حسين العبري كاتب قصة ورواية من عمان، ولد عام 1974 ، في ولاية الحمراء. نشر عام 2000 روايته الأولى بعنوان ديازيبام، عن دار الحوار في سوريا. ونشر عن نفس الدار مجموعته القصصية المعنونة بنوافذ وأغطية وأشياء أخرى. له أيضا رواية الوخز، عام 2006، ورواية المعلّقة الأخيرة، عام 2007، المنشورتان عن مؤسسة الانتشار العربي، في بيروت، إضافة إلى بعض القصص القصيرة والمقالات التي نشرت في الجرائد المحلية. يعمل الآن طبيبا اختصاصيّا في الطب النفسي بمستشفى الأمراض النفسية العام في مسقط.
** . . . . . . . . . . . . . .؟
الحق أنني لا أدري. فلا رؤية واضحة لديّ بعدُ. وأقول بعدُ؛ لأنني ما زلت أؤمّل النفس بأن أصبح واحدا من أولئك الذين حين سؤالهم عن لماذا يكتبون، يتفتّقون بأقوال غريبة غير مقنعة البتة، وتَمُتُّ إلى الشخصيّ فيهم، بحيث أن مقارنتها مع ما يفعله سائق تاكسي مثلا، أو بائع خضار، لن يكون من قبيل السخرية المحض؛ فلماذا يبيع بائع الخضار الخضار؟ ولماذا يسوق سائق التاكسي التاكسي؟ طبعا قد تكون هناك أسباب للبدايات، وعلل يمكن تقصّيها في الطفولة وفي المدرسة، ويمكن الاستناد كما يفعل الرّواة إلى كلمات طفولية قذفها الطفل، الذي يدّخره القدر ليكون كاتبا، ذات مساء، لكن الطفولة حمّالة أوجه، ويمكن أن يستتبعها كل ما هو ممكن من أعمال إنسانية سواء أكانت هذه الأعمال إجرامية أم كانت ممجدة للخير. ومشكلة الطفولة في عقل الكاتب أنها مُعادة الصياغة ومُحوَّرة ومُلوَّثة بالحاضر، فهي حينها ليست بالموضوعية، ولا تملك القدرة على الشرح. لكنْ حتى هذه البدايات والعلل التي أدّتْ بالمرء (أو أودتْ به) أن يكون كاتبا، هي علل لنقطة البداية فحسب، لكن لماذا يستمر الكاتب في كتابته؟ أي إذا كانت البداية ملقاة على عاتق القدر والطفولة والأبوين والمجتمع، وربما قليلا أو كثيرا على الوراثة، فإنني ألمحُ أن في الاستمرار عليها شيئا من الحرية في الاختيار، هكذا أضعها إذن: البداية جبر والاستمرار فيه شيء من تخيير. بيد أنني متجاوزا لما قلتُه قبل قليل، حاولتُ مراتٍ كثيرة أن أعرف ما الذي يشدني للكتابة فوجدتُ أنه من الضرورة أنه حين يكون شيء ما شادا للشخص أن يوجد في هذا الشيء متعة أو لذة من نوع ما. وهذه اللذة هي التي تضمن عودة المرء إلى الكتابة مجددا. ألكتابة إذن قطعة الحلوى التي يلتهمها الكاتب فيتلذذ بها ويعود إليها مجددا؟ والقضية لا تعدو حينئذ أن تكون مجرد سلوك جد بدائي ملخّصه: الحلوى! سآكل مجددا، أو الحلوى! أنا آكلها مجددا (إن حاولنا أن نزيح الوعي من العملية). حتما سيشاركني الرأي العديد ممن يمارسون (الغريب أن كلمة الممارسة مرتبطة في الوعي بالممارسة الجنسية سريّها وعلنيّها، لعلها مقاربة للذة العقلية بلذة جسدية) الكتابة، أن في الكتابة أيضا مرارة تفوق في معظم أحايينها اللذة المُتحصَّل عليها. وعلى هذا فإن كانت الكتابة عودةً لممارسة شيء فهي عودة للّذة والألم على حد سواء، إنها بالتالي إدمان من نوع ما: مثل ما هو إدمان المقامرة أو المخدرات، فقد تكون اللذة السبب المهيمن للعودة، لكن كامل السلوك المنبني حول نواة اللذة هذه هو ألم بامتياز. فما الذي هو لذيذ في الكتابة ليجعلني أكتب؟ سأحاول متجردا من كل ما هو غير مُجدٍ وغير مناسب ولا أخلاقي، وينبغي إخفاؤه في سبيل نهضتي ككاتب، أن أستقصي اللّذات التي تحصلت عليها وقت ابتدأتُ أكتب، ولا أقول أنني كنت أنوي التحصل عليها لأنني لا أعرف يقينا ما كنت أفكر فيه حينها، إضافة إلى أنني لا أجيد كتابة مذكراتي، بسبب الكسل المتأصل في جلدتي، والتي يمكن أن تكون عونا لي في القبض على مشاعري المبثوثة في الأيام بدقة. حسنا، كانت هناك، بدايةً، محاولة لمجاراة كتّاب آخرين، هؤلاء كتبوا أشياء جميلة، إنهم عظماء أو أنتجوا أشياء عدّتها البشرية، صوابا أو خطأ، عظيمة. وهؤلاء العظماء الذين أنتجوا لنا ما أنتجوا من كتابات كانوا هم مبتدئون في نقطة زمنية ما (لنا بالطبع أن نستثني أولئك الذين تبدّت عبقرياتهم، بشكل مزعج، وهم في سن المراهقة، وحين كتبوا أبدعوا كما لو كانوا يكتبون منذ اختلاقهم في أرحام أمهاتهم)، وإذن العظمة ليست بما صار إليه هؤلاء فحسب، وهي ليست وليدة عبقرية لا تبارى، وبالتالي فشيء من المحاولة الجادة والمثابرة الدؤوبة مع وجود الأدوات الذهنية الرئيسة قد تكون كافية تماما لخلق عظيم آخر. وحسنا، فهناك قلة الوعي؛ فشخص يخطو خطواته الأولى في الطريق الوعر والشاق الذي تشكله الكتابة لا بد أن يكون قليل وعي بالأخطار والعوائق وصعوبات الرحلة، لكنه بسبب من قلة وعيه هذا، وببساطة تخيلاته، وضيق رؤيته، يحسب أنه في الطريق الصحيح. وسيبدأ في تلقي الصفعات الواقعية شيئا فشيئا (كما طفل ينمو في العالم الواقعي)، المهم أن تكون هذه الصفعات صغيرة ومقدور عليها كل مرة لأنها لو جاءت بدفعات أكبر قليلا لتحطمت كل الأحلام. وعموما، فإن من الاستراتيجيات التي أتّبعُها حين أفاجأ بعبقرية كتابية لا تضاهى، كقراءة مدام بوفاري مثلا، أو الأخوة كرامازوف، أن أعود إلى كتابات هذه العبقريات الأولى لأتصيد الأخطاء، وأربّت على كتفي صديقي الكاتبين، وأقول لهما: «إلى الأمام! سوف أقرأ لكما بعد زمن كتبكما العظيمة، فلا تخشيا من ظلم ذوي القربى، ولا من عَنَت الزمن القاهر، ولتقفْ على طاولتك أيها السيد فلوبير! ولتُمْضِ سنوات سجنك أيها السيد ديستويفسكي! فأنا منتظركما». وحسنا أيضا، فهناك الأساتذة المجاملون، أو النقاد الأبويّون، الذين تَحمرُّ وجناتهم حين تُلقي بين أيديهم لفافات كتاباتك الأولى، يحرجون فلا يُفصحون عن امتعاظاتهم، وعن سوء الأسلوب وركاكة اللغة فيما يقرأون، بل إنهم يشدّون على يديْك، ويحاولون ببسمة متواطئة أن يجعلوا منك الكاتب المنتظر: « تمتلك الأدوات لا شك.. مزيد من القراءة هنا وقليلا من القراءة هناك.. في الدرب الصحيح ولكن ثمة عقبات بسيطة.. يعجبني تدفق الأفكار.. تعجبني قدرتك على السرد الشاعرية التي تتلبس الشخصيات بوضوح، ونحو ذلك من الهراء الذي يجيده النقاد الأقل شأنا. هؤلاء النقاد، أو الأساتذة المحكَّمُون، والمربِّتون على ظهور الناشئة، هم الذين تنتصب على أكتافهم خطيئة وجود العدد الضخم من الكُتّاب المحاولين، ولكنها ليست خطيئة لا غفران لها؛ فكاتب جيد واحد من آلاف الكتّاب لجدير في سبيله، في رأيي، أن يُقال كل ذلك الهراء، ويُمارس كل ذلك الدجل، كما هو الحال حتما في كل ما تلده البشرية من أطفال، وما تتكبده من خسائر لتربيتهم، لكي يتبقّى رجل أو إثنان في خاتمة المطاف ممن يمكن أن يُشار إليهم، ويُقال عنهم رجال بحق. وهناك حتما ذلك المزيج اللزج من الشهرة والإغواء الذي يتحلّى به الكاتب المبتدئ، وتلكم ميزة جيدة خصوصا في البلد الذي أنتمي إليه، حيث تتمنع الإناث ويقفن يترقبن من على بعد وينتظرن؛ فلا أقل من طعم إذن. الوهم بالشهرة، والوهم بالمجد، والوهم بالعظمة، والوهم بكتابة جيدة ونثر منساب، والوهم في أن يصل الكاتب أبعد مما وصل إليه الآخرون، هذه هي مجموعة الأوهام التي ابتدأتُ بها (أو ابتدأتْ بي)، بيد أن التقدم في درب الكتابة يُسقِط بعض الأوهام ويُنشِئ أوهاما أخرى خاصة بكل مرحلة. مثلا، ردود الأفعال التي يثيرها عمل أدبي، فردود الأفعال هذه قد تكون عجائبية وفنتازية إلى حد مثير للضحك، فهناك من يحبك لأنك كتبتَ ما كتبت، حبا تتبدى فيه كما لو كنتَ صديقهم الذي أضاعوه واكتشفوه بعد لأي. وهناك من يحنق عليك لأمر في نفسه، وتصبح هكذا بين ليلة وضحاها، ومن غير تقصٍ ولا مزيد استفسار، عدوا أولا. وهناك من هو متأكد من أنك واقفٌ لا شك في الجانب الأيديولوجي والسياسي الذي يقف هو عليه. وأصارحك القول، كل هذه الردود تجعلني منتشيا لأنها تولّد فيّ حالة تأمل فيما يخص البشر من حولي، وتخبرني بما لا يدع مجالا للشك عن خطر الكتابة الكامن وتأثيرها المعقّد وغير المقصود. ومثلا، اللذة التي تبدأ في الظهور حين القدرة على تطويع اللغة، وحين الوصول بها إلى صياغة جيدة، وتلكم لذة لا يعرفها إلا من خبرها، كما قد يقول صوفي في بداية مدارجه باتجاه الله (بيد أنني ما زلت أشك في أن تكون هذه اللذة بأكثر أو أمتع من لذات أخرى مبتذلة وملقاة على قارعات الطرق). وعموما فإن الوعي المتحصل تباعا من عملية الكتابة قذفَ بكل هذه الأوهام ونثرها في الخواء المر لوجودي ككاتب، وعدتُ تقريبا إلى الإجابة الأولى: فالحق، والحق أقول، أنني لا أدري لماذا أكتب!
** . . . . . . . . . . . . . .؟
عندما كتبتُ قصصي الأولى، كنت أكتب لمجموع الزملاء الذين يشاركونني الانتماء إلى الجماعة الأدبية بالجامعة، بعدها بقليل صرت أكتب لمجموع الطلبة الذين أتوقع أن يحضروا الأمسيات القصصية أو المناقشات الداخلية التي تقيمها الجماعة، وحين نشرتُ أول قصة لي في الصحافة أصبحتُ أكتب لكافة العمانيين الذين يقرأون الصحف المحلية. لكنني إذ تجردت من بعض الأوهام، واعتليتُ، فيما أظن، عارضةً أخرى في سلّم الكتابة الطويل، أصبحتُ أكتب لمن يقرأون الملاحق الأدبية في صحفنا اليومية، إلى أن نشرتُ في طبعة واحدة روايتي الأولى، وحينها عرفتُ أنني إنما أكتب لقارئ متوهم. ردود الأفعال التي جنيتها حينها من قرّاء الرواية أجبرني أخيرا أن أكتب لنفسي بداية ولثلة مختارة من الأصدقاء الذين يشاركونني بهجتي في نشر أعمالي. والجيد في نفسي، أو هكذا أظن، أنني لست صاحب آمال عظيمة فيما يخص القارئ، ولا أجيد التأثر بأقوال الآخرين الحانقة والمغرضة، بل أجعل الحكم على أعمالي على عاتق الزمن وحده فهو الجدير بالقيام بعمليات التشذيب والصقل التي تزيح الأعمال الميتة وتبقي الحية منها. بيد أنني مؤمن مع هذا بلعبة الثقافة السياسية، وكيف أنني ينبغي إلى حد ما أن أسوِّق لأعمالي ليعرفها الآخرون المهتمون. قد لا يدرك القارئ الكريم أنه في بلد مثل عمان، بتعداد سكاني لا يتجاوز المليونين، فإنما الكاتب يكون في خطر الشهرة والافتضاح، وأدّعي أنني قد تعلّمتُ بعض الدروس جراء ذلك، فمرة وقد كنت أبحث عن شقة مناسبة للسكنى انفرج الباب في الطابق الثالث عن رجل ثلاثيني وأخبرني عن الشقة المعروضة للإيجار في البناية التي يسكن فيها، ومن ثم لفظ اسمي من غير أن أكون قد أخبرته به، واكتشفت أنه يعرفني، وأنه يتابع ما أكتب، فارتعبت. وذات مرة أخرى كان يتوجب عليّ أن أوقف سيارة تاكسي للعودة إلى البيت فخرج صاحب التاكسي من مقعده وأخرج الراكب الذي كان يقعد في الأمام وأركبه في الخلف وأركبني أنا في المقعد الأمامي، وأمام دهشتي الفائقة أخبرني أن القدر لا يوقف كاتبا عند باب تاكسيه كل يوم. وإذن فأين سيقيم الكاتب حياته السرية في هذا البلد حين تجبره طبيعته كبشري أن يعيش حيواته الأخرى بعيدا عن أعين حراس المجتمع ومتعهديه الأبديين؟ وأين سيتأتّى له مشاهدة الآخرين ومعرفتهم بشكل شبه موضوعي، وكيف سيتأملهم بينما هم يدركون أنهم مُراقَبون، وأنهم قد يصبحو، بعد فترة اختمار الأفكار، شخصيات في قصة أو رواية؟ ولعل ما يزيد الكاتب بلاء أن يتكوّن له قرّاء ساذجون؛ فهؤلاء يحتاجون في كل مرة إلى الالتصاق برموز العبقرية وممثليها في الكتابة، وهم يفعلون ذلك لمعرفة السر الذي تنبثق منه القدرة والسمو والرفعة، فلعلّهم يصيبون عدوى مبهجة تعيد لهم ما كان أو تقرِّب لهم الآمال. ولدهشتي من نفسي فقد تكونتْ لديّ قناعة مفادها إن كانت ردود فعل القرّاء بهذه الصورة، وكانت المغبّة من معرفة الآخرين الشخصية للكاتب قد تكون سيئة، فلا بد إذن من نبذ فكرة الالتزام بكاملها. فلمن ولِمَ ينبغي للكاتب أن يلتزم، وبأية قضايا؟ فأنت حين تلتزم بأمر ما فإن هذا معناه أنك تعرف أنك إنما تشيد خيرا وتصنع معروفا، والتزامك هنا بقضايا الأمة يستتبع خيرا لهذه الأمة وللناس الذين تكتب لهم. بيد أن في الأمر مزيج من أوهام وادعاءات مفرطة خالية من الصحة، فأولا ليس الأدب بالضرورة نتاجٌ خيّر، بل إنني أميل إلى القول أن الرواية، مثلا، عامل تخريبي وهدمي، والإكثار منه ضروري لممارسة الغواية والتحطيم. وعلى هذا فالالتزام هنا هو التزام سيء فلا أظن أن الكاتب بطبيعته خيّرٌ أو أنه يسعى للحق والعدل والفضيلة، فهو كالآخرين من البشر الذين يتقاذفهم الخير والشر، والفضيلة والرذيلة، وكتابته التي هي نتاج عقله، واعيا وغير واع، غير مُبرّأة من هذه الهنّات والخطايا، وبالتالي فإنني أشعر دائما أنني إذ ألتزم بقضايا المجتمع والناس فإنني إنما أكون بهذا عامل هدم، الأمر الذي لن يغفره هؤلاء الناس أنفسهم لي. بل إنني أذهب أبعد من ذلك وأقول ان الذين يطالبون الكاتب بالالتزام إنما يفعلون ذلك للتخلي عن مسؤولياتهم هم في بناء المجتمع، فهم يتوهمون أن ثمة أناساً قَدَرهم أن يفعلوا لهم الأشياء، ويطالبوا لهم بالحرية والعدالة والمساواة، فيما هم يهضمون متكئين وجبتهم الفائتة. وبالتالي يتقلّص الالتزام، في رؤيتي، إلى التزام الكاتب بفنه، أو إن شئت، التخصص الجاد والدؤوب داخل فنه، فليس من الالتزام أن يتكلم كاتب أدبي في منبر سياسي أو يركض وراء مظاهرة ما، وهو حين يفعلها لا يفعلها ككاتب بل كشيء آخر وافق أن يكون فيه مع كونه كاتبا. وثانيا، فإن لُعب الصحافة والإعلام والسياسة والاقتصاد، العالمية منها والمحلية، أصبحتْ بتشابكاتها اللامتناهية ومكرها ودسائسها الغائرة أبعد بكثير من أن تبرز الحقيقة كما هي في أي قضية كانت، مما يعني أن التزام موقف ما أصبح التزاما مبنيا على «حقائق» و«وقائع» و«أحداث» مشكوك في صحتها وموضوعيتها. بالتالي ليست الكتابة الأدبية بالنسبة لي إلا محاولة لإعادة بناء جمالية داخل الكلمات، وإلا إشاعة الجمال عبر الكلمات، ولعلّ آمالي متعلقة جميعها في القدرة على النفاذ داخل قلب الأشياء من حولنا وإخراج معانيها وغموضها وما تشكله وما تخفيه وإبرازها مرتدية عباءة الكلمات المهيبة وحلتها المخاتلة والقشيبة. أما إفادة المجتمع وتصوير مزاياه ورزاياه فليست من اهتماماتي، على الأقل في الوقت الحالي. وليس هذا معناه بالطبع أن تكون كتابتي أمرا خارجا عن العلاقات المجتمعية المعاشة أو غريبة ومنبتّة؛ فالكاتب، رغم كل شيء، نتاج مجتمعه وعصره، حتى في تمرده عليهما ومحاولته تخطيهما.
** . . . . . . . . . . . . . .؟
ربما لأني لا أجد له موقعا من الإعراب. أنا دائم التساؤل فيما يخص طبيعة الأشياء ووظائفها ودائما ما أَعَلقُ في التفكير في قضية أهمية الأدب ووظيفته في المعرفة العامة، فلا شك أنه يقوم بوظيفة معينة وإلا لاندثر منذ أمد. النقد مشكلته أكثر تجذرا، فهو ليس كائنا قائما بذاته، إنما هو قائم على كتابة سابقة، وقائم على الأدب، بالتالي فهو أمر ثانوي تماما، أو تابع بأقل الكلمات وقعا. فإن كنتُ أشك في الأمر الأساسي الذي هو الأدب وإن كانت له وظيفة معينة، فأجدني أشك كثيرا في هذا الكيان المتعلق والتابع. والمشكلة أن الطبيعة الأصلية كما تتبدى لي لكلا الكيانين، الأدب والنقد، مختلفتان اختلافا كبيرا؛ فبينما ينطلق الأدب ويصول ويجول، ويحاول أن ينفلت من المعتاد والمعقول والممكن كفنٍ يوطد من انفلاته، فإن النقد علم بالأساس، وبما هو علم، أيكون هدفه تقييد الأدب المنفلت؟ أتكون بالتالي وظيفته لجم وتقييد تجاوزات الأدب ومحاولاته الانعتاق بعيدا عن كل ما هو مألوف؟ الآن إن مارس النقد عملية التحسين والتقبيح فإنه يدخل في سطحية وسذاجة مملة، فلا أحد من المهتمين بالأدب يرغب برقيب خارجي، يُطلّ على النصوص الأدبية من عَلٍ، ويحكم بجودتها أو بركاكتها، ربما لأن هذا الأمر قد تجاوزه الزمن، وبما أن كل قارئ قابل للقراءة، فلماذا لا يأخذ على عاتقه عملية التقبيح والتحسين هذه؟ وفي المقابل إن أعلن النقد انه عمل موازٍ للعمل الأصلي، وبالتالي تكون وظيفته إنتاج نصوص موازية للنص الأصلي، فلماذا هذا اللف والدوران؟ لماذا لا يُعلن الناقد هنا عن أنه كاتب هو أيضا، ولماذا يقف متطفلا على كائن آخر؟ لماذا لا ينبثق النص النقدي من ذاته إذن؟ المقاربة التي أجدها مصيبة إلى حد كبير أن الناقد كالكاهن الذي يجعل من نفسه وسيطا بين المؤمن والرب كليّ القدرة؛ فوظيفته، لذا، فائضة. المشكلة بظني أن النقد ليس علما دقيقا مُحكما، فنص واحد يقول عنه ناقد ما شيئا ويقول عنه ناقد آخر شيئا آخر تماما، بل إن الناقد الواحد سيقول عنه أشياء متباينة في مواقف متباينة، فأين هو العلميّ في هذا؟ النقد مثل لعبة تقوم أصولها على لعبة أخرى. لقد شهدت حوارات نقدية وقرأت فيما قرأت نقادا هدفهم أن يشرحوا ماهية النص الأدبي الذي أمامهم، فالقصة هذه تتكون من شخصيات وفيها سير بالأحداث بهذا الاتجاه أو ذاك، وفيها توصيف للمكان والزمان ووو. وهذا محض هراء، فإن هذا حكم قبْليّ لماهية القصة، أعني أنه حين نَصِفُ نصا أدبيا بأنه قصة فلا بد إذن أن يحتوي على كل هذه التفاصيل، فلكأن النقد في هذه الحالة يحكم ما إن كان النص قصة أم لا؟ وهذا يقارب أن تأتي بإنسان وتقول لآخر: ماذا ترى في هذا الإنسان؟ فينبري الناقد قائلا بأن هناك رجْلين ورأسا ويدين، وتمتد الرجلان متطاولة باتجاه الأسفل، فهنا يكون النقد تشريحا عقيما فائضا عن الحاجة، لا يقول شيئا آخر غير ما يمكن للقارئ العادي أن يقوله. لا تمارس النصوص النقدية في معظم الأحيان عملية كشف وإيضاح، وليست هذه وظيفتها بشهادات كاتبيها، ولا تمارس تحسينا ولا تقبيحا، فما الذي، بحق الرّب، يفعله النقد؟ فمثلا لو يرضى النقاد أن يُعرّفوا كتاباتهم بأنها انطباعات شخصية لكان الأمر أكثر تعقلا من جانبهم، وهنا ربما نشاطرهم الرأي في أن يُكتب تحت مسماهم، بدلا عن ناقد أدبي، كلاما مثل «قارئ كثير القراءة في هذا الصنف»، وبالتالي يكون الناقد مُقارِنا، يقارن النص الجديد بما تكوَّن لديه من فهم لطبيعة العمل الأدبي من خلال قراءته لأعمال أدبية أقدم زمنيا. الحل الآخر ألأقل إلحاحا في العدوان والبغضاء، أن يتخذ النقد منحى آخر ويُسمَّى، أو يُدرَج في فلسفة الأدب، فحينها تنفك العلاقة المبتذلة بين النص الأدبي وما يقوله الناقد، فهو بهذا لن يكون تابعا وبعديّا فيما يخص النص الأدبي، بل له الحق، مثله مثل الكاتب، أن يقول ما يشاء بعيدا عن أو قريبا من النصوص الأدبية. وليست هذه الحلول التي أقذفها هنا خبط عشواء، مجرد تغيير للمسميات وإبقاء لماهية النقد، بل إنه تغيير جذريّ واجتثاث مبضعيّ لمفاسد النقد وتورماته. وإذن فكراهيتي للنقد مبنية على أنني لا أجد تفسيرا مقنعا لما يقوم به النقّاد، ولا أستطيع أن أجد لهم وظيفة محددة. وبالتأكيد، لا أستطيع أيضا أن أجد تفسيرا للأدب أو وظيفة محددة له، بيد أن هذا الأخير عمل طائش وفنٌ مُصانٌ عن المساس، ولا أستطيع بالتالي أن أحاكمه علميا ولا موضوعيا.
** . . . . . . . . . . . . . .؟
هناك العديد من الكتاب المبتدئين في عمان، وبالذات الذين يكتبون القصة القصيرة، وأنا واحد منهم، وكثرتهم في حد ذاتها أمر حميد لأنها تنبئ عن بوادر مشجعة لمستقبل الأدب القريب، فأنا أؤمن أن التراكم الكميّ يؤدي في النهاية إلى قفزة نوعية. وأستطيع أن أشير بكل ثقة إلى بعضهم، من موقع مساوٍ لهم بالطبع، وأقول هؤلاء كتاب جيدون، أو أنهم في طريقهم إلى ذلك. لكنّ المشكلة تكمن في أننا، بقضنا وقضيضنا، لم نشكّل بعدُ حضورا على المستوى العربي ناهيك عن المستوى العالمي. وليس معنى هذا أننا خالون من الإبداع والأصالة، لكننا غارقون في بلد صامت، لا تصخب فيه الصحف كثيرا، ونلاقي ما نلاقي من إهمال المهتمين والمشتغلين بالجانب الثقافي الإعلامي في الوطن العربي الكبير. وحيث أن العالم ككل، والعالم العربي كذلك، مأخوذ بغواية الرواية أكثر مما تأخذه القصة القصيرة فإن جهد الكتّاب العمانيين الذي هو في معظمه اشتغال بالقصة القصيرة يكاد أن يكون مطموسا. والمشكلة التي كادت أن تكون واضحة المعالم في الأجيال التي سبقتنا في الكتابة، هي أنهم حالما ينشرون كتاباتهم الأولى يتوقفون وينسحبون عن المشهد الثقافي، أو الأسوأ من هذا، يتوقفون ويظلون يجولون في المشهد، ويشكّلون بالتالي أمرا ملغزا وعصيّا على الفهم، فهم يتصرفون كما لو أنهم كتّاب قدماء، وهم كذلك فيما يتعلق بالزمن الكورونولوجي الرتيب، ولكنهم بالزمن الكتابي متوقفون عند اللحظة التي انتهت إليها كتاباتهم. المشكلة الآن أن الكتّاب الأصغر سنا، لا يعرفون كيف يتعاملون مع هؤلاء؛ فهم عقبة أكثر مما هم مُسهّلون لحركة الإبداع الأدبي، فهناك أسماء أكثر من الأعمال، وادعاءات أقوى من النصوص وأكثر بذخا. ولكنني متفائل جدا، كما قد قلتُ سابقا، فكل هذه التدافعات والحراك والتنافس في إنتاج شيء ذي أهمية، لا بد أن يُعقِّب شيئا جميلا وعظيما في المستقبل القريب. من يُظهِر الكتّاب إلى واجهة المشهد الثقافي العربي؟ كتاباتهم طبعا، لكن هذا لا يكفي حين يكون الكاتب لا يزال يخطو خطواته الأولى التي تحتاج إلى الدعم الصادق والتشجيع المعتدل، وهذا ما لن يجده داخل البلد، التي تكاد تخلو، لو استثنينا مجلة نزوى، من الزخم الإعلامي الثقافي الذي يدفع بالكتّاب باتجاه آفاق أكبر، ويُعرِّفهم لجمهور أوسع. وبناء عليه فإنني بصدق لا أجد أن الكتاب العمانيين أقل شأنا من الكتاب العرب الآخرين، بل أجزم أن هناك من هم أفضل بكثير ممن يُروّّج لهم وتُطيَّر أسماؤهم في الآفاق. بيد أننا لا يجب أن نتوقف كثيرا عند هذه المسألة فمستقبل الاتصالات كفيل بأن يمحو هذه العقبة، وكفيل بأن يُوصل الصوت الحقيقي إلى من يريد أن يسمع. تظل هناك عقبة كبيرة أخرى في نظري، وهي أن الرواية العربية عموما، والتي تتفرع منها الرواية العمانية، إن صحتْ وصدقتْ التسميات، ليست رواية جيدة، فهي ترزح بمشاكل جمة في الأسلوب وتنقصها الجاذبية والإيقاع والحرفنة. لا أدعي أنني قرأت كل الروايات العربية، ولا حتى معظمها، لكنني قرأت الكثير، وأظن أن الرواية العربية ينقصها عوامل كثيرة لتكون رواية جيدة، فالعديد من الروايات مملة، بما فيها روايات كبار الرواة، إلى درجة قاتلة، وبعضها مكتوب بحس أن الكاتب ابتدأ الكتابة ولا بد بالتالي أن ينهيها، وهي بالتالي إعادة وتكرار لكتابات أخرى واجترار قليل الفائدة. لا شك أن الاشتغال الدائب والعمل الدؤوب جدير به أن يزيد من تراكمات الكاتب وألقه وقدرته على الصناعة الكتابية، لكن في أحايين كثيرة لا يرقى بالأعمال أن تكون أعمالا أكثر ما يقال عنها أنها جيدة وحسب، وأننا يجب أن نحترمها ونحترم أصحابها (ولكأن هؤلاء يحتاجون هم الآخرون إلى التشجيع والتربيت على الأكتاف). وضعف الرواية العربية ربما يكون ناشئ عن استسهال هذا الفن، والرؤية السطحية المخلّة لماهيّته، فهناك من يرى أن الرواية عوالم ممتدة وتداخل شخصيات وحركات ونمو أحداث، مُسقِطين من الحساب الاشتغال الفني والانتقاء اللغوي، وبالتالي تصير الرواية إن كانت جيدة أقل عن مسلسل تلفزيوني، لأنه في المسلسل التلفزيوني فإن تجسيد الممثلين للشخصيات يوحي لك على الأقل بواقعية المشاهد ومنطقيتها، الأمر الذي لا تستطيع القبض عليه وإدراكه في العديد من الروايات. وأظن أن من لطف الأقدار على المهتمين بالرواية والقصة القصيرة أن الترجمة من اللغات الأخرى ممكنة، على عكس الشعر الذي تبقى فيه الكلمة الأصليّة مهمة بقدرٍ لا يمكن معه نقلها إلى لغة أخرى، وهذا ما يجعل مشهد الرواية أكثر عالمية وأقدر على التأثير الكوني.
** . . . . . . . . . . . . . .؟
أتمنى أن يكون كذلك، بيد أن طبيعة أن يكون المرء طبيبا هي طبيعة مناقضة إلى حد كبير في أن يكون كاتبا. فكما أسلفت في حديثي الفائت، فإنني أرى الأدب شأنا من شؤون الهدم، إن طبيعته الإفناء وإظهار الأخطاء والثغرات في البشر وفي حوادث عوالمهم، إنه تمني عالم أفضل من خلال بعثرة العالم القائم ومحاولة إلغائه أو تعديله. بالتالي فهو لا يطرح حلا ولا يقيم أملا قريب المدى بل إنه في أحايين كثيرة يقذف بالقارئ في التشاؤمية التي يُكرِّسها القدر والتوالي القاصم للأحداث. الطب في المقابل عمل بنّاء و«محترم» وينمّ عن رغبة ظاهرة في عمل الخير ومساعدة الآخرين، وأنت فيه تحاول أن تكون ملتزما قدر الإمكان، فثمة تقيدٌ بعلمية دقيقة حد الجفاف، واتباعٌ للأساليب الأكثر فائدة والأقل ضررا. إن الهدف واضح ومحدد، والأساليب مكتشفة مسبقا، والعلاقة بين الطبيب ومريضه معروفة الاتجاه ويجب تخطيطها سلفا. فهناك إذن طبيعتان، طبيعة أدبية تجعل مني لامنتمٍ، متمردا ورافضا، وتُلبسني رغبة في الهدم بإزاء طبيعة طبية تُنصّبُني منتميا ومحافظا وراغبا في أن ينام الناس بطمأنينة. وإنك بالطبع لا تستطيع أن تغلق هذه الطبيعة لتبدأ الطبيعة الأخرى في عملها في أوقات محددة، وحسب جدول زمني مدروس، وهنا يقع المحظور وتتشابك الطرق، وأغرقُ في فوضى العالم تائها بين وجوديْن، مضطرب وساكن، فنيّ وعلميّ. الطب النفسي يمنحني بعض الأدوات التي ربما تساعد الكاتب الأدبي، فهو يمرنني على أن أصيخ السمع وأن أمنحْ من أمامي اللهفة لمعرفة نوازع ذاته، وهو يلقي بين يديّ فرصة هائلة في أن أتقاطع مع العديد من الحيوات والأحداث التي تجري بعيدا عن مسار حياتي المباشر، إنه يخبرني عن البشر وتطلعاتهم وآمالهم، ما يرغبون فيه وما يفعلونه، ما يُخفونه وما يُظهرونه، هو بالتالي مصدر ثري لقصص كثيرة ومُتَكأ مُعتَمدٌ عليه في معرفة طبيعة الكائنات التي تعيش في هذه القطعة الجغرافية من العالم. ومن مزايا الطب النفسي التي تسحرني باستمرار أنه ليس مقتصرا في معالجاته وأساليبه على العلم الطبي بل هو مشرع الآفاق على العلوم الاجتماعية، وفي مقدمتها بالطبع علمي النفس والاجتماع، وتعتمد أساليب علاجه على التحليل النفسي والعلاجات الذهنية والسلوكية، أي تلك الطرق ذاتها التي تلزم لمعرفة كيف يفكر البشر وكيف يسلكون في مسارات حيواتهم الباطنة منها والظاهرة. إن هذا يجعل من العلاج النفسي أمرا مُثرياً، ويدفع بالمعالج إلى اختلاق هيئة ثقافية محبة للمعرفة في داخله، ومسلّحة بالعديد من الرؤى والإمكانات. وقد وُوجهت مرات عديدة أن هناك نوعا من التحليل النفسي كامن في كتاباتي الروائية ولكنني لا أجد ذلك صحيحا إلى حد كبير، وإنما هي فقط من قبيل إلصاق الصفة من باب معرفة طبيعة عمل الكاتب. ولكنْ ما أراه أنا شيء وما قد يراه القارئ شيء آخر.
** . . . . . . . . . . . . . .؟
هي ذاتها مشكلة كل كاتب مع الرقابة: صراعٌ حول مناطق النفوذ، وحول حرية الإبداع والابتكار. ولأبدأ مع الرقابة الرسمية، فهم يتوجسون خيفة من كل كلمة نابية تقولها في كتاباتك، مع أن أقل البشر شأنا وأكثرهم انحطاطا لَيقولُ بملء فيه، على أرصفة شوارعنا الكثيرة المغفلة، أضعاف ما يمكن أن يقوله كاتب مفردا. يرفضون الكلمات النابية والخبيثة والمتجنية على المؤسسة الرسمية والمتلاعبة بالقدر والماسّة بالرموز الأبوية، ويخافون من الإثارة الجنسية، ويُستفزّون من التكلم عن الأعراق والقبائل والبلدان، ويرهبون استثارة النفوس الأبية والكلام عن نهوض الفرد الحر أو عن بغي بعض أولي الأمر، وبالتالي يضعون قيودا دينية ودنيوية على كل كلمة تقولها، وهذا يُضيّق الخناق على الكاتب، ويحطك في النهاية في مساحة ضيقة محددة الأركان، مربوط اليدين، خالٍ من الكلمات التي تعينك على تجنب كل هذه العوائق والتهم. هناك قصة لي بعنوان «الثدي»، هذه الكلمة الفضائحية، لم أجد سبيلا لنشرها في الجريدة المحلية، قال لي المحرر حينها، أنهم سيعاقبونه إن هو قام بنشر قصة بهكذا عنوان!، وهذه إحدى طبائع الرقابة أنك لا تعرف تحديدا من هو الرقيب الذي يتموضع القلم الأحمر بين أصابعه، فكل واحد منهم يحيلك إلى أعلى، إلى شخص أكبر منه بقليل، في محاولة لجعلك تدرك أن الواقف أمامك محبٌ للآداب ومتحيّز للحرية في الكتابة، وإنما يفعل ما يفعله تحت ضغط الأقوى منه والأكثر تصلبا. قصة أخرى بعنوان: «لا يوجد مكان للحب في مسقط» ، نُشِرَتْ هكذا: «لا يوجد مكان للحب في هذه المدينة»! وحين حَكَتْ قصة لي شيئا عن «بنك مسقط»، تحوّل إلى «البنك». بعض مقالاتي لم يُسمح لها تماما بالخروج إلى العالم مطبوعة بالحبر الأسود على صفحات جرائدنا المحترمة، لأنها مثيرة للشغب أكثر من اللازم! ثم حين نشرتُ مجموعتي القصصية عام 2003 في سوريا عن دار الحوار، أخبروني، والعهدة على الناشر، أنّ ثمّة قصة قصيرة حذفَتْها الرقابة لأنها تتحدث عن شؤون القدر والحب الجسدي بطريقة غير مناسبة!، روايتي «الوخز»، الصادرة عن مؤسسة الانتشار العربي، تم تداولها بطريقة شخصية، وفي اعتقادي ان زخم الاتصالات العصرية وقدرتها السحرية على النفاذ في كل الاتجاهات سيتجاوز جمود العقليات لكن ما هو أخطر من الرقابة، تلك الرقابة التي يقيمها المجتمع وتشكل عقله الجمعي وتتموضع بالتالي في القلب من كل فرد لأن رقابة المجتمع هي في صميم العلاقات الكائنة بين البشر وهي نتاج عقوله، والكاتب حين يكتب يجد نفسه مقيدا بكل التابوهات المقدسة فهو خائف من نفسه وممن حوله من الناس. وإنما يكتب كما لو أن هناك من يقف علي رأسه. وفي محاولة للتغلب على ذلك يقف الكاتب ضمنيا مستندا على حق مشروع في الكلام بحرية. وعلى افتراض ان الرقيب يقوم بالوساطة غير الجائزة بين الكاتب والقُرّاء، إن قضية الكاتب، هنا تحديدا، جد واضحة ونبيلة، بيد أنه في تحدي الرقابة الداخلية والاجتماعية يقف الكاتب وحيدا بإزاء كل ما هو قائم بل حتى مجردا من نفسه بما هي جزء من الانتاج العام للمجتمع. ومع هذا وذاك، فالكاتب يصنع جزءا كبيرا من حريته بنفسه، فبكتابته ذاتها يوسع هامش ما يستطيع أن يقوله، وبتفاعله مع الرقابة داخليها وخارجيها يتضح الخط الفاصل بين ما هو مسموح ومرفوض. ولا يفوتني هنا أن أقول أن التعذر بالرقابة هو شأن من لا يريد أن يكتب أو من لا يستطيع أن يكتب، ففي صلب الكتابة نفسها يقف التوق إلى الحرية، والرغبة في الانعتاق. ولا أظن أن أحدا من الخارج قادر أن يأتي إلينا ويقدم لنا حرية الإبداع والكتابة في طبق من ذهب، بل إن علينا، كما أرى، أن نقتلعها شبرا شبراً وذراعا بذراع.
** . . . . . . . . . . . . . .؟
أقف الآن على مفترق طرق. أحس تماما أنني في مأزق صعب. لقد انقضتْ تلك البرهة من الزمن التي كنت أعتمد عليها لأخطئ وأتعثر، وأفعل ما يحلو لي خالي الوفاض من عواقب ما أكتب، ومن غواية الكتابة الحادة وألمها المُمِض. أي أنني سِرتُ في البدايات، وكتبتُ قليلا واستمتعتُ قليلا، ونلتُ ما نلت من اللذات والإحباطات التي هي للكتابة. ولقد حاربني بعضهم وغمرني البعض بالرعاية والعطف، ونالت كتاباتي بعض حظوة وبعض استحسان في نفوس بعض القراء الذين أجد عددهم المحدود مناسبا، وَوُفِّقتُ في الكتابة بأساليب أحسبها جميلة ولطيفة، وفي ابتكار بعض الأفكار والرؤى الأصيلة. لكنّ الزمن بخطوه الرتيب والقاتل لن يعود ويمنحني هذه الهبة مجددا. فأنا أقف بين زمنين، زمن بدايات الكتابة وزمن الكتابة الحقيقية. وبما أنني في هذا الزمن بالذات لا أستطيع أن أقطع عهودا مع نفسي لأصبح شيئا آخر في مستقبل أيامي، كاتبا جيدا ومحترفا. ولا أستطيع أن أعيش مع إعادة إنتاج ما قمت بإنتاجه سلفا، فلا بد إن أنا رغبتُ في اقتراف خطيئة الكتابة المحترفة أن أنبذ العديد من الأمور، وأن أتجاوز نفسي وأساليبي التي بدأتُ أرى بعضها بسيطةً وغير صالحة وعفا عليها زمني وعافتها نفسي الكاتبة، ولا بد لي من محاولة مستميتة لإيجاد أسلوب كتابة متفرد يخصني لوحدي ويحقق لي رؤيتي ويخرج قدراتي إلى عالم الكلمات، وإن هذا لو علمتَ لعظيم وتفنى دونه الأنفس ولا يُلقّاه إلا ذو حظ عظيم. أحلمُ بإيجاد صيغة تمكنني من وضع الرواية في عمان في مكانة لائقة ورفيعة، إن هذا البلد بتاريخه الغائر في عمق التاريخ، وبثراء بشره الذين استوطنوه على مر العصور، وبتعدد أعراقه ومشاربهم، لَيستحقُّ كتابةً روائية عظيمة، وليستحق كتّابا عظماء. وإن ما تشهده الأزقة والبيوت من تحولات في الأخلاق وسقوط للقيم القديمة وتبدل في المفاهيم السائدة قادر بزخم عنيف أن يُوالِد الحكايات ويُناسِل القصص والأماثيل، فإذا أضفنا إليه تحول الجغرافيا واندثار الأمكنة وتوالي الأزمنة، فإن الرواية قابعة هناك كمادة خام تحتاج إلى من يشكلها وينحتها. أرغب في محاولة دمج ما هو فنيّ ومحكم في القصة القصيرة وبين ما هو جميل في الرواية. إن أساليب القصة القصيرة وحذق هذه الأساليب وصعوبتها الفنية تفتنني، لكن القصة القصيرة عموما، أقصر من أن تسترعي الانتباه، وكقارئ أجدني أمجّ مواضيعها اللحظية التي لا تكاد تومض حتى تنتهي، ولا يكاد القارئ يتفهّمها ويفتح أبوابها حتى تنغلق في وجهه، غير تاركة في ذاكرته إلا خيط وميض واهٍ. إن الجهد المبذول في القصة هو جهد بديع لكنه ضائع لأنه يحتاج إلى زمن أطول ليتشرّبه القارئ ويوغل في افتتانه ويسقط في شَرَكِه، ولذا أجدني أكثر ميلا إلى كتابة الرواية شرط أن لا تكون متهدلة الأطراف وتائهة في الأغوار، وشرط أن تتألق أساليبها وتتوهج فنونها ويُحكَمُ سردها. وأرغب، فيما أرغب، أن أمتلك القدرة على أن ألج في الأشياء من حولي، وأنفذ من خلالها باتجاه معانيها الكامنة وأن أنسج ذلك جميعه بخيوط الكلمات الساحرة وألقها الجمالي الباهر، أرغب باختصار، أن أعيش في اللغة بما هي كائن جميل ولذيذ.