تمتدُ المقبرة نحو الغرب لمسافةٍ كبيرة، جرداءَ موحشة، هنا يكونُ طريقُ أهلِ المدينةِ إلى الله.
حشائشٌ يابسة، وأرضٌ رملية، وشواهدُ من فروشِ البحر المخططةِ بفعلِ الموج، كأنها تموجاتُ الحياةِ وقد سكنتْ أخيراً في كومةِ تراب.
قالَ لهُ العجوزُ؛ (مهنةٌ يسيرة، تأخذُ هذا القدومَ وتحفرُ ثم تضعُ المرحومَ ثم تهيلُ عليه التراب. وأنا هرمتُ وتعبتُ ولا أريدُ الآن سوى قراءة القرآن على الموتى، وأنت شابٌ تركضُ في المقبرة وتصطادُ الطيورَ والسمكَ وتـُسقط اللوزَ فأعملْ أيضاً حفاراً للقبور، فلكَ أجرٌ من المولى وأجرٌ من أهل الموتى).
يطالعُ الوجوهَ المتيبسة، المغلقة العينين، يصبُ الماءَ عليها، يضعُ الكافور، ذا الرائحةِ الحادة، يلفها بقماش، يعملُ ذلك بسرعة، يشعرُ بأنها تتحركُ وسوف تفتحُ عينيها.
دائماً ينادون عليه:
– صالح!
في منتصفِ الليل، في الصباح، في الظهيرة، ليس ثمة وقتٌ محددٌ للهجوم على الضحايا، في البردِ القارس، في القيظِ الشديد، الملاكُ لا يقيمُ وزناً للمواقيت والفصول والمناصب والأجناس. يشتغلُ بعدلٍ مطلقٍ غير مفهوم.
يصرخون من وراء السعف:
– صالح!
زوجتهُ آمنة مستريحةٌ في المطبخ والحوش، يحضرُ لها السمكَ وتقليه، وتنقي الأرزَ من الحشراتِ الصغيرةِ التي تتقلبُ بين الحباتِ البيضاء، وتدهسُهَا. هي روحٌ أيضاً. يطشُ الزيتُ حول السمك. يأكلان في العريش بسعادة، يحضنُها، يسترخيان، ويطالعان أحذيةَ ونعالَ المارةِ من فرجات السعف. أشد الأوقات تعباً هي ظهائرُ الأيام القائظة، في هذا الوقت يكونُ العملُ مرهقاً بالإضافة إلى مصائبه الأخرى.
وفجأة يدقُ أحدُهُم البابَ، ينتزعهُ من رقدتهِ بجانب الجسم الذي يحبه، لا يتأخر، ثوبهُ جاهز، غترتهُ البيضاءُ يلفُها بسرعةٍ على رأسه، يطالعُ الوجوهَ المتجمدة الحزينة بهدوء، أبتكرَ قناعاً هو قناعَ الهدوء المتألم، يُصّبرُ الآخرين، يواسيهم، يدخلُ معاناتـَهم، من بعيدٍ، هو على حافةِ الحياةِ والموت، على شاطئِ الدموعِ والدم، يجدفُ في القاربِ وهو يحملُ الميتَ، البحرُ واسعٌ، ولكن الماءَ هادئ، الأهلُ يبكون، يذرفون الدموعَ، لكن البحرَ مليءٌ، لا يعبأ بالراحلين والقادمين، يأخذهم إلى أعماقه ويذوبون.
بعدَ كلِ جنازةٍ يُصاب بغمٍ ما، لا يعرفُ كنهَهُ، تنسدُ شهيتهُ قليلاً، يتساءلُ إلى أين يذهبون؟ لقمةُ الأرزِ تتوقفُ في بلعومه، زوجتهُ تتطلعُ فيه، تتساءل؛ (ماذا بك؟ لماذا لا تأكل؟)، يضعُ المشهيات والخضروات، لكن الشهيةَ تظلُ على سوئها، هو نفسُهُ الذي كان يقتلُ عصافيرَ الدوري في شجرةِ المقبرة المائلةِ على السورِ الرث والمتآكلِ ويُسقطُ اللوزَ المليءَ بالدود، ظل مثل عصا، نحيفاً، هيكلاً عظمياً خفيفاً جاهزاً للتراب.
– صالح!
لكن لم تكن هذه علامةَ موتٍ بل صرخة حياة، زوجتهُ الممتلئةُ بثماره في حالةِ طلقٍ، لم ينتبهَ إلى أن تكاليف الحياة أصعبَ وأخطر وأجمل، وقفَ تحت المطر بانتظارِ سيارةِ أجرة، ودقاتُ الألمِ تجتاحُ خلاياه، وبين تذمرِ صاحب السيارة من الماء المتدفق خاصة من نعليهِ الوسختين، اللتين شبعتا من رملِ الأموات، وصرخاتِ زوجتهِ وبدءِ خروج مائها، وجد كتلةً طريةً من اللحم موضوعة في قماش أبيض، وتضجُ بصرخاتٍ لذيذة.
لكن ألمَهُ في أعقابِ كلِ دفن لم يخف، بل ازدادَ بقوة، والآن ثمة ولدٌ ينمو بسرعة مدهشة، بين الأرغفةِ والحليبِ والدفاتر المدرسية، ويكرهُ الخوصَ والمطرَ المتسلل من السعف، والقِدر الأسودَ والدخان، وحين يعودُ إليهِ من الجنازاتِ المهيبةِ التي تتدفقُ فيها السياراتُ الفخمة يفرح ويحضنه وهو يقدم إليه الحلويات، ونقوداً صغيرة، يرقصُ بعدها في الحوش، لكن ألمه لم يكن يخفت، وفي الجنازاتِ المليئةِ بالأسمال والثياب البيضاء التي يمشي بها الناسُ ساعاتٍ حتى يصلوا إلى المقبرة، كان ألمهُ يتفجر، ويجد أبنه يتطلع فيه ماداً يده بأسى.
كان العجوزُ يقولُ له؛ (الموتى تذوبُ أجسادُهُم هنا في الأرض، أما أرواحُهُم فتصعدُ للسماء، تصيرُ لها أجنحةً وتعبرُ مسافاتٍ طويلة بأمرِ الخالقِ عزَّ وجل، وأما أن تكون أرواحاً خيرة فتمضي للجنة، أو تكون أرواحاً شريرة تذهبُ للنار تتعذبُ فيها! فلا تكثرْ من الأسئلة، وتتعبْ نفسَكَ مع كل جسدٍ تدفنهُ، وتقولُ هذا طفل فأين العدالة؟ وتلك الحيةُ عجوزٌ معمرة! ولا تذهلْ حين تضعُ الجسمَ السليمَ المعافى فيما المرضى يعيشون طويلاً! اللهُ أرادَ ولا راد لمشيئته).
ومضى العجوز وتركهُ بدون إجابات شافية، تتردد كلماتهُ في الصمت والخواء والألم؛ (أقرأ القرآن)، ولم يكن قارئاً، وأخذت أسئلةٌ مزعجةٌ تـُضاف لدبابيسِ الألمِ التي يأخذها كجرعاتٍ سامة، بعدَ كلِ وجبةِ موت، فيجد إنه لا يأكل، ويتخشبُ في البيت، ويعجزُ عن احتضان زوجته، التي لم يعد جسمُها شهياً كما كان، وهذا ولدٌ آخر يقتحم البيت، ويوسف ابنه البكر يغدو فتى غامضاً، منزوياً يستقبلُ فتياناً مضجرين آخرين، ويروحُ يتنصت على كلامهم من أجل أن لا يقودون ابنَه لأعمالِ السوء فيتعجب من الكلام:
– حدثَ الأنفجارُ الكوني قبل مليارين من السنين، فأين كنا وقتذاك؟
– لولا السمك والزواحف والثدييات ما تمتعنا بهذا الجنسِ والأكل!
– تحيةً لجذورنِا في الطبيعةِ وعالم الحيوان!
تفاقمتْ المصاريفُ وما عاد بيتُ السعف والحطب بقادرٍ على تحملِ حشد الأولاد وطلباتِ أكلهم الغريبة، فراح يجري ولكن العمل كان شبه متوقف، فكأن الملاكَ يعاكسهُ ولم يعد يصولُ ويجولُ في الزرع البشري بمنجله المرهف الحد، وبالكاد تظهرُ جنازةٌ في بضعة أيام، أما الأغنياء فكأنهم لم يعودوا يموتون، وتزايدت المستشفيات، وكثـُر الأطباءُ لدرجةٍ مخيفة، وحتى المجانين لم يعودوا ينتحرون بل حُجزوا في غرف، فكان صالح يمشي عند سور المقبرة، ويرقبُ شوارعَ المدينة المتسعة بتوتر كبير.
ابنه يوسف صار مهماً، يلبس نظارة طبية ويعلمُ الأولادَ ويقرأ في البيت كثيراً، البيت الذي صار مشعاً بالمصابيح، وتوارى السعفُ، وتعددتْ غرفهُ، وصخبتْ فيه الموسيقى، والعياذُ بالله، ولكن الأسئلةَ ظلتْ بلا إجابة، وكم مرةٍ أقتحمَ غرفةَ ابنه، وطالع الخرائطَ المعلقةَ والرسومَ الغريبة للحيوانات، فكان يهزأ؛ (أنحن هكذا؟ أهذا ما يعلمونكم إياه؟ وهذا ما تعلمونه للأولاد؟!) ثم يمشي في الأزقة الضيقة، ويلاصقُ حانةً متوارية في أمعاءِ الحجر، ويصغي للضحكات المتفجرة من القلوب الخالية بحسد.
يسألُ شبحَ العجوز:
– يا سيدي تعبتُ تعبتُ من هذه المهنة والحياة!
– أصبرْ يا صالح، دعَ الخلقَ للخالق، ألا تجدَّ أن الناسَ يقتلون الأسماكَ ويسرون من شوائها؟ ألا ترى الحروب تندلعُ ويكون منها رزقنا الوفير؟ ستظل الملائكةُ تنقلُ الأرواحَ ونحن لسنا حشرات أبداً، لا يمكن أن يساويني ولدك بالذبابة، نعم تتآكلُ الأجسادُ أما نحن فنعيشُ حياةً خالدة.
– ولماذا هذه اللفة كلها؟ لماذ لا نعيش هكذا أبداً؟!
– الدنيا اختبار. أذهبْ لعملك، أنت تتأخر على الميت!
– لا أستطيع أن أشم رائحته، موتى كثيرون الآن يأتون وهم متعفنون، يموتون ويذوبون في غرفِهم ولا أحد يشم رائحتهم. يجلبون جثثاً ذائبة أو متفحمة ويقولون أغسلوها! بل أحياناً يجلبون كومة من الرماد ويقولون هؤلاء بشر، أفرزوهم وضعوهم في قبورٍ منفردة! كيف يمكن أن يحاسبَهم الملاكان يا سيدي؟! هذا سؤالٌ متعبٌ عندي، في أيامك كان الموت سهلاً والأرضُ كلها بستان، أما الآن فلا أجرٌ زائد ولا علاواتٌ ولا تقدير لمهنة الحفار. صارت الحياةُ فوضى يا سيدي!
كأنه شبحٌ، يخرجُ ويدخل ولا أحد يراه، يمشي في الدروب والكلُ خائفٌ منه، تنفَّضُ المجالسُ حين يدخل، يتوارى روادُ المقهى، ولا أحد يصافحه، وينزعجُ أي شخصٍ حين يسأل ببراءة؛ (متى أراك؟!)، يحدقون فيه بذهول وخوف، والنسوةُ الشابات يتساقطن على التراب بعد خروجهن من محلات التجميل حين يصادفن ظهوره، ويسمعُ صرخاتهن؛ (متى يولي عنا!)، كأنه هو الذي يميت، والمراهقون يصرخون في الأزقة (مندوب عزرائيل!)، فاقتربَ من الحانةِ وطلب من البائع في الظلام بضع زجاجات، ليتنحى جانباً ويشرب.
وحدث انفجارٌ رهيبٌ في المدينة، شبابُها غاضبٌ ويصرخ في الشوارع، وأزعجوا الناسَ بالهتافِ الغاضب، وسدوا الدروبَ، وراح يتأملهم من خلف السور بدهشة. ثم جثمَ في حجرة الغسيل ينظفها عسى أن تستقبلَ بعضَ الزبائن.
وفجأة تدفق الحشدُ على المقبرة، ولم يزالوا في هتافاتهم الصاخبة لكنها امتلأت بالحزن، وأخذوا يدخلون النعوشَ إليه، وهو يرفعُ القماشَ ويزيحُ البدلاتِ الجميلةَ التي لم تهترئ في ترابِ الأيام، ويطالعُ الوجوهَ الشابةَ الوسيمة، ومواقعَ الرصاص الغادرَ النافذَ قرب القلوب، يغسلُهم واحداً بعد آخر، ثم جاء جسدٌ كأنهُ يعرفُ مقاسَهُ، كشفَ الغطاءَ فإذا ابنه يوسف.
تطلعَ مذهولاً، تجمد. لم يعدْ قادراً على نزعِ الثياب، لكنه راح يفعل، يبكي، لم يعد الآن على حافةِ الموتِ والحياة، يولولُ بين دهشةِ الشباب واستنكارِ إمام المسجد، ثم ينهارُ في حجرةِ الغسيل.
راح الإمامُ يكملُ المهمة، كانت الهمهمات تتصاعد؛ (من هذا؟)، (لا نعرف كهلاً في الحركة!)، (هذا أبو يوسف)، (يا للكهل المسكين!)، (إنه أبو الشهيد ويكفيه فخراً!)، وهو مرعوبٌ وأسئلةٌ تضربُ جدرانَ عقلهِ المتهاوية، ويحدثُ غبارٌ، ويتدفقُ ماءٌ مشتعلٌ، وستكونُ حجرتهُ خاويةً أبداً، ولا أحدٌ سيواصلُ التحديقَ في تلك الخرائط والكتب، ووقعُ الخبر على الأم سيكون صاعقاً، وعلى الأخوة الذين كان يوسف يساندهم. ولكن الحفرةَ الكبرى ستكونُ في قلبه!
وجثمَ عند جدار المسجد، والجثثُ مصفوفةٌ، والإمامُ يغمغمُ بكلماتٍ، والشبابُ يصطفُ لصلاةِ الجنازة، ولكن صوت الإمام علا:
– هؤلاء غير مؤمنين، ليس أنا الذي أصلي عليهم . . !
لا بد أن يجمعَ انقاضَهُ، يلملمَ أشلاءَهُ، يتعكزُ على الصور الهاربة وعلى سواعد الشباب، يسألُ اللهَ العونَ، يدوي صوتُ ابنه في أذنه، ويدهشُ لأن الموتَ حارقٌ، كاوٍ، ولا بدَ أن يقفَ إماماً ويحفر، لكن الحفرَ سهلٌ تتكفلُ بهِ كلُ هذه السواعد، أما الدفن والنزول إلى أعماقِ كلِ قبر، وجعل الرؤوس تواجهُ القبلةَ فمهمةٌ عسيرة مع هؤلاء الأبناء، فكان ينحني ويدع الشاب يقوم بالعمل، فينثرُ الترابَ، ويضعُ الشواهدَ، ويأمرُ؛ (ضعْ الرأسَ هناك!)، (ليس هكذا يا ولدي!)، ويقرأ بعضَ ما يحفظهُ من القرآن، والشبابُ يتلون وراءه، وينزلُ ظلامٌ مخيف، وسياراتُ الشرطة تحدقُ بالمقبرة، وتلقي بتلك الأجساد في قيعان الحديد، وخلتْ المقبرةُ إلا منه، وكان الدربُ بطيئاً رهيباً إلى البيت.
هذه سينما قريبةٌ تعرضُ الأفلام، والرواد يدخلون ويثرثرون، ويأكلون، وهو سيظلُ جائعاً لأمدٍ طويل، ولا يمكن أن يدخلَ هذا الفيلمَ المشؤوم أبداً!
يفجرُ بيتَهُ في لحظةٍ مرعبة ثم يأخذ العزاء، ويتدفق كلُ أهلِ الحي عليه، ويأتي غرباءٌ كثيرون لا يعرفهم، ويصافحونه ويحضنونه بقوة!
تفككتْ أجزاءُ روحهِ فثمة نصلٌ لا يزال باقيا في المقبرة قرب تلك الشجرةِ العجوزِ المنحنية بألمٍ على الجدارِ المهترئ، وشظيةٌ أخرى في غرفةِ يوسف، وعدة فتافيت متناثرة عند الحانةِ السرية وعلبها الزبدية التي تطيرُ به إلى السماء، حيث يكلم الملائكة، وصاحبه وقطبه الشيخ العجوز الذي يواسيه ويثريه بالحكم، لينزل الصباحَ نشيطاً للعمل، يترقبُ نزلاءَ الأرض، والأجسادَ النازلةَ للتراب، فيما الأرواح تحلق، ويزورُ الشبابَ وقد صاروا أطباء ومحامين وصاخبين في الجرائد!
– يا صالح!
لم تزلْ الصرخةُ تدوي عبر التليفون النقال، ويقومُ معاونوه باللازم من قيادة سيارات الشحن، التي تنقلُ الجثثَ، ويخترقون حشودَ السيارات والمارة، ويغسلون الموتى، ويحفرون التراب، ويضعون الشواهد، لكن هو الذي يتسلم إكراميات العملاء، وهو الذي يحدق في الصحف ويقرأ إعلانات النعي، ويفكر ملياً بالمدينة التي تكاد أن تأكل المقبرة، وبموظفيها الكبار الذين يلتهمون أرضَها، وبحشودها الهائلة التي تحتاج إلى مواقع ذات يوم، وبألمهِ الذي لا يتوقف.
عبدالله خليفة
قاص من اليمن