فدوى سالم
في منتصف حوش المنزل، يجلس على الكرسي البلاستيكي المصفر، يتأمل غروبًا عاديًا، لا غيوم ولا ألوان كثيرة، هو اللون البرتقالي القاتم، يختلط مع الجبال، والشمس تسقط، جالبة لقلبه الأسى والذكرى. يستذكر ماضيًا بعيدًا، ابنته الميتة، ليس شيئًا يذكر، لا شيء يُذكر..
يسمع حركة زوجته في الداخل، ويشم رائحة القهوة، وتحرك الرياح الأشجار. لازال الضوء يغمر المكان، ويمد ظلاله البرتقالية على بلاط الحوش، تخرج زوجته، تجلس على درج الباب، وتمسك بيدها دلة القهوة والفناجين، وبيدها الأخرى تمسك علبة تمر من النخلة في الحوش. تستغفر وتحوقل، تناديه ليشرب فنجانًا، يقترب منها، وتسكب له فنجانًا، وتناوله تمرة، ومن بعدها فنجانا آخر. تنظر في عينيه، ولا ينظر هو، تنادي باسمه، تتحدث عن ابنها وزوجته الحامل، لم يتبق شيء على ولادتها. تعلم بأنه يفكر، تسكت، وتدمع عيناها، يمسح على يدها مطمئنًا ومجفلًا من تلك اللمسة. يدخل ليتوضأ لصلاة المغرب.
ليس للطفلة صورة معلقة في البيت، اضطرا لإنزال الصورة بعد وفاتها، لأنهما لم يستطيعا تحمل ذلك الظهور الموجع، كانت الصورة أشبه بصفعة على الخد، حارقة، ومؤلمة، تذكرهما أن وجهها لم يعد سوى ألوان على ورق. أصبح البيت ضيقًا، وداكنًا. لا مجال لاسترجاع الفرح، ولا مجال لتخفيف وطأة الموت، لا شيء يخفف وطأة الموت.
لم تكن المسافة الفارقة بينهما جديدة، كان للحياة دور في أن تكبر المسافة، وأن تزداد كل يوم. رغم محاولاتهما الدائمة في شحذ شعورهما بالألفة، ولكنه كان يخفت ويموت، لم يسببه الموت وحده. لقد كان لديهما استعداد لفقدان ما يملكانه من مشاعر، وكان موت الابنة هو ما زاد سرعة انفراج المسافة، لقد اختصر وقتًا طويلًا جدًا من الشك والمحاولة. أصبح كل حزن هو حزن شخصي، رغم أنه مشترك، ومقلق للطرفين، وكلاهما كان يحمل شعورًا مشتركًا من اللوم والذنب، يحمّلان أنفسهما الذنب، ويلومان بعضهما على كل شيء، وهذا ما قطع الطريق، أصبح كل شيء باردًا وغريبًا بالنسبة لهما.. وخصوصًا بالنسبة له.
لم يكونا يملكان كثيرًا من الحب لبعضهما في أول الزواج، لم يكن زواجهما إكمالًا لمشوارٍ قطعاه مسبقًا، كان تحصيل حاصل لما هو مفروض ومرغوب به اجتماعيًا ونفسيًا وجسديًا، هدف مدفوع من قِبل الناس، والعادة، والدم المتدفق. لقد عاشا حياة جيدة قبل الموت.. ربما، لقد كانت في القالب، وقد بدا الأمر جيدًا، كانت مضمونة.. ككل الأشياء المضمونة في الحياة، ومؤطرة بما يقتضي المكان: كان يأمر، وهي تنفذ. ولكن ما حصل، عندما ماتت الابنة، كان كافيًا لأن يزلزل اليقين المتبقي، وأن يقذف بهما خارج القالب والإطار، ليكونا، خارج كل الضمانات، زوجين مكسورين، لا يتفقان إلا في وجود الابن الذي يرغبان منحه عائلة.. حتى وإن كانت محطمة وتعيسة.
استطاع خالد تخطي حالة الوجع التي أحاطت بعائلته بعد وفاة أخته، ترك المنزل للجامعة، واستطاع الهرب، من ضيقه وسواده، لكنه كان يعود، وينظر في وجه أمه وأبيه، فيتذكر أخته الميتة، ذكراها تهرب من قلبه كلما خرج من البيت، وتنبعث في قلبه كلما دخل، ليس باستطاعته التخلص منها، ولا تخليص أحد. كانت العائلة منهارة، وصامتة، وكان والداه كالقفل صامتين، ويعيشان كأن لا شيء حدث. ترك المنزل للعمل في العاصمة، تزوج، وبنى منزلًا، ينتظر طفلًا، يرجو والديه كلما عاد للبيت أن يأتيا للعيش معه، ويخفف طلب الزيارة عندما يصبح الأمر مستحيلًا، ولكنه يظل مستحيلًا عندما يختم والده الحديث: “هذا بيتك، تستطيع المجيء لزيارتنا متى أردت وإذا صعبت عليك الزيارة فلست ملزمًا بالمجيء”. يخرج مع والده من المنزل، يشرب معه الشاي في الحوش، يحدثه والده عن النخل، ويضحك عندما يذكره بقصص جارهم العفوية، يتمسك خالد بضحكة والده، يسترسل في الحديث، مستجديًا ضحكات أخرى، ولكنه لا يضحك أكثر.
يبقيان وحيدَين بعد الزيارات المتباعدة التي يأتي فيها ابنهما، ويتركهما بعد ذلك مثقلين. في دماغيهما معًا، تكبر الصور، يتأملانها بصمت في زخم من الذكريات، ويعلمان أنهما لا يستطيعان مشاركة هذا الحزن مع بعضهما، لقد تعودا على ذلك ولم يستطيعا التحرر من العادة، أنهما يعيشان في حالة من الحزن المطبق الذي يقتل القلب، ويكرر الذكريات والآلام بشكل مستمر. يكبر الحزن في قلبه، كطحالب وجدت بيئة مناسبة للنمو، ويبقى الحزن كبيرًا في قلبها هي، يخفت أحيانًا، يكون أقل وطأة، يحاولان تخطيه منفردين، ولكنهما عالقان في الزمن، ويحيط بهما الظلام.
أصبحا بعد هذه السنوات يعيشان ازدواج حياة الخارج والداخل، يخلعان أحزانهما عندما يخرجان من البيت، يتحدثان مع الناس بشكلٍ عادي، يحاولان أن يكونا أكثر مرحًا. ينزعان ذلك الحزن للحظات، ويعودان، يرتديان أحزانهما كُلٌ على حدة، ويعيشان حياتهما، وهما منغمسان في حُزن واحد لا يتشاركانه معًا.
كانت تحاول في لحظات معينة أن تتوقف عن الصبر، أرادت أن تصرخ، أن تتكلم، ولكنها تتراجع. الموت يُثقل القلب، يصبح ثقله لا يُطاق، ولكن مع الزمن، يتعايش الإنسان مع هذا الثقل، ويحاول استراق اللحظات التي تنسيه ذلك الثقل. كانت تخرج، وتزور الناس وتعزي، وعندما كانت تعزي امرأة بموت ابنها أو ابنتها، تحتضنها بقوة، وتشعر بارتياح مؤقت، لأن أحدًا يستطيع فهم ما تشعر به. ألح الجميع عليها بالإنجاب في البداية، أخبروها بأن هذا سيخفف عنها، وسيشغل بالها، ولكنها لم تصدق، وحاولت، وبعد إجهاضين، قررت الاستسلام.
لا تستطيع التحدث عن الموت بحد ذاته، تهرب من ذلك اليوم، تحاول ألا تتذكر مدى الألم الذي عانته، ولا مدى الوجع الذي عانته ابنتها، تحاول طرد صورة الطفلة الميتة من عقلها، وتحاول تذكر صورتها وهي حية، تلعب وتلهو. تحاول التأقلم مع ما منحتها إياه الحياة من وقت، وعندما تفكر في مدى عدالة موت ابنتها وهي لا زالت على قيد الحياة، ولا تجد جوابًا، تستغفر وتقنع نفسها بأن هذا ابتلاء من الله، تقتنع حتى تضعف، ترتمي على سجادة الصلاة وتسأل الله عن سبب عقابه، تسأله لماذا لم تكن هي؟ لماذا لم تكن هي بدل طفلة في عمر العاشرة، كان يجب أن تكون أمامها الحياة، كانت تفكر في مستقبلها، في تخرجها من المدرسة، ودخولها الجامعة، والعمل، والسعادة، والزواج، والأحفاد؟ أليس هذا هو العدل؟ لكن الله لم يُجب على الأسئلة، فتستغفر وتقوم، مؤمنة بشكلٍ مؤقت بأن هذا ابتلاء، وأنه ابتلاء طويل، لن ينتهي، ولكنه يضمن أن تلتقي بابنتها، تفكر في ابنتها الطفلة طيرًا في الجنة، تفكر بابنتها بأجنحة تطير في مكانٍ جميل، ومن ثم تهاجمها فكرة أن ابنتها في حفرة ضيقة مظلمة لا يدخلها هواء أو ضوء، فتكتم بكاءها، وتصمت.
هي لم تصرخ، ولم تبك بصوتٍ عالٍ في أيام العزاء الأولى، كانت تتعايش مع كل الذين كانوا يبكون بحرقة، تحتضن النساء اللواتي يحتضنّها ويبكين بحرقة، تبكي بهدوء، لم تفهم أن هذا عزاؤها، كانت تظن بأنه عندما ينتهي العزاء، ستعود لحياتها العادية، وستعود نور للبيت، ستمشط لها شعرها قبل أن تذهب للمدرسة، وستعود وتتحدث عن صفها وصديقاتها، وستتعارك هي وأخوها على من يمسك جهاز التحكم في التلفاز وقت الظهيرة، حتى يتفقا على مسلسل كرتون يشاهدانه، وستأتي قبل الرابعة والنصف لتأخذ مالًا للدكان، وهذه المرة ستعطيها مئتي بيسة بدلًا من مائة، كانت دومًا تطلبها، ستعطيها مائتين، ستناديها بعد أذان المغرب بأن تدخل ولن تنهرها على تأخرها، وستدخل نور بضحكتها المعتادة، وستفتح حقيبتها وستحل واجبها بجانبها وهي تخبز للعشاء، وستبدأ بالحديث عن المعلمات، ستحفظ قصيدة أو آية، ستسمعها، وستدخل الكتب بعد ذلك، وستتحدث عن حماسها ليوم الجمعة، عندما يأتي أبناء عمها لزيارتهم. لكنها اكتشفت بعد العزاء أنها لن تعود، وقد فقدت فرصتها في الصراخ وضرب الأرض بيديها والنحيب العلني، بكت وانتحبت وحيدة حتى عن زوجها الذي أسكته ما حدث.
كان على عكسها يفكر في ذلك اليوم كثيرًا، يفكر بابنته التي ماتت، ويخاف أن يصدق موتها، رغم أنه يعيد في رأسه ذلك اليوم، وصورتها وهي ميتة، وجسدها مليء بالكسور ووجهها ساكن، كانت ابنته جثة، لم تستيقظ، بكى، ومشى بعيدًا، وترك ابنته مسجاة على الأرض. لم يرغب في رؤية وجهها ساكنًا بلا نفس، يتذكر كل فستان، كل ضحكة، وكل دمعة، ويصارع “لو” في داخله. مشى يومها في الجبال، وهو يتذكر ذلك الوجه الميت، حتى صارعته ذكرى من شهور، حين كانت مستلقية بجانبه ظهرًا، تخبره بأنها تريد أن تصبح معلمة: “مثل أستاذة نادية”، تتحدث عن المدرسة، يخبرها بأنها ستكون أستاذة وستعلمه، فتضحك، يدغدغها، تتقلب وهي تضحك، يقول خالد ضاحكًا بأنه سيصبح مهندسًا: “مثل عمي سعيد، يضاحكهما الأب ويصدقهما. كانت تتحدث كثيرًا، وكان ينهرها أحيانًا على ذلك، يشعر بالندم. عاد إلى البيت بحث عن ابنه خالد واحتضنه وقبله، وصلى على ابنته ودفنها.
حاولا في البداية، كثيرًا من أجل خالد، لكنهما لم يستطيعا التخلص من الوجع وحدّته، يمنعهما عن التصارح بصوتٍ عالٍ، كان الحزن بالنسبة لهما مشتركًا، ولكن لم يكن شيئًا يجب أن يتشاركاه كعائلة، لم يكن أحدهما يظهر حزنه وحاجته للآخر بوضوح وبلا خوف، كانا في داخلهما يلومان أنفسهما على ما حدث، كان بينهما أكثر من خالد، كان بينهما حزن، ولعل ذلك الأمر جعل الأمور أكثر صعوبة، كان خالد يعيش منفصلًا عن عالمهما، كان يعيش بهدوء، كان يعلم أن أخته ماتت، وكان يصدق الأمر، يحتفظ بإحدى صورها في درج مكتبه، يتذكرها بأسى وكان ينسى معاني الحزن الكبرى، ولكن السواد في المنزل جعل منه شابًا هادئًا ومجتهدًا، يذاكر باستمرار، كان يشعر بأنه يجب أن يخرج من هذا الجو القاتم. رغم أن والديه لم يكونا يظهران أي شيء. لقد كان محطمًا أيضًا بسبب أنه ظن بأن وجوده لم يشكل أي فرق بالنسبة لهما. تحصل على مجموع ممتاز في الثانوية وقُبل بكلية الهندسة، بكت والدته من الفرحة واحتضنته، بارك له والده وشد على يديه، ودخل غرفته وبكى أمنية ابنته التي لن تتحقق.
في ذلك اليوم، عادا عصرًا من العاصمة، بعد أن أنجبت زوجة ابنهما طفلة، قرر خالد تسميتها نور على اسم أخته، رجا خالد والدته قبل أن ترحل: “حاولي إقناعه بالمجيء هنا، هذه نور.. ستدخل في قلبيكما البهجة.” تبكي والدته، يحتضنها، يرجوها أن تقنعه. جلسا قبل المغرب على الباب، مع القهوة والتمر، قالت بأن البنت تشبه نور، لم يرد، لم يتحدثا في هذا الموضوع من قبل، تتلعثم وترتجف وتذكره باليوم الذي وُلد فيه خالد، يخبرها بأنه يتذكر، تدمع عيناها، تسأله: “تتذكر عندما ولدت نور؟” يصمت. تقول: “تشبه نور” ينظر إليها، يقول: “كانت من الممكن أن تكون عمة”. تدمع عيناه، تتجاهل حديثه، تبدأ بذكر طفولة ابنتهما. يقول: “لو لم تسمحي لها بالذهاب، لكانت بيننا اليوم”. تبكي: “لو كنت أعرف لما فعلت”، قالت. يمسح جبينها، ويقول: “كان سيحدث في كل الأحوال ما حدث”، تهز رأسها، يتحدثان عن الحفيدة، ولكنهما يتذكران ابنتهما، يخبرها عن ضحكتها التي يسمعها بين الحين والآخر، تدخل البيت وتخرج ومعها صورة، صورة لخالد ونور يبتسمان، يتأملان الصورة، يبكيان بحرقة على باب البيت، الشمس تغرب، تسقط بين الجبال، وتظلم السماء، لكن يبقى هنالك نورٌ طفيف يسمح بالنظر وأشياء كثيرة لِتُذكر.