهم لدينا بذلك. لكننا نقول إنّ ترجمة كتاب علمي، بمنطلقات حديثة، قد يجذب مترجمين آخرين وقرّاء جدداً. إنّ هذه الترجمات “تعطي أمثلة” على منطق جديد ومنطلقات مختلفة وفهم مختلف للإنسان ومشاكله وإشكالاته وموقعه في الكون. وفي عمقها الأعمق تقول هذه الأمثلة أنه إن كان بإمكان الآخرين أن يفعلوا ذلك فنحن أيضاً نستطيع. ولا نعلمُ جميعاً متى يبدأ “أثر الفراشة”؛ متى يُعتبر كتاب ما أو كاتب ما نقطة مرجعية لما يليه من أحداث.
uu افترض أيضا أنك درست في مدارس حكومية في صحار ، إلى أي حد تعتقد أنّ الجانب التعليمي المدرسي في عُمان والوطن العربي متأخر عن سياقات العالم العلمية.. هل أصبت بصدمة من هذا النوع؟
u درستُ في مدارس حكومية، بالعربية، وقد كان الفهم العلمي الراسخ التي كوّنته في المدرسة معيناً لي في دراستي الجامعية. أعتقدُ أن استيعابي للمادة العلمية كان ضمن الأفضل مقارنة بأقراني. في العموم لم أُصب بأيّ صدمة علمية من هذا النوع. إنّ الخلل التعليمي الذي تعاني منه مجتمعاتنا لا يكمن -في اعتقادي- في المادة التعليمية، لكن في جوانب أخرى.
uu لطالما كنا نقول : إذا صلح التعليم صلح الواقع كله، فهل يمكنك أن توضح الخلل في الجوانب الأخرى التي تقصدها عدا المنظومة التعليمية؟
u كنت أتحدثُ عن الرياضيات والمادة العلمية الطبيعية، وهذه كانت رائعة، غير أنّ هذا يبقى جزءا من المنهج التعليمي، وليس جميعه. أضف إلى ذلك أنّ الرياضيات والعلوم الطبيعية لا تشغل مكاناً مركزياً في وعي مجتمعاتنا لفهم الطبيعة والأشياء من حولها. لذلك فمهما كانت المناهج العلمية جيّدة، إلاّ أنها لا تشارك في “دورة الأفكار” في المجتمع، أيّ أنها تبقى منبتّة. قد تجدين شخصاً بارعاً في الرياضيات، لكنه لا يتصوّر أنه يمكن استخدام المنطق الرياضي في تناول المعطيات الاجتماعية والسياسية وفهمها. وقد تجدين متخصصاً في الكيمياء أو الفيزياء، لكنه لا يستوعبُ أن قوانين الفيزياء والكيمياء والحركة تصوغ فهمنا للأشياء وتؤطّرها، وبالتالي تضعُ يقينيات الأفراد والمجتمعات في موضع التساؤل. ويمكنكِ أن تتأملي أنّه في الغرب والشرق يُطلق على المتخصص في “العلوم الطبيعية” عالماً، بينما في مجتمعاتنا يُطلق هذا الوصف على “علماء الدين”، ويطلقُ على طلاب العلوم الشرعية “طلبة العلم”. وهذا ينبئ عن تجربة هذه المجتمعات التاريخية وعن لا وعيها ومرجعياتها الفكرية.
لذلك ينبغي أن يُشارك التعليم الحديث في “دورة الأفكار” في المجتمع، لا أن يوضع في قوالب عازلة. لابد من استيراد مناهج علمية حديثة ولا بد من تعريبها حتى يمكن أن تتفاعل مع الأفكار القارّة في مجتمعاتنا. وفي هذا السياق أستذكر قولاً مأثوراً عن فيلسوف التجريب الأسمى فرانسيس بيكون: لقد صنعتُ الآلة (أيّ آلة التجريب)، وعلى الآخرين تشغيلها. لا بد أن نأتي بهذه الآلة، ولا بد أن نشغّلها.
uu هل تظن أنك ستكمل الترجمة في هذا السياق التخصصي العلمي أم ستغامر ناحية خيارات أخرى؟ خصوصاً وأنّك ممن كتب الأدب أيضاً وحاز على جوائز في كتابة القصص القصيرة؟
u الترجمة هي أداة لنشر أفكار ورؤى حديثة، لذلك سوف أواصل ترجمة العناوين العلمية الحديثة، لوحدي أو تشاركياً، غير أنّ اهتماماتي الأخرى سوف تنعكس على ما أترجمه. تستهويني فلسفة العلم والرؤى الفكرية والسياسية وتاريخ عُمان. أمّا كتابة الأدب، وخصوصاً القصص، فهي حلمٌ بعيد المنال في الفترة الحالية على الأقل.
uu تستهويك الفلسفة وتود الاشتغال على هذه المنطقة، ألا يبدو ذلك غريبا في بلد لا يمنح الفلسفة أهمية على لا مقاعد الدراسة المدرسية ولا مقاعد الجامعة.. هل غياب السؤال المعرفي الفلسفي يُعطل شيئا في نسق التفكير والنظر إلى الحياة ؟
u نعم، يُعطّل الشيء الكثير. السؤال المعرفي الفلسفي يقود إلى النقد الذاتي، وإلى تجاوز المنظومات الفكرية نفسها، أيّ إلى تطورها بمرور الزمن. غير أنّ طرح هذه التساؤلات العميقة، بما توقده من جدل فكري عميق، يستوجب وجود حرية في التفكير وحرية في مشاركة الأفكار واعتناقها والذود عنها. وهذا، كما جاء في سؤالكم، غير موجود. ما زالت البنى الاجتماعية والسياسية في مجتمعاتنا تضيّق على الصحفيين والكتاب والأدباء، فضلاً عن المفكرين والفلاسفة. وما زال كثيرون يمتثلون بيت حافظ إبراهيم “رأي الجماعة لا تشقي البلاد به، -رغم الخلاف- ورأي الفرد يُشقيها”. لكن تطوّر المجتمعات وتجاوزها لذاتها يتأتّى بالحديث لا بالقديم.
uu أغلب أعمالك كانت تشاركية، رأيناك مع عبد الله حمد المعمري ومع حسين العبري. فهل يرجع الأمر لمزاج مشترك في العمل، أم لأنّ الاشتغال على هذا النوع من الكتب صعب ويحتاج إلى يد مساعدة عين أخرى؟
u لا هذا ولا ذاك. الترجمة التشاركية هي بغرض خلق تيّار ترجمي، مجموعة ترجمية في عُمان. نتشارك في ترجمة الكتاب الواحد من أجل نقل أسلوب الترجمة، ومستوى تدقيق المسودة وتنقيحها، وطريقة التعاطي مع المصطلح العلمي. ثم يعملُ كلّ منا مع مترجم آخر، وهكذا يزداد أعضاء المجموعة التي تُترجم مع حفاظها على ذات المستوى والجودة. بدأنا أنا وعبدالله المعمري في كتاب “الأشكال”، ثم عملتُ وحسين العبري في كتاب “إنسان النياندرتال”، ثم عمل حسين العبري وصالح الفلاحي في كتاب “العاقل”، وكلٌ منا يترجم الآن بمفرده، وهناك خطط لترجمات مشتركة أخرى، ونرحّب بمن يشترك معنا في هذا الهدف.
ولهذا الأسلوب التشاركي في العمل فوائد لم يكن مخطط لها، مثل ارتفاع جودة الترجمة، بسبب كثرة المراجعات، ووجود أكثر من دماغ واحد في مسألة ترجمة المصطلحات العلمية.
uu كيف تحصل على حقوق الترجمة والثقة للترجمة لأسماء كبيرة وبهذا التأثير العالمي؟؟
u جميع الكتب التي ترجمناها، والتي نترجمها الآن، هي كتب ذات رؤى مركزية، وجميعها مُحتفىً به في ثقافته الأصل، وبذلك فهي كتب مهمّة لكُتّاب مهمين. لقد كان أمر الحصول على ثقة المؤلف والناشر الأصل مسألة شائكة جداً عندما حاولنا ذلك للمرة الأولى مع كتاب “الأشكال”. استغرق الأمر حينها سنتين من المراسلات والاتصالات والمداولات، وكانت مسألة العثور على ناشر عربي شبه مستحيلة، فالناشر العربي غير معتاد، بعد كل شيء، على نشر كتب علمية وفي حقل التطور. لقد رفضتنا حينها دور نشر عديدة، ومنها ناشرون عرب معروفون. وقد استقرّ رأيي وعبدالله المعمري على محاولة أخيرة تتلخص في طرق أبواب مشروع كلمة في أبوظبي، وإن فشلنا في إقناعهم بالنشر فسوف ننشر الكتاب في الإنترنت دون ناشر ودون طبعة ورقية. لكن مشروع كلمة وافق على نشر الكتاب، لنبدأ تعاوناً وثيقاً مع المشروع في ترجمة كتب علمية أخرى. لقد سهّل نجاحنا مع كلمة من أمر الحصول على حقوق الكتب التالية، فتواصلنا وتعاوننا بعدها مع ناشرين مرموقين مثل راندوم هاوس في نيويورك، ومطابع جامعتي أوكفسورد وكمبريدج وغيرها، ومع وكلاء أدبيين معروفين مثل جون بروكمان في نيويورك. ولقد ظهرت المصاعب مرة أخرى عندما عقدنا العزم في عام 2014 على ترجمة كتاب العاقل للأكاديمي الإسرائيلي يوفال نوح هراري، وقد وجدنا ترحيباً كبيراً من المؤلف ووكيلته، لكننا لم نعثر على ناشر عربي يود أن ينشر كتاب لمؤلف إسرائيلي. نجحنا في نشر الكتاب في نهاية عام 2018 مع ناشر هندي، هو دار منجول للنشر، الذي بدأ لتوه في ولوج السوق العربية. ما زلنا نعاني من بطء إجراءات الناشر العربي وغموضه، لكن كلنا ثقة في أنّ الصعوبات سوف تتذلل والكتب التي نترجمها سوف تنتشر رويداً رويداً في الثقافة العربية.
uu لنتحدث أيضا عن تأثير المكان، بانتقالك بين عُمان وأوروبا وأستراليا، ومعرفتك باللغة الألمانية والإنجليزية، إلى أي حد يفتح “المكان” و”اللغة” أفق المعرفة والتطلعات والرهانات؟
u لم أكن أعلم ما سأجنيه من الاختلاط بالآخر حينما غادرتُ منزلي في صحار بعمر ?? سنة. إننا لسنا أحراراً فيما نفكّر به، بل تنمّط اللغة ذلك وتؤطره، وينطبق هذا على ما يفكّر به الأفراد والمجتمعات. لكن مع كل لغة جديدة، ومع كل تجربة جديدة، تتغيرُ أشياء في أدمغتنا، فتتغير طريقة عملها. ومع هذا الترحال لم يبق الأفق والتطلعات والرهانات محلية، بل غدت عالمية.
uu يبدو أنّنا حتى اللحظة لا نجد مؤسسات ترعى مشاريع الترجمة في عُمان، وإنّما هي مشاريع فردية تشق طريقها بيدها، فإما أن تصمد وإمّا أن يتحول خريجو الترجمة لموظفين في قطاعات الدولة المتعددة.. كيف ترى المترجم العُماني اليوم مقارنة بحراك الترجمة في الوطن العربي؟
u قرأتُ ترجمات رائعة لمترجمين عمانيين. أعتقدُ أننا نمتلك في عُمان خامات جيدة، وأنها قادرة على إنتاج أعمال مُهمة ومتميّزة، لكننا في حاجة إلى تأسيس منظومة للترجمة، توجدُ فيها منصات لنشر الترجمات وتقييمها ونقدها. نحتاج إلى عمل منظّم ومُمأسس، يؤدي إلى مراكمة الخبرة وخلق أجيال جديدة من المترجمين تسهم في مشروع وطني لترجمة العلوم والتكنولوجيا والأفكار الحديثة.
uu ماذا أعطتك جائزة السلطان إضافة إلى البعد المادي؟
u لمن يعرفني عن قرب يعلم أني لا أعير اهتماماً للجانب المادي، ولو كان الأمر كذلك لأخذتُ مسلكاً مختلفاً في حياتي. لذلك لم أتوقف كثيراً عند الجانب المادي لجائزة السلطان قابوس للثقافة والعلوم والآداب التي نلتها في عام 2016 عن ترجمة كتاب الأشكال. لكن استوقفتني كثيراً رمزية التكريم، وهو تكريم من صاحب الجلالة لكتاب علمي يتحدث عن آلية “تطوّر” مملكة الحيوان. لقد أكسبتني الجائزة ثقة في النفس كنتُ في أمسّ الحاجة إليها، بسبب شعوري -بعد نشر كتاب الأشكال- بعبثيّة ما فعلناه، حيث لم يُكتب عنه مدح ولا نقد. خشيتُ أن يكون التجاهل والنسيان هو مصير الكتاب. تغيّر كل ذلك مع مجيء الجائزة. وثقتُ أن الجزاء لا يأتي سريعاً، ولا يأتي كما نتوقعه، وأنّ الفائدة سوف تعمُّ، وأنّ القراء سوف يأتون، وأنّ الأفكار سوف تتغير. ما نحتاجه هو العزيمة والعمل الصادق.
حاورته: هدى حمد