أحمد الفلاحي
استجابة لدعوة من بيت الشعر الفلسطيني وشاعر فلسطين الكبير الراحل محمود درويش ذهب الشاعر العماني سيف الرحبي إلى رام الله مع جمعٍ كبيرٍ من شعراء العرب وشعراء العالم، وتصادفت زيارتهم مع بداية انتفاضة الأقصى.
يقول سيف الرحبي ضمن ما قاله:
“مشهد الأولاد الذين يواجهون بصدور عارية واحدة من أعتى الآلات العسكرية في العالم، وشعب مجرّد من أيّ سلاح غير إرادته التي لا يمكن قهرها. هذا المشهد اليومي في شتى المدن الفلسطينية يحمل دلالة أعمق على المستوى الذي وصل إليه انحدار إنسانية البشر”
“وكان الفندق الذي نزلنا فيه ليس بعيًدا عن خط التماس بين رام الله ومستعمرة “بيت إيل” الضخمة التي تبدو بنيتها المعمارية المستفزة والعدوانية كأنما نزلت هكذا جاهزة بشوارعها وسكانها وأضوائها ومراحيضها من غير جذور ولا امتدادات ولا زمن، هكذا كأنها كانت محمولة على متن قاذفةٍ نوويّة عملاقة، وقذفت دفعة واحدة في هذا المكان، وكذا تتبدى كل المستوطنات التي تشكّل أسوارًا محكمة حول المدن الفلسطينية العريقة كاتمة حتى الهواء عن أشجار هذه المدن وحياتها وعناصرها”
“لا نكاد نتحرك بين المدن الفلسطينية إلا ويأتينا التحذير وهواجس الخوف ليس من الجيش الذي يمارس الإذلال اليومي؛ وإنما من المستوطنين وحواجزهم وعدوانيتهم الطليقة وتعطشهم لدماء الآخر وسحقه، لقد طلعوا مثلما ولدت إسرائيل برمتها من رحم المثولوجيات اليهودية وخرافاتها”.
“وهم رغم تفوقهم الساحق يعيشون في دائرة مغلقة من الرعب” “هواجس المنبت الذي سرق أرض الغير وحياته وتاريخه وبنى على أنقاضها حياته الأخرى المرتجفة باستمرار وسط هذه الرمال العربية الإسلامية التي ستجرف في هياجها القادم كل شيء أمامها”
هذه فقرات صغيرة من مقالة مطولة كتبها سيف الرحبي ونشرها في مجلة عن زيارته الفلسطينية تلك.
لم تغب قضية فلسطين ومأساتها الكبرى عن الشاعر العماني منذ البدايات الأولى للمؤامرات والدسائس التي استهدفت شعب فلسطين وأرضه، وما كان لشاعر عمان أن يغيب وأن يسكت على الظلم في أي مكان من العالم يقع؛ فكيف إذا كان في أرض فلسطين؛ مهد الرسالات السماوية وموطن المقدسات العزيزة، وعلى رأسها المسجد الأقصى المبارك. وهي قبل وبعد ذلك موطن أشقائه عرب فلسطين الذين ينتمون له وينتمي لهم في الدم والنسب.
والشاعر العماني لسان قومه وأهله المشهود لهم بمناصرة الحق والعدل والوقوف مع الشقيق والصديق في محنته ومعاناته، ولم تكن معاناة أهل فلسطين تشبه أي معاناة تعرض لها أناس من البشر في هذه الدنيا كلها؛ فقد فاقت بشاعتها كل ما عرفته البشرية في تاريخها من أنواع الظلم والعدوان.
وقد شاركت مجموعة قليلة العدد من المتطوعين العمانيين مع الثمانية أو التسعة في حرب فلسطين عام ثمانية وأربعين، ومنهم من استشهد في مواجهة الغزاة المغتصبين، ودفن في تلك الرحاب الطاهرة، ومنهم من عاد بعد أداء مهمته، وكان دخول هؤلاء المتطوّعين العمانيين إلى فلسطين من جانب مصر مع إخوانهم من المتطوعين المصريين، وقد أخبرني بذلك واحد منهم وهو علي بن ناصر الحجري الذي صار لفترة غير طويلة رئيسا لتحرير جريدة الوطن خلفا لصاحبها ومؤسسها نصر بن محمد الطائي بعد وفاته المفاجئة في مايو 1971م. وذكر لي بعض أسماء زملائه الآخرين، وهم من قبائل متعددة، ومن مناطق عمانية مختلفة، وللأسف لم أدوّن وقتها أسماء أولئك الشباب ومناطقهم، فغابت عن ذاكرتي، وقد كانوا حينها في زنجبار في أوليّات شبابهم، ومنها انطلقوا إلى مصر. وعلي بن ناصر كان يُجيد الإنجليزية، وله اهتمام بقراءة الكتب ومتابعة الصحف مع إلمام بشيءٍ من الثقافة العصريّة بمقاييس ذلك الوقت، وبعد انتهاء الحرب واصل هو ومن بقي من رفاقه حياتهم بزنجبار إلى أن داهمت زنجبار نكبتها الكارثية صبيحة احتفالها بعيد استقلالها في الأول من يناير 1964 مما أدّى إلى تشتّت سكانها وطردهم من بيوتهم ومزارعهم ومحلات تجارتهم والاستيلاء على ممتلكاتهم وقتل الألوف منهم في مذابح جماعية شنيعة، وخرج علي بن ناصر فيمن خرج ليجد نفسه في الكويت، وهناك تيسّر له الالتحاق بمجلة “الكويت” التي كان يرأس تحريرها حينذاك عبدالله الطائي، ونشأت بين الرجلين صداقة دفعته لمرافقته إلى أبو ظبي عند انتقاله للعمل بها عام 1968. ويوم اختطفت يد الموت على غير توقع روح نصر الطائي لم يرَ عبدالله الطائي من يسند إليه رئاسة تحرير الوطن أفضل من علي الحجري لثقته الكبيرة به، فاستدعاه من أبو ظبي ليوكل إليه هذه المهمة؛ ولكن خروج عبدالله الطائي من الوزارة وعودته إلى أبوظبي لم يمكن الحجري من البقاء في مسقط، وعاد هو الآخر لمتابعة عمله في أبو ظبي.
وإذا؛ فإن أهل عمان لم تكفهم مناصرتهم بقول الشعر فقط، وإنما كانوا هناك حاضرين في المكان بأبدانهم وأرواحهم.
أما الشعر فلم يتأخّر صوته، وكان مشاركًا في مسيرة الشعر العربي التي انطلقت غضبتها مجلجلة في كل مكان من ربوع الوطن العربي من غربه إلى شرقه، ومن جنوبه إلى شماله.
وقد التهبت مشاعر الشعراء العرب يومذاك، وشعراء عمان من بينهم لتلك المأساة الأليمة التي نزلت بفلسطين وأهلها، التي ما تزال جراحاتها دامية تنزف حتى لحظتنا هذه.
وكان لسان حال الشاعر العماني حيال هذه القضية وحيال غيرها من قضايا العرب الأخرى بيت الشعر الذي قاله – أبو مسلم – شاعر عمان الكبير في موقف آخر مغاير:
لو يكون الشعر نصراً لم أزل أنظم الأنجم لا أرضى الدرر
وقد تنبأ الشاعر عبدالله الطائي مبكرا بانطلاقة العمل الفدائي، وذلك في قصيدته “مهر فوز” التي كتبها عام 1954م بعد ستِّ سنوات من نكبة فلسطين والتي تخيل فيها البطل وليد يجمع شباب المخيم من أجل الثورة على العدو تؤيده في ذلك حبيبته فوز التي اشترطت أن يكون مهرها هو أخذ الثار، ورأت ضرورة تأجيل زواجهما حتى تقوم الثورة التي ستغيّر وضع اللاجئين وتقودهم من مخيمهم للعودة إلى ديارهم التي اغتصبها العدو وطردهم منها:
هذا وليد يبيع العمر محتسباً لـ”القدس” مذ حلها شذاذ آفاق
وتمضي القصيدة في مشهد درامي يستشرف المستقبل المأمول، والقصيدة أشبه بالمسرحية حتى من حيث تنوع قوافيها وأوزانها، ولم يكن موضوع العمل الفدائي المنظم الذي انطلق فيما بعد قد ظهر في الساحة حتى ذلك الوقت، ولهذا اعتبر عبدالله الطائي نفسه من أوائل المبشرين به.
وإذا كانت هذه القصيدة بشّرت بالعمل الفدائي المنظم قبل ظهوره في ستينيّات القرن العشرين؛ فإن الشعر العماني لا مس القضية الفلسطينية قبل هذا الوقت بزمن بعيد منذ عشرينيّات ذلك القرن قبل الحرب العالمية الثانية غداة بروز ما سمي وقتها بالمسألة اليهودية وانطلاق الهجرات الصهيونية المكثفة من أوربا إلى فلسطين، وكان ذلك قبل نشوء “إسرائيل” بنحو عقدين من السنين حين أطلق الشاعر صالح بن علي الخلاسي الأزكوي صوته مندداً بهذه المؤامرة الخطيرة، ومحذّرًا من عواقبها:
فلسطين أحاط بها الأعادي
بجهر أو بكيد الخافيات
يمزق شملها ظلما وقهراً
بعدوان الجيوش الظالمات
ليطرد قومها منها جهاراً
وتهدى لليهود من الشتات
فهل من محنة حلت بناس
كهذي في العصور المظلمات
لقد سلبوا مزارعهم وباتت
بيوتهم تملك للبغاة
لصوص جمعوا من كل قطر
وجيء بهم لإجرام الغزاة
ليغتصبوا الديار ومن عليها
بسفك للدماء الطاهرات
غدت إنجلترا تحمي حماهم
وتهديهم لفعل المخزيات
ولعلّ طرد الناس من مزارعهم والاستيلاء على بيوتهم لم يكن قد حلّ بعد حينها؛ ولكن إحساس الشاعر بأن تلك البواخر الأوروبية الضخمة التي تلقي بحمولاتها المكونة من ألوف الصهاينة في أرض فلسطين سوف يؤدي لذلك من غير شك، وهو الذي حصل بالفعل في وقت لاحق. وهكذا نرى أن الشاعر العماني من بين الأوائل الذين أشاروا ونبهوا وأطلقوا نذر التحذير عند ظهور بوادر المشكلة وكان من بين الذين حرضوا على المقاومة وتوقعوا اشتعالها قبل أن تبدأ، كما كان صوته واضحا أثناء حرب فلسطين الأولى عام 1948م التي أسفرت عن هزيمة الجيوش العربية السبعة، وانتصار إسرائيل واستيلائها على المزيد من أرض فلسطين.
ويعبر هلال بن بدر البوسعيدي عن أسفه لتلك النكبة فور وقوعها ونكاد نسمع نداءاته الغاضبة متألماً:
بني العروبة هل طاب المقام لكم
وفي فلسطين أشلاء على لهب
سمعت جعجعة منكم فهل طحنت
تلك الرحى أم غدت في كف مضطرب
أثرتموها وقلتم سوف نجعلها
مزدانة بجهود الفعل في دأب
وسرتم وبنود النصر تقدمكم
فكان فعلكم أدعى إلى العجب
قد انثنيتم وقد خارت عزائمكم
وعم جمعكم ضرب من الشغب
وكلما رمتم أمرا تثبطكم
عن المضي به آراء ذي أرب
أبعد ما انتثرت أشلاؤكم وجرت
دماء أبطالكم في المأزق اللجب
تهادنون ولم تفلل مضاربكم
يا للرجال لأمر غير مرتقب
ثم يواصل مخاطبا ملوك العرب وقادتهم يومئذ ملك الأردن وملك مصر وملك العراق وملك السعودية.
وينطلق استنكار العلامة الشيخ سالم بن حمود السيابي واستفظاعه للكارثة التي حاقت بفلسطين والنكبة المريعة التي أحاطت بأهلها مرسلا نداءه لقادة العرب محرضا إياهم للمسارعة بنجدتها وإعانتها:
يا قادة العرب هل ترضون واقعكم
وصوت “صهيون” صناج يعزينا
يا قادة العرب أين الغيرة انتقلت
أين العزائم أضحى الدين مسكينا
لقد بكى القدس أقواما به سلفوا
وصاح من لي بهم نصرا لبارينا
يا غارة الله أين الأسد قد ربضت
والقدس يبكي ولا يرضى الصهايينا
ما بال أعلاج صهيون عليه مشت
كبرا وداسته إرغاما وتوهينا
وفي 1965م يكتب عبدالله الطائي مرة أخرى بعد تسع سنوات قصيدته “رسالة من يافا”
من ها هنا من أرض “يافا” أكتب
وإليكم ألقي الحديث وأسهب
تمضي السنون ونحن بين مرابط
جنب العدى ومشرد يتأهب
هذا ينوح على مرابعه التي
غصبت وذلك صامد متعذب
“عكا” تئن و”حولة” في خطبها
تشكو ونحن دموعنا تتصبب
رسالة يكتبها المواطن الفلسطيني في “يافا” و”الحولة” وغيرهما من المدن والقرى المنكوبة بظلم العدو وقهره موجهة لابن وطنه المبعد في مخيمات المهجر ولشقيقه العربي أينما كان؛ مؤكداً إصرار من بقي في الداخل على الصمود منتظرين قدوم إخوتهم وأشقائهم لطرد الغاصب واستعادة الأرض، قصيدة تتحدث بلسان الفلسطيني المعذب القابض على الجمر المنتظر العون والمدد. ولعبدالله الطائي قصائد عديدة تواكب مسار القضية وتطوراتها.
وفي السياق نفسه تتوالى قصائد شاعر عمان الأكبر الشيخ عبدالله الخليلي محرضة وناصحة ومتفاعلة مع موضوع فلسطين وما أصابها، مؤكدة على ضرورة الاتحاد بين العرب، ليستطيعوا إنقاذ فلسطين ونجدتها:
يا ساسة العرب إلام وهنكم
وأنتم في عدة وعد
تختلفون الرأي فيما بينكم
والحال إخفاق ونقض عهد
وخلفكم من يستغل خلفكم
في وثبة الذئب وسمع الخلد
هلم في صدق العزوم إنها
سلاح كل أمة وفرد
ثم يواصل مخاطبا الفدائي الذي يرى فيه بشائر الأمل بعد أن تراجع ما تمثله الجيوش الرسمية وقادتها:
أخي الفدائي إلى الأرض التي
كانت مهاد جدك المجد
أخي الفدائي إلى البيت الذي
خلفه أبوك قبل الطرد
أخي الفدائي إلى الترب الذي
مشى المسيح فوقه في زهد
أخي الفدائي إلى مدينة “ال
قدس” مناخ الرسل أهل الأيدي
أخي الفدائي إلى القدس إلى
مأذنة الأقصى بذاك المهد
يهيب بالفدائيين ويستصرخهم ويستثير نخوتهم مذكراً لهم بمقدساتهم وحقوقهم وأحوال قومهم، فعليهم ينعقد الرجاء في خلاص الأمة وهم الضوء والمشعل الذي يفتح الباب لهزيمة العدو وطرده واستعادة الحق المسلوب، وهو يرى في هذا العدو نقطة ارتكاز للمستعمر الغربي الذي أنشأه وحماه ووطد له أركانه، ولولاه لم يكن باستطاعته أن يقوم وأن يفعل ما يفعل؛ فهو بمثابة قاعدة له يثب منها متى ابتغى الوثوب ويحركها عندما يريد لخدمة أغراضه الاستعمارية:
تعضده الأوساط من مستعمر
بالمكر بالعدة بالتعدي
لأنها قد جعلته مركزا
ونقطة للطامعين اللد
تروض من أرض فلسطين به
قاعدة على مطار “اللد”
كهمزة الوصل إلى الشرق له
والشرق نبع للغنا والرفد
وفي مقام آخر يقول الشيخ عبدالله الخليلي:
لتحيي فلسطين آمالنا
ونحيي لها نسلها المحسنا
نضحي لها بالدما دهرنا
لنضحى بها ذروة العالم
ونبني العروش على أصلها
بحكم المساواة في عدلها
لدى الفرد والجمع من أهلها
لمحكومها عزة الحاكم
سنبقى على قصدنا صامدين
ونلقى الحميم ونلقى المعين
فلا ذا يدين ولا ذا يلين
إلى أن نجذ يد الغاشم
يشيد الشاعر بعزيمة أبناء فلسطين وشدة إرادتهم وقوة استمساكهم بأرضهم وصمودهم في وطنهم وإصرارهم على الثبات والصبر، ومهما تعاظمت الخطوب وزاد البلاء واحتدّ بطش العدو وغلظته؛ فهم بقوة الإرادة والتحدي لن يتراجعوا ولن يتركوا حقهم وسيظلون في اتحاد وتلاحم يواجهون عدوهم الغاصب ويحبطون تدابيره ومخططاته.
وقد اندمج الشعر العماني في قضية فلسطين وحمل أشجانها وتنفست مشاعره بآلامها ومنغصاتها واستمرت مناصرته لها والدفاع عنها ومتابعة أطوارها على توالي أجياله المتعاقبة وتعدد اتجاهاتها ومذاهبها وكان يفيض دوما بتصوير الواقع المؤلم والتحريض على مواجهة العدو والدعوة إلى دعم صمود الشعب الفلسطيني ومساندته بكل الصور الممكنة ولا يكاد يوجد شاعر عماني منذ أوائل القرن العشرين الميلادي الماضي حين بداية المؤامرة على فلسطين خلت أشعاره من ذكر فلسطين ومتاعبها وبعضهم أفرد لها قسما خاصا في ديوانه كما رأينا لدى الدكتور اليقظان بن طالب الهنائي الذي اشتمل ديوانه المسمى “محاولة” على فصل كامل عنوانه “قدسيات” ضم عدة قصائد خصصها كلها لفلسطين والقدس، وفي قصيدته “القدس الجريحة” يقول:
يا قدس أسبلت الدموع دواميا
والعرب أرهبها قنا الفتاك
صهيون أعطاك الوعود كواذبا
مالي ووعد جاء عن أفاك
يا قدس ذرفت الدموع سواكبا
فاستبقي بعضا للغد المهلاك
فغد سيأتي ثم يأتي بعده
جيل سيروي دمعه مثواك
هكذا بدت فلسطين في عين الدكتور اليقظان الهنائي مقهورة مأسورة ينساب دمع الحيرة والعناء منهطلا من أعماقها ولا من نصير أو مجيب يهب لتفريج كربتها ومساعدتها في كشف ملمتها ودفع الأذى عنها لتستعيد حيويتها ومجدها ومنارات حضارتها، وفي قصيدة أخرى يخاطب الدكتور الهنائي الشهيد المضحي بروحه ودمه فداء لوطنه وقومه:
ودعتنا فتبسم الأعداء
ونسوا بأنك في الصدور ضياء
أنت الضمير الحي والأصداء
في عالم تلهو به الجبناء
قد كان حظك في الصدور مودة
ونصيب غيرك في الحياة عناء
برصاصة المطاط واراك الثرى
فعزاؤنا للأرض أنت فداء
تأسى البلاد شمالها وجنوبها
الشم منها والسهول سواء
قد ودعت فيك الديار مجاهدا
صلدا تكسر حوله الأرزاء
ما بين “قانا” و”الخليل” ومسجد
في “القدس” صوت الضارعين نداء
ومن شعرائنا من حرّض ودعا للجهاد ومنهم من عاتب الزعماء العرب وأهاب بهم، ومنهم من صاغ قصائد الرثاء للأرض وللشهداء الذين يتساقطون ولتمجيدهم، وأكثر شعراء عمان أبهرتهم حركة المقاومة فرأوا فيها السبيل الأنسب لصدع جدار العدو وخلخلة بنيانه القوي وكسر استعلائه وبغيه، فهذا هلال السيابي يقول:
حطم القيد واستشاط الفدائي
ومضى يضرب العدى بمضاء
مثل صرف القضاء يزحف للهول
ومن ذا يرد صرف القضاء
حمل الروح في الأكف ولاقى
جحفل المعتدين خير لقاء
قصده “اللد” و”الخليل” و”يافا”
ومسرى محمد الوضاء
ظن “دايان” أنه دفن الشعب
وواراه في صميم الثراء
فإذا بالمدفون يقتحم الهول
عليه في ساعة بأساء
ونظرا لتجذّر ارتباط الشيخ هلال السيابي بالقومية العربية وإيمانه القوي بها يتواتر توقد مشاعره الثائرة لتنسكب منه القصائد دفاقة تجاه العروبة في كل أقطارها في مصر واليمن والجزائر والمغرب والشام والعراق وفلسطين مشاركة في أفراحها وأحزانها وقد استحوذت فلسطين على الحيز الأكبر من أشعاره ولو جمعت قصائده المطولة الخاصة بفلسطين في شتى مآلاتها، لربما احتاجت إلى مجلد:-
أخي يا ابن الجهاد فدتك نفسي
تقدم وانتثر فيهم شهابا
فإن النصر آت عن قريب
نكاد نراه يا ابن السيف قابا
وطهر بقعة كرمت وجلّت
وباتت منهم تشكو المصابا
أخي سطرت بالجلى فخاًرا
ملأت به المعالم والرحابا
أيحكمها بنو صهيون قسرا
وهم من أبعد الدنيا مآبا
وفي معركة “غزة” التي زلزلت الكيان الصهيوني وأرعبت مستوطنيه الدخلاء ولفتت أنظار العالم نحو فلسطين بعد فترة نسيان طويلة، وأثارت فرح أبناء الأمة العربية، وأحيت فيهم آمال إمكانية الانتصار على العدو المدجج بأحدث أنواع الأسلحة؛ فالعزيمة والإرادة أقوى من كل سلاح مهما تعاظم وشمخ، والحق دوما هو المنتصر والمبدد للأكاذيب والتزييف، وفي هذه المعركة الفاصلة التي أفزعت الصهاينة وأرعبتهم تنفجر قصيدة هلال السيابي مدوّية مع زمجرة أصوات الصواريخ:
أكبرت في عارضيك العز والشمما
يا “غزة” العز يا سيفا يفيض دما
فقمت أستنطق الفصحى لتمنحني
زهو البيان لأوفي القول والكلما
أناشد الشهب أن تدنو لأنظمها
عقدا لجيدك أو استنزل القمما
فأنت علمتنا والعرب قاطبة
أن الحياة لمن نحو الردى اقتحما
سبعون عاما ونحن اللاهثون أسى
لعل منك وميضا يكشف الظلما
يا أهلنا أي تطبيع ومسخرة
والقدس تحت لهيب منهم احتدما
وما السلام سوى سمّ ومضيعة
للحق أو هو وهم عند من وهما
تحية الله يا أبطال “غزة” ما
كمثلكم أبدا للمجد من زعما
على شتّى الصور وبمختلف مدارس الكتابة وتياراتها من القصيدة التقليدية العموديّة إلى نثر الحداثة وشعر التفعيلة قدم شاعر عمان أحاسيسه وفيضان روحه والتهاب وجدانه تجاه ما أصاب فلسطين وإنسانها ومقدساتها من الظلم الفاجع والشقاء الفادح والإرهاب القاتل المستفز الذي تجاوز الحد وفاق التصور أمام هذا العالم العصري الذي تتدفق من خزائن بنوكه الأموال الوافرة، ومن مصانعه أحدث ما أنتجته من الأسلحة المدمّرة على غزاة فلسطين لمواصلة بغيهم وعدوانهم؛ فهل يلام بعد ذلك هذا الشعب المظلوم إن تفلت من هدوئه وأطلق كل ما بوسعه لمقاومة أعدائه ولو بقطعة حجر صغيرة يقذفها أطفاله لترتد عليهم رصاصا قاتلا ينثرهم على صعيد الأرض مضرجين بدمائهم الطاهرة:
ماذا الذي يبغون
من بائس غزاه محتلون
فاغتصبوا موطنه
وقتلوا أسرته
وهدموا مسكنه
وأحرقوا
قريته
وحكموا عليه أن يعيش في السجون
إن وجد الفرصة يوما
ما الذي يكون
يكون وحشا ضاريا
يكون عزرائيل إن
أراد أن يكون
وسوف تعلمون
هكذا اختتم سالم الكلباني قصيدة طويلة من عدة مقاطع يصف فيها المشهد الفلسطيني بكل فواجعه متسائلا إن كان لدى هذا الفلسطيني حيلة سوى المقاومة والاستشهاد بعد أن نال المذلة والهوان وبعد أن نكب وعذب وأحيط بالدمار من كل جانب. إن السبيل الوحيد المتاح أمام هذا المنكوب هو الثورة والانفجار وبذل الروح والدم من أجل الخلاص من الظلم والإفلات من القهر سعيًا لردع الخصم وتحطيم إرادته المستكبرة، وفي قصيدة ثانية يقول الكلباني أيضاً:
يا فلسطيني قد شرفتنا
بجهاد تعبت منه المتاعب
وحدك الصامد في وجه المصاعب
تتلقاها بعزم غير هائب
وحدك الحق الذي آياته
أدحضت باطلهم فارتد خائب
وتوقّدتَّ جحيما صاعقا
ملأ الدنيا على الباغي مصائب
متَّ كي تحيا بك الأمة في
شرف والموت للأحرار واجب
أمل الأحرار في تحريرهم
ورجاء النور في دحر الغياهب
إنه يحيي صمود أهل فلسطين وصبرهم وقوة عزيمتهم وتوقد إصرارهم أمام عدوهم، يواجهون عدوانه الغاشم بإدارة لا تعرف الخوف، وبصلابة لا تقبل الاهتزاز؛ سعياً إلى المستقبل الظافر، وأملاً في إنهاء الجور، ورجاء لنور التحرير الذي تضيئه دماء الأحرار المنسكبة على تراب الآباء والأجداد.
ويقف الشاعر هلال العامري مع لقطة في التلفزيون تصور طفل انتفاضة الحجارة طريحا يغرق في شلال دمائه الزكية بعد أن أزهقت روحه صواريخ الظلم الباطشة:-
سجي الطفل
بين الندى والدماء
فوق لهيب السفوح
على قارعات المدى
والحزن أرجوحة
في مهب الحجارة
والوقت مقصلة الليل
خيل السحاب
رسول العبارة
والمد صمت الوثوب
بحد الشراع المغلف بالريح
بوصلة للدماء التي شكلت بحره
كونت شرعة للجنون
بحثا عن الضوء والفجر والاستنارة
صورة مفزعة لذلك الطفل الممزق المسجّى في براءة الطفولة راحلا نحو الموت، وهو لم يكد يدخل الحياة بعد في سبيل – ضوء الفجر والاستنارة – هذه الصورة عند هلال العامري تكرّرت في دواوينه وقصائده على أشكال مختلفة ممزوجة كلها بالحزن والألم والغضب وبالتفاؤل والأمل كذلك؛ فأضواء الفجر لا بد أن تشرق من عمق كتلة الظلمات هذه.
أما سعيد الصقلاوي فيرى في دمع القدس الحارّ برد غمامة تنشر السلام وتنبت أضواء الفجر وتبشر بالغد الجميل المقبل:
تلفتت “القدس” دمعا من النار
يشوي الزمان ويزهو غماما
تفتش عن موكب الفجر كيما
ينفض عن منكبيها الركاما
وما القدس إلا سناء كلام الإله
فهلا امتشقنا المراما
سلام على القدس كحل العيون
توزع في العالمين السلاما
وينظر حسن المطروشي للغد بعين التفاؤل مهما اشتدت المكابدة وضاق الأفق وامتدت جبال الظلم جاثمة على الصدور، فالغد سيأتي بأفراحه وأنواره ووروده وأغانيه مبتهجا بعودة الراحلين إلى ديارهم التي شردوا منها:
قادمون طيور أذان
كأن مسيحا يعود
قادمون كأغنية الرب
آهلة بالنبؤات هذي الحشود
نحو الينابيع
فالشهداء يفيقون في لحظات السجود
ليس في رحم الأرض
ما يتصدى لزيتونهم في التهيؤ
طار الذي طار
إن المساحات بيضاء بيضاء
كل السنابل منذورة للصعود
قادمون مع الغيب
هل أتاك حديث الجنود
ها هم الآن جيء بهم كالبغاث لفيفا
حاصرتهم ظلال التواريخ كي يرحلوا
وتتوهج نبضات قلب عمر المحروس وهو يوجه وجهه نحو “القدس” ودواخله يعصرها الألم مما أصاب المدينة المقدسة من المتاعب والجراحات البالغة الدامية، مكررا أسئلته الحائرة الباحثة عن كيفية إزاحة محنة المدينة المقدسة والوصول إلى خلاصها من المصائب التي حلت بها:
لك الله جرحا ما شفته المراهم
ولا طهرتنا فيك هذي السواجم
توزعت فينا كل قلب بقدره
نزيفا عروبيا له نتقاسم
قلوب العرب كلها تنزف جراحاتها لهذا المشكل المروع الذي قست شدته وفاضت آلامه حتى كاد أن ينهزم الصبر ويتقهقر الجلد ويتزعزع الأمل لهذا الهول الصاعق المطبق:
فيا “قدس” يا درب السموات دربنا
إليك سؤآل أرّقته المغارم
ضللنا إليك الدرب؟ بوصلة السرى
لنسري إلى حيث الحمى والمحارم
أيا قدس يا بيت النبيين ما الذي
نسميك يا جرحا بنا يتعاظم؟
جراحات مؤلمة وظلمات متراكمة ودفق من الأحزان ينهمر بقوة وعنف مكتسحا كل ما أمامه من بصيص الرجاء في منفذ ولو صغير يقود نحو فتح ثغرة في السور المحكم، ومع ذلك ومهما اشتدت المحن؛ فإن النّور لا بد من إشراقه ليبدد عتمات الظلام الحالكة:
فلا تبتئس يا قدس ما زال دربنا
طويلا وما زلنا هنا نتخاصم
ولكن وجها منك يشرق نحونا
سيمحو خطايانا التي تتراكم
أتحزنك الباحات في غيظ صمتها؟
غدا يفرح الباحات نور مسالم
وتخرج من هذي المساحات شمسها
وتنصب من هذي السماء السلالم
هنالك يا قدس الطهارات نهتدي
إليك وتجلونا إليك المعالم
أجل إن للصبح المؤجل موعدا
حقيقته وعد هنالك لازم
وتتراسل ومضات الشاعر مؤكدة أن الشمس سوف تشرق ذات يوم مزيلة كتل الظلام وماحية لها لتظهر القدس بجمالها وبهائها وجلال مآثرها، وإن تخيل للناظر اليوم أن ذلك يشبه المستحيل؛ فإن الصبح المنير لا بد من قدومه وإن بعد المدى. وفي نص شعري آخر يرفع عمر المحروس صوته بالنداء:
اخلع نعليك لتمضي نحو “القدس”
والقدس يقين
ما بينك والقدس مسافة صدق واحدة
تقطعها في غمضة عين
اخلع نعليك لترقى
في وادي الأقداس إلى حطين
ولئن كانت هذه صيحة شاعر ظفار عمر المحروس المعبرة عن ضمير عمان وإنسانها العربي الأبي نحو فلسطين وقضيتها؛ فإن أخاه شاعر صحار علي بن شنين الكحالي يطلق الصرخة ذاتها موجها خطابه إلى فلسطين العريقة المكتملة الحسن بلد الأباة المقاتلين المفتدين لأرضها بكل ما يملكون ويستطيعون معبراً عن غرامه الشديد وهواه العارم تجاه مدينة القدس الشريفة الواقعة في محنة الأسر والمعاناة مع أخواتها من مدن فلسطين الأخريات المنكوبات مبديا تفاؤله هو الآخر بعودة ذلك التراب الطاهر الذي باركه الله إلى أهله وأصحابه فهو تراب الأنبياء، ولن يسمح الله بإضاعته وفي يوم آتٍ سينهال الفرح مضاعفًا على أبناء تلك الأرض السليبة ليستشعروا الهناء والراحة بعد سنوات الإذلال والقهر فسوف يتم طرد المغتصب وإزاحته والخلاص من جوره وبطشه، وفي النهاية لا يصح إلا الصحيح، وتبقى سنن الكون وأنظمته ثابتة كما هي حالها مع تعاقب الأزمنة لا يمكن لها أن تتغير مهما اشتدت وطأة قوة الظلم وعتوه:
يا فلسطين المعالي والعلا
يا بلادا حسنها قد كملا
يا ترابا بارك الله له
بالنبوات التي لا تعتلى
يا ديارا أنجبت من قاتلوا
خبث صهيون وما قد نسلا
إن في “القدس” غراما وهوى
حبه فينا ثوى مشتعلا
وكذا “يافا” و”عكا” برزت
في الورى كانت بحق مثلا
و”الخليل” و”الجليل” أشرقت
شمسهما في “غزة” المجد علا
تلك أحاسيس علي بن شنين الكحالي النابضة بشدة انفعاله لمحنة ذلك القطر العربي العزيز، وسقوطه في براثن العدو والكوارث التي ألمّت بأهله وأثقلتهم، وأحاطت بهم؛ ولكنه مع ذلك يظل قابضا على تفاؤله بانتصار الحق واندحار الظلم وإن طال الوقت.
والشعر العُماني مليء بفلسطين ونكباتها وفجائعها وصراعاتها وبشهدائها وطموحاتها وآمالها وتطلعاتها واستشراف مستقبلها.
ومن الصعب الوقوف مع كل شاعر أو شاعرة واستعراض ما قيل؛ فذلك ما لا تتسع له هذه المساحة وإنما هي نماذج تؤشر لمواقف هذا الشعر واحتضانه لهذه القضية المحورية التي هي قضية كل العرب ومعهم جميع المؤمنين برسالة الإسلام القائمة على دفع الظلم عن المظلومين والسعي لرفع راية الحق بسماوات البشرية كلها ليسود العدل والسلام ربوع الأرض في شتى جوانبها وفي مقدمتها أرض “القدس” و”الأقصى” مسرى نبي الإسلام ومناطق فلسطين الأخرى المليئة بالأماكن المقدسة لدى المسلمين ولدى الديانات السماوية كلها.
ومن ضمن ما شاركت به عمان في تبني قضية فلسطين عند أول ظهور ملامح التحرك البريطاني لمنحها للصهاينة أوائل ثلاثينات القرن العشرين الميلادي برقية بعث بها ما يقرب الخمسين من علماء عمان ووجهائها سنة 1937م إلى وزير المستعمرات في حكومة بريطانيا تحمل استنكارهم الشديد ورفضهم القاطع لقرار اللجنة الملكية البريطانية القاضي بتقسيم فلسطين بين أهلها وبين الصهاينة الذين مهدت بريطانيا لاقتلاعهم من أوطانهم في بقاع الأرض المختلفة دافعة إياهم للمطالبة بإنشاء وطن قومي لهم في أرض فلسطين.
وأكد أعيان عمان في برقيتهم معارضتهم في ذلك الزمن المبكر لهذا القرار الظالم غير السوي مثلهم في ذلك مثل أشقائهم من أبناء العروبة وقد وثقت ذلك الخبر جريدة “الشباب” المصرية في عددها المؤرخ يوم 15/9/1937م دون ذكر أي اسم من أسماء مرسلي البرقية للأسف، ولكن الجريدة حملت في ذات العدد نبأ أفاد عن احتجاج عمانيين آخرين كانوا حينها يقيمون في منطقة من مناطق شرق إفريقيا غير زنجبار على قرار تقسيم فلسطين؛ مطالبين بإلغائه ومثّلهم في رفع احتجاجهم الشيخ خالد بن سعيد المعولي.
وجريدة “الشباب” جريدة سياسية اجتماعية مصرية أصدرها في القاهرة د. محمود عزمي وصدر عددها الأول في فبراير 1937م واستمرت لنحو سنتين ونصف؛ فقد أغلقتها السلطات المصرية بضغط من الإنجليز المهيمنين على مصر وقتها في أبريل 1939م عند عددها المئة، ولحسن الحظ أن أعداد هذه الجريدة المئة محفوظة بكاملها في مكتبة الجامعة الأردنية في عمان. وقد التمسنا لحظة إعداد هذه المقالة من صديقنا الشيخ فيصل بن سلطان بن سيف الحوسني نائب السفير العماني في الأردن أن يصور لنا العدد المحتوي خبر الاحتجاج العماني؛ فتفضل مشكورا، وله عظيم امتناننا فمدّنا بصورة الصفحة المتضمنة لذلك، وقد جاء الخبر ضمن تغطية الجريدة لحراك الغضب الذي عمّ الوطن العربي بأسره يومئذ.