حسونة المصباحي
كورنيش أغادير يُغريني برياضة المشي التي أمارسها دائما… صباح يُغلفه ضباب خفيف، ونسيم مُنعش. على طول الكورنيش نساء ورجال من مختلف الأعمار، يمارسون أنواعا مُتعددة من الرياضة… البحر هادئ… وأنا سعيد وهادئ أيضا… في أصيلة، لا أنقطع أبدا عن ممارسة رياضة المشي كلّ صباح… أفعل ذلك حتى ولو استمرت السهرة إلى مطلع الفجر… وعندما أعود، يكفي دشّ بارد لكي يزول كلّ أثر للتعب، والسّهر… ومرة، اصطحبت شابين، واحدا من المغرب، وآخر من عُمان، وعلى ساحل المحيط قطعنا المسافة الفاصلة بين أصيلة وطنجة، والتي تقدّر بـ 45 كيلومترا… عند وصولنا إلى هناك بعد تسع ساعات من السير المُضني، وجدنا محمد شكري يشرب كأسه في بار «النجريسكو». ولما أخبرناه بمغامرتنا، واصل شرب كأسه في هدوء وكأن ما نرويه له مجرد هذيان، وشيء من «لغْو الصيف» بحسب تعبير عميدنا طه حسين… وفي ميونيخ، كان يحلو لي في كل الفصول أن أقوم أربع أو خمس مرات في الأسبوع بجولات طويلة في «الحديقة الإنجليزية»، وقد أمرّ من حين لآخر ببيت صديقي الفنان الجميل ادموند بوخنر لأشرب كأسا في حديقته الصغيرة… وأبدا لن أنسى تلك الزيارة الرائعة التي أدّيتها إلى قريته في جبال «التيرول»، جنوب النمسا. كنا في شهر ديسمبر، وكانت الثلوج تتساقط بغزارة، مُغطية الطرق والغابات. معا صعدنا الجبل سيْرا على الأقدام لنتناول وجبة نمساوية ساخنة في مطعم خشبي يرتاده المغرمون بالتزحلق على الثلج. عند وصولنا إلى هناك، كانت ثيابي الشتوية مُبللة بالعرق. ولكي نحتفي بجولتنا، افتتحنا جلستنا في المطعم بشرب زجاجة شامبانيا، ولم نخرج من هناك إلّا عند اقتراب الغروب. وعلى مدى الأشهر التسعة التي أمضيتها في (Villa Aurora ) بلوس أنجلس، لم أكن أنقطع عن جولاتي اليومية سواء على شاطئ المحيط، أو في الغابة. كما أني كنت من حين لآخر، أحب أن أقطع على ساحل المحيط مسافة العشرة الكيلومترات الفاصلة بين (Pacific Palisades) حيث «فيلّا أورورا»، ومدينة «سانتا مونيكا» لأشرب كأسي في بار إسباني، وأختطف قبلة، أو أكثر من النادلة الشقراء جيسيكا التي يذكرني كَفَلها بكفل جيسيكا لانغ حين يُضاجعها جاك نيكلسون على طاولة المطبخ في فيلم: «ساعي البريد يدقّ دائما الجرسَ مرتين»… ومنذ عودتي في خريف 2020 للإقامة في مسقط رأسي، وأنا أحرص على القيام بجولاتي في مرابع طفولتي عندما كنت أرعى البقر والأغنام، وأصطاد الطيور، وأبحث عن أعشاشها، وأهرب من البيت العائلي لأعيش أوقاتا سعيدة متوحّدا بنفسي في حقول الزيتون. وفي أواسط شهر سبتمبر 2021 ، طلبت من أخي حمّودة الذي يقيم في بنزرت أن يرافقني في جولة طويلة مررنا خلالها بأماكن أليفة تختزن ذكريات كثيرة من طفولتنا، وسرنا في تلك المسارب التي خطّتها أقدامنا الحافية في السهوب، وفي الأودية، وعلى سفوح الهضاب، وفي غابة الصنوبر والإكليل. وعندما أنهينا تلك الجولة التي استمرت ثلاث ساعات، شعر كل واحد منا أنه استعاد شيئا من تلك الطفولة البعيدة…
**
أمشي… دائما أمشي… وسقراط منح المشي معنى فلسفيا، وجعله مُولّدا للأفكار النضرة والنادرة… وأمّا الأمريكي دافيد ثورو (1817-1862) فقد أسْبغَ عليه معنى شعريّا. ومن وحي جولاته في الغابات، وعلى ضفاف البحيرات، كتب نصوصا رائعة. وكان يقول :«لا أعرف سوى شخص أو شخصين يعرفان جيدا معنى فنّ المشي إذ إن هناك أناسا وحضارات لا يعلمون ما معنى أن يكون الإنسان «وفيّا للأرض». وهنا يُظهر دافيد ثورو احتقارا للإنسان «المتحضّر» الذي يعيش في المدن الكبيرة حيث الصخب والعنف، مُفضلا عليه الإنسان «المتوحش» الذي يميل إلى الارتباط بالطبيعة حتى ولو أدّى ذلك إلى انفصاله عن مجتمع يسحق حريته وفردانيته ورغباته، ويحرمه من التمتّع بجمال الطبيعة كما في الأزمنة البدائية الخالية من مُنغّصات وعتمة الحضارة المادية الجديدة: «ربما في صباح الربيع هذا، حيث طرد آدم وحواء من الجنة، كانت توجد بحيرة (Walden) يُعتّمها مطر ناعم مَصْحُوب بضباب وبريح تهبّ من الجنوب، وعليها أعداد وفيرة من الإوزّ والبط، لم تكن عالمة بالسقوط الكبير»… ومن كثرة تجواله في الغابات، وعلى ضفاف الأنهار والبحيرات، اكتسب دافيد ثورو خبرة كبيرة بأنواع الأشجار، والأزهار، والنباتات. وكان عَليما بحركة المياه، وبالثلج، وبأشياء أخرى كثيرة لها صلة بالطبيعة، وبتحوّلات الطقس، وغير ذلك، مُطلقا على نفسه لقب: «متفقّد العواصف». لكن عندما طلبت منه هيئة علمية كتابة تقارير عن ذلك، رفض طلبها رفضا قاطعا. لكن ما سبب هذا الرفض؟ عن هذا السؤال يجيب الشاعر والناقد البريطاني (Kenneth White) قائلا: «ثورو ليس معنيّا بالعالم الحديث، وهو غير مبال بكل ما يرمز إليه من اكتشافات، ومن نظريات. وهو يعتقد أنه إن نطق بما يفكر فيه، فإنه لن يجد من سيستمع إليه، ويصدق ما سيقول. لذا هو يُفضّل الصمت، ويتحاشى الثرثرة وكتابة التقارير غير المجدية». وعن نفس السؤال، يجيب دافيد ثورو قائلا: «سمعت بأن هناك جمعية لنشر العلم المفيد. ويُقال أن العلم هو السلطة… إلخ… ويبدو لي أنه ربما حان الوقت لتأسيس جمعية لنشر الجهل المفيد. ويمكن أن نُطلق عليها اسم: -المعرفة الجميلة-، أي معرفة مُفيدة على مستوى آخر إذ ماذا يعني علمنا المزعوم سوى التوهّم بأننا نعرف شيئا ما، وهو توهّم يحرمنا من معرفة جهلنا الحقيقي؟ وما نحن نسمّيه علما هو ليس في غالب الأحيان سوى جهلنا الإيجابي. أمّا الجهل فقد يكون معرفتنا السلبية (…). إن رغبتي في المعرفة مُتَقَطّعَة. أما رغبتي في أن أغوص برأسي في الأجواء المجهولة لقدميّ فهو دائم ومستمر». ومعنى هذا أن دافيد ثورو «يستعمل قدمية لصالح رأسه، وكيانه». ومعنى هذا أيضا أن المشي ممارسة ذكيّة لا يجدها في العلم، ولا في الأدب بصفة عامة: «أين الأدب الذي يُعبّر عن الطبيعة؟ الشاعر هو الذي بإمكانه أن ينقل لنا لغة الرياح والأنهار، وتكون كلماته نضرة وطبيعية مثل البراعم التي تتفتح في أول الربيع. وأنا لم أعثر بعد على الشعر الذي يعبّر عن حبي للحياة بطريقة تنسجم مع هذا الحب. أفضل شعر أعرفه شعر مُتحضر جدا، ومُروّض جدا. أنا أطالب بشيء لا يمكن أن توفره لي أيّة ثقافة. إلّا أن الأسطورة قد توفره لي». ومُعلقا على هذا الكلام، يرى كينيث وايت أن دافيد ثورو يمارس «المشي الأسطوري لكي يتحرّر من اللحظة الراهنة، ويتخلص من مادية الحاضر ليعيش بدائية الزمن القديم».
نيتشه أيضا كان يمشي ليبتكر الأفكار الأشدّ غرابة وخروجا عن المألوف. وخلال السنوات الأخيرة التي سبقت انهيار عقله المتوهّج، كان دائم التذمّر والتشكي من العتمة الألمانية، ومن برد الشتاء الطويل. وكان يسكنه حنين إلى الضوء، وإلى الدفء هناك على ضفاف المتوسط: «نحن بحاجة إلى الجنوب، وبأيّ ثمن. نحن بحاجة إلى نبرات صافية، بريئة، فرحة ورقيقة». وهكذا قطع جبال «الألب» باتجاه إيطاليا، وجنوب فرنسا بحثا عن «الخلاص»، وعن «أشكال من الحرية أكثر سموّا». حدث ذلك في خريف 1882. وفي البداية، استقر نيتشه في مدينة جنوة، إلّا أنه لم يلبث أن غادرها إلى (Zoagli) ليقيم في فندق صغير عثر فيه على غرفة بمدفأة، وبشرفة تطلّ على البحر. غير أن الجو كان باردا، والسماء كانت مُغيّمة في أغلب الأوقات. لذا كان نيتشه يُغمض عينيه ويحلم بالمكسيك، وبمرتفعاتها، وبطقسها الذي يمكن أن يُعيد إليه الصحة والعافية. مع ذلك، لم يكن ينقطع عن التجوال كل يوم، ويكتب قائلا: «جولات طويلة… نمط حياة بسيطة إلى أبعد حدود البساطة… استراحة في الهواء الطلق… أتعاب متواصلة… أليست هذه هي الوسائل التي كان القيصر يستعملها لكي يحتمي من الأمراض؟»…كان يمشي وهو يفكر في من باستطاعته أن «يُحوّل الكلمات إلى ألحان وأنغام، ومن يتمكن من أن يضحك، ومن أن يكون سعيدا، ومن يعيش في هواء المرتفعات النقيّ، وفي كل يوم يولد من جديد مع الشمس»… وكان يمشي مُفكرا في لو أندرياس سلومي، تلك المثقفة فائقة الجمال التي رافقته قبل سنة في جولة على ضفاف بحيرة (Orta) الإيطالية، ومعا صعدا إلى قمة «الجبل المقدس»(Sacro Monte)». وفي رسالة كتب لها يقول:» كل يوم أشعر باليأس حين أسأل نفسي كيف باستطاعتي أن أعيشه… أنا لا أنام أبدا. ماذا يُجدي السير لمدة 8ساعات؟… مُنّوا عليّ بشيء من الجليد لكي يخفّ هذا الصّداع؟»… مع ذلك يواصل نيتشه السير كل يوم ومعه أوراق وقلم… ثم يأتي الربيع، وينجلي الطين من الطرقات الريفية، فيصبح التجوال مُريحا تحت شمس زرقاء تسطع فيها شمس حارة. وذات صباح يستيقظ نيتشه ليجد نفسه أمام مشهد غريب عنه حتى ذلك الوقت: «الضوء أيقظ الألوان. والبحر لم يعد له اللون الفضيّ لأشجار الزيتون. إنه أزرق مثلما هو في الأحلام. وتزداد زرقته عمقا كلما انطلقت نظراته باتجاه الأفق». والآن يسير نيتشه وهو يرقص ويغني ويكتب. وحين تشتد الحرارة، يتمدّد، ويكتب بعض الكلمات التي أملتها عليه «الموسيقى المتدفقة في رأسه، وفي عضلاته التي ترغب في الوثوب». ثم من جديد يواصل سيره خفيفا مُردّدا الأنغام الأولى للسيمفونية التاسعة لبيتهوفن. عندئذ تتحول قدمه إلى شاعر «حرّ جسور» يرقص على أنغام كلماته. ومن تلك الجولات الراقصة في ضوء الجنوب، ولد زرادشت». وفي كتابها البديع «نيتشه والضوء»، تكتب الفرنسية (Béatrice Commengé) قائلة: «لم يولد زرادشت لا من البرهنة ولا من التحليل النظري، وإنما من لون السماء، ومن صفاء الهواء. وُلد من أرق هُزمَ، ومن صُدَاع تمّت السيطرة عليه. ولد من الطرقات ومن المسارب، ومن اليأس في غرفة مُعتمة ذات مساء ممطر. ولد من برد يُيَبِّس الأعضاء، ويُزرِّقُ اليدين، ومن حرارة تُورِّمُ الساقين: كل شيء لا بد أن يمر عبر الجسد. وهو الوحيد الذي كشف الطريق». وتضيف (Béatrice Commengé) قائلة:» ولكن كيف يكون زرادشت كائنا آخر غير راقص؟ أبدا لا يمكن لفكر تجريديّ أن يكون مُنشدا للحياة. إذ من الذي يعرف كيف يسمع صوت جسده، ومن الذي يعرف كيف يسير، ومن الذي يعرف كيف يكون مع الطبيعة؟ إنه الراقص. الراقص وحده يعرف ذلك».
وهو يكتب «هكذا تكلم زرادشت»، شعر نيتشه أنه تخلص من العقلية الجرمانية «الجامدة والمتصلبة، وأيضا من المسيحية ومن قيودها وأخلاقها» ليمضي مُنتشيا بالضوء باتجاه الحياة «المتوهجة والسليمة». وفي قصيدة «الكتابة بالقدم»، يكتب قائلا:
أنا لا أكتب باليد فقط
قدمي هي أيضا تريد أن تكتب
حازمة حرة وجريئة
تشرع في الجري مرة عبر الحقول
ومرة عبر الورق
وفي قصيدة أخرى بعنوان :«سعادتي» ، يكتب قائلا:
حين تعبتُ من البحث
تعلّمتُ أن أقومَ باكتشافات
ومنذ أن أصبحت الريحُ رفيقتي
صرت أبحرُ مع الريح
أرتور رامبو الذي كان بول فرلين يُسميه «الرجل بنعال من ريح»، ويصفه (Ernest Delahaye) بـ»المسافر المختل» كان مَشّاء من درجة عالية. منذ أن فرّ من البيت العائلي في مسقط رأسه «شارلفيل» في سن المراهقة، وحتى وفاته في العاشر من نوفمبر-تشرين الثاني 1891 وهو في السابعة والثلاثين من عمره، لم ينقطع أبدا عن الترحال من مكان إلى آخر وهو على قلق «كأن الريح تحته» كما يقول أبو الطيب المتنبي. لذلك كان (Julian Gracq) على صواب عندما كتب يقول: «ولد رامبو واستيقظ ليجد نفسه أمام الطريق الكبير». ولعل سبب شغف رامبو بالتجوال والترحال هو أنه كان يشعر بنفور من الحياة لأنه يحمل في صدره قلبا «مريعا ومعطوبا»، ولأنه «مُدان إلى الأبد». وهو من تلك الكائنات التي لا تتحمل جمود الحاضر. لذا هي في حركة مُستمرة من أجل العثور على ما يُرضيها، ويشدّها إلى الأرض. وفي البداية، ترك «شارلفيل» وسماءها الرمادية القاتمة، وحياتها الرتيبة البائسة ليعيش التسكع والتشرد والتيه في باريس، وفي بلجيكا، وفي لندن، وفي ألمانيا. ومرة أخرى صدمته الخيبة فأحس أنه سيموت مُختنقا بين لحظة وأخرى. لذا سارع بالهروب إلى بلاد الشرق بحثا عن خلاص سوف يكون مستحيلا أيضا. وهناك لم يكفّ عن الترحال تماما مثل البدو الرحل في صحراء العرب. وأحد الذين شاهدوه في إثيوبيا، قال عنه: «لقد كان مشّاء كبيرا. وكان مشّاء مُدهشا. كان يمشي مفتوح المعطف، وطربوش صغير على رأسه رغم حرّ الشمس».
من وحي جولاته في أوروبا كتب رامبو «فصل في الجحيم». صحّتي مُهدّدة. الرعب قادم. كنت أغرق في النوم لأيام عدة، وحين أستيقظ، أعيش أحلاما أشدّ حزنا وكآبة. كنت ناضجا للموت، وعلى طريق المخاطر يأخذني ضعفي إلى تُخوم العالم، وإلى «سيميريا»، وطن العتمة والزوابع. وكان عليّ أن أسافر، وأن أنْعش أنواعا من النشوة والاغتباط مُجَمّعَة في دماغي». وفي «الإشراقات»، كتب رامبو: «عانقت فجر الصيف. لا شيء كان يتحرك على جبهة القصور. كان الماء ميّتا. ومخيّمات الظل لا تغادر طريق الغابة. مشيْت، موقظا الأنفاس الحيّة والدافئة، وكانت الأحجار الكريمة تمطر، والأجنحة نضت من دون صوت».
مثل سقراط، كان الفيلسوف الدانماركي سورن كيركوغارد يُولّد الأفكار وهو يمشي. في رسالة إلى (Jette) بتاريخ 1847 كتب يقول: «وبعد كل شيء، لا تفقدي مُتعةَ المشي. كلّ يوم أمشي لكي أبلغ حالة من الهناء والسعادة، وأتخلّص من كلّ مرض. وأنا أمشي، حصلت على الأفكار الأكثر خصبا، وليس هناك فكرة ثقيلة واحدة لم يُحررني منها المشي. لكن إذا ما نحن أطلنا الجلوس، فإننا نشعر بعدم الارتياح. لكن إذا ما نحن واصلنا المشي، فإن كل شيء سيكون على ما يرام».
وكانت رحلات توماس إدوارد لورنس في صحراء العرب سلسلة من المغامرات المثيرة والبطولية بحيث يمكن القول أنه لولاها لما كتب أثره العظيم :«أعمدة الحكمة السبعة». ومنذ سنوات الشباب الأولى، أظهر رغبة في المضيّ بعيدا في السفر، وفي المغامرة، وفي التحدي لمواجهة أقصى المصاعب، وأمرّها، وأشدها خطرا على حياة الإنسان. وكان مثقفا حالما، وفي الآن نفسه رجل فعل لا يخشى تحمّل المسؤوليات الجسيمة، ولا يتردد في رفع السلاح لخوض المعارك بروح وقدرة وحنكة المحارب المتمرّس بمختلف أشكال القتال. وعندما كانت أوروبا غارقة في جحيم الحرب الكونية الأولى، وكان أبناؤها يموتون بالملايين في الخنادق على جبهات القتال، فضّل هو الانطلاق إلى بلاد العرب ليعيش المغامرة الكبرى التي كان يتطلع إليها منذ أمد بعيد، مُجتازا مسافات مديدة على ظهور الإبل، ومُتنقلا بين مدن الشرق الكبيرة. وبفضل كل ذلك، عثر على الطريقة المثلى للكتابة: «لم تكن لي سوى رغبة واحدة في حياتي، وهي أن ألجا إلى أشكال الخيال للكتابة، إلّا أن فكري المضطرب والمشوش لم يتمكن أبدا من الحصول على تقنية معيّنة في الكتابة. وفي النهاية، قادتني الصدفة إلى الفعل والمغامرة، وأهدتني الثورة العربية حظّي الأدبي المتمثل في الفن من دون تقنية». كما أن الرحلات جعلته يفضل النثر على الشعر إذ أن النثر «تيّاه» كما يقول أبو حيان التوحيدي. وهو يستجيب لإيقاع حياة المسافر المتنقل بين الأمكنة أكثر من الشعر. وفي ذلك كتب لورنس يقول:» لقد بحثت طويلا في الشعر عن شيء يرضيني، إلّا أنني لم أعثرْ عليه. وعوض الشعر، رحت أبحث في النثر عن الطبق الذي كنت أحلم به. وقد وجدت فيه أشياء جيدة، وبعض الرجال الذين سعوا بكل نزاهة إلى تجاوز الإنسانية. لذلك تخليت عن كتابة الشعر، وسعيت من خلال النثر أن أهدي الطبق الذي أعددته لأولئك الذين يبحثون مثلي»… وفي نفس السياق يواصل لورنس كلامه قائلا: «النثر مرتبط بموسيقى في الرأس تقوم بطريقة لا إرادية بتعديل الكلمات وتنظيمها لكي تكون منسجمة مع إيقاع الفكر».
ومن رحلاته في صحراء العرب، اقتبس لورنس فلسفته في الحياة. فقد تخلص من كل ما يمكن أن ينزل به إلى مهاوي السطحية والابتذال والاسفاف، مُظهرا احتقارا كليّا للمال، والشهرة، والطرق المذلة والمهينة لاكتساب الرزق. لذلك لم يقبل أن يحصل على أيّ امتياز مادي من خلال مغامراته الحربية في صحراء العرب. ومن رحلاته تعلم لورنس أيضا الصبر، وتحمّل المشاق الأشد عسرا، والصوم والامتناع عن النوم لأيام عدة مُتفوقا في ذلك على البدو الرحل. ومن خلال «أعمدة الحكمة السبعة» التي أرادها صاحبها أن تكون شبيهة بالكتب العظيمة مثل «الإخوة كارامازوف» لدوستويفسكي، و«موبي ديك» لهرمان ملفيل، و«الحرب والسلم لتولستوي»، نحن نرى الحياة من خلال المساحات الصحراوية الشاسعة، والرياح التي تكنس الفكر وتلك المساحات، ونستشعر تلك السعادة النادرة أمام الفراغ والصمت، ونعيش المغامرات المهددة بالجوع، وبالعطش، وبقطّاع الطرق، وبموت مأساوي في معركة ضارية بالبنادق أو بالأسلحة البيضاء… وفي «أعمدة الحكمة السبعة»، يكتب لورنس قائلا: «هذه الصفحات ليست تاريخ الحركة العربية، وإنما تاريخ دوري فيها. إنها قصة تُعاش وتُروى يوما بعد يوم لأحداث صغيرة، ولأناس بسطاء. ونحن لن نجد فيها لا دروسا عن العالم، ولا تعرية لأسرار تجرح هذه المجموعة أو تلك. وهي مُفعمة بأشياء عادية في جزء منها لكي لا نعتبر التاريخ انطلاقا من الجماجم التي يمكن أن يعتمد عليها أحد مّا ذات يوم ليصنع التاريخ. وفي جزء آخر منها، أردت أن أستمتع بتذكر رفاق الثورة. فقد كنت مرتبطا معهم بعلاقة حميمة بسبب اتساع الفضاءات الحرة، ومذاق الرياح التي لا نهاية لها، واشراقة الشمس، والآمال التي كنا نمني أنفسنا بتحقيقها. وكانت نضارة العالم تُسكرنا. وكنّا نتحمّس للأفكار الغامضة والضبابية. مع ذلك كان يتوجب علينا أن نقاتل من أجلها. وقد عشنا أشكالًا عديدة من الحياة خلال تلك الحملات العاصفة من دون أن نسعى لحماية أنفسنا من مخاطرها. مع ذلك، حين استكملنا مصيرنا، وأشرق فجر العالم الجديد، ظهر القدماء مرة أخرى، وصادروا انتصارنا لكي يُعيدوا رسم صورة العالم القديم التي يعرفونها جيدا».
«السّياحة» من أركان التصوف في الإسلام. وهي تعني التيه في الأرض ولا هدف من ذلك سوى الالتحام بالله، والتخلص من الأدران التي تشدنا إلى متع الحياة الفانية. ولا يبتغي درويش الصحراء شيئا من المشي غير أن يكون «ميّتا وهو يمشي». ويعني ذلك أن جسده يظل على قيد الحياة على الأرض، أمّا روحه فقد صعدت إلى السماء لتستقر في جنة الخلد. وفي «كشف المحجوب»، إشارة إلى أن الدرويش يتحوّل في نهاية سفره إلى طريق، وليس إلى الذي يسلكه. ومعنى ذلك أنه يصبح مكانا لعبور شيء ما، وليس مسافرا تقوده إرادته.
يزخر التراث العربي بأعمال أدبية وشعرية ، تمجّد السفر، وتُشيد بمن يمارسه لأنه يسمح له بامتحان نفسه، وقدراته، وذكائه. كما يسمح له باكتساب تجارب مُهمة تسْمُو به على الإنسان المُقيم، المشدود إلى مكان واحد فلا يبرحه أبدا. وهذا ما عبّر عنه خالد بن يزيد، وهو أحد شخصيات الجاحظ الذي يقول مُفاخرا بأسفاره وتجاربه: «إني قد لابستُ السلاطين والمساكين، وخدمتُ الخلفاء والمُكدّين، وخالطتّ النسّاك والفُتّاك، وعَمَرْتُ السجونَ كما عمرت مجالس الذكر، وحلبتُ الدهر أشْطُرَه، وصادفت دهرا كثيرَ الأعاجيب». ومُعدّدا تجاربه في السفر، كتب المقدسي «السليل الأدبي» للجاحظ -بحسب المغربي عبد الفتاح كيليطو في كتابه «أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم»- يقول:» فقد تفقّهتُ وتأدبتُ وتزهدتّ وتعبّدت(…) وآممت في المساجد، وذكرت في الجوامع(…) ودعوت في المحافل، وتكلمت في المجالس، وسحتُ في البراري، وتهتُ في الصحاري(…) وأشرفت مرارا على الغرق، وقطع على قوافلنا الطرق(…) وخاطبت السلاطينَ والوزراء، وصاحبت في الطرق الفُسّاقَ، وبعتُ البضائع في الأسواق(…) وكم نلتُ العزّ والرفعةَ ، ودُبّر في قتلي غير مرة، وحججتُ وجاورتُ، وغزوت ورابطت(…) وعربت وافتقرت مرات(…) وامتحنت الطرّارين، ورأيت دولَ العيّارين». وتائها في بلاد الإسلام، يُجاري أبو الفتح الإسكندري في مقامات الهمذاني خالد بن يزيد، والمقدسي، ويقول: «عاشرت الدهرَ لأخبره، فعصرت أعصره، وحلبتُ أشطره، وجربت الناس لأعرفهم، فعرفت منهم غثّهم وسمينهم، والغربةَ لأذوقها فما لمحتني أرض إلّا فقأتُ عينها، ولا انتظمت رفقة إلّا ولجتُ بينها. فأنا في الشرق أذكرُ، وفي الغرب أنكرُ. فما ملك إلّا وطأتُ بساطه، ولا خطب إلّا خرقتُ سماطه. وما سكنتْ حرب إلّا وكنت فيها سفيرا. وقد جربني الدهر في زمنيْ رخائه وبؤسه، ولقيني ببشْره وعبوسه». وقد يسمح المُتمرس بالسفر والترحل لنفسه بأن يروي الخوارق والعجائب. وهذا ما نجده في «حكاية أبي القاسم البغدادي» لأبي المطهر الأزدي :«مشيتُ أسبوعين بلا رأس، أنا الذي أسّستُ الشطارة، وبوّبتُ العيّارة، أنا فرعون، أنا هامان، أنا نمرود بن كنعان(…) أنا الدهر المصْطلم، أنا الربيع إذ قَحَطَ الناس، أنا الغنيّ إذا ظهر الإفلاس(…) إبليس إذا رآني أدبر(…) أنا حُبستُ في أجَمة فأكلت السباع، وجعلتُ الحشيشَ بقْلي، وطعامي الصّيد، وشرابي الدم، ونَقَلي أدمغة الأفاعي(…)، أنا شهدت الغول عند نَفَاسها، وحملت جنازة السلطان(…) أنا قتلت ألفًا وأنا في طلب ألف(…)، أنا ضُربت ألف سوط فما عبستُ، نُفيتُ إلى الشّاش وفرغانة ورُددتّ إلى طنجة، وأفرنجة، وأندلس، وأفريقية، وإلى قاف، وخلف الروح، وإلى سدّ يأجوج ومأجوج ، وإلى كل موضع لم يبلغه ذو القرنين(…) لو ضُربَ عنقي ما مُتّ»… والسفر وسيلة ناجعة لاكتساب المعارف، والتعمق في جميع جوانبها. وفي المقامة الكوفية للهمذاني، يقول أبو الفتح: «كنت أجتاز في بعض بلاد الأهواز، وقُصارى لفظة شرود أصيدها، وكلمة بليغة أستزيدها». ويقول المقدسي: «وما بقيت خزانة ملك إلّا وقد لزمتها، وتصانيف فرقة إلّا وقد تصفحتها ولا مذاهب قوم إلّا عرفتها».
وفي «ألف ليلة وليلة» تكثر الأسفار العجيبة الغريبة. وعلى أسفار السندباد البحري، والسندباد البري، تنطبقُ مقولة إلياس كانيتي: «لكي نُصدق الحكاية، ينبغي قبل كل شيء أن تُثير الدهشة، فوحده يُصدّق ما يُثير الدهشة. لا يَستحقّ أن يُرْوى ما يجري مجْرى العادة، فبما أنه لا يثير الدهشة، فإننا لا نصدّقه».
وحتى وهو خلف القضبان، يمكن لشاعر مثل التركي ناظم حكمت أن يسافر بالخيال، ويمشي مُتغنيا بجمال الطبيعة والعالم:
أمامي النور الذي يتقدّم
يداي ممتلئتان برغبات كثيرة
العالم جميل
عيناي لا تتعبان من النظر إلى الأشجار،
الأشجار خضراء جدا، ومُفعمة بالأمل
الدّربُ يمضي خلَال أشجار التّوت
وأنا في النافذة في غرفة التّمريض
لكني لا أشمّ رائحةَ الأدوية
لعلّ أزهار القرنفل تفتّحت في مكان مّا
أن يكون المرء مَحْبوسا ليس مشكلة
المشكلة تتعلق بألَّا يستسلم أبدا…
في نص يماثل النصوص الصوفية للشاعر الأفغاني سيد بهاء الدين مجروح المولود عام 1928، والذي قتل عام 1988، يقوم «مسافر منتصف الليل» برحلة باتجاه مشرق الشمس. و خلال رحلاته تلك لم ينقطع أبدا عن الاصطدام بهوّة العدم التي جعلها وحشًا مُستبدًا مخبأً له. وكان مسافر منتصف الليل يرغب في إخبار الناس بتلك الهوة، وتحذيرهم منها إلّا أن أبواب كل المدن التي مرّ بها ظلت مُغلقة في وجهه. ومنفيّا من بلاده، يمر بمعسكرات اللاجئين الفارين من الجوع ومن مظالم الحكام. وأمام تلك المشاهد البائسة والحزينة، لم يتمكن مسافر منتصف الليل من كبح جماح غضبه ضد مصير النساء والعشاق… ومرة سمع امرأة تغني: «يا إلهي، لا تدعْ امرأة تموت في المنفى. ففي أنفاسها الأخيرة قد تنسى اسمك فلا تفكر إلّا في وطنها المفقود».