محمد خضير
قاص وروائي عراقي
مثلما كانت (خزال) البهائيّة سرابًا يتتبّعه شذّاذ ومغامرون كثيرون، ويطاردونه عبر الجبال والصحاري، في رواية (وحيد غانم) السابقة (الأميرة في رحلة طائر العقل، 2019)، يقدّم الروائيّ -المغرم برحلات العقل الطائر- شخصيّات نسائيّة عاشقة ثانية باسم (سمحة، مهجة، بشرى، خضرة) يدخلنَ في علاقات حبّ فروسيّة، خلال فترة ازدهار سباق الخيول (الرَّيسز) في روايته الثانية (حفلة الصيد الأخيرة، دار غاف، 2023). وتكاد الشبكتان السرديّتان -خداع العقل وعشق النساء- تُدخلان في نسيجهما حوادثَ الطّراد والعشق والخداع نفسها، لكن على مقاس القصر الملكيّ، قصر الرّحاب، ونزوات أميره عبدالإله، وصيّ الملك فيصل الثاني، وسُوّاس اصطبْلات الخيول التابعة للقصر، وتحتجزان عشرات الشخصيات الرئيسة في مضمارها. وأهمّ هذه الشخصيات موظّف البلاط البيطريّ، الشابّ أحمد الشيخ، الذي تنتهي حياته في وقت مبكر من زمن الرواية (يوم جمعة من حزيران 1948) عندما يقع فريسةً لخنجر أحد سُوّاس الخيول (ذياب خميس)، الكاره لسلطة القصر، والهارب بإحدى أجمل أفراس حظائره إلى الصحراء، غربيّ مدينة البصرة.
تستمرّ حياة البيطريّ الوسيم أحمد الشيخ في هيئة “طيفٍ” يضيع أثره في الصحراء، بعد أن يقرّر الأمير عبدالإله إرساله مع بدويّين للبحث عن الفرس المسروقة من اصطبْل القصر الملكيّ. وخلال هذه المطاردة العجيبة، يتعرّف القارئ -مهما كانت صلته بعالم الصحراء- على أسماء الطبيعة النباتية والحيوانية المنزوية بغرابتها وبُعدها وحياة شخصيّاتها الأسطوريّين، بجوار ما سيحظى به من استراحات مدنيّة بمخترعاتها الجديدة: سيارات وأزياء ومأكولات وحفلات غناء ولغات (حوارات لهجويّة إثنيّة وشعبيّة) استغرق الروائيّ في ابتداعها ولصقها بفترة سباقات الرّيسز، كي يوفّر مشهدًا خلفيًّا حافلًا بالتناقضات البيئية والنفسية، تتحرّك أمامه الشخصيات وتتصارع وتختفي أو تندثر، فلا يجد القارئ-المتأخّر- أثرًا لهم في وقتنا الحاضر، بعد اندثار مضمار السباق في المنصور، واختفاء عشرات الحظائر (الطّولات) في ضواحي بغداد وقصبات المدن كالزبير في البصرة، وموت أولئك الأشخاص الذين انطبقت عليهم تسمية “صرعى الخيول”. تشتبك عقدةُ عشق الخيول بعقدة عشق النساء، وتختلط المشاعر والنزوات والدسائس، في نظام توزيعيّ، تكراريّ، دائري، ينتاب الحركةَ السردية للأحداث بما يشبه أشواط سباق الخيول، وما يعتريها من شبوب وعثرات، هوس وانحدار، تتمثّل في وصلات وصفيّة مملّة، ولمسات شاعرية تعكس افتتانًا ذاتيًا بعصر فروسيّ غارب. وإذ تكتظّ الرواية بتلك الخلفيّات المصوَّرة، أو المسترجعة كأفلام سينمائية من ذاكرة العصر الملكيّ -بأسمائها وهالاتها الرومانسية- يحاول الروائيُّ السموَّ بنظامه السرديّ فلا يتعرّض للانقراض مثل صوره واختراعاته السينمائية.
تنتهي حياة أحمد الشيخ، فينسج الروائيُّ وحيد غانم شبكةَ علاقات حبّ فروسيّة -تحت نظر الرّواة المقرّبين من القصر- تضمّ عددًا من موظّفي البلاط أشهرهم برهان بيك الشركسيّ، المنحدر من سلالة الميراخوريّة -المشرفين على اصطبْلات السلاطين العثمانيّين- تعقد حبالَها حول أعناق عددٍ من زوجات السُّواس، ومالكات الخيول، ومنهنّ امرأة الصيدليّ اليهوديّ اسحق، (سمحة)، التي تهيم حبًّا ببيطريّ البلاط الملكيّ أحمد الشيخ، و(مهجة) زوجة السائس العاشور عاشقة موظّف البلاط محمود الرهيميّ. غير أنّ علاقات العشق بين الرجال والأفراس والمُهور تفوق سابقاتها من العلاقات الإنسانية، ومنها علاقة بدويّ عجوز يستوطن الصحراء بمُهرة، وكذلك مالك الخيول سالم الجبر والشيخ راكان بما ملكَت أيمانهم من أفراس أصيلة. ويتبع وصلات الحبّ هذه حكايات عشق فرعية كثيرة، تؤلف عصب الرواية ودلالتها الرئيسة على عصر الفروسيّة العراقيّ. واقتضى هذا التنوّع/ التشابك بين البشر وأيقوناتهم الحيوانيّة، ابتداع أماكن حميمة صاخبة باللهو والمجون، فضلًا عن عزلة الصحراء بما تنطوي من حكمة وبلاغة طبيعيّة وخرافيّة، مثل حكاية البدويّ ابن نويران مع عجوز الصحراء الدَّهريّ، وتقديمها في وصلات تمثيليّة شبيهة بعروض “خيال الظلّ”.
تشكّل مشاهد الصحراء، وصفقات بيع الجياد الأصيلة خطًا رئيسًا ثانيًا، يوازي قصصَ اصطبْلات الأمير عبدالإله وما يكتنف أجواءها من حكايات السّباق في مضمار المنصور، وما تفرزه من صور الخداع والهوَس بين “صرعى الخيول” على جانبيه: الجمهور العام، والخواصّ من السّواس والجاكيّة والتجّار وأصحاب الاصطبْلات. ولعلّ أحد أغرب المشاهد وأكثرها تأثيرًا في حياة الأشخاص المصابين بلوثة الخيول، ما يدور حول حياة البدويّ ابن نويران، الباحث عن فرس مسروقة، في عمق الصحراء. كان ابن نويران مثالًا لشخصيّات مركّبة من الحقيقة والأسطورة التي تهيمن على حياة الصحراء، ومواقع بيع الخيول والمتاجرة بأصولها المهجّنة، وتنتهي حياته نهاية غامضة. هؤلاء هم ظلال الرواية الحقيقيّون، الذين تُروى الحوادث بأخيلتهم، وتُؤسطَر قصص الحبّ تحت أنظارهم. فهم الضمير الجمعيّ الذي يستخدمه الروائيّ في كشف خفايا العالم الفروسيّ، يتابع من خلالهم تفاصيل الفترة الملكيّة، من دون أن يستثني منهم معارضي النظام الملكيّ الذين سيعطفون مسارَ “حفلة الصيد الأخيرة” حتى نهايتها في صبيحة الاثنين، الرابع عشر من تموز 1958.
إنّ بناء الرواية يعتمد بالدرجة الأولى على ملاحظات جوقة الرُّواة أولئك، وما يوجّهون به الأنظارَ والحواسّ بصيغة فعل الغائب الجمعي (رأوا، لاحظوا، شعروا…) وبما يشبه مشاهدات “خيال الظلّ”، حيث تبدو الشخصيّات أخيلة/ أطيافًا مرتسِمة على خلفيّة تاريخيّة واسعة، بينما يتولّى الروائيّ مهمّة التعليق على رؤية الشهود -الرّواة- المجتمعين، ويسرد تفاصيل الحياة الحقيقية والمتخيَّلة للشخصيات “الظلّية” تلك. وتبرز هنا مشكلة فحص الحقائق من التخييلات الفروسية، وفرز الشخصيات الواقعيّة (شخصيات القصر الملكيّ وسُوّاسه) من الأطياف الظلّية (شخصيات الصحراء) وكيفية التصرّف بالكميّة الوافرة من المعلومات التي انتزعها الروائيّ من مراجع فترة “الرّيسز” كصحيفة نادي الفروسيّة، إضافة إلى الكتب المؤلَّفة عن عالم الخيول، ولسان التداول الشعبيّ للمفردات والحكايات. ويُستدَلّ على هذه الطريقة في المشاهدة والتعليق عليها، من العبارات الفخمة التي يعتني الروائيّ بتأليفها وكأنّه دليل العرض والمشاهدة، المعلِّق على صور صالونات الفترة المنقرضة وحظائرها، بخطاب جنائزيّ. ولا يبدو تأثير هذه التعليقات البلاغية منفصلًا عن بنية الخطاب الغرائبيّ الذي يلجأ إلى ربط الأجزاء المنزوية في صورة كلّية مترابطة، دالّة على الفترة الأربعينيّة من القرن الماضي. ومن هذه العبارات المفخَّمة التي يحاول الروائيّ جذب انتباه القارئ إليها، وتتشيط استجابته للحوادث المتفرّقة، ما يُعتبر توشيحًا شعريًّا مرفرفًا حول الأطياف والأخيلة المرئيّة. وأكتفي هنا ببضعة عبارات، ذات تأثير سحريّ في التلقّي والمشاركة في فرز الحقائق عن ظلالها:
– “نظروا إلى جمهرتهم، إلى أمواج طمع تسلّقت عظام وجوههم” ص 41
– “رأوا ظلال زهرةٍ سوداء تنشر سمّها، حلمًا يواريه الظلام” ص 101
– “رأوا تكشيرةً تشقّ جِراب وجهه” ص 133
– “كانت روحه شيئًا من الشَّميم البرّيّ” ص 197
– “كان رجلًا في طابع بريد، لعقَه أحدهم وألصقَه بضغطة إبهام على ظرف الحياة” ص 246
وبينما تسحبنا قصص الخيول إلى أطراف المدن، ومتاهة الصحراء، فإنّ لغة وحيد غانم تجنح بمئات الاستعارات عن نهجها الحكائيّ النثريّ، فتستغرق في الاستعارات الغريبة، يطوِّق بها أعناقَ شخصياته كهذه اللمعات: “قطار أفكارها”، “نهر عاطفتها”، “درابين نواياه”، “زبد رغباتهم”…إلخ.
وعلى غرار روايات العصر الفروسيّ سيكون لتلك العبارات تأثيرها في نشر جوّ من الدهشة والترقّب، بل الخشية والتهوّر، حتى إنّ مؤلّفها يتصنّع سبكها بوحي من شعور التقمّص الروحيّ والاستيلاء الطوطميّ على العقل السرديّ. فاللغة السرديّة في هذه الرواية تثير الغبار أمام القارئ كما تثيره سنابك خيول السباق، أو تخبّ خببها، وتصهل صهيلها، كلّما اشتدّت لوثة الشخصيات وعشقها. ومن دون تعمّد، يقع على القارئ عبء فصل التلبّس الطوطميّ لمالكي الخيول وسُوّاس الحظائر، عن الولع الطبيعي بمضمار السباق عند شخصيّات المجتمع البغداديّ خلال سنوات العقد الرابع من الفترة الملكيّة. وهذه كانت مهمّة الروائيّ الذي اشترط على نفسه ركوبَ هذا المركب الصعب من الخطاب الغرائبيّ، وطريقة تقديمه في بناءٍ تراوحَ بين السرد الوثائقيّ لحظائر تلك الفترة، والمشاهدة المسرحيّة لتراجيديا انهيار مضمار سباق الخيول الكبير. لقد ألجأته هذه المهمّة إلى التنقّل الحرّ بين الشخصيّات، وتوزيع زمن الأحداث على الفصول والأقسام الفرعيّة بشكل عشوائيّ (تحتوي الرواية على سبعة فصول، وعدد كبير من الأقسام الضمنية).
اقتضى نسج البنية الفروسيّة للرواية، تكرار صور العرض واسترجاعها مرارًا، وتدويرها حول مضمار السباق، إلى درجة العشو البصريّ والإنهاك التخييليّ. ففي حين يبدأ الفصل الأول بنهب أحد السُّواس (ذياب خميس) للفرس (بِشر) وبيعها في الصحراء، عبر رحلة طويلة من بغداد للبصرة، فإنّ رحلة البحث عن الفرس المنهوبة تتداخل مع حادثة قتل السائس ذياب خميس لموظف البلاط أحمد الشيخ، وتتعدّاها إلى حوادث فرعية تتألف من مشاهد بيع المهور والأفراس، وقصص ونوادر عدّة لا تتصل بهاتين الحادثتين المركزيّتين إلا بروابط مشتّتة، قبل أن يعود الروائي فيختم بها روايته. وكما أطاحت الخيول المتسابقة بأرواح المهووسين بها، هتَكَ سيرُ المطاردة شبكات السرد وخرقَها بعنف النهايات، التي تتمّ أكثرها بعيدًا عن بؤرة الحادث المركزيّ: نهب الفرس ومقتل البيطري الشابّ. تأتي النهاية كصدى صهيل بعيد، صدى البلاغة الفروسيّة التي استخدمها الروائيّ بكثافة لغويّة منهِكة، وأنهى بنيانه السرديّ بتراجيديا الحكايات الفرعيّة الصحراويّة؛ فكأنّ أصداء كلّ ذلك الصهيل تتجاوب مع أصداء انقضاض الثوّار على القصر في العام 1958، وأيقونته “الرّيسز”.
ويبدو أنّ مثل هذا الإسراف المتشعّب (للفصول والأقسام الفرعية على مساحة 331 صفحة) كان موقوتًا ومربوطًا بكثرة الإحالات والمعلومات التي ضاقَ سجلُّ الرواية عن استيعابها. وأرجِّح بأنّ المعاناة البنائية قد ناخت بثقلها على وحيد غانم فأراد أن يفصّلها على مقاسات متوازية، واسترجاعات متتالية، حتى الحدود الأخيرة لحفلة “الصيد” التي استوحى مثالَها من لوحة صيد الثعالب في سهوب إنجلترا للرسّام (هيوود هاردي)، كان الأمير عبدالإله قد علّقها على جدار غرفته. ولم تك تلك معاناة الروائيّ وحده، بل كانت مشكلة الرّواة الضمنيّين (المالكين والتجّار والسوّاس) الذين بحثوا عن استراحات فكِهة وأخرى جادّة وواعية، إلى جانب شخصيّات رافضة وجدت أنفسها في خضم حفلة المصروعين بلوثة الخيول، أمثال فاضل الشيخ شقيق البيطريّ المقتول أحمد، والراوي الضمنيّ الدكتور سعد فخري، إضافة إلى عدد كبير من النساء والخادمات، هنّ خليط من الهويّات غير المتجانسة، يتجاذبهنّ الرجال الفروسّيون أخذًا وجفاء، ترغيبًا واستلابًا، على النحو الذي ذكرنا سابقًا.
هكذا، وبهذا الاستغراق السرديّ الفروسيّ، والمتابعة التفصيليّة المتقلّبة بين الرفض والقبول، التمّلك والبذل/ التبذّل العاطفي غير المحدود، تنتهي “الحفلة” بمصرع “الأمير” الحجازيّ وسط عقدة الرواية الثلاثية: الطّراد والمطاردة والاستطراد، وفي ختام حقبة كاملة من الصراع الفروسيّ على مضمار السباق المحتدم بالرغبات المضغوطة، بما فيها الثورة التي كانت تلوح في الأفق.
إنّ قلّة من الروائيّين يعنيها تأليف معجم بلاغي/ دلاليّ بألفاظ عصر ما وعاداته واستعمالات شخصيّاته وأهوائهم المفرطة في الغرابة والشذوذ، كما عَنَتْ وحيد غانم، الذي امتدّ بتقليد الكتابة الروائية التاريخية عن الفترة الملكيّة، إلى أعمق ما فيها من ظلال ومحظورات وأساطير يوميّة وخصوصيّات نفسية واجتماعية، جعل لكلّ منها ألفاظًا تناسبها. ولعلّ عقدة العشق المركّبة من البشر والخيول في رواية (حفلة الصيد الاخيرة) تتجاوز عقدة الحظائر التي احتوتها رواية غائب طعمة فرمان الرائدة (النخلة والجيران) بكثير، وتؤسِّس لشبكات سرديّة تفاعليّة أو ترابطيّة، تُلزم القارئ بسلوك طُرُق وتفاعلات فوق خطّية، غير توافقية لصيد الموضوعة الرئيسة للرواية، والوصول إلى عقدتها بمساعدة خرائط وصفيّة، وخطط مجازيّة، وقاموس من المفردات اللغويّة النادرة.