محمّد الحرز
إهداء إلى قاسم حداد
يقول قاسم في قصيدة (خطاطون):
يتناوب تسعة خطاطين على جسدي
بالقصب الطازج والآيات وحبر الجنة
يهتاجون كتاج الهودج في العرس
ويبتهجون.
بعد اليوم
النظرات وحيدة
تمضي بلا أسلحة
بعد اليوم
الأفواه لن تكفّ
عن الصراخ
أمام جثّة العاصفة
بعد اليوم
الحياة قرب سلالم مكسورة
لن تحجب عن الأعمى
فضيلة الصعود.
ولأنّ الإيماءة
لا تكفي
ليس خطأ إذن
أن ينزل الجميع عن أشجارهم
بعد كل ظهيرة:
الرؤوس مكوّمة في الطين
على الضفاف
والأنهار تقفز في أحضانهم كالأسماك.
وحدها الأصابع محميّة بلهب الإشارات
ووميض الكتابة.
وأنت هنا المدفون على هذه الأرض
تركل الموت كلاعب كرة معتزل
يدك على حافّة القبر
حرف هارب من ضريح (ابن مقلة)
بينما الأخرى تسحب
الذكريات ببطء
كي لا توقظ الموتى
وكأنّك تسحب نقشًا صخريًا قديمًا
خبّأه خطّاط في حدقة عينه.
لكن السّحرة النائمين
في جسدك
فكّروا: أنّ الدّم ربّما قطع إجازته
وعاد دون سابق إنذار،
أنّ الصَّدع لم يكن أمينًا
حين هرَّبَ سجناء
كانوا يخطّون أسماء الله
على أحجار محرَّمة من العقيق
ويرسمون صُوَر الملائكة
على كؤوس النبيذ.
فكّروا: حين سمعوا خرير الماء
في العظام،
أنّ بحيرة أيّامك سئمت
من التحديق في الأعماق
ففاضت الوديان والحقول
بالمُضاء من الكلام.
بعدما أخذوا الإغفاءة الأخيرة
قرّروا العبور.
تحت ظلال الجسر
سلّموا التعويذات للجسد
ثمّ أراقوا ماء الزّعفران
على رأسه.
لم يبق سوى الاسم لديهم
نزعوه عن جلودهم مثلما ينزعون السهم من جسد المصاب؛ حتّى يمنحهم الرّبّ الغفران.
لن يناموا بعد الآن في جسدك
أيّها المنقوع في حبر العالم
لذا ستؤوب الطيور، مرّة أخرى، إلى يديك
وأخوتها المرسومة على الجدران
أو على الحرير من الأقمشة
سترفرف بأجنحتها أيضًا.
سيتبعك الضوء
وأنت ترفع الغبار عن الصخرة الأولى
عندها سيتوجّب على الملائكة الذين يتبرّكون بها كلّ ليلة
أن ينتبهوا للخديعة
الغريب حين يعود إلى بيته
بعد طول غياب
ستسقط عن ثيابه
أسراره التّائهة
وسيظنّها العابرون
أقلامًا مصنوعة من شجر الجنّة.
ستكون صورتك أمام المرايا الصقيلة
كأنّها كنوز دفينة، أمكنة سُرق منها الأُكْسِجين عنوة، مغارة مهجورة وجدوا على جدرانها وشمًا يصرخ على ظلّه.
لكنّ الذي فاتك مرآه من فرط العمى
ستراه ببصيرتك
فأنفاسك الدليل، وبوصلتك الرّياح التي رفعت سوء التّفاهم بينك وبين أحجار الصّحراء،
أعطيتها المعنى، فأعطتك خزانة الزمن.
الكلمات تضيء ليلك كالنّجوم، فتهتدي بها أعين كثيرة، ونفوس تواّقة إلى الغيب.
وعلى ضوئها، في الليالي الطوال المعتمة، يفرشون رقاعهم، ويمدّون أيديهم، ويغطّسُون أرواحهم في تجاويف القصب، وما عليك سوى أن تحدث جلبة؛ كي تستيقظ حروفك تحت العرش
ويُضاء العالم بالحقيقة.
الذين توارثوك
جيلًا بعد آخر
تركوا حياتهم ترعى في حدائق القدّيسين
ثمّ مشوا على الحبل المشدود بين جاذبيّتين: الوحي والقلم
كأنّهم كانوا يمشون على حدّ السكّين مثل بهلوان
وحين تجاوزوه، قرب شجرة المعرفة،
هَالَهم ما رأوا: الكتاب بين يدي الملاك، خيال يتلاعب باللغة.
الذين توارثوك
هم شعراء
أيضًا
ألسنتهم لغز الكلام، ورعشاتهم بريد العشّاق، صلاتهم رغبة الوصول إلى شكل النّقطة، ولا وصول، معصيتهم برق “مخطوف من الأبصار”، لكنّه يسكن العيون التي أضاعت نظراتها.
هم المشّاؤون بأنفاس الغزلان، الناظرون بعين الصقر، التائهون من فرط الدهشة بملمس النجوم. هم هاوية النُّور في كلتا الحالتين: حين ينظرون إليها، أو عندما تنظر إليهم.
طُويت الأرض من أطرافها، بعدما طوى البشر صحائفهم
ووضعوها في خرْج كبير على رواحلهم، شاخصين بأبصارهم إلى الأبدية،
وأنت الآن لم تقرّر وجهتك
أتمضي كما كنت عازمًا لحظة البعث
أن تكشف سرّ الأسرار في حضرة الإله
أم تعود من حيثما جئت
تاركًا أعضاءك على حبل الغسيل
تجفِّف أسرارها حرارة الشمس؟!
أنت الأعمى الذي لم تسعفه النظرات،
متى تدرك أنّ قيامة حرفك
لم تحن بعدُ، وأنّ صدى صوته عالقٌ في حنجرةِ الأيّام؟!