انمساخ، ربما هي الكلمة المناسبة؛ تشوه في كلا الأمرين، وتشويه متبادل متعمد مع سبق الإصرار والغفلة، فأنت تغذي بطيبة ساذجة وتفاؤل هش وحشين في داخلك ثم تدعهما يكبران ويتصارعان عليك كل بأدواته التي تقوم أنت بشحذها مع تعاقب الأيام والليالي، ويكون الأوان قد فات حين تفهم ما اقترفت يداك وحين ينجلي ضباب الآمال الخادعة، إذ تكون داخل اللعبتين معاً وغير قادر أن تترك مسرح الأحداث؛ فكل منهما مشروع مستقل، وكل منهما يكبر بحيث يصبح من الصعب التخلي عنه، ولأن كلا الوحشين واللعبتين والمسرحين والمشروعين مختلفان فإنهما يتناوبان نهشك كل مرة وإلهاءك وإبهارك ودغدغة شعورك بالإنجاز، وحين تطمئن نفسك إلى أحدهما وتحاول أن تنساق بكاملك باتجاهه تكتشف ترصد الآخر ورغبته في الانقضاض، لذا لا يكون بمقدورك أحياناً سوى أن تجلس في كرسيك وتضع رجلاً على رجل وتتفرج على الملهاة والمأساة وهما تتبادلان الأدوار بلا حول منك ولا قوة، بل إن كلمة تتبادلان ليست في محلها هنا؛ فهي تشير إلى أن ثمة صعوداً وهبوطاً متناوبين على خشبة المسرح؛ يصعد الطبيب فيهبط الفنان ثم يهبط الطبيب ليصعد الفنان، إلا أن الأمر أعقد من ذلك وأكثر وحشية وأبلغ في الفوضى وأشد في الإرباك؛ فليس في الأمر تبادل أدوار، ولا أن تلبس قبعة من قبعات دي بونو وتخلع أخرى، ولا أن يظهر الدكتور جيكل فيختفي المستر هايد ثم يتبادلان الظهور والاختفاء في حركة بندولية أبدية؛ فحركة الأدوار نفسها تحتاج إلى مخرج حصيف والمخرج الحصيف ذلك الذي تركناه على الكرسي واضعاً رجلاً على رجل فاتحاً يديه في حركة من لا يستطيع ان يفعل شيئاً ليس مخرجاً هو الآخر وليس حصيفاً بطبيعة الحال وهو مشارك بقدر ما هو متفرج ومخرج بقدر ما هو إمعة. وهكذا، مع كل هذا الشواش لا يعود معنى لمحاولة المشاركة ولا التنصل، ولا تعود هناك إمكانية إلا بالسير الحثيث باتجاه ما سيكون أيا كان ما سيكونه هذا؛ فَكُرَة الأقدار تتدحرج في سبيلها مُنقصة حيناً ومُزيدة حيناً آخر ولا يكون بمقدور الكائن إيقافها ولا زحزحتها عن مسارها. صحيح أنك تستطيع أن توجه شعاع وعيك باتجاه شيء ما كل مرة إلا أنك تفعل هذا على سطح الأشياء وفي ظاهرها وعلى تمظهراتها فحسب، أما في الكينونة العامة للكائن وفي عمق أعماقه فأنت مبني بطريقة متشابكة ومتداخلة ومتناسجة لا تلتفت للتقسيمات الفوقية المصطنعة ولا للديكورات الخارجية البراقة التي تزركش وجه العالم، وحتى حين توجه شعاع الوعي فإنما البناء الداخلي هو من يقدر كمية الضوء المتاحة وحركة التوجيه وزاويته بل ويغير من طبيعة الشيء ذاته. وقد يحدث مثل هذا الشواش حتى حين يكون الفنان مشتغلاً بأمر آخر غير الطب طبعاً إلا أن الأمر هنا أبلغ في تجلياته، ذلك لأن الفن كينونة يسارية فيما يميل الجميع إلى إعطاء الطب صفة يمينية بحتة؛ فهناك دائما بالضرورة وبالتعريف وبالواقع فجوة بين هذين العملين البشريين، فجوة في المبدأ والمنتهى وفي سيرورة كل منهما وفي الضرورة التي تجعل منهما مهمين للذات والآخر وفي رؤية الآخر لهما ولفاعلهما، فالفن ضدي وعكسي وثوري وتحرري وانزلاقي ولا متوافق ومضاد للمؤسسة ومنفلت من العقال وميال إلى الفوضى وغير مأمون الجانب والعواقب ولا يمكن التعويل عليه من قبل مجموعة الكائنات المتعايشة مع بعضها وهدام ومقوض وأناني ولا يعترف بالآخر إلا بقدر أن يعترف به ولا يميل للفهم بل إلى التقرير والتسلط ولا يحب المواطنة والمواءمة والتعايش والتوسط والتسويات ولا يعترف بالسقوف فحتى السماء لا تشكل له سقفا ولا منتهى، ولا يعترف كذلك بالخطوط الحمراء ولا بالألوان الأخرى إلا بقدر جمالها ومدى إثارتها للحساسية والتذوق، وحتما ليس أخلاقيا بالمعنى الاجتماعي للكلمة ولا علميا أو قياسيا ولا يمكن معايرته ولا جعله نظاميا ولا يبدو أنه متوافق أصلا مع الحياة المجتمعية بل كأنه نابع من أصول قبل مجتمعية أو لا مجتمعية، لذلك يميل الآخرون إلى وضع الفنان في الفئة المجنونة والمنفلتة والمتزندقة والكافرة والهائمة والغاوية حتى لو كان فنه ملتزماً ومتوائماً مع ما حوله ونسقياً ومجارياً ومسالماً و”يمشي جنب الحيط” لأنهم يتوقعون منه الأسوأ من حيث الأخلاق والسلوك والأجمل من حيث الكتابة والنتاج، وهم حين يضعونه في هذا السياق فإنهم بطريقة ما يحققون أمرين معاً؛ فهم ينفونه ويغلفونه بحيث لا يؤثر في عاديتهم وجوانب حياتهم مع الحفاظ على إمكانية ان يتذوقوا جمال فنه، وهم يمنحونه إمكانية أن يكون مختلفاً عنهم وأن يحقق نفسه بالانفلات عنهم والنأي بعيدا عن جانبهم، لذا فعلاقتهم معه علاقة مشوبة بالحذر والحقد والحسد والعداء المبطن والحب والكره والتخلي والتعلق، وهم يحاولون أن يفهموه بوضعهم له في الفئة المجنونة والمختلفة ويزيدون على ذلك أن يعزوا عظمته إلى طبيعة شيطانية أو ملكات فوق طبيعية فهذا يجعلهم عاديين غير محظوظين لا عاديين كسالى، وهم يتوقعون من شياطينه أو جنه أو عبقريته أن تكون مختلفة عن العادي لكنهم مع هذا يفعلون ذلك على الجانب النظري أو البعيد؛ أي بمعرفة اسم الفنان فقط وكتابته التي من كلمات وأفكار لا بالتعامل مع شخصه الذي من لحم ودم وأطراف ووجه، فلو أنهم عرفوا الفنان وجهاً لوجه أو لو أن تصاريف الأقدار المتخابثة جعلتهم يلتقوه أو يعملوا معه فإنهم يناصبونه العداء لأنه بالطبيعة التي للفن والكتابة ليس مهيأ للتعايش الاجتماعي ولا أن يبتسم تلك الابتسامات التي تقدر ميزة تبادل الفوائد وتمنح التسويات بسخاء؛ فنداءات البرية المتحدرة من أسلافه ساكني الكهوف المظلمة النائية تناديه وهي متطلبة ونزقة ولَحوح وغير قابلة للوفاق ولا ترضى بوسطية التسويات ولا بوسطية القناعة المسالمة، أما طبيعة علاقتهم بالطبيب فأمر آخر بل قد تكون على النقيض تماما؛ فهم يحملونه أحمالاً قيادية ويجعلون منه مثالاً يحتذى ويضعون فيه آمالاً ويتوهمون فيه انضباطاً وحسناً وخيراً وخلقاً ووسطية وذكاء غير ما هو حاصل فيه، وهم يلجؤون إليه ويسألونه فهو يغذيهم ويغذي سلوكهم بما هو مناسب وواقعي وجيد ومفيد، فلا التباس في طبيعة العلاقة معه ولا شواش ولا ازدواجية الحب والكره وغموضهما، وهم يتوقعون منه ان يكون ذا فائدة لهم وريعياً كل الوقت بل وأن يرجئ حاجته في سبيل تحقيق حاجاتهم، فخاصية الإيثار تغلب على تصوراتهم له وتقود التصورات الأخرى المصاحبة، وهو إلى ذلك صناعة مجتمعية مؤسساتية وعلمية إلى حد ما وإن كانت علمية واقعية وليست علمية نظرية أو أكاديمية، لذلك وإن استطاع الطبيب أن يقول داخله أنه من صنع نفسه إلا أنه يدرك أن صناعته هذه جاءت من الخارج وبرعاية برانية، وعليه بالتالي أن يضع نفسه داخل الحدود المعطاة له والمتخيلة في أذهان المجتمع ولا يمكنه أن يتجاوزها، وعليه يكون ممتناً وشاكراً ومبتسماً برفق وتؤدة بعكس الفنان الذي وإن صنعه الخارج أو شارك في صنعه فإن العوامل الداخلية تكون أوضح في بنائه، ولذا لا يرى في تصوره الأناني هذا أنه ملزم بطريقة أو بأخرى لفعل ما يتطلبه الآخرون أو أن يغرس نفسه ضمن حدود تصورات المجموع عنه حتى وإن أتاحت له هذه التصورات حرية مفتوحة، بيد أنه حين ينفلت عن التصورات ويخرج عن المتوقعات فإنما ليذهب أبعد في الانفلات فكأنما يذهب أبعد وأعمق تاركاً الآخرين يولولون حتى حين، فلن يطول بهم الوقت حتى يروا مجدداً أن تصرفه ليس غريباً أو غير متوقع بل إنهم إنما فهموه خطآ ووضعوا حدوداً له أدنى مما يجب وإنما يرجع العوار إليهم، وهكذا يجد المرء نفسه من حيث تصورات الآخرين عنه على الأقل واقعاً في معضلة لا فكاك منها، وأياً كانت طريقة التسوية التي تتفعل داخله مع مرور الأيام فإنه يظل مرتبكاً ومُقلقَلاً ومزدوج الرؤية، فكل تصرف في جانب هو بالضرورة تخريب للصورة في الجانب الآخر، وكل سلوك يدمر نمط الجانب الآخر، وربما تتصعد المعضلة حين يلتقي الفنان شخصاً كان التقاه وهو يمارس دور الطبيب أو العكس؛ فاللقاء ذاته يشير بطبيعته إلى نوع من التصنع حتى وإن لم يدرك الرائي الخارجي ذلك، هذا التصنع أو الاختلاف في المعايير أو التقنع مربك لا محالة، وهو مربك ليس لأنه تصنع أو انعدام أصالة بل لأنه مجاف للطبيعة التي تميل إلى الانسجام والتوافق ومحاولة تبني البعد الواحد، ولا يمكن بالطبع أن يحمل المرء لوحة تعلن عن حالته الراهنة؛ “في حالة الفنان أرجو أن تبتعدوا عني وإلا أصبتم بما لا تحبون” أو “في حالة الطبيب هيا هلموا إليّ”، وما يزيد الطين بلة أنه في الوضع الملتبس لدينا في بلدنا من حيث عدم تحدد وضع المدينة أهي مدينة بحق أم مجموعة قرى، وهل هي تجمعات تتحضر أم قبائل تعيد تشكيل ذواتها بواجهات مختلفة قليلاً، في هذا الوضع لا يكون هناك مجال لممارسة الأدوار بعيداً عن العيون المراقبة والمترصدة، فلا يمكنك أن تكون شيئاً في وقت وشيئاً آخر في وقت آخر، أي أن تمارس التقسيم الزماني والمكاني للمجالين داخل نفسك فتعطي ما للطبيب للطبيب وما للفنان للفنان، لأنك إنما واقع لا محالة تحت مرمى ذات العيون، ولو أن العالم كان أوسع قليلاً والأشخاص كانوا أكثر قليلاً فلربما استطاع المرء أن يفلت بفعلته التقسيمية هذه، ولو أن العيون تلك كانت عيوناً مدنية متحضرة يهمها ما أمامها فحسب فلا تتدخل فيما لا يعنيها ولا تدس أنفها في الشؤون الداخلية للأفراد اللاهين والغافلين في دروب هذه الحياة التي تتلوى أبداً فلربما حينها وحينها فقط كان الأمر أيسر ولربما آنها وآنها فقط تحقق شيئا من السلام الداخلي بين الجانبين الداخليين المتنازعين على الكائن، إلا أن الوضع أعقد والقدرة على الانفلات صعبة بل ومعدومة ومستحيلة أحياناً، وهكذا لا يفسح المجال الزماني ولا المكاني التملص، ويُلزم الفرد بلعب أدوار متقاربة وثابتة مهما كان نأيها عن بعضها، ولأن الطبيب هو القائم بدور الراعي المالي ويوفر سبل العيش وهو اقرب للمجموع ويشارك في البناء المتخيل للعالم بإيجابية وإن كانت إيجابية مفتعلة ومفبركة فلا شك أن ثمة ميل لأخذه مأخذ الجد وتغليبه حين يصبح الصراع محتماً في بعض الأحيان، أما الفنان فعليه أن يبحث عن مخبأ أو ملجأ أو وكر، ويا حبذا لو كان هذا المخبأ بعيداً عن كل عين تدقق وكل أذن تتسمع وكل أنف تتشمم، وأن يتقوقع على ذاته الجَفول، إلا أنه بتخفيه وتقوقعه على أناه هذا يُسقِط من أهمية ما يقوم به ويضعه في المحل الثاني والآخر والأقل، وتلك خطيئة كبرى بحق الفن ذاته، وعلى الفن بعدها أن يردّ على هذه الإهانة رداً شديد اللهجة، فإما أن يدفع الطبيعة التي للفن إلى السطح في محاولة لكسب الصراع أو أن يقلل من كمية الإبداع أو حدته، هكذا يجد الفنان نفسه محاصراً ومُغلَّفاً ومقيداً وموضوعاً على المحك ومجبراً على الالتزام ومُسيّراً ببرنامج إرشادات وكتيب تعاليم، وهل أشد تحطيماً للفن من برنامج معد مسبقاً؟ وعلى هذا وبسبب هذا التوتر الدائب الغليان مع كل المحاولات للتسوية والتأقلم فلا بد أن يصل المرء بالضرورة إلى نقطة انكسار فيها يتقرر كيف يجب أن يعيش الكائن، وعند هذه النقطة يُضحّي بالأقل شأناً في محاولة لترك الجانب المستبد ينطلق في سبيل حاله، ولا يعني هذا أنه يمكن فعل ذلك من غير جراح مستدمية وانمساخ أبدي، فالكائن ذو البعد الواحد أنجح من ذي البعدين وأقصد في هدفه وأحث سيراً وأبعد همة وأوضح سبيلاً.