يعتبر كتاب الشاعر حسن نجمي ((الشاعر والتجربة))* نوعا جديدا في التأليف المغربي والعربي عامة، ذلك أن هذا الكتاب ليس كتابا نقديا ولا كتابا إبداعيا، بالمفهوم المرجعي للكلمتين، ولكنه يأخذ مكانه خارج هذه التصنيفات الأدبية التي تعودنا عليها. وإذا كان مفهوم النص يعبر عن الممارسة الكتابية – أية ممارسة كتابية – بغض النظر عن التصنيفات الأجناسية التي ألفناها، فإن إضافة كلمة ((نصوص)) في الغلاف، إلى عنوان الكتاب، هو بمعنى من المعاني ميثاق قراءة يقترحه المؤلف على القارئ، من شأنه أن ييسر مهمة البحث عن مداخل لمقاربة الكتاب.
إن هذا لا يعني أن ((الشاعر والتجربة)) يفتقر إلى الموضوع، بقدر ما يشير إلى التنوع الذي يحكم عادته، وتقاطع تلك المادة مع مجالات مختلفة، تبدو لأول وهلة متباعدة فيما بينها، ولكنها لتلتئم في بوتقة واحدة تنبني عليها نظرة المؤلف إلى الإبداع بشكل عام.
إن هذا ما يفسر حاجة المؤلف إلى تصدير كتابه بكلمة ((على سبيل التقديم))، وهو ما يمثل جانبا آخر مما سبق أن أسميناه ميثاق القراءة، ويصر حسن نجمي في هذه الكلمة، على أن الكتاب ليس كتابا نقديا بالمعنى التقليدي للكلمة، ولكن الأمر يتعلق بكتابات ((مفتوحة لها انشغالها النقدي (…) بالرغم من (…) أن كتابة الشعر تظل دائما بحاجة إلى وعي نقدي ومعرفة جمالية)).(ص 9)
نحن إذن أمام فطاب يتنصل من مسؤولية النقد، ولكنه في نفس الوقت لا يتبرأ منه، بل يقر بضرورة ((الوعي النقدي)) في الإبداع عامة والشعر خاصة، هل يتعلق الأمر بخواطر وانطباعات، تستعصي على التصنيف؟ أم هو موقف مبيت تجاه النقد من قبل شاعر، يتمرد دوما على كل ما يمكن أن ((يقعد) لعمله، ولو كان هذا العمل لغة واصفة؟ أم إن المسألة برمتها تخفي وراءها تواضعا يأبي أن يسمي الأشياء بأسمائها؟
إن مثل هذه الأسئلة، لا تفرضها ((تحفظات)) الاستهلال فحصب، ولكن عنوان الكتاب نفسه يعمقها ويجعلها أكثر إلحاحا، لأنه يحل التباسا، ويحيل على عدة تأويلات، ذلك أن عبارة ((الشاعر والتجربة))، يمكن أن تفهم في سياق الكتاب على أكثر من وجه: فهل الشاعر- هنا- هو حسن نجمي نفسه، أم أن الشاعر هم الذين كتب عنهم، وتضمن الكتاب ((نصوصا)) شعرية لبعضهم؟ ثم، هل العلاقة بين ((الشاعر)) و((التجربة)) علاقة إسنادية، في معنى قولنا: الشاعر وتجربته؟ أم علاقة غير إسنادية، تعادل قولنا: الشاعر وتجربة الناقد أو القارئ… الخ.
إزاء هذه الأسئلة وغيرها تبدو كلمة ((تجربة)) كلمة مفتاحا لتنطي عتبات الكتاب، والدخول إلى عوالمه التي تتسم بالتنوع والاختلاف.
إن مفهوم التجربة من المفاهيم التي تواتر تداولها في إطار ما يعرف بشعر الحداثة لدى الغربيين أولا، حيث نجد، على سبيل المثال، شاعرا كبيرا هو أرشبالد ماكليش يؤلف كتابا في أربعينات هذا القرن يحمل عنوان ((الشعر والتجربة)) ثم عند العرب، حيث لا نعدم أكثر من عمل (مقالة أو كتاب) يحمل عنوان ((تجربتي في الشعر)) أو ((تجربتي الشعرية))، أو ما يقترب من هذه الصياغة.
ولكن الذي أعطى لهذا المفهوم زخمه الدلالي هم شعراء الرؤيا، ومنظرو قصيدة الرؤيا عامة، من أمثال أدونيس والماغوط ورينه حبشي وماجد فخري وغيرهم، وليس هذا مكان تتبع المفهوم ودلالاته، ومع هذا يمكن التأكيد على الطابع الشخصي والذاتي للتجربة، مما يجعلها قريبة من المعنى الذي كانت تحمله لدى المتصوفة.
من هنا يمكن أن ندرك الطابع الشخصي للكتاب الذي نحن بصدده، وإن كان هناك تفاوت بين مقالة وأخري، من حيث امتثال الكتاب للمعايير العامة لما نسميه نقدا، بل إننا قد نعثر داخل المقالة الواحدة على الملاحظة النقدية الدقيقة، التي تنم عن اطلاع واسع على مناهج النقد الحديث، وتمثل ناجع لها، إلى جانب فكرة انطباعية، مصدرها انفعالي ذاتي، وصيغتها في منزلة ما بين الشعر والنقد.
بهذا يمكن أن نفهم وصف حسن نجمي لكتابه بأنه نصوصي موازية وكيمياء شخصية، وهو ما يعبر عنه أن الكتاب قد صيغ بضمير المتكلم حتى في أقرب الحالات إلى الوصف الخارجي الذي يتسم بالحياد، ومن هنا تتداخل الأنا والأخر، وتنصهر الذات في الموضوع، و((تلتقي تجربة القراءة بتجربة الكتابة، ويأتلف الشعري بالتشكيلي، وتلتفت العين إلى صمت الفضاءات والأمكنة))، ويغدو العمل برمته عملا مفتوحا على أفق ((التجربة التي تتحدث عن الذات فيما هي تتحدث عن الآخرين)).(ص 19).
ولكن الحديث عن التجربة الذاتية يأخذ بعده التعميمي من خلال ملامح تجارب المبدعين الذين يمثلون نموذجا لما يمكن أن نسميه الرؤية الجمالية للمؤلف، لذلك عمد حسن نجمي إلى انتقاء دقيق لأسماء يتفاعل معها، دون سواها، وهو إذ يلجأ إلى هذا النوع من الفرز فإنما يفعل ذلك من أجل تمرير هذا الموقف الفني أو ذاك، إنه نوع من التوظيف المبطن لاعادة النظر في بعض ما كان يعتبر إلى عهد قريب، ثوابت في الخطاب الشعري، والخطاب الإبداعي عامة، ليس بالنسبة للآخرين فحسب، ولكن، وهذا هو المثير، بالنسبة لحسن نجمي نفسه، ومن هذه الزاوية فإن الكتاب يتضمن، بشكل أو بآخر، نقدا ذاتيا أيضا.
وهكذا تتخذ الكتابة عن الآخرين شكل شهادة لرؤية شعرية وجمالية لا يتوانى الكتاب عن الدفاع عنها، لا يخفي هذه الاستعارة النقدية، إن صح هذا التعبير، فهو لا يتأخر في الكشف عن طرقته في نقد الأشياء فيقول: ((هذه الطريقة تهمني: أن أتحدث عن التجربة الشعرية، كما أتمنى أن تكون، وأن أشير إلى ما اعتبره الأفق الضروري لكتابة القصيدة الجيدة، وبدلا من أن أتحدث عن ذلك كما أراه، أفضل أن يتم حدث من هذا النوع، من خلال الحديث عن الآخرين، عن تجارب أخرى، عن رهانات واستراتيجية شعرية أخرى))(ص 7)، ليس صدفة إذن أن تتم إثارة أسماء شعرية وإبداعية بعينها، وليس صدفة أن تختار أمكنة بذاتها لاستكمال تلك الرؤية الجمالية التي يدافع عنها الكتاب، وذلك إلى الحد الذي تكاد فيه المسافة تنمحي بين الكتابة والقراءة: ((في العمل الشعري الأخير لجاكوتي (في ضوء الشتاء) أحسست بأنني أقرأ شذرات، كما كنت أنا الذي كتبتها)).(ص 130)
انطلاقا مما سبق فإنه يمكن القول إن عمق الكتاب يرمي إلى بلورة مفهوم المؤلف لما يسميه القصيدة الجيدة، وعلى غرار ذك يمكننا أن نضيف، اللوحة الجيدة، والمكان الأخاذ.. ذك انه يبدو أن حسن نجمي لا يخضع مفهومه للفن عامة لحاسة واحدة، وإنما يستمع للقصيدة بعينيه قبل أذنيه، كما ينظر على اللوحة بأذنيه قبل عينيه، فإن الجسد برمته يغدو مجالا لاستقبال العمل الإبداعي.
وإذا كان هذا صحيحا فإن الكتاب بمعنى ما، لا يهمه فحصب، أن بتجربة الكتابة الشعرية لدى حسن نجمي، التي تستغرق بالعد أكثر من عشرين عاما، والتي أعلنت عن نفسها مع بداية الثمانينات، بصدور مجموعته الأولى (لك الإمارات ايتها الخزامى)، بل إنه وبنفس الدرجة، يهتم بتجربة القراءة لدى المؤلف، إن مثل هذا التداخل بين الكتابة والقراءة، بين الفعل والانفعال الذي يتم بشكل جدلي، يجعل من (الشعر والتجربة) نوعا من السيرة الإبداعية. إن هذه السيرة لا تكتفي بسرد نفسها وفق منطق حواري تمت الإشارة إلى ملامحه البارزة، ولكنها تتوخى كذلك تدشين حوار مع قارئها، باقتراح مفهوم معين لـ((الجميل)) بالمعنى الإستتيقي للكلمة.
-2-
من الطبيعي أن تتميز تجربة شعرية استغرقت ما يزيد على عقدين من الزمن، بالتنوع، والتجاوز المستمر لنفسها، ومن هنا فإن مفهوم القصيدة الذي حاول حسن نجمي نحته من خلال هذا الكتاب، قد لا ينسحب إلا على المرحلة الحالية من عطائه الشعري، وهذا ما يبرر التصاق خصائص القصيدة التي يتحدث عنها في الكتاب، بملامح القصيدة في مجموعته الأخيرة ((حياة صغيرة))، كما سيتبين بعد قليل.
إن هذا أمر طبيعي بالنظر إلى العلاقة الجدلية بين التنظير والإبداع، ولو أن تلك العلاقة لا تكشف من نفسها بسهولة ويسر، لأن القصيدة تحتفظ دائما ببعض الأسرار، التي تتقوقع خارج البوح. هذا فضلا من أن التنظير في غالب الأحيان يتحدث مما ينبغي أن يكون. ومن الصعب القول، والحالة هذه، إن القصيدة هي مقابل موضوعي للتنظير الشعري. إن هناك دائما هذه المسافة التي لا تعبر بالضرورة عن تقدم التنظير عن القصيدة أو العكس.
يأخذ حسن نجمي على المشهد الثقافي المغربي والعربي، أنه مشهد يقدس الماضي ولا يقطع إلى المستقبل إلا في حدود ضيقة، ويرى عكس ذلك أن ((شابا يمنحك الثقة في نفسك وفي تفكيرك، وفي مرجعيك الاجتماعية والثقافية والتاريخية (…) أفضل من عشرات الجثث التي تملأ الرعب بالزعيق، وتصنع القرار الثقافي والسياسي الطائش، ونظل نراكم من حولها تظاهرات التكريم، لمجرد كونها جثثا تاريخية، لا تزال تدب على الأرض)).(ص 210) من أجل ذك فإن الكتاب يراهن على المستقبل أي على الشباب، ولكن هذا الرهان لا يمكن أن يكون ذا معنى إلا بامتداده في الماضي، وانفتاحه على الأخر، ومن هنا حرص حسن نجمي على التعريف بالتجارب الشعرية العالمية الرائدة، والترجمة لبعضها: (أدونيس، نيرودا، باوند، ماياكوفسكي وآخرين، كما حرص من جهة أخرى على الدعوة إلى الحوار بين الأجيال الثقافية والشعرية بعيدا عن الوصاية والنصح وكل سلطة مرجعية، ودعا إلى ((احتكام العلائق إلى منظور الحوار والإنصات المتبادل. ذلك أن للأجيال الجديدة سياقاتها الثقافية والتربوية والجمالية المختلفة)).(ص 141) وهكذا يكون الشاعر الناشئ بحاجة إلى ((صداقات حية، الصداقة التي تنصت وتبدي وجهة النظر، الصداقة التي لا تصادر ولا تستحوذ، ولا تفاضل، الصداقة الحرة التي لا تلقن بل تعرض نفسها في بساطة وتلقائية وصمت)).(142)
وكما سجل الكاتب مؤاخذات على الجيل القديم من الشعراء، فإنه يحمل النقد نصيبا وافرا من المسؤولية، في عدم الدفع بالإبداع الشعري إلى الأمام، والسبب في ذلك إعطاء الأولوية للمنهج على حساب النص، الذي يتحول إلى حقل تجارب، وهكذا أصبح من المبتذل، أن يسمي الباحث منهجا، ويتعب نفسه في البحث عن أدق تفاصيله، ثم يجعل منه أداة لقمع النص وتقويله ما لم يقله. فالمنهج ((وجد ليخدم الباحث أساسا، وليس العكس، كما هو الأمر بالنسبة لعدد من أصدقائنا النقاد الشباب، الذين تستعبدهم المناهج، وتحول خطاباتهم، كتاباتهم، إلى خطاطات وجداول وترسيمات علموية)).(ص 184) من هنا يمكن أن ندرك أن انتصار المؤلف للأجيال الجديدة ليس انتصارا حماسيا، مجانيا، فهو يدافع عنهم في سياق وينتقدهم في سياق أخر.
إنه انتصار أملاه خلل في العلاقة بين الاجيال الشعرية، فهو انتصار للآتي، ولكنه قبل ذلك انتصار للحداثة الشعرية (على الرغم من أن نجمي لم يستعمل هذا المفهوم) التي ترفض الخضوع للقوالب المسبقة، لأن المعرفة الشعرية ((ذات طبيعة غجرية، لا تفضل الاستقرار والجمود، ولا تستجيب للقوالب والأنماط الجاهزة)).(ص 139) إن هذا لا يعني أن القصيدة لا تحتكم إلى أية ضوابط شعرية، بل إن تتبعا دقيقا لمحتويات الكتاب يوحي بأنه يدافع عن رؤية شعرية معينة، هي ما تطمح هذه المداخلة إلى القبض على أهم خصائصها في السطور الآتية:
يميز حسن نجمي بين نوعين من الشعراء: ((الشعراء الذين يكتبون شعر التجربة)) والشعراء الذين ((تغمرهم كيمياء اللغة)) (ص 134)، والواقع أن كل واحد من هذين النوعين يمثل اختيارا شعريا، فهما اتجاهان متميزان عن بعضهما، يحكم كل واحد منهما مفهوم محدد لما ينبغي أن تكون عليه القصيدة. ذلك أن مرجعية قصيدة التجربة تتمثل في الواقع واليومي، أما القصيدة التي تعتمد ما يسميه الكاتب كيمياء اللغة، فلا مرجعية لها، أو لنقل إن مرجعيتها في ذاتها، إنها بنية لغوية مغلقة تستقل بنفسها. ويبدو الكتاب منحازا إلى شعر التجربة لأنه يؤمن بأن ((الرؤية الشعرية تأتي من تبلور الموقف الفكر، الخاص من الواقع، ومن نظام الأشياء، والعلائق اليومية، العامة والخاصة)).(ص 152) وبما أن الشعر ((المستسلم لإغراء اللغة، ولثرثرتها لا يمكنه أن يحقق تواصلا جيدا مع العالم))(ص 19) فإنه ((ينبغي أن يكون الشاعر شاعر قضية على الدوام، لكن، ينبغي أن يظل الشعر قضيته الأولى)).(ص 15) ولكن، ما معنى أن تكون للشاعر قضية؟ هل يعني ذلك دعوة إلى القصيدة الملتزمة، التي كانت سائدة إلى حدود منتصف الثمانينات؟
إن حسن نجمي يحسم هذا الأمر منذ البداية، حين يؤكد على أن الشعر ((فضاء واقعي مستحيل، لكننا نعثر فيه على الأشياء الأساسية. وهي أساسية بالنسبة لمن يعتبر الشعر شيئا آخر غير السياسي، وغير الأيديولوجي)).(ص 13) ومن هنا تتخذ القضية منحيين متكاملين في الشعر، لدى الكاتب: المنحى الأول يتجلى في تبني الشعر لقضايا إنسانية عامة، وهذا المنحى مشروط بألا يتحول الشعر إلى خطاب تبشيري فج، أي أن يستطيع الشاعر المساهمة في أنسنة الإنسان وإقامة جسور التواصل بين الشعوب والحضارات، دون أن يفقد الشعر شعريته. والواقع أن المؤلف يعترف بصعوبة تحقيق هذا المنحى، الذي لا يصل اليه إلا الشعراء الكبار. ولهذا نراه يتحدث عن بابلو نيرودا باعتزاز كبير، فلم ((ينفصل الشعر في تجربة نيرودا عن الالتزام السياسي والأخلاقي، بل تحول الشعر بكل شفافيته، وبهاء لغته وتعالي دلالته، إلى عون للفعل الثوري في حومة النضال اللامشروط، من أجل قلب التربة الثقافية والاجتماعية)).(ص 87)
أما المنحى الثاني فيتمثل في الاحتفاء شعريا باليومي، وبالتفاصيل الصغيرة العابرة، التي لا تدركها إلا عين شاعر، ويبدو الشاعر حسن نجمي فارس هذا المنحى بامتياز، فمن قرأ مجموعته الشعرية (حياة صغيرة)،لا يحتاج إلى طول تأمل كي يصل إلى أن شعرية القصيدة فيها تقوم أساسا على تصيد اليومي والعابر، عن طريق التركيز على ما تلتقطه العين في المقام الأول، فقد كتب من المقهى والقطار، ورسم بالشعر بورتريهات لنفسه ولأصدقائه.. بل إن اليومي قد انعكس تلك المجموعة على اللغة الشعرية، التي استفادت من المعجم والصياغة العاميين.
ويظهر من خلال ((الشاعروالتجربة)) أن اللجوء إلى هذا النمط من الكتابة، ينم عن اختيار واع بما يريد، وأنه ليس شكلا من الأشكال، اكتشفه الشاعر بالصدفة، تحت وطأة التجريب، الذي لا يبقي ولا يذر، كما هو الأمر عند بض الشعراء ((التجريبيين)).
هكذا يمكن أن نعثر في الكتاب على أكثر من صيغة لتعريف الشعر، ولكن العنصر المشترك بين تلك الصيغ جميعها يكمن في التركيز على اليومي والبسيط، وهما مفهومان يترددان في ثنايا الكتاب أكثر من مرة. فالشعر لدى حسن نجمي هو ((تمثل العابر والعرضي والجزئي. ومن ثم تظل الدهشة هي سمته الأساسية.. وهذا معناه أننا نسعى لأن نجعل من الدهشة صيغة للعبور نحو الآخر)).(ص 41) إن هذا الانحياز للعرضي والبسيط واليومي هو استراتيجية شعرية يراهن عيها الشاعر، كمخرج من حالة الركود التي أصبح يعانيها الشعر العربي، بعد أن بدا أن قصيدة النثر، التي كانت إلى عهد قريب، تمثل صيغة ناجعة لكسر الرتابة في القصيدة العربية الحديثة، قد أصبحت تستهلك نفسها، وغدت بالتالي في أمس الحاجة الى التحديث.
إن الكتاب لا يستعمل أي مصطلح يشير إلى ما يسميه بعض الدارسين أزمة الحداثة الشعرية في العالم العربي وفي المغرب تحديدا، بل انه يتحاشى كل حديث يمكن أن يفهم على أنه نقد لراهن القصيدة العربية أو المغربية، ومع هذا فإنه يستشعر، ولو من بعيد الصعوبات التي تجتازها القصيدة الحديثة، ويعبر عن ذلك بطريقة غير مباشرة.
وفي إطار تلك المراجعات التي يقوم بها حسن نجمي الشاعر، ترسخ لديه اقتناع بضرورة البحث عن أفق مغاير للتعبير الشعري، يلخصه في العبارة التالية: ((أصبت أكثر ميلا لكتابة نابعة من التجربة، ومما يتصيده النظر الحاد المنتبه)).(135)
إن هذا الإلحاح على اليومي والبسيط في الشعر ليس هدفا في ذاته، فالكاتب الذي رفض أن يكون الشعر مجرد ((كيمياء لغوية))، ويعبر عن مجانية مطلقة، مازال يؤمن برسالة ما للشعر، على أن هذه الرسالة ليست تبشيرية ولا شعارية، إنها تواصلية بالتفاتها نحو المهمش والعارض.
ومن هنا حاجة العالم المعاصر إلى الشعر والشعراء، تلك الحاجة التي تتمثل في القبض على التفاصيل الصغيرة التي توجد خارج ((الإقتناعات الكبرى، في الغربة والمنفى، في العزلة والوحدة، في المتخيل والذاكرة، في الزائل والمهش)).(ص 17) إن هذه الأشياء الصغيرة هي التي تحقق التواصل الإنساني الحق.
ويبدو الكاتب مهتما إلى حد كبير بهذا النوع من التواصل، وهو ما أدى به، وهو يختار نماذجه العالمية، إلى التركيز على الشعراء الذين استطاعوا أن يحققوا أفضل تواصل إنساني. ومن هنا جاءت دعوة حسن نجمي إلى ((أن نجعل من الشعر شكلا للحياة، والتواصل مع الآخرين، دونما حواجز ثقافية، أو سياسية أو أيديولوجية أو سيكولوجية أو غيرها)).(ص 14) ولكن التواصل بهذا المعنى لا يشكل سوى الوجه الأول من القضية الكبرى التي يحملها الشاعر على عاتقه، أما الوجه الثاني فيكمن في المساهمة فيما يسميه الكاتب إضاءة الفعل، وهي عبارة لا علاقة لها مع ما كان يعرف بالشعر الثوري أو الشر الملتزم… لأن مثل هذا الشعر غالبا ما تكون له أهداف آنية ومعروفة مسبقا، ووظيفته هي أن يؤجج الطموح في إدراك تلك الاهداف.
أما المؤلف فيربط ربطا بين الشعر والحياة، بالمعنى الأنطلوجي للكلمة، وهذا دفع به الى طرح السؤال الوجودي: لماذا أكتب؟ ويمكن القول إن الكتاب برمته هو محاولة لتلمس الإجابة من هذا السؤال الإشكالي، غير انه يقدم، بشكل مباشر، مقاربة للسؤال من خلال الشاعر روبرتو خواروث الذي يقول: ((إذا كنت أكتب، فلأنني ببساط أحب الحياة)).(ص 65) وبهذا المعنى يتحول الشعر إلى سلاح للمقاومة، مقاومة الأوهام، أوهام الأنا والأخر معا.
انطلاقا من هذا يمكن أن نتصور الإلحاح الذي صيغت به تلك العلاقة، والذي يفصح عنه تكرار الفكرة غير مرة في الكتاب. ولكن الحياة، قبل هذا وذاك، لدى حسن نجمي، ليست مفهوما فلسفيا، وليست بالخصوص مفهوما ميتافيزيقيا، إنها الأشياء من حولنا، في بساطتها وعنفوانها. من هنا كان التقاط تفاصيل الحياة اليومية مهمة شعرية بالدرجة الأولى، والأعمال الشعرية العالمية ليست سوى تعبير عن الحياة بهذا المعنى، وبهذه الرؤية الشعرية والجمالية القائمة على البساطة، والتقاط اليومي، صاحب حسن نجمي بعض الشعراء العالميين في رحلتهم الإبداعية.
هكذا فإن القصيدة عند أونجاريتي ((كان يطوها غبار التجربة والحدث المعيشي فعليا)).(ص 53) وهي عند جللييفيك تنهض من خلال ((التقاط الأشياء العادية، البسيطة واليومية)).(ص 35)، ويتأمل الشعر لدى ستيفنز ((وضعا جوهريا من خلال المشهد اليومي)).(ص 72) ويظر نيرودا رغم كل ما قيل عنه، ((شاعر الأشياء اليومية البسيطة)).(ص 89) الخ..
إن تمرير موقف نقدي انطلاقا من الكتابة بقدر ما يصبغ على الرؤية الشعرية التي يدافع عنها الكاتب، نوعا من الشرعية التاريخية، فإنه يحمل في طياته مخاطر الاختزال، والنظرة أحادية الجانب، وهي ظاهرة منتشرة في النقد العربي الحديث.
ويمكن القول إن حسن نجمي كان يضع نصب عينيه مثل تلك المنزلقات، وهو يكتب من التجربة الشعرية، لشعراء عرفوا بغنى تجاربهم الشعرية وتنوعها، فهو يحرص دائما على صياغة آرائه النقدية بنوع من النسبية التي تخاطب في القارئ روح التعددية والاختلاف، وتذكره بأن الأمر يتعلق بقراءة ممكنة من عدد لا نهائي من القراءات. وهذا ما تعبر عنه اللغة الشفافة التي كتب بها، والتي تتخلى عن المفاهيم النقدية الفظة، لصالح العبارة الاستعارية الأنيقة. إن الكاتب يرفض أن يكون الشعر مجرد تنويعات شكلية، ونوعا من ممارسة الترف الفني عبر الكلمات، لأن الصياغة الشعرية مهما بدت جميلة وفاتنة، لا تنتج لوحدها نصا شعريا حقيقيا، ومن ثم فإن ((الحرص على مستلزمات الاستتيقا الشعرية واجب، لكن الحرص على مستلزمات الحياة، واجب مضاعف))، هذا الربط بين الشعر والحياة، وبين القصيدة والفعل، كما يحلو للكاتب أن يعبر من ذلك، هو الذي يكرس حاجة العالم المعاصر إلى الشعر وإلى الشعراء، وهي ((حاجة إلى سفر مفتوح على الفضاء الشاسع، وفي الزمن الممتد في التفاصيل الصغيرة)).(ص 16)
وإذ بدا أن الشاعر ينيط بالشعر وظيفة تواصلية، تقوم على إعادة تشكيل الأشياء العابرة، فإنه يركز بالخصوص على ما تلتقطه العين، لذلك لا يمكن أن نتصور لدى حسن نجمي شاعرا ليست له ثقافة بصرية، بمعنى من المعاني، والحقيقة أن حسن كان من أوائل الشعراء المقاربة الذين تنبهوا إلى ما للبعد البصري من أهمية في الإبداع الشعري، فقد جاءت قصائد ديوانه الأول ((لك الإمارة ايتها الخزامى))، مرفقة بصور لعبدالله بلعباس.
وعلى الرغم من أن الشاعر يرى الآن أن تلك التجربة لا تعكس العلاقة الحقيقية، التي ينبغي أن تقوم بين الشعري والتشكيلي، إلا أنها تعبر عن إحساس مبكر لدى شاعر يافع كان يتلمس طريقه نحو القول الشعري، بالأهمية القصوى لتلك العلاقة، مما يفسر إصرار الشاعر حسن نجمي على مواصلة التجربة، التي توجت بعمل مشترك بينه وبين الفنان محمد القاسمي يحمل عنوان (الريح الشتوية. وبعيدا عن هذه العلاقة المباشرة التي يكرسها ذلك العمل فإن في قصائد حسن نجمي الأخيرة تعبيرا عن نضج التجربة وتطورها، خاصة في ديوانه (حياة صغيرة). ويمكن التأكيد على أن الكتاب يولي أهمية خاصة للثقافة البصرية من خلال ثلاثة مظاهر على الأقل: يتعلق الأول باللغة البصرية، إذا صح هذا التعبير، التي يستعملها الشاعر في تنظيره للشعر، وفي حديثه عن التجارب الشعرية التي قدمها في كتابه، ذلك أن عملية إحصائية للأفعال والأسماء المستعملة في هذا القسم من الكتاب تظهر هيمنة الكلمات التي تنتسب للعين أكثر من غيرها.
ويتعلق الثاني بتخصيص مقالات في الكتاب لإضاة تلك العلاقة، نذكر منها دراسة تحمل عنوان (الشعري والتشكيلي) ومقالا عن كتاب الحب لمحمد بنيس وفاضل العزاوي.
أما الثالث فيتمثل في بورتريهات كتبها الشاعر عن بعض الشخصيات، من أمثال ثريا جبران، والمرحوم محمد باهي، وهي تجربة كان حسن نجمي قد دشنها شعريا في (حياة صغيرة). وتقوم على الوصف الذي يجنح الى التفاصيل المعبرة.
لا يتسع المقام لمزيد من التفصيل في هذه النقطة المهمة، فالأمر يحتاج إلى دراسة مستقلة، ترصد العلاقة بين الشعري والتشكيلي لدى حسن نجمي، سواء من خلال هذا الكتاب الفني بالإشارات إلى الأهمية القصوى التي يحتلها البعد البصري في العمل الشعري، أو من خلال تجربة حسن نجمي الشعرية، التي يمكن اعتبارها من التجارب الرائدة في هذا المضمار.
ولكن هذا لا يمنع من التعرض لتك العلاقة بين التشكيلي والشعري، من خلال مفهومي ((المصادرة)) و((التمثل)) اللذين يشكلان جوهر تلك العلاقة بالنسبة لحسن نجمي، الذي يوجه في كتابه نقدا لاذعا لبعض التجارب في هذا المجال، ومنها تجربة الأولى. يرى نجمي أن أية علاقة بين الشعري والتشكيلي لا ينبغي أن تقوم على حساب أحد الطرفين، ولو من باب العلاقة التفسيرية، لأن ذلك من شأنه أن يكرس نوعا من الدونية لأحدهما. ومن ثم فإنه لا يمكن أن تنشأ علاقة بين ((الشعر والتشكيل بناء على نوع من المصادرة، لأن بنية الخطاب الشعري، أقوى من أن تصادرها بنية الخطابات التشكيلية، والعكس صحيح)).(ص 155) ومن أجل تجنب هذا النوع من العلاقة المختلة يقترح الكاتب علاقة التمثل، التي ترمي إلى تحقيق الاندماج بين الشعري والتشكيلي بما يجعل منهما نصا واحدا، وبهذا تصبح ((القصيدة منخرطة بجسدها في الحقل البصري، وبكيفية تجعل النص المرسوم فضاء مزدوجا وغنيا بالشاعرية)).(ص 155)
من هنا يظهران ما يبحث عنه حسن نجمي هو التمثل المتبادل الذي يناغم بواسطته الشعري والتشكيلي، بكيفية تجعل منهما معا كائنا إبداعيا واحدا يخدم جوهر الإبداع كيفما كانت أدوات التعبير التي يعتمدها. ولا يتسنى ذلك إلا بإلغاء جميع أنواع التواطؤ التي تحكم، في مثل هذه الحالات، الشاعر والفنان التشكيلي على السواء.
ــــــــــــ
* حسن نجمي: الشاعر والتجربة، دار الثقافة الأولى، الدار البيضاء 1999.
حسن مخافي (اكاديمي من المغرب)