الاستشراق، الاستعراب، الدراسات الإسلامية، مصطلحات طالما تداخلت مبتعدة عن الدقة العلمية والواقعية؛ تداخل لا يعود إلى من أطلقها فحسب، بل إلى طبيعة نشأتها وتطورها، ابتداء من ثنائية شرق- غرب التي كانت واقع تعاقب مراكز النهضة الحضارية، كما كانت واقع علاقات الهيمنة والاستعمار، وواقع الرؤية الثقافية.
بين الاستشراق والاستعراب
وإذا كان مصطلح الاستشراق قد ظهر للمرة الأولى في اللغة الفرنسية عام 1799، كما يقول مكسيم رودنسون «للحاجة إلى إيجاد فرع متخصص من فروع المعرفة لدراسة الشرق»، فإن رضوان السيد يعيد الاستشراق إلى القرن التاسع عشر، لأن الاهتمامات ما قبله لم تكن معرفية، بل تبشيرية (ص88)، فيما يعتبر آخرون أن الاستشراق بدأ قبل الفترة التبشيرية الممهدة للفترة الاستعمارية بكثير، أي كحاجة أساسية عاشتها أوروبا لبناء نهضتها على أساس منجزات الحضارات الأخرى، وفي مقدمتها الحضارة العربية الإسلامية بدءا من سقوط القسطنطينية وتركزا في الأندلس. وذاك ما يؤيده تعريف قاموس اكسفورد:”المستشرق هو من تبحر في علوم الشرق وادابه»
غير ان هذه التعريفات تبقى ضبابية فالشرق ليس واحدا لا في علومه ولا في ادابه ولا في حضاراته. ولعل ما يوحده في هذا المجال هو ما يقوله ادوارد سعيد من ان «الاستشراق هو نوع من الاسقاط الغربي على الشرق وارادة حكم الغرب للشرق». كذلك فإن العالم الإسلامي ليس واحدا، ومنه العالم العربي.
وبالمعيار التاريخي فإن تاريخ العرب قبل الإسلام مرحلة مختلفة عن تاريخهم بعده. خاصة إذا ما انتبهنا إلى أن معظم تعريفات الاستشراق تشير إلى اللغة (أو شجرة اللغات) كمعيار أساسي للتعريف والدراسة. وإذا ما انتبهنا إلى أن تأسيس كرسي اللغة العربية في أكسفورد يعود إلى عام 1683م، وفي كامبريدج إلى عام 1632م، وربطنا ذلك بتعريف رودي بارت للاستشراق على أنه: «علم يهتم بفقه اللغة خاصة». لذهبنا إلى أن الاستعراب فرع متخصص وأساسي في الاستشراق. مما يبرز أيضا الخلط الذي طالما شاب الدراسات بين الاستعراب والدراسات الإسلامية. فليس كل المسلمين عربا، وليس كل العرب مسلمين وفي جميع مراحل تاريخهم. وأذا كانت المؤسسات الاستشراقية قد تنبهت إلى هذا التميز الواضح وفق المعايير العلمية فإنها قد لجأت إلى استبدال المصطلح بآخر لا نراه أكثر علمية، وإنما هو أكثر تسييسا، واستعمارية، وقصدية: وهو «الدراسات الإنسانية حول آسيا وشمال إفريقيا».
وتحت هذا العنوان عقدت المؤتمرات العالمية المتتالية في أوروبا من باريس إلى هنغاريا. لكن الباحثين لم يتخلوا خلال جلساتها عن مصطلح الاستشراق وتجنبوا فيه ذكر الاستعراب كليا لغايات سياسية معروفة. كل هذا ما تنبه إليه، في وقت مبكر، الدكتور جواد علي تعريفا وعملا: «إن تعبير مستشرق واعتباره اصطلاحا يطلق على المشتغلين بالعربيات من الغربيين هو إصطلاح غير علمي، ويجب استبداله بمصطلح مستعرب بمعنى أنه خصص نفسه وكرس وقته لدراسة العربيات فقط، بينما تطلق لفظة مستشرق على المشتغل باليابانيات والصينيات والفارسيات والتركيات وغير ذلك. وبتخصيصنا لفظة مستعرب اصطلاحا على من يدرس العروبيات جميعها، أو فرعا منها لغة وتاريخا وجغرافيا، نكون قد أطلقنا المصطلح الجديد على صميم الواقع وبمكانه الصحيح». من هنا جاء عمل علي الضخم: «تاريخ العرب قبل الإسلام» و«المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام». موسوعة تاريخية برؤية عربية تتناول – فيما تتناول- عمل المؤرخين والمنقبين المستعربين على بلاد العرب قبل الإسلام.
هذا العمل الرائد الضخم هو ما نستند إليه في مقاربتنا للدكتور جواد علي والاستعراب بعد مقاربة عامة للذين عملوا على هذه المراحل وعلى رأي الباحثين العرب بهم.
لا يمكن إنكار أن هذه المرحلة بقيت غائمة حتى القرن التاسع عشر، مستندة إلى الروي والسرديات غير المحققة إلى أن جاء المستعربون فأدخلوها دائرة طرق البحث الحديثة وأخضعوها للتدقيق والنقد ووضعوا الأسس التي مكنت المعنيين بتاريخ تلك المرحلة من البحث في تاريخ جزيرة العرب. ومنهم الدكتور جواد علي في موسوعتيه. دون أن يعني ذلك أن جميع هؤلاء الباحثين كانوا منزهين عن الغاية. لكن ذلك لا يعني أننا لم نفد من عملهم غير المسبوق. ولم يكن هناك ما يمنع الباحث العربي من أن يقدم، بالاعتماد على ما كشفوه ومعالجته معالجة نقدية واعية، من تقديم رؤية عربية لتاريخ العرب قبل الإسلام.
هؤلاء الباحثون ينقسمون إلى أربع فئات: الدارسون، مفككو رموز اللغات القديمة، المنقبون الأثريون (منفردين أو ضمن بعثات) والرحالة. وهي كما نرى فئات تتفاوت في مدى دقتها العلمية، كما أن متابعتنا لها بالتفصيل تقود إلى أنها تختلف في موضوعيتها، من عالم متجرد مجد كشف لنا كنوز تاريخنا كما فعل كثيرون، إلى رحالة عميل رسمي لأجهزة الاستخبارات في بلاده. كما كان مثلا بيركهارت الذي يعزى إليه خطأ اكتشاف البتراء، لتعود مذكراته المنشورة بعد سنين إلى الاعتراف بالتفصيل كيف كان مكلفا من طرف الاستخبارات البريطانية لتتبع سكة حديد الحجاز ما قبل الحرب العالمية، وفيها يروي بالتفصيل كيف ادعى اعتناق الإسلام والبحث عن الآثار (وتحديدا قبر هارون) لتسهيل مهمته، كما يروي كيف كان يرسل تقاريره وما هو الأجر الذي كان يتقاضاه. والأهم أنه يروي كيف كان يستعين بكتاب أوروبي عن البتراء ليعرف طريقه. (تفاصيل قصته عن البتراء في كتاب اكتشاف الوطن، حياة الحويك عطية، طبعة 2011،عمان).
أما أساليب عمل جميع هؤلاء ومعايير أحكامهم ومصادرهم فهي تتوزع، حتى حين تخضع لطرق البحث الحديثة على أربعة افرع: عمليات التنقيب وما تكشف عنه من النقوش الأثرية خاصة الكتابات، الكتب السريانية واللاتينية، الكتب العبرية، المصادر العربية الإسلامية القديمة، المصادر الحديثة.
فضل المستعربين
لا بد للباحث الموضوعي من أن يعترف بالفضل الأكبر لهؤلاء المستعربين في تفكيك شيفرات الكتابات القديمة، لا سيما المسمارية والهيروغليفية وبترجمتهم لكم هائل من النصوص. ولولا ذلك لما كان هناك مجال لأية دراسات قديمة. كما أن متابعة عمليات التنقيب تقودنا إلى الاعتراف أيضا بكشوفات هائلة ندين بها لهم، منذ القرن التاسع عشر، رغم انتقائيتها أحيانا.
بالنسبة للمراجع العبرية وفي مقدمتها التوراة والتلمود، فقد اعتبرت لدى العديد من الباحثين والمنقبين مرجعا إنما يتم التنقيب لتأكيده، وإذا ما اكتشف العكس صرف الأمر عن الموقع المعني. وعليه نسوق مثالين من مئات متوفرة:
الأول يسوقه الدكتور جواد علي عندما يتناول تاريخ مملكة معين التي يقول «إنها اقدم الدول العربية التي بلغنا خبرها»، وهنا يورد حقائق بالغة الأهمية ويعود إلى فيلبي وجيسمن وموسل ومايسلر وكلاسر واوريلي وكيتاني كما إلى ترجمات النصوص الآكادية والسومرية ويجد أن أدق من تناولها هو المستعرب الألماني وينكلر وكتابه «مصري وملوخا ومعين» . لكنه يعود فيضيف: «وقد أثارت نظرية «ونكلر» هذه جدلاً بين العلماء وقوبلت بنقد شديد، لأنها تعارض ظاهرة نصوص التوراة.»
والثاني تسوقه حياة الحويك عطية في كتابها «اكتشاف الوطن»، ص191-190 – ) حول تجربة بعثة آثرية بريطانية جاءت منقبة في منطقة البتراء وتحديدا في منطقة أم البيارة لإثبات أن هذا الجبل هو سالع التي تقول التوراة إن آماسسيا رمى أسرى آدوم من فوق صخورها، وعندما أثبتت الحفريات غير ذلك توقف التنقيب. وذلك ما وثقته كريستال بنيت في تقرير نشرته مجلة أخبار لندن المصورة عام 1966م، وأعادت نشره في مجلة ريفيو بيبليك، حيث كتبت: «كان الدافع للقيام بهذه الحفرية اكتشاف البرهان على أن أم البيارة هي سالع المذكورة في التوراة ولكن ذلك لم يتحقق ولم يتسن الحصول على أي دليل، كل ما يمكن أن يقال إن الفخار الذي وجدناه، متأخر بما لا يقل عن مائة سنة عن تاريخ الحادثة التي تشير إليها التوراة.. قرية آدومية، لم نكشف منها إلا ربعها».
بعدها انتقلت البعثة إلى قرية طويلان القريبة لتثبت أيضا أنها «تيمان» الواردة في التوراة وكذلك جاءت الحفريات بدلائل معاكسة فأوقف التنقيب في الموقعين.
عشرات التناقضات التنقيبية مع التوراة، قادت علماء الآثار التوراتيين إلى الانتقال من اعتماد التوراة كمصدر تاريخي إلى اعتماد مبدأ أن التوراة هو كتاب دين وليس مرجعا أثريا، ويجب الفصل بين الأمرين. من هنا ربما يمكن أن نعيب على الدكتور جواد علي أنه يورد التوراة في أكثر المواقع التي يتناولها كمرجع شأنها شأن سواها من المراجع.
المصدر الثالث هو الكتب السريانية واللاتينية، وقد أكثر مؤرخنا من إيراد رواياتها ووثائقها، وهي فعلا مراجع لكن تناولها لا يجب أن يخلو من النقدية والمقارنة والتمييز.
المصادر العربية الإسلامية، وهي في الواقع لم تعتمد إلا الروي الذي لا يستند إلى أي منهج علمي، ولا توثيق، ولا يبعد عن الهوى الذي لم يكن يريد أن يعطي لما أسماه «جاهلية» قيمة حضارية كبيرة . فعلى سبيل المثال يذكر الدكتور علي عشرات المصادر من مختلف الأشكال بشأن الدولة المعينية، بدءا من الكلاسيكيين (من ديودروس الصقلي إلى بطليموس) إلى ترجمات المستعربين للخط المسند. ويضيف: «أما المؤلفات العربية الإسلامية فلا علم لها بهذه الدولة». كذلك يقول عن منطقة الجوف (التي ظهرت فيها هذه الدولة): «ذكر الهمداني جملة مواضع فيها ولم يعرف شيئا عن أصحابها».
تأتي المشكلة الأخيرة المتعلقة بالمصادر، وهي مرتبطة هنا بالمنهج. حيث يؤخذ على بعض المستعربين، خاصة في القرن التاسع عشر أنهم اعتمدوا مدرسة التحليل التاريخي التي كانت تتبنى القوميات كمرادف للأعراق، وهو ما كان سائدا في أوروبا حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، (بل والسبب الأيديولوجي للحربين)، وعليه تعاملت مع مكونات حضارة المنطقة بعقلية إتنية عرقية تجزيئية. ولا نعتقد أن هذا التبني جاء لمجرد موقف أيديولوجي، لأن الحال لم يتغير بعد أن انتقلت أوروبا إلى مكافحة العنصرية المبنية سواء على العرق أم على الدين وتبنت مبدأ الدولة الحديثة التي تؤمن بالقومية المركبة، ضمن دولة المواطنة. لم يتغير مع هذا منطق من يتناولون شؤون العالم العربي، بل ركزوا أكثر على المنطق التجزيئي.
هل يعني كل هذا أنه من الممكن القطيعة مع أعمال المستعربين، وأن من انتقد الدكتور جواد علي لاستشهاده بهم، خاصة الألمان منهم، في أبحاثه،هو على حق؟.
هذا أمر مستحيل؛ فالعلم قابل للفصل بين منجزاته المثبتة، وبين هدف صاحبه، ووسائل المنطق والقياس والمقارنة تؤمن إيضاح الحقيقة لمن يملك بصيرة تعي. وأعمال المستعربين، خاصة المنقبين منهم بئر من المعرفة لا يمكن تجاهله وإن وجبت مقاربته بحذر.
أخيرا، المصادر العربية الحديثة نادرة، وإن وجدت فلا يغفلها الدكتور علي ولكنها تبدو نزرا يسيرا وغير قيم أمام سيل المصادر الأخرى من كل الأنواع.
كما نرى في تناوله لمنطقتي الجوف واليمن، حيث يورد زيارة أثري مصري بقوله: وزار الجوف بعد ذلك السيد محمد توفيق وقد ندبته «جامعة فؤاد الأول» الجامعة المصرية لدراسة هجرة الجراد الرحّال والكشف عن مناطق تولده، ودخله مرتين، المرة الأولى سنهّ «1944 م» والمرة الأخيرة سنة «1945 م»، وقد انتهز الفرصة فدرس سطح تلك المنطقة وخرائبها وآثارها، وأخذ صوراً «فوتوغرافية» لزخارف وكتابات، نشرها في البحث الذي نشره له «المعهد العلمي الفرنسي للآثار الشرقية بالقاهرة»، وذلك سنة «195 م» بعنوان: «آثار معين في جوف اليمن». ورحل «الدكتور أحمد فخري» الأمين بالمتحف المصري، إلى اليمن، وزار سبأ والجوف في مايس سنة «1947 م.
رؤية عربية
أهمية وجود موسوعتي د. جواد علي «تاريخ العرب قبل الإسلام والمفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام» في تقديم رؤية عربية مقابل الرؤية الاستشراقية.
“كنا نقول قال المستعربون واليوم يقولون قال الدكتور جواد علي يقول مؤرخنا في مقابلة مع حميد المطبعي في مجلة افاق عربية (حوار العدد 10 السنة التاسعة يونيو حزيران 1984 بغداد وزارة الثقافة).
نشر الدكتور جواد علي مؤلفه الأول: تاريخ العرب قبل الإسلام في ثمانية اجزاء عام 1958، ثم عاد فنشر «المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام» في عشرة مجلدات، صدر الأول منها عام 1968 والعاشر عام 1974. اختلف المفصل في إنشائه، في تبويبه وترتيبه وفي كثير من مادته. ذلك أنه أضاف إليه معلومات كثيرة خلا منها الكتاب السابق، بناء على ترجمات جديدة للنقوش والكتابات وعلى مراجعات المؤلف لمواد وأبحاث صدرت بعد نشر الكتاب الأول، تساعده في ذلك معرفته الدقيقة للغة الألمانية وهو الذي درس في الجامعات الألمانية حيث تعرف على تاريخ اليمن والعرب القدامى، ودرس الخط المسماري مما فتح له المجال إلى الدخول إلى ممالك العرب الأولى وأنسابهم.
هناك كان له الحظ في أن يتتلمذ على يد مؤرخين كبار ذوي شهرة عالمية مثل » ميثوخ» و«شيدر» و«وبيورك» و« شتروتمن» المختص بتاريخ اليمن. ومن هناك أيضا توفرت له إقامة علاقات مع مؤرخين ألمان كبار آخرين من مثل المؤرخ «راتجن» الذي كلفه الإمام يحيى بالقيام بأعمال الحفر والتنقيب في اليمن مع زميله «هيرمان فان وايزمن»، كما اطلع على أعمال عشرات المستعربين من مثل «ريكمنس» – «مرغوليوس» – «موسل» – «فنسسنت» – «هاليفي» – «كلاسر» – «جوسن» – «ونكلر» – «هومل » وغيرهم.
وفي حين اعتبر البعض أن تعمقه وتوسعه في أعمال المستعربين مأخذ عليه باعتباره يورد رواية غربية، وأن كل هؤلاء هم «مستشرقون مشبوهون»، كما اعتبره البعض مجرد جامع للمعلومات دون تقص إلى حد وصفهم إيّاه بـ «الجمّاعة»، اعتبر البعض الآخر أنه أعاد «صياغة تاريخ العرب القديم بمغامرة لا مثيل لها في كل كتب التاريخ، فهو أولاً أنزل المصادر الكبرى من سماء الأسطورة إلى أرض الهشاشة، وقال تلك مصادر ضعيفة، ولا تستحق أن نسميها مصادر أولى، ثم هو ثانياً كفر مؤرخين كبارا لأنهم تلاعبوا بحرمة الوقائع، وثالثاً نجح في أن يقدم أدلة علي التاريخ الصحيح، بالوثيقة أولاً، وبالتعليل المنطقي ثانياً، وبالفقه الاستدلالي ثالثاً وبروحية التاريخ المقارن رابعا»، كما قال العلامة محمد بهجت الأثري، الذي أضاف أنه «كان يخطئ ويصوب استناداً إلى خبراته المتراكمة ومعارفه الإجتهادية العامة..
ووصلت شجاعته إلى حد تخطئة مائة مؤرخ كبير في قضية تاريخية أجمعوا علي صحتها، وهو قال لا.. ليس ذلك صحيحاً، وكان يشكك في أمور أشبه بالمقدسة عند المؤرخين، أو العوام، ولا يبالي بَلمزات الكبار، أو صراخ الصغار».
بين هذين الطرفين يقف المرء أمام مضمون النص الفريد ليجد أن الدكتور علي هو فعلا جمّاعة بمعنى صيغة المبالغة في الوصف، فهو لم يترك شيئا، عرف حتى عصره، إلا واورده أعمال الكلاسيكيين من اليونان إلى الرومان إلى غيرهم، وأعمال المشرقيين جميعا، إلى أعمال المستعربين وترجماتهم .
وإن كنا نتحفظ – كما أسلفنا – على إيراده لمقولات التوراة والتلمود التي لا يجب أن يوردها مؤرخ إلا ليدحضها، ليس من باب العداء السياسي المبتعد عن العلم، وإنما من باب العلم الذي أردنا تغير موقفه من التوراة أعلاه، بناء على حقائق التنقيب. علما بأنه لم يحجم عن ذكر تناقض بعض العلماء مع التوراة كما رأينا عن وينكلر.
مواقف نقدية
وإذا كان الدكتور الموسوعي يورد كل ما يحيط إحاطة كاملة بكل ما ورد عن موضوعه، دون أن يتخذ موقفا نقديا في بعض المواقع، لا يحجم عن اتخاذ ذلك عندما يرى أن الأمر علمي وضروري، سواء على ضوء العلم الحديث، أو التراث، أو المنطق ونورد على ذلك أربعة أمثلة:
* الأول: يتناول تعريف كلمة عرب نفسها حيث حاول فريق من المستعربين أن يربط كلمة عرب بكلمة عرابا العبرية التي تعني الفوضى، وأن يقولوا إن كلمة عارب تعني تحرك. ولم يبتعد عن ذلك مؤرخون عرب، فقال المؤرخ نصر شمالي إن مصطلح العرب هو مرادف لتسمية عبيرو الذي يعني الرحيل أو المهاجر أو العابر. وواضح أن كل هذه المحاولات تتركز على مفهوم الترحل وعدم وجود حضارة مدينية مستقرة . وهنا جاء الدكتور علي ليخالفهم جميعا بتفسير يؤشر إلى الحضارة بالقول إن كلمة عرب جاءت من الإنابة والإفصاح عن الشيء كأن يقال للعربي أعرب لي أي بين لي كلامك، ويقال أعرب الأعجمي أي أفصح وأبان، وكان نصارى الحيرة يسمون العرب الخلص بالمعربين لوضوح لسانهم، والعربية تعني تحريك آواخر الكلمة وأن أقدم لفظة لكلمة عرب، وردت في النصوص الأشورية عام 853 ق م منقوشة على الصخر استعملها الملك الأشوري شلمنصر الثالث. وهذا ما أوردته ديزيره سقال في كتاب، «العرب في العصر الجاهلي» الصادر في بيروت 1995
* الثاني: يتعلق في موضوع طبقات القبائل، حيث يعرض لكل ما جاء في الموضوع لكنه يذهب إلى وضع الشعوب فوق القبائل مستشهدا بالتاريخ مرة ومرة بالقران الكريم: }وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا{ مقدما الشعوب على القبائل.
* الثالث: يتعلق بموضوع الطوطمية حيث يعرض أيضا لجميع الآراء ثم يخلص إلى ملحوظة تضعها كلها موضع نقد: يورد نظرية «روبرتسن سمث» حول ذلك. فقد اتخذ من أن «في أسماء القبائل عند العرب أسماء كثيرة هي أسماء حيوان أو نبات أو جماد، دليلاً على وجود «الطوطمية» عند العرب، وعلى أثرها في الجاهليين. ثم يقول: «وقد لاقى تطبيق روبرتسن سمث نظربة «الطوطمية» على العرب الجاهليين، ترحيباً عند بعض المستشرقين، كما لاقى معارضة من بعضهم» ثم يمضي إلى رد جرجي زيدان في كتابه «تاريخ التمدن الإسلامي»، حيث «بيّن أسباب اعتراضه على ذلك التطبيق». غير أن الدكتور علي ينتهي إلى أن الطوطم، حتى لو وجد عند العرب، فإنه لم يكن يعبد كما لدى سائر الشعوب. وفي هذا أهمية كبرى لدلالات الثقافة العربية قبل الإسلام، ونقض لما فهمه المستعرب حولها.
* الرابع: يتعلق بنظرية الأمومية، حيث يورد الدكتور آراء جميع المستعربين حولها من سميث إلى نولدكه إلى ويلكن وباخ أوفن، الذين اتفقوا على ان العرب قبل الإسلام كانوا يعيشون في المرحلة الأمومية مستدلين بتسمية القبائل بأسماء أنثوية، وبالكثير من التفاصيل الأخرى، ومن ثم ينتقل إلى جرجي زيدان، لينتهي برده هو الذي يستند إلى العلم الحديث وينقض كل هذا الجدل.
«أما وجهة نظر العلم الحديث، فإن لدم الأبوين أثراً متساويا في المولود. وهذا فإن موضوع النسب إلى الأب أو الأم، موضوع لا يعالج عنده بالعرف والعادة، بل يعالج وفق قواعد العلم المقررة لديه. وبناءً على ذلك يجب أن نقيم وزناً لموضوع التزاوج المختلط بين العرب والغرباء، وقد كان معروفاً وشائعاً في الجاهلية أيضاً، إذ تزوجوا من الرقيق، ولاسيما الرقيق الأبيض ونسلوا منه، كما سكن في جزيرة العرب آلاف من الغرباء قبل الإسلام واندمجوا في أهلها. وتركوا أثراً في دماء أهلها، يختلف باختلاف مقدار الاختلاط. ويتبين ذلك وضوح في سحن سكان السواحل، لأنهم أكثر عرضة للاختلاط من أبناء البواطن والنجاد».
الدقة العلمية
من جهة ثانية يسجل للدكتور جواد علي التزامه الحريص بالدقة العلمية، فنراه يورد في الكثير من المواضع عبارات لا تجزم حيث لا يتوفر الجزم، من قبيل: «وهذا من قبيل الظن »، و«من غير المؤكد»، أو يقول في موضع آخر: «ولا بد أن تكون أكثر هذه المصطلحات مصطلحات أهل الجاهلية القريبين من الإسلام. أما بالنسبة إلى الجاهلين البعيدين عنه، فلن يكون حكمنا عليهم علمياً إلا إذا أخذنا مصطلحاتهم من كتاباتهم. ولم نتمكن ويا للأسف من الحصول على مادة منها تفيدنا في هذا الباب. فليس لنا إلا الصبر والانتظار.
وتظل القيمة الأكبر لهذا العمل الموسوعي الجليل، هي أنه كشف ووثق وجمع سيرة كاملة لتاريخ العرب قبل الإسلام تثبت ان هذه الجزيرة العربية لم تكن بلاد بدو رحل بلا حضارة ولا تاريخ، وإنما هي تاريخ ممالك عظيمة وقديمة، تعود إلى مراحل الحضارة البشرية الأولى. فيما يمكن أن نسميه مقاومة علمية للمسعى الاستعماري الذي يريد أن يوهم العرب بأنهم أقل قيمة من الأمم الحضارية، كي يستطيع أن ينتزع ثقتهم بأنفسهم كشعب وكحضارة مما يسهل عملية استلابهم وتبعيتهم للآخر الطامع في نفطهم وثرواتهم الطبيعية وفي موقعهم الجغرافي.
وسواء كان المستعربون الذين أفاد منهم الدكتور علي صادقي النية في البحث عن التاريخ، أم كان منهم من جاء يبحث عن هذا النفط بحجة الآثار، فإن مؤرخنا قد عرف كيف يفيد من أعمالهم لانجاز مهمته التاريخية هذه.
ومن أبرز الأمثلة على ذلك مثلا ما كشفه ووثقه عن الدولة المعينية كواحدة من أقدم الدول العربية التي بلغنا خبرها – كما يقول – «وقد عاشت وازدهرت بين «1350 – 630 ق. م على رأي بعض العلماء، في منطقة الجوف. وقد بلغتنا أخبارها من الكتابات المدونة بالمسند والكتب الكلاسيكية. أما المؤلفات العربية الإسلامية فلا علم لها بهذه الدولة». وإن كان المجال هنا لا يتسع لإيراد التاريخ القيم لهذه الدولة كما أورده مؤرخنا، فإنه لابد أن نعجب من مستوى حضارتها، من جهة، ومن كون ذكرها قد ورد لدى الكلاسيكيين من يراتوستينيس إلى بطليموس، كما عمل عليها عدد كبير من المستعربين وحصلوا على مئات الكتابات من أثارها، في حين أهملها العرب.
وإذا كانت معين تبرز أقدمية مملكة تقع في الجوف، كما تبرز مجان وهي عمان اليوم ومملكة حضرموت، فإن عمل الدكتور علي يأخذنا كذلك إلى مواقع تقع في الإمارات الحالية من مثل أبو ظبي والبحرين والكويت وقطر، كل تلك التي يصر الإعلام وحتى الثقافة على تصويرها بانها مواقع بدو لم تتحول إلى دول إلا مع الاعلان البريطاني في بداية السبعينات من هذا القرن. هذا فيما وثقه عن دلمون ومقابر البحرين مستندا إلى هومل وولسون وإلى أعمال البعثة الدنمركية، التي أرسلها متحف ما قبل التأريخ في “Aarhus” بالدانمارك للتنقيب في مقابر البحرين فكان لها فضل كبير في الكشف عن صفحات مطوية من تاريخ سواحل الخليج. فقد تمكنت هذه البعثة من العثور على آثار من عهود ما قبل العصور التاريخية في البحرين وقطر و «أبي ظي»، كما تعقبت آثار السكنى القديمة في البحرين وعمان وبقية الساحل، وعثرت على معابد قديمة مثل معبد «بربر» «باربار» في البحرين و «تل قلعة البحرين» في البحرين، وتوصك بذلك إلى نتائج قديمة جداً رجعت بتأريخ هذه البلاد إلى عصور بعيدة جدا عن الميلاد، وكان من أعمالها الكشف عن آثار «فيلكا» في الكويت.
وقد تبين من دراسة البعثة الدانماركية لآثار معبد «بربر» «باربار» في البحرين، إنه معبد عتيق: يرجع عهده إلى حوالي السنة «3000 ق. م.» أو اقدم من ذلك. وأنه كَان معبداً كبيراً به «بئر» مقدسة يستقي منها المؤمنون للتبرك بمائها ولتطهير أجسامهم ولإجراء الشعائر الدينية، ويلاحظ أن الباحثين تمكنوا من العثور على آبار مقدسة في بيوت العبادة الكبرى عند الجاهليين، وهذا يدل على أن معابدهم الكبيرة كانت ذات آبار مقدسة يشربون منها للتبرك والشفاء ولتطهير أجسامهم.
لقد وجدت هذه البعثة تحت أنقاض «تل القلعة» في البحرين بقايا مدينة قديمة يمكن أن تعدّ من مدن الجزيرة الكبيرة، أو عاصمتها، يرجع تأريخها إلى حوالي سنة «2500 ق. م».
وفي جملة ما عثرت عليه تلك البعثة آثار مدينة يرجع عهدها إلى منتصف الألف الأولى قبل الميلاد، في مكان يعرف بي «مرب» في القسم الغربي من قطر.
موقفه من الاستشراق
في كل ذلك يقف الدكتور جواد علي موقفا متزنا واضحا من موضوع المستعربين فهو اذ يعطي عملهم حقه بقوله: «إنهم الذين عرفونا بتاريخنا القديم بحلهم رموز الكتابة المسمارية، وطلاسم الكتابة الهيروغليفية، وبنشر ترجمات نصوص الكتابات المسمارية والهيروغليفية، وهم الذين شخصوا حروف المسند والأبجديات الأخرى، وعرفونا بما في بطون المساند من أخبار ومعارف، وهم الذين دونوا تاريخ العرب القديم ونشروا عيون التراث العربي الإسلامي نشرا دقيقا خاليا من الأخطاء والهفوات، مع أنه مطبوع في لندن مثلا أو في باريس أو في أمكنة أوروبية أخرى، والمرتبون والطباعون لا يعرفون من العربية شيئا ولا يفقهون من ألفاظها لفظة».
يعود ليربط هذا الإقرار بتحفظ علمي: «على الرغم مما يقال عن جماعة منهم من انجرافهم في بعض السياسات وتوظيف انفسهم في خدمة الاستخبارات التي لا تليق بعالم ينسب نفسه إلى العلم».
دون أن يتوانى في أن يوجه اليهم النقد حين يقتضي الأمر ذلك: «لقد أخذ المستشرقون في بعض الأحيان بالخبر الضعيف وحكموا بموجبه، واستعانوا بالشاذ ولو كان متأخرا، وكان من النوع الذي أستغربه النقاد وأشاروا إلى نشوزه. تعمدوا ذلك لأن هذا الشاذ هو الأداة الوحيدة في إثارة الشك».
وهذا مما يؤكد أنه تعامل معهم بيقظة وعلمية ولكنه لم يقع في فخ رمي الطفل مع ماء الحمام، حيث يقول: «هذا كل ما نعرفه اليوم عن تأريخ العرب في العهود القديمة. وهو كما رأينا نزر يسير، أخذ من بحوث أفراد ومن بحوث عرضيةُ حصل عليها عند البحث عن البترول، وأملنا في زيادة علمنا بتلك العهود هو في قيام بعثات علمية بالبحث عن الآثار والعاديات لاستنطاقها عن أحوال تلك العهود».
منتهيا إلى تصور عميق للبديل يورده في مقدمة المفصل: «أتمنى على جامعة الدول العربية والدول العربية أن يحققوه وهو إرسال بعثات من المتخصصين بالآثار واللهجات القديمة إلى مواطن الآثار في اليمن وفي بقية العربية الجنوبية والمواضع الأخرى من جزيرة العرب للتنقيب عن الآثار والكشف عن تاريخ الجزيرة المطمور تحت الأتربة والرمال ونشره نشرا علميا بدلا من أن يكون اعتمادنا على الغربيين أفلا يكون من العار علينا أن نكون عالة عليهم في كل أمر حتى في الكشف عن تاريخنا القديم».
ملتقيا في ذلك مع الدكتور عبدالله العروي في قوله: «بدلا من إضاعة الوقت في الرد على المستشرقين، بدلا من إعداد مؤرخين في المستوى المطلوب لغويا وفكريا ونقديا، لنكتب عن أنفسنا تاريخا علميا رصينا.. إعادة النظر في مناهج التعليم العالي على مستوى البحث. وإنشاء معاهد مستقلة للدراسات التاريخية».
الهوامش
1 – الآثار العربية منتخبات المؤرخ الدكتور جواد علي، مكتبة الإسكندرية 2014 مقدمة بشار عواد معروف 1 ص 2.
2 – رشيد الرَّماحي، مقابلة مع جواد علي، مجلة ألف باء 1978، أعادت نشرها صحيفة المدى، العدد: 1309، المرخ في 30 أغسطس(آب) 2008، ملحق عراقيين، زمن التَّوهج.
3 – علاء نورس، جواد علي وإسهاماته الفكرية في مجلة الرِّسالة، ص 3 (دراسة غير منشورة).
4 – اقرأ له مثلاً: عقيدة النَّازي الدينية، مجلة الرسالة المصرية، العدد: 334 والمؤرخ في: 27 نوفمبر 1939.
5 – راجع مقالنا: النَّازية الدينية والإسلاميون، صحيفة الاتحاد الإماراتية(24 أغسطس/آب 2016)، على الرابط: http://www.alittihad.ae/wajhatdetails.php,id=90824
6 – ابن الأثير، علي ابن أبي الكرم، الكامل في التَّاريخ، بيروت: دار صادر 2008 البعة الأولى 1965 الجزء الأول، ص 3.
7 – انظر: الطَّبري، محمد بن جرير(ت310هـ)، تكملة تاريخ الطَّبري، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، بيروت: دار سويدان 11 ص 190.
8 – انظر في تاريخ وفاة الهمذاني:كحالة، عمر رضا(ت1987)، معجم المؤلفين، بيروت: دار إحياء التّراث العربي، بلا تاريخ نشر 10ص254.
9 – انظر: تكملة تاريخ الطَّبري، مصدر سابق.
10 – جواد علي، موارد تاريخ الطَّبري، مجلة المجمع العلمي العِراقي، العدد الأول، المؤرخ في 1 سبتمبر(أيلول) 1950.
11 – المصدر نفسه.
12 – جواد علي، موارد تأريخ الطَّبري، مجلة المجمع العلمي العراقي، العدد الثَّامن 1 مارس(آذار) 1961.
حياة الحويك عطية *