لم يسبق له أن نشر شيئاً ولم يكن يعرف اسمه أو يعرف شخصه أحدٌ بخلاف حفنة من أصدقاء قدامى حين أعلن المنتدى الاجتماعي بدمشق عن محاضرة يلقيها صادق جلال العظم ذات يوم من شتاء عام 1963 تحمل عنوان: مأساة إبليس.
ولم تكن هذه المحاضرة أول نشاط يقوم به المنتدى الاجتماعي الذي كان آنئذ يضمُّ عدداً من الشباب الجامعي الدمشقي جمعهم في نهاية الخمسينيات حبهم لفيروز حتى أطلقوا على أنفسهم «الفيروزيون»! ثم ما لبثوا أن أسسوا هذه الجمعية كي يحاولوا تحت ظلال الانقلابات العسكرية المتوالية شيئاً مدنياً على الصعيدين الاجتماعي والثقافي في مرحلة بدأت العسكرة تهيمن على مناحي الحياة كلها: لقاءات، وأمسيات شعرية وأدبية، ومحاضرات ربما كان أهمها في تلك الفترة بالذات تلك التي ألقاها الدكتور بديع الكسم، أستاذ الفلسفة الحديثة في جامعة دمشق آنئذ، أيام كان شعار الوحدة والحرية والاشتراكية يُفرض في كل مكان، تحت عنوان يقول المعنى بلا مواربة: الحرية أساساً.
لم يكن قد مضى على عودة صادق جلال العظم من الولايات المتحدة الأمريكية إلى سوريا حيث أتم دراساته العليا وحصل على الدكتوراه في الفلسفة أكثر من أشهر عدة. وكأنما أراد منذ لقائه الأول مع أول جمهور يلتقيه أن يعلن دفعة واحدة موقعه ومنهجه وطبيعة الموضوعات التي سيتناولها فيما بعد طوال مساره جامعياً وكاتباً وناقداً.
مأساة إبليس!
كان عنواناً يوحي بأكثر مما يقوله معناه. ولقد شعرنا منذ البداية أننا سنلتقي شاباً أخذ على عاتقه أن يعلن عن مشروعه بلا أية مواربة وفي الموضع الأخطر والأكثر إشكالاً، بل يكاد يقف في الموضع المحرّم أساساً منذ أن اغتيل عبد الرحمن الكواكبي في القاهرة بعد حصاره والتضييق عليه في مسقط رأسه، ومنذ أن حوكم طه حسين على كتابه «في الشعر الجاهلي» ونزعت عن علي عبد الرازق صفة العالم إثر نشر كتابه «الإسلام وأصول الحكم».
بهدوء ومنهجية كان المحاضر الشاب يطرح معظم الأسئلة التي تستدعيها قصة إبليس كما وردت في القرآن، معتمداً في محاولة فهمها وتحليلها على كبار المفسرين للنص القرآني، معتمداً أو مناقشاً أهمَّ من تطرّق للقصة من القدماء كالحسين بن منصور الحلاج أو من المحدثين كعباس محمود العقاد، محاولاً بحذر علميٍّ شديد استخلاص دلالات القصة دون أن يهمل آراء هؤلاء وأولئك في قراءة حاولت بدأب تجاوز ظاهرها البسيط لتنفذ إلى أعماقها الحافلة بالمتناقضات وبالاستفهامات وبكل ما حاولت مناهج التربية والتعليم الحذر من شرحه أو من تفسيره وهي تلقن كل ما هبَّ ودبَّ من خرافات استحالت في لاوعي الأجيال المتعاقبة قناعات عامة، ساذجة، راسخة في فهم الدين والتراث والتاريخ والأساطير.
وهي طريقة لم تكن سائدة لدى عدد كبير من الباحثين والكتاب في عالمنا العربي آنئذ: أن يحشد الكاتب لبحثه كل ما يمكن أن يصل إليه من وثائق مكتوبة، وأن يقرأها بعناية وتبصّر، وأن يقرر اتفاقه أو اختلافه مع مضامينها بناء على أسباب لا يتأخر عن تفصيلها ودعمها بكل ما يعتبره حجة لها أو عليها.
عندما أنهى صادق جلال العظم محاضرته بقصة توفيق الحكيم الجميلة «الشهيد»، التي صرخ إبليس في نهايتها الصرخة الدامية: «إني شهيد… إني شهيد…!» أدركت الكثرة منا أنه إن كان إبليس يستحق أن يعتبر شهيداً فمما لا شك فيه أننا أحق منه بهذه الصفة نظراً لوقوعنا في فخ الإصغاء قروناً بسذاجة إلى كل ما يقال لنا من ترهات تُربط بالدين تعسفاً أو تفسّر نصوصه أو تؤوِّل معانيها على نحو يبتعد بها عن مقاصدها، مثلما شعرتْ أن ما جاء فيها، في التحليل الأخير، لن يتلاشى بسهولة من وعينا، وأن الأسئلة العديدة التي طرحتها دراسته التي أوجزها في المحاضرة ستكون ديدنه فيما سيكتب من بعد. أسئلة تطالُ تراث الغيبيات والخرافات وتأويلاتها الأيديولوجية التي حلت بالفعل محلَّ الدين وباتت رأسَ مالٍ يستغله أرباب السياسة والأيديولوجيات على اختلاف مشاربهم واتجاهاتهم.
على أن ما يجدر ذكره خصوصاً حول هذه المحاضرة الأولى واللقاء الأول مع الجمهور أن صادق العظم لم يكن في عرضه وفي تأويله قصة إبليس بين أمر الله ومشيئته ولا في استخلاص نتائج هذا التأويل والتفنيد بعد مناقشة كل ما استعاده من أقوال سابقيه عدوانياً، ولا مستفزاً. بل كان همه خلخلة القناعات القائمة على الخرافات أو الأساطير وهزّ الاستكانة إلى الأقوال المنقولة جيلاً عن جيل بلا تمحيص أو تحليل أو نقد عقلاني. لم يكن بوسع أحد أن يتهمه على سبيل المثال بالكفر أو بالإلحاد أو بتشجيع هذا أو ذاك منهما على الرغم من سهولة ذلك ويسره بالنسبة إلى من يعتبرون أن كل شك أو كل استفهام للنصوص القديمة خروج على السنة والجماعة يوجب التكفير.
تلك هي إذن التقنية التي اختطها لنفسه في البحث منذ البداية: جمع كل ما يمكن جمعه من الوثائق والمراجع ذات العلاقة، القراءة العميقة المدققة والفاحصة في السطور وفيما بينها لا للنصِّ موضوع البحث فحسب بل وكذلك للمراجع التي سبق وأن أفاضت أو أسهمت في قراءة ما هو بصدد قراءته وتحليله، وأخيراً التحليل الذي يعتمد العقل وحده أداة. ذلك ما جعله يستطيع فيما بعد أن يواجه بثبات وهدوء منتقديه على اختلافهم، مقارعاً الحجة بالحجة، مقدِّماً العقل على ضروب النقل كلها أياً كانت حججها، فاتحاً الطريق أمام التدبّر والتفكر رغم ما يجنيه على صاحبه من شقاء بدلاً من الاستكانة إلى جهالة اليقين رغم ما تأتي به من نعيم كما قال المتنبي قبل مئات السنين!
على أنّ همّ صادق العظم الأكبر سيتجلى شيئاً فشيئاً اعتباراً من هذه الدراسة /المحاضرة في أبحاثه التالية. إذ لن يتوقف عن السير في هذا الطريق الذي افتتحه بفضل إبليس ومعونته! فلم يلبث أن كتب بحثه حول الثقافة العلمية وبؤس الفكر الديني بعد فترة قصيرة من دراسته حول قصة إبليس وشخصيته، ثم، البحث الذي نشره عشية هزيمة الخامس من حزيران/يونيو 1967 حول التزييف في الفكر المسيحي الغربي المعاصر، والدراسة النقدية التي نشرها في عام 1968 أي بعد الهزيمة، حول معجزة ظهور العذراء وتصفية آثار العدوان، وأخيراً وهي الدراسات التي ضمَّها كتابه الشهير «نقد الفكر الديني» بالإضافة إلى ردٍّ على نقد تلا نشره لمحاضرته عن إبليس التي ألقاها من جديد في النادي الثقافي العربي في بيروت أواخر عام 1965. سنرى فيما تضمنه النقد بعضاً من بؤس الثقافة في عالمنا العربي لا تزال آثاره ماثلة حتى أيامنا هذه حين يجيز ناقد لنفسه على سبيل المثال أن يكتب صفحات طويلة في نقد محاضرة لم يسمعها ولم يقرأها معتمداً على مقتطفات موجزة مما أوردته الصحف منها!
هذا الهمُّ تمثل أساساً في محاولة نقد وتفنيد الوهم المثالي الكبير الذي طغى ولا يزال طاغياً في ثقافتنا العربية والقائل على النحو الذي صاغه صادق العظم في مقدمة كتابه المذكور «بأن الأيديولوجية الغيبية والفكر الديني الواعي الذي تفرزه مع ما يلتف حولها من قيم وعادات وتقاليد هي حصيلة للروح العربية الأصلية الخالصة الثابتة عبر العصور، وليست أبداً تعبيراً عن أوضاع اقتصادية مُتحوِّلة، أو قوى اجتماعية صاعدة تارة وزائلة تارة أخرى، أو بنىً طبقية خاضعة للتحول التاريخي المستمر ولا تتمتع إلا بثبات نسبي». ولن يفارقه هذا الهمُّ في كل ما كتبه من بعدُ أياً كانت الموضوعات التي تطرق لها ما دامت تتناول الثقافة أو التراث العربيين. لكنه همٌّ لن يكون بمنأى عن مواجهة محاولات السلطات على اختلافها أن تقمع كل تعبير عنه. هكذا سيُقاد صادق جلال العظم إثر نشر كتابه «نقد الفكر الديني» إلى محكمة المطبوعات اللبنانية ببيروت مثلما اقتيد من قبله طه حسين وعلي عبد الرازق ومن بعده نصر حامد أبو زيد… وسيستجوب مطولاً مثل سلفيْه الشهيريْن حول أبحاثه المذكورة آنفاً قبل أن تقرر المحكمة إبطال التعقبات الجارية بحق الكاتب صادق العظم والناشر بشير الداعوق «لعدم توافر عناصر الجرائم المنسوبة إليهما»، ومثلهما أيضاً سيُخلى سبيله لكنه لن ينجو مثلهما أيضاً من عنت السلطات كافة سواء سلطة الاختصار والجهل أو سلطة سدنة النصوص المنقولة وقداستها المزعومة.
لكنه تابع طريقه، ولا يزال.
تستطيع أن تتفق معه أو أن تختلف، ويسعك أن تعترض على مقارباته أو أن تفند مستنداتها أو منهجها أو نتائجها، لكنك لن تكون بعيداً عنه، بل وستجد نفسك إلى جانبه وفي صحبته إن كنتَ كما قال وفعل أبو العلاء المعري قديماً من الذين اتخذوا العقل إماماً.
—————————-
بدر الدين عرودكي