حاورتها: عايدة أدماريام
ترجمة: نجاح الجبيلي*
ربما تكون لرواية جوخة الحارثي الثانية «أجرام سماوية» جذورها في ريف عُمان- قنواتها الإروائية ولياليها القاحلة جداً وغرفها الخلفية الباردة وساحاتها المزدحمة – لكنها ولدت في أدنبرة. كانت الحارثي تدرس الدكتوراه في الجامعة، وكان لديها رضيع عمره ثمانية أشهر، وكان زوجها يجد صعوبة في الحصول على مكان للعيش لذا كان يؤجّر شقة صغيرة من أسبوع إلى آخر. تضاعف توترها بحقيقة أنها كانت تتوقع، على الرغم من أنّ دراستها للدكتوراه كانت في الشعر العربي القديم، «أن أكتب بالإنجليزية الطليقة وأكتب المقالات السلسة، لكني لم أفعل ذلك! أبداً. لذا رجعتُ إلى الشقة في ليلة ما وأخذتُ الرضيع لينام، وجلستُ هناك بحاسوبي المحمول أفكر لا بعُمان بالضبط، بل بحياة أخرى ولغة أخرى. ولأني أحب لغتي كثيراً شعرت بالحاجة إلى الكتابة بلغتي الخاصة. لذا بدأت الكتابة.» لقد نشرت كتاباً واحداً بعنوان «حلم» «وهي نوع من قصة الحب» وظلت لفترة طويلة تفكر بقصة أخرى وتنتزع الأفكار والشخصيات والأماكن. تقول «لم تكن واضحة في ذهني، لكن بقيت أفكر بها، وأيضاً بالطرق التقليدية، التي سرعان ما اختفت في عُمان.» لكنها «لم تبدأ بعد، حتى تلك اللحظة، حين كانت لحظة صعبة حقاً بالنسبة لي. وكان الأمر يشبه العودة إلى رحم أمي، لكي أشعر بالدفء والأمان. لا أقول أن الرواية قد أنقذتني، فتلك كلمة كبيرة، لكنها كانت شبيهة بهذا الأمر.»
وبعد عقد تماماً وفي آيار- مايو من هذه السنة فازت رواية «أجرام سماوية» بجائزة مان بوكر العالمية. وقد هزمت الحارثي العديد من الروائيات اللاتي ترشحن للقائمة النهائية بضمنهن البولندية صاحبة الكتب الأكثر مبيعاً «أولغا توكارزوك، والتحقت بالفائزات السابقات بضمنهن المؤلفة هان كانغ؛ وهو أول كتاب من بلد عربي يفوز بالجائزة. التقينا في الصباح التالي، في غرفة تضيئها العديد من النوافذ للطابق العلوي من المقر الرئيس للمعهد الملكي للمعماريين البريطانيين في مركز لندن. جلست الحارثي جنب مترجمتها مارلين بوث* التي تتذكر بأن الترجمة أيضاً بدأت في أدنبرة. إذ أن الحارثي لم تنهِ وقتها دراستها للدكتوراه حين تقاعد الأستاذ المشرف عليها، وتولت المهمة بوث، التي هي الآن بروفسور في دراسات العالم العربي في أكسفورد.«جلبت لي روايتها. وسرعان ما أحببتها في الحال، وأردت أن أترجمها.». كانت بوث متلهفة جداً لإكمال الترجمة قبل أن تعثر على ناشر لها، «وهي ليست فكرة جيدة دائماً.» كما تقول. إن رواية «أجرام سماوية» هي الرواية الأولى التي تفوز بها امرأة عُمانية قد تمت ترجمتها إلى اللغة الإنجليزية، وكانت قيمة الجائزة 50 ألف جنيه استرليني تم تقاسمها بين الروائية والمترجمة.
يروي الكتاب قصة ثلاثة أجيال من عائلة في قرية تدعى «العوافي». هناك ثلاث بنات، وابوهنّ وأمهنّ، وأطفالهن وأهل أزواجهنّ. ولادة طفلة تدعى «لندن» (عاصمة بلد أجنبي، واسم مدينة مسيحية أثار الهمس بين الجيران الخائفين والأقارب.) هو المركز الذي منه تشرق كل أنواع الإشعاعات، ثم يدور بسرعة وسيطرة مؤثرتين: على مدى ست صفحات تقدم لنا مأساة مثيرة، ووصفاً بارزاً لامرأة تولد «وهي تقف طويلة مثل فرس فخمة».إنّ شخصيات الحارثي متناقضة وقابلة للخطأ على نحو سارّ وفردية على نحو متعذر تبسيطه. أب جديد خرف يجلب صناديق من طعام الرضيع للطفل الذي لم يفطم، وهو الفعل الذي يعد «غير ضروري ومخزٍ»، عبد سابق يسجن «كمجنون» من قبل ابنة خجولة تنادي متى ما تسمع ضجيجاً في الساحة:«أنا هنا، أنا هنا. أنا مسعود وأنا هنا.»
إن القول أن رواية «أجرام سماوية» هي رواية عن سلسلة أجيال يبسط ما فعلته الحارثي، والذي يروي أيضاً قصة كيف تغيرت عُمان على مدى القرن الأخير، من المجتمع الأبوي الريفي التقليدي إذ كان الإسلام يتم عن طريق عبادة روح زار والذي من بين البلدان الأخيرة في العالم التي تلغي الرق في عام 1970، إلى دولة خليجية متحضرة غنية بالنفط. وقد فعلت ذلك بشكل ينتقل من صوت إلى آخر ومن منظور إلى آخر ومن عقد إلى آخر، أحياناً ضمن فقرة أو جملة مفردة. لذا من غير المفاجئ بأنه إضافة إلى الشعراء العرب من القرن العاشر مثل أبو الطيب المتنبي ومؤخراً محمود درويش، فإن الحارثي تعد من ضمن كتابها المفضلين جابرييل جارسيا ماركيز وميلان كونديرا ويوكيو ميشيما وياسوناري كاواباتا وأنطون تشيخوف، وأن أول عمل خيالي نشرته في الثامنة عشرة كان قصة قصيرة. ومنذ ذلك الحين كتبت ثلاث مجموعات من القصص التي ترجمت إلى خمس لغات إضافة إلى كتب الأطفال.
تقول إنّ «ما يجذبنا إلى الأدب لا لأنه مألوف لدينا، بل لأننا نستطيع أن نربطه بالقيمة الكونية فيه».
نشرت رواية «أجرام سماوية» لأول مرة في عام 2010 وكانت «كتاباً محظوظاً» تقول الحارثي التي تبلغ الأربعين من عمرها وشخصيتها مثل نثرها واثقة على نحو مباشر وغير مبهرج «اعتقد أن الكتب مثل الناس، بعضها له حظوظ، وهذا الكتاب جذب الكثير من الاهتمام.» أحب النقاد الكتاب وكتبت عنه أطروحة ودراسة نقدية في السنة الماضية. لقد أجابت على كل الأسئلة تقريباً بلغة طليقة جديرة بالقبول، لكنها الآن تلتفت إلى بوث:»أريد أن أقول هذا بالعربي لو سمحت، أن أضعه بكلمات مضبوطة- لا أريد أن أخطئ.»
بعض الناس يشعرون بأن إثارة موضوع حساس مثل الرق يثير الماضي بطريقة غير مناسبة الآن» تقول بوث بعد لحظة:» لأن عُمان بلد آخر، والرق شيء من الماضي». لكنها تقول بأن «ذلك ما يفعله الأدب- إنه التفكر في الماضي والتاريخ.»
نشأت الحارثي مغمورة في التاريخ وبالأخص في الأدب العربي. كان عمها شاعراً وكاتباً رحالة. جدها كان شاعراً «حين كنت طفلة كان ينشد أبيات من المتنبي في كل مناسبة لكي يبرر موقفه.» تماماً مثلما يفعل أحد أبطال روايتها «عزان» لعشيقته البدوية الجميلة التي يجدها متغربة ومغضبة على نحو متزايد. إن بوث التي تدرس اللغة والثقافة العربيتين الحديثتين والتي لغتها العربية قريبة للهجة المصرية في الحقيقة (لم تذهب إلى عُمان أبداً وكان عليها أن تسأل الحارثي أن ترسل صورها عن الأشياء العمانية التي لم تصادفها سابقاً)، وجدت هذه القصائد، بمعانيها المزدوجة ومراجعها التي تمتد آلاف السنين في الماضي هي التحدي الأصعب في الترجمة.»كرهتني بسببها!» تقول الحارثي ضاحكة.
حين نشأت أم الحارثي في قرية «القابل» لم يكن هناك مدارس لتعلم أساسيات القراءة والكتابة لأحد، ذكوراً أو إناثاً، إلا إذا ذهبت إلى العاصمة مسقط، لهذا تعلمت الشعر بنفسها وكانت تنشده بينما هي ذاهبة لأداء أعمالها الروتينية. في الوقت التي ولدت فيه الحارثي وأخوانها وأخواتها كانت الأمور قد تغيرت، مع أنه لا توجد آنذاك روضة أطفال لذا زور أبوهم، وكان حاكماً محلياً، شهادات ميلادهم لكي يدخلوا المدرسة مبكراً.» فكر بأنه من المجحف أن نبقى في البيت لأننا أذكياء.» الحارثي التي تعيش الآن في مسقط وتدرّس الأدب العربي القديم في جامعة السلطان قابوس هي إحدى أفراد عائلة مكونة من ثماني بنات وأربعة أولاد. «وما هو ترتيبك بينهم؟ «حسناً، دعينا نرَ» تحسب بأصابعها لاهثة:» اعتقد أن ترتيبي الرابعة بينهم.» وقد تفرقوا في مهن مختلفة مثل موظف في شركة النفط وأخ في وزارة الخارجية وأخت في شركة للاتصالات. والحارثي نفسها متزوجة من مهندس مدني ولديها ثلاثة أطفال.
أحد الأشياء المدهشة في رواية «أجرام سماوية» هي الطريقة التي ترفض بها الحارثي الافتراضات البسيطة حول القوة وأدوار الناس في العالم. مثلاً هناك لحظة تركز بها على طفولة إحدى الشخصيات الرئيسية، أم تحكم أسرتها اسمها سالمة التي بدأت كامرأة قريبة فقيرة. ثم لا يسمح لها بالأكل أو اللبس أسوة بالقريبات الغنيات، لكن في الوقت نفسه لم يسمح لها بالاختلاط مع الجاريات، والاستحمام مثلهن، أو ترقص كالفتيات الجاريات. لا يمكن لسالمة المراهقة أن تتحمل «ظريفة»، وهي من الفتيات الجاريات من عائلة زوجة الابن، التي تدير الأسرة، ولديها حب وتكريس لسيده المفترض وابنه، ولديها القوة المعترف بها رسمياً. تقول الحارثي:»الأمر معقد دائماً بالنسبة لي. العلاقات معقدة، والناس يطالبون بحقهم أينما كانوا. الكثير من النساء في الواقع قويات، حتى لو كنّ جاريات فعلاً، لكنهن يبقين قويات.». كل فصل من الرواية يسمى باسم الشخصية التي ترويها من وجهة نظرها، لكن من المثير أن الشخصية الوحيدة التي تروي بضمير الأنا هو رجل، عبدالله- الذي يفترض بأنه وارث الأغنياء، تاجر، وربّ أسرته، الرجل في عالم الرجل الذي يجب أن تكون له كل السلطة. تقول الحارثي:» لكن عبدالله لا يكون كذلك!» لأسباب جزئية تتعلق بآلام قديمة، والكثافة التي يحب بها شخصاً ما لا يحبه بالمقابل، وعالمه المتغير بشكل سريع جداً وقوة النساء اللاتي يحطن به. تضيف بوث:»ستفترضون بأنّ الشخصية التي تتكلم بضمير الأنا تمتلك شيئاً من السلطة، لكنها في الواقع الأشد ضعفاً.»
كيف تشعر الحارثي حول المقروئية الواسعة التي ستجلب لها هذه الجائزة؟ تصمت لفترة وجيزة وتقول:»لا أعرف، أمر غريب… يعني»- تلتفت إلى بوث مرة أخرى؛العبارات الإنجليزية تقفز مثل الفقاعات من بين الألفاظ العربية السريعة. «من المدهش أن تحوز على مقروئية كبيرة» تقول بوث أخيراً» وأن يكون لكِ قراء في كل مكان، لكن ينتابك أيضاً شعور غريب قليلاً، لأن تلك شخصيات ظهرت من ذهنها. ثم تطورت ضمن تفكيرها وخرجت لتدخل العالم ويقرأها الناس الآخرون ويفكرون بها ويكون من الصعب قليلاً أن نجعلها تمضي.» أو كما تقول سالمة عن بناتها:» نحن نربيهنّ لكي يأخذهنّ الغرباء». تقول الحارثي هناك نقطة أضافية من الثقافة التي هي أنه حين ينشر بالعربية فإن الجمهور العربي بصورة عامة والعُماني بصورة خاصة يمكن أن يربط بينه وبين الرواية بسهولة.»- وغير العربي لا يمكن حقاً أن يتوقع أن يشعر بالإحساس نفسه من التمييز.»لكني ما زلت أظن بأنّ ما يجذبنا إلى الأدب لا كونه مألوفاً لنا، بل لأننا نربط بينه وبين القيم الكونية فيه. حتى لو يتضمن محلية قوية جداً. مع ذلك أرغب بأن القراء العالميين أن يربطوا بينهم وبين القيم الكونية التي فيها.»
ثيمة الرواية كما يرويها موقع الأمازون
في قرية العوافي في عُمان نقابل ثلاث أخوات: ميا التي تتزوج بعد نوبة قلبية؛ أسماء التي تتزوج نتيجة الحسّ بالواجب؛ وخولة التي تختار الرفض لكل العروض وتنتظر الرجل الذي تحبه والمهاجر إلى كندا.
هؤلاء النساء الثلاث وعوائلهن وخساراتهن وحبهن بشكل جميل إزاء خلفية عُمان المتغيرة بسرعة، البلد الذي يرتقي من مجتمع تقليدي يجيز الرق إلى حاضر مركب.من خلال الأخوات الثلاثة نلمح مجتمعاً بكل درجاته من أفقر العائلات المحلية التي توظف كرقيق إلى تلك التي تكسب المال من خلال المغامرة بالثروة الجديدة.
الثناء على الرواية
كتاب يسلب لب الرأس والقلب على حدٍّ سواء… براعته الفنية الدقيقة تسحبنا إلى مجتمع يجري تخيله على نحو ثرّ- ينفتح لكي يثير مسائل عميقة عن الزمن والفناء والأوجه المشوشة لتاريخنا المشترك. الأسلوب مجازي للموضوع ويخرق على نحو رائع الصيغ الجاهزة للعرق والرق والجنوسة. الترجمة دقيقة وغنائية، تنسج إيقاعات كل من الشعر والكلام اليومي. تستدعي رواية «الأجرام السماوية» القوى التي تقيدنا وتلك التي تفكنا من الأسر».
بيتاني هيوز رئيس هيئة جائزة مان بوكر العالمية 2019.
* * *
«التلميحات إلى ثقافة معروفة قليلاً في الغرب رائعة.»
جين هوشام صحيفة الغارديان
* * *
تصف الرواية بشكل جميل حياة ناس على حافة التغيير. الكتابة لولبية على نحو مضايق وثمة نوع من التضمين الشعري الذي يجذب القارئ إلى الخلفيات المنزلية والمحن العامة للأخوات الثلاث…. تقوّض رواية «الأجرام السماوية» الصيغ الجاهزة المتواترة حول الثقافة واللغة العربية لكنها تتيح صوتاً مهماً جديداً في عالم الأدب.»
مايكل كرونين- آريش تايمز
* * *
تحفة مدهشة، تسحق انتباه العالم… في كشفها لتاريخ عُمان من خلال أصوات مهمشة، وتكشف عن القوى الكونية التي تمكن الظروف غير المتساوية للقيمة والانتشار… تفعل الرواية ما يفعله الأدب الجيد.. فهي تأخذنا خارج إنفسنا لكي تتيح لنا فهماً لعالمنا.»
سارة جوليان/ فريز
* * *
* المترجمة مارلين بوث تشغل كرسي خالد بن عبدالله لدراسات العالم العربي المعاصر، والمعهد الشرقي وكلية مادلين، جامعة أكسفورد. إضافة إلى منشوراتها الجامعية فقد ترجمت العديد من الأعمال الروائية من اللغة العربية وآخرها أغنية البطريق» و» لا طريق إلى الجنة» للروائي اللبناني حسن داود.
* ملاحظة المترجم: ترجمت رواية «سيدات القمر» بعنوان يختلف عن العنوان العربي وهو «أجرام سماوية» وبرأيي أن الترجمة فقدت جمال العنوان الأصلي وما يحمل من مكنونات باعتباره ثريا النص-حسب جاك دريدا- وعتبته. إضافة إلى أن الفصول في الترجمة الإنجليزية سميت باسم الراوي أو الراوية بينما خلت الرواية الأصل منها.