جون كارفن ويلكنسون John C Wilkinson باحث متخصص لمنطقة جنوب شرق الجزيرة العربية وبالخصوص عُمان. فهو واحد من أهم الباحثين البريطانيين المهتمين بتاريخ المنطقة منذ نهاية العقد الخامس من القرن المنصرم وربما حتى اليوم، كونه عاش فترة عصيبة من تاريخ المنطقة وبالأخص الستينيات – عقد الاشكالات والتغيرات والمنعطفات في المنطقة وما سيؤول إليه الوضع لاحقا – من تغيير جذري في تكوين دول المنطقة وأيضا في الحياة والمعيش.
جون سي ويلكنسون ارتبط بالمكان (الخليجي) والعُماني – حسب ما قال- بقلبه، هذا القلب سيقوده- حسب ما قال أيضا- الى اشكالات وسوء فهم من قبل حكام المنطقة في تلك الفترة الزمنية – الستينيات- مما جعله في محل «غير مرحب به» وباحثاً ثقيل الظل و«عليه أن يغادر المنطقة».
في هذا الحوار الذي أجريته في مقر مجلة نزوى منذ فترة ظل حبيس الأدراج ، لكن قدره أن يظهر الآن بتجديد الارتباط بالباحث الأكثر شهرة في الدراسات العُمانية. «اللاحقة» فدراساته العديدة عن عُمان باقليمها الجغرافي الحالي وامتدادها وحضورها «قديماً» في الخليج العربي وشرق أفريقيا – دراسات لا غنى عنها لكل باحث ودارس كونه أحد الأساتذة المرجعيين في الدراسات العُمانية.
الحديث مع جون كارفن ويلكنسون أو جون سي ويلكنسون حديث عن تاريخ المنطقة حيث أمضى الباحث أكثر من اربعين سنة يبحث وينقب عن تاريخ المنطقة وقد تعلم اللغة العربية- لكنه- بدأ في نسيان الكثير من مفرداتها، كما ان الكثير من الدارسين لا يعرفونه رغم أهمية دراساته – وهنا- [شهادة وبيليوغرافيا] عنه للتعريف به ووضعه في المكانة التي تليق به كباحث مجتهد رصين.
كذلك أصدر الباحث كتابه:
(Ibadsim origens and early development in oman) («الاباضية» الأصل والنشوء المبكر في عُمان) بطبعات متعددة وكانت آخر طبعة من هذا الكتاب في نهاية العام 2010م من جامعة اكسفورد.
في هذا الحوار أجاب البروفيسور ويلكنسون عن بعض الأسئلة وسكت عن البعض الآخر..
لقد انحزت الى المغامرة الكتابية والدراسات الجغرافية/ التاريخية والسياسية حول قطر بعيد عن وطنك كعُمان.. ما الهدف من ذلك؟
لقد بدأت حوارك بسؤالي عن حياتي البحثية والأكاديمية، وكيف قضيتها في دراسة قطرٍ قصيٍّ كعُمان عندما عرفتها لأول مرة، وإجابتي تتركز في سببين: الأول هو أنني وجدتُ عُمان خلال فترة عملي بلداً رائعاً مثيراُ للاهتمام. أما الثاني فيتركز في حقيقة عدم وجود دراسات حقيقية في أوروبا عن الكتابات الثريّة التي كُتبت عن عُمان- وهي كتابات ألقت الضوء على فترة بزوغ الإسلام ونشأته- مما جعلني أجد في عُمان حقلاً واسعاً للبحث. كانت مهمة شاقة، فلم يكن هناك من باحثين يدرسون هذا القطر غيري، ولو أنني درستُ تاريخ أية منطقة أخرى هامة في الشرق الأوسط لحظيتُ بلا شك بشهرةٍ أوسع، إلا أنني قد جنيتُ من اختياري هذا عائداً من نوعٍ خاص.
هل هيأت الدراسات والكشوفات لمناطق بعيدة الفرصة السانحة لدراسة المكان الآخر من أجل الفكر الاستعماري؟
لا بد أن تعرف أن كثيراً من الأوروبيين من أبناء جيلي قد عملوا في أقاصي العالم، ولم يكن ضرورياً أن تكون مستعمراً حتى تعمل في تلك المناطق. كان لجدّي الأكبر في منتصف القرن التاسع عشر مركب بحري يبحر به للتجارة من (سندرلاند) وحتى (اسطنبول). أما والدي فقد كان مهندساً بدأ بإجراء بحوثه في غابات (بورنو) قبل نشوب الحرب العالمية الأولى، وقضى زهرة عمره في بناء سككٍ حديدية في الهند. وأما والدتي فهي تنتمي إلى أسرةٍ عاشت في (الهند) و(استراليا) منذ عام 1819- وهو العام الذي شنّت فيه (انجلترا) حملتها على القواسم- قبل أن يرحل جدُّ جدّي الأكبر باحثاً عن حياةٍ جديدة.
البروفيسور ويلكنسون كيف نميّز بين كتابات المستشرقين بعضهم عن بعض، وجلهم أو أن غالبيتهم ارتبطوا بأعمال مشبوهة في الجيوش وملحقاتها وبين أولئك العاملين في حقول النفط ولهم ارتباطات بالأجهزة الاستعمارية؟
كانت الرغبة في دراسة مناطق قصيّة من العالم تجري في دمي. وعندما كنتُ طالباً بالدراسات العليا في جامعة (أكسفورد) عام 1965، قمتُ بتنظيم بعثةٍ رسمية من الجامعة إلى (كردستان العراق)، والتي استطعتُ أن أتدبر لها رعاية عن طريق شركة النفط العراقية(IPC). ولسوف يتوارد على الألسن ذكر شركة النفط العراقية، حيث أنها كانت شركة اتحادية احتكرت تجارة النفط في أجزاء كبيرة من الشرق الأوسط، بما فيها عُمان وإمارات الساحل المتصالح وقطر وحضرموت. وهكذا فقد تمكنت من الحصول على وظيفةٍ في الشركة في العراق عقب تخرجي عام 1957، حيث شهدتُ ثورة 1958، قبل أن ترسلني الشركة إلى لبنان لتلقي دروسٍ مكثفة في اللغة العربية. لقد شدّتني منذ البداية آثار الحضارات القديمة في هذه البلاد القصيّة، وسرعان ما بدأ شغفي بعُمان يتعاظم. وبعد انتهاء دروسي المكثفة في لبنان، قررت الشركة-دون رغبة- أن تبعثني إلى قطر، ثم أرسلتني بعد ذلك إلى أبوظبي عام 1960 إثر اكتشاف شركة النفط العراقية آبار نفطٍ هناك. وكما قال لي أحد القطريين ذات مرة: «أخيراً تحققت أمنيتك، وها أنت ذاهب نحو عُمان». نعم لم أكن قد ذهبت إلى عُمان بعد، ولكنها كانت البداية. أمضيتُ عامين في أبوظبي حين لم يكن هناك شارع واحد معبّد، وقد طوّرت لغتي العربية أثناء تلك الفترة حتى أصبحت أترجم للمسؤولين القادمين للتفاوض مع الحاكم. هذا وقد توقّد حماسي الأكاديمي عندما عملتُ مع البروفيسور(طوم جونستون) من كلية لندن للدراسات الشرقية والإفريقية التابعة لجامعة لندن، وساعدته في تجميع المعلومات المتعلقة بدراسته عن لهجات الخليج.
وفي الوقت نفسه، تخلّت شركة النفط العراقية عن هيمنتها، وسيطرت شركة «شل»- وهي فرع من الشركة الأولى- على أعمال النفط في عُمان. وهكذا فقد هجرتُ الشركة المحتضرة لأنتقل إلى شركة «شل العالمية»، والتي سرعان ما حاولت صناعة رجل تسويق منّي، فبعثتني إلى (لاوس). وما كان الأمر ليروقني، ولكني بُعثتُ أخيراً إلى عُمان في عام 1965، في الوقت الذي كانت تخطط فيه الشركة للبدء في الإنتاج، حيث شغلتُ منصب ممثل الإتصال في الإدارة، مترئساً شبكة من مساعدي الاتصال الذين كان عملهم يختصّ بالعلاقات المحلية. وبالإضافة إلى عملي في الحكومة المحلية، والأمن وشؤون القبائل، وخاصةً ما يتعلق بسياسة العمل، وحل المشاكل التي تظهر، والحصول على حقوقٍ في الأراضي من أجل مدّ خطوط الأنابيب من منطقة (فهود) والحقول المرافقة إلى آخر الخط على الساحل عبر ممر سمائل الجبلي، فقد كنتُ شديد الاهتمام بتقديم توجيهات للشركة فيما يتعلق بالوضع السياسي، ونتج عن ذلك ان سئمت التصرفات القائمة- حينها – في فترة الستينيات وازعجت السلطات انتقاداتي. مكثتُ هناك لمدة تقل عن العام، ولكن اهتمامي بعُمان في تلك الفترة كان عميقاً جداً فقررت العودة إلى (أوكسفورد) وكتابة رسالة دكتوراه عن «الاستقرار العربي في عُمان»، وحصلتُ على شهادة الدكتوراه عام 1969 من كلية الدراسات الشرقية. وفي تلك المرحلة، تحولت الجامعات البريطانية الى التخصص في نواح معينة من العالم، ولكن بدلاً من أن تأتي هذه الجامعات تحت مظلة قسمٍ واحد، فإنها توضع بين مجموعة من الأنظمة كالتاريخ والاقتصاد والجغرافيا..الخ. وكانت نتيجة ذلك أن حصلتُ على وظيفة محاضرٍ لتدريس جغرافيا الشرق الأوسط، وبقيتُ في هذه الوظيفة حتى تقاعدي عام 1997، رغم حصولي على ترقياتٍ عديدة لدرجة «قارئ» (Reader)(1) مع شهادة عضوية كاملة في كلية القديس (هيو) ، ومن ثم شهادة دكتوراه عليا في الأدب.
البروفيسور ويلكنسون بعد أربعين سنة من البحث والاسهام المتميز في حقل/ حقول الدراسات العُمانية ماذا تريد أن تقول وما الذي توصلت إليه؟
كانت بداية دراستي المكثفة لعُمان حينما أصبحت بروفيسورا، وقد خدمني كثيراً إنشاء وزارة التراث القومي والثقافة (آنذاك)، التي أعدت مجموعات قيّمة من المخطوطات العُمانية. وقد تمكنت من الإطلاع على هذه المخطوطات لمدة تقارب العشر سنوات، الأمر الذي مكّنني من نشر العديد من المؤلفات. هذا وقد انصبّ جلّ اهتمامي بالفترة التكوينية للأئمة الأوائل، الذين شهدوا تطور بناءٍ اقتصادي اجتماعي جديد، ونظّموا أموراً شديدة الأهمية وعملية كتطوير نظم ريٍّ غير مستخدمة، والعقود، وملكية الأراضي، والتجارة الخارجية، حيث أدى ازدهار ميناء (صحار) إلى ازدياد الحاجة إلى سنّ قوانين تخصّ شؤون مثيرة للجدل كمضاعفة الضرائب، وفرض التزامات على أصحاب السفن والتجار بشأن البضائع التي ينقلونها، والظروف التي تسير عملية التجارة فيها في البلاد غير الخاضعة لحكم الإسلام، وهي تحديداً الهند وشرق أفريقيا وغيرهما. إضافة إلى ذلك فقد كنت مهتماً بتقصي أصول المذهب الإباضي في البصرة أولاً، ثم انتشاره مع روّاده من «حملة العلم» في عُمان والمغرب وأجزاء من بلاد فارس واليمن وحضرموت، وبعد ذلك تشكيل عقيدته في جوامع الحديث الشريف. وفوق ذلك كله فقد كنتُ مهتماً بنظام الإمامة، الذي أهّل العُمانيين للحفاظ على استقلاليتهم عن باقي العالم الإسلامي، على الرغم من التزامهم بمبادئ المذهب السنّي فيما يتعلق بأمور الحياة الأخرى فيما عدا حكم الجماعة (الإمامة). دفعني ذلك حتماً إلى الاهتمام بمظاهر حديثة أخرى للنهضة. وقد قمت أثناء إجراء بحوثي بزيارة وادي ميزاب بالجزائر، حيث توجد مجموعة ثرية من المخطوطات التي أرسلها علماء عُمانيون، علاوةً على الكتب التي دوّنها علماء إباضيون من أهل (ميزاب). هذا وقد قضيتُ فترةً في (زنجبار) أيضاً، ألّفت بعدها كتابين هما: «الماء واستقرار القبائل» عام 1977، و«نظام الإمامة في عُمان» عام 1987، إلى جانب عدد كبير من المقالات في مجلات متخصصة وفصولٍ من بعض الكتب.
إصداراتك وبحوثك ودراساتك وأوراقك، أين هي؟
لسوء الحظ فقد كانت بعض دراساتي لا تروق للبعض، حيث مُنعت كتبي، وأضحيتُ أنا شخصاً غير مرغوب فيه منذ عام 1982. ربما لا يكون ذلك مفاجئاً، حيث كانت ذكريات الأحداث الأخيرة في عُمان حديثة العهد، وقد ارتأت الحكومة تشجيع نشر الصورة التاريخية لعُمان على أنها ملتقى البحارة والتجار (كقصص رحلات السندباد)، ومن جانب آخر تغيير النظم القديمة في الداخل، وتخفيف حدة الحساسية المتعلقة بنظام الإمامة. بعد ذلك وبقيادة جلالة السلطان قابوس، اندملت الجروح القديمة وبدأ إعداد جيلٍ من العُمانيين ينظرون إلى تاريخهم بموضوعية دون تعصب أو حساسيات. أما من وجهة نظري، فقد كان ذلك بمثابة قطعٍ لخيط بحوثي القديمة. لذا تحوّل مجرى اهتمامي ومجال تخصصي إلى حقولٍ جديدة عام 1981، وبالتحديد تاريخ حدود جزيرة العرب، إضافةً إلى أحداث التوسّع العُماني من (زنجبار) إلى وسط أفريقيا في منتصف القرن التاسع عشر بحثاً عن مصادر جديدة للعاج، الذي طالما كان لعاب الأوروبيين يسيل له. بعد ذلك دفعتني هذه الدراسات إلى تقصي تاريخ إمبراطورية (ليوبولد الثاني) الخاصة «دولة الكونغو الحرة»- والتي عُرفت لاحقاً باسم «الكونغو البلجيكية»- وتنافس (ليوبولد) مع الفرنسيين والبريطانيين. مما أدّى ذلك بالطبع إلى تحول دراستي عن البحث في تاريخ عُمان، غير أني أتمنى أن أكمل كتابي عن «العرب والتزاحم على أفريقيا».
إلا انني منذ أن تقاعدت أصبحت كلّ الموارد التي أستقي منها المعلومات من أوروبا، وتحديداً من (فرنسا) التي أقيم فيها.
كيف تجددت زيارتك الحالية لعُمان؟ هل هي زيارة استذكار وحنين أم ثمة عمل لتجديد حضور دراساتك لتكون بين يديّ القارئ؟
كم أنا سعيدٌ لتجديد علاقتي بهذا البلد، إلا أنني أشعر في الوقت نفسه بالخجل من عدم قدرتي على التحدث بالعربية، وأجدني قد فقدتُ تماماً ما كان في متناول يدي منذ عشرين عاما، حيث أنني لم أعد أستطيع الدخول في حوارٍ مع الباحثين المعاصرين.
هناك مشكلةٌ كبرى تتمثل في أن شيئاً من مؤلفاتي لم يتوفر في عُمان، ولم يقرأ ما كتبت إلا نفر قليل من الباحثين الذين درسوا في الخارج. لقد تطرّقتُ في مؤلفاتي إلى عديدٍ من القضايا، فعلى سبيل المثال تجد في كتابي «الماء واستقرار القبائل» إجابات لكثيرٍ من الأسئلة التي قد تطرأ ببالك حول نظم الريّ. ففي كتابي هذا تجد دراسة مفصلة لأصول نظم الريّ في عُمان، وتطوّر البنى الاجتماعية، ونظام امتلاك الأراضي في القرى عقب هجر أنظمة الحكم السائد قبيل الإسلام، وسيادة نظام القبائل. وقد أعدت كتابة هذه الدراسة بعد بحثٍ ميداني مكثف، ودراسةٍ لأحكام العلماء قبل 1500 عام، ودلائل تحويل الفلج(تحديداً فلج المالكي بإزكي الذي تابعتُ تحول الماء فيه من عام 1825 إلى 1875، مستغرقاً ما يربو على الستة أشهر لإتمام هذه الدراسة). ولا علاقة لهذه الدراسة بالمقتطفات التي أخذتها وزارة التراث القومي والثقافة (آنذاك) من مؤلفاتي ونشرتها عام 1980 دون علمي، وحذفت منها كل ما يتعلق بمرحلة ما قبل الإسلام، ونظام القبائل، والمذهب الإباضي. وعلى الرغم من ذلك، تبقى هذه المقتطفات الشيء الوحيد الموجود في عُمان من مؤلفاتي. وقد التقيتُ خلال زيارتي القصيرة بشخصٍ من (إزكي) نُشرت له ثلاثة كتب عن تاريخ الاستيطان (القرى الصغيرة) في منطقته، وقد اطّلع مؤخراً فقط على جزءٍ من دراستي الأصلية- والتي راجعتها في وقتٍ لاحق- وأخذته الدهشة عندما وجد أنني قد فصّلتُ عن منطقته وكانت تلك التفاصيل جديدة عليه. إن هذه الدراسة و«نظام الإمامة» و«حدود جزيرة العرب» لم تر النور في عُمان مثلها مثل المقالات التخصصية، والتي هي في كل الأحوال ليست في متناول يد الجميع إلا نفر قليل من الباحثين الذين لديهم معرفة واسعة باللغة الإنجليزية.
الماء الشغل الشاغل لسكان عُمان منذ القدم وحتى الآن وسيشكل وضعاً خاصاً لدراسة المكان من خلال كتبك، خصـــوصاً «الأفــــلاج ووسائــل الــري فـــي عُمان» والذي طبعته وزارة التراث القومي والثقافة (آنذاك)، (بهذا العنوان).. هـــــــل فـــي رأيك المكان يتحمل حياة (متسعة، تكبر) لتستوعب حياة مدنية وزراعية غير تقليدية.
بمعنى هل يمكن تكّون مجتمع كبير في ظل ظروف وأوضاع مائية شحيحة، وظروف جغرافية وبيئية ذات طقس حار طوال العام؟
تسألني عن الريّ والتطور الحديث. صحيحٌ أن القبائل والأفلاج والنخيل والجِمال وغيرها هي من أعراف الماضي، وقد تسأل: ما الذي يريده «العارف» من تتبع النجوم لمعرفة الوقت في حين تؤدي الساعة هذه المهمة ببساطة ودقة؟ ولكن هناك حقيقة باقية مفادها أن للعُمانيين جذوراً متأصلة في تاريخ القبائل والأرض، وما فعلته أنا-كما أتمنى- هو محاولة لتسجيل تفاصيل هذا التاريخ للأجيال القادمة. وأذكر في هذا المقام كاتباً فرنسياً في نهاية القرن التاسع عشر ألّف كتاباً رائعاً بعنوان «من لا جذور لهم» يرثي فيه لحال المجتمع الفرنسي الذي تم اقتلاعه من جذوره التاريخية بسبب التحولات التي نتجت من تمركز القوى في العاصمة. وعلى الرغم من ذلك، فقد بقي ثلث السكان الفرنسيين على عملهم بالزراعة. ليس هناك من داعٍ للخجل من حياة القرى، والزراعة، والروابط المحلية. وعلى العكس تماماً، لا يمكن اليوم فهم المجتمع الفرنسي دون تقدير تأصّل الوجدان الفرنسي في «تربته». عندما تصف نفسك على أنك ذا أصولٍ قروية، فإنك بذلك تكسب شرفاً بين الناس. إن الفرنسيين ينتقدون عظماء الشخصيات التاريخية مثل (لويس الرابع عشر) و(نابليون) وحتى (شارل ديجول)، إلا أنهم جدّ فخورين بهم في الوقت نفسه، لأنهم عموماً يمثلون تاريخ الشعب الفرنسي. إن الأرض والتاريخ يمثلان أصل كل أمة، ولكن ذلك لا يعني أنها لا تستطيع التقدم والتطور. لقد مرّت عُمان في عهد السلطان قابوس بتحولٍ يفوق في سرعته سرعة التطور الذي حدث في أوروبا. وقد يُعزى غياب التطور في عُمان قبل العام 1970 إلى التأثير البريطاني في المنطقة، ونظام الحكم السابق.
إن التغيرات التي شهدتُها في عُمان منذ أن قدمتُ إليها عام 1965- وكذلك التغيرات في أبوظبي في عهد الشيخ شخبوط حيث أقمتُ هناك منذ عام 1960 إلى 1962- تبدو وكأنها خلقت دولاً جديدة. ولا يعود ذلك إلى التغير الاقتصادي والاجتماعي فحسب، بل الديموغرافي كذلك، حيث أن معدلات نمو عدد السكان هي من بين أعلى المعدلات في العالم، الأمر الذي أدى إلى طمور سريع لأساليب الحياة القديمة، ففي مجتمع عجوزٍ كالمجتمع الأوروبي، تبقى الذكريات عالقةً في الأذهان طويلاً، ولكن في المجتمعات الفتيّة نجد الناس مهتمين بالحاضر ولا يعرفون الكثير عن أساليب حياة أسلافهم. هذا وقد أدّى نزوح العُمانيين من القرى نحو العاصمة إلى انفصالهم عن جذورهم على بعض المستويات. وهنا تحضر ذكرى نبوءة ملكٍ إنجليزي في القرن السابع عشر حينما قال: «عما قريب ستكون لندن كل إنجلترا»، إلا أن نبوءته لم تصدق، فالتقدم الحقيقي يحثّ الشعب في الوطن بأكمله. ومن الأمور المبهجة التي رأيتها في عُمان خلال زيارتي القصيرة هذه أن العُمانيين وبفضل شبكة الطرق الجيدة مازالوا يعودون إلى قراهم ومواطنهم الاصلية خارج العاصمة- على الأقل في إجازات نهاية الأسبوع. ومن المهم أن تظل حياة المجتمع والقرية باقية، ولن يعتمد ذلك بالطبع على الزراعة كالسابق، فموارد المياه وحدها غير كافية مع تزايد استنزافها. لذا؟، فإنه من المستحسن الاستمرار في استغلال خيرات الأرض، وتشجيع ملاّك الأراضي (من غير العاملين بالزراعة)، وإنشاء جمعيات تعاونية للإنتاج المحلي وتسويق الفواكه والخضروات والدواجن واللحوم. وإنها لمدعاةٌ للأسف إن أدى سوء استخدام موارد المياه إلى جفاف الأفلاج، فهذه الأفلاج جزءٌ من تراث الحضارة العُمانية، حيث أن بعض قنوات الأفلاج كالداودي مثلاً تعود الى ما قبل 1500 سنة. لذلك يجب بذل الجهد في الحفاظ على انسياب الأفلاج الهامة، إلا أن كثيراً من تلك غير الأساسية سوف يتعرض للهجر مع مرور الأيام.
إن المجتمع هو الأكثر أهمية، لاستغلال خيرات الأرض، وعليه فإنه يجب السعي إلى بذل الجهد وتوظيف الأموال لإبقاء الديناميكية الاجتماعية للقرى، وكذلك الحياة البدوية حتى لو أصبحت معالم هذه القرى مدنية المظهر أكثر منها قروية. هذا وقد لعب انتشار أجهزة الحاسوب دوراً في توزيع السكان أكبر من دور الزراعة أو الصناعة في هذه الأيام، ففي منطقة الألب الفرنسية حيث أقيم حالياً معظم أيام السنة، هناك إنجليز يديرون من داخل «شاليهاتهم» مشاريع حفرٍ في بحر الشمال.
ختاما.. تطالعنا اسهاماتك في حقل الدراسات العمانية باضافات نوعية كيف تقرأ هذه الدعوة، وما الذي تتمناه؟
إنني جدّ سعيد لأنني قد دُعيت مرةً أخرى إلى عُمان بعد غيابٍ طويل. ليس لديّ من تعلقٍ عاطفي بالماضي، وإن كنتُ قد تخصصتُ في التراث العُماني. إن للعُمانيين خصالا شهدتها مرةً أخرى في هذه الزيارة القصيرة، وأتمنى أن لا يتخلوا عنها. لقد أهديتُ كتابي الأول للشعب العُماني-بعد شكر الأفراد والمؤسسات التي قدمت لي يد المساعدة- بالكلمات التالية:
«ولكن في النهاية، أقول بأني مدينٌ للشعب العُماني بالامتنان والعرفان، لأنه لولا خصال بلادهم، وصداقتهم، وكرم ضيافتهم، وكياستهم التي احتضنوني بها، لما رغبتُ في كتابة هذه الدراسة. وأما بعد فإنني أهديهم هذا الكتاب وأستميحهم عذراً إن شابه بعض التقصير».
إنه ليكفيني أن ساعدتُ في تسجيل وتفسير تاريخ وجغرافية عُمان، إضافةً إلى تكوينها الاجتماعي والسياسي في الماضي، وأمنيتي الوحيدة هي أن يصل في يومٍ من الأيام ما كتبته إلى من يعنيهم الأمر فعلاً، وهم العُمانيون أنفسهم.
حوار: طالب المعمري
ترجمة: أحمد حسن المعيني
كاتب وأكاديمي من عُمان