حظيت تجربة الشاعر جواد الحطّاب باهتمام متزايد من قبل النقّاد العراقيين والعرب، وشكّل صوته الشعري انفرادا ميّزه عن أقرانه الشعراء يوم كانت موجة الثمانينيات تذهب باتجاه الغموض والتلاعب في اللغة الشعرية،إلا أن هذا الشاعر القادم من بصرة السيّاب، وسعدي يوسف، كأيّ نورس مهاجر ليحط رحاله في بغداد،قدّم تجربته بوضوح وعفوية وبلغة أقرب للشجن العراقي وهموم الفقراء الذين التصقوا به والتصق بهم حتى سمّي بـ«شاعر الفقراء»، انتسابا إلى مجموعته الشعرية الأولى «سلاما أيها الفقراء» والتي شخّص من خلالها النقّاد والقرّاء معا، صوتا شعريا مختلفا، ما لبث أن أصبحت قصائده رغيفا من الخبز الشعري لفقراء بلده، عمّقه فيما بعد عبر تجاربه الشعرية اللاحقة (يوم لإيواء الوقت – شتاء عاطل-إكليل موسيقى على جثة بيانو-بروفايل للريح/رسم جانبي للمطر-قبرها، أم ربيئة وادي السلام).الحطّاب الذي قال عنه الناقد العربي صلاح فضل بأنّه «شاعر من سلالة المتنبي الباقية»، والذي وصفه الناقد الكبير د. عبد الرضا علي»شاعر مختلف في معظم كشوفاته، بداءة بالنسيج وانتهاء بفلسفة النص»، مثلما أكّد الناقد حاتم الصكَر على أن «الحطّاب يختطّ لنفسه نهجا شعريا خاصّا أسلوبيا وموضوعيا يتجلّى في لغة جارحة وخيال مفعم بالحيوية». هذا الشاعر الذي يكره الحوارات ويتجنّبها، استطاعت «مجلّة نزوى» أن تكسر قوقعة صمته، وتسلّط الضوء على أهم محطاته الشعرية، وكيف تعامل مع المكان ومؤثراته، وما تركته الطفولة وعوالمها في نصوصه، ومتى تحوّل «فقراؤه» من مجرّد «كيان اجتماعي» إلى «قضية» فضلا عن اللقب المستجد الذي أطلقته عليه الصحافة العربية «شاعر المقاومة» في إثر ما كان ينشره من قصائد مناهضة للاحتلال الأمريكي لبلده العراق. محاور عديدة تطرق إليها الحطاب وهذا نص الحوار
l لنتحدث عن بداياتك. وخاصة سلاما أيها الفقراء، ما زلت أكثر تمسكا بنصّ يوظف الحياة الاجتماعية ويرصد تحولات المجتمع. هل هذا النمط من البنائية الشعرية له تبعات نفسية جراء الطفولة وتأثيرات مكان كمدينة البصرة، ترى متى فكّر الحطّاب-الطفل-الشاب، ان يكون شاعرا ؟
uu هذا السؤال يحيلني إلى زمن مضى فذات جنون ما، أشبه ما يكون باستراقك السمع إلى نفسك، قرّرت أن أكون شاعرا!! مثلما قرّرت أن أكتب سيرتي الذاتية شعرا، محاورا نفسي والعالم المحيط بي، ولكن السؤال الذي واجهني هو: كيف.. ومن يضمن إلا يفقد الحوار أو السيرة عفويتهما، إذا كانت هناك «قصدية» بالكتابة؟ لأنّ القرار شكل، والتنفيذ شكل آخر، فقد اكتشفت مع أولى محاولاتي ودعني أعترف لك في هذه اللحظة بأنني محاورٌ غير جيّد حتى مع نفسي، ومزاجيٌّ، ومتكاسلٌ، بل يصل الأمر بي إلى إنني أتمنّى لو أن المحاور حتى لو كنت أنا من يحاورني قد هيّأ إجابات جاهزة لأسئلته، ثم عرضها عليّ لأقوم بتصحيحها (وهو أمر لو تمّ لما احترمته البتة) ليست السيرة الحياتية المتعارف عليها هي ما عزمت على كتابتها، (من ولادة، ومسقط رأس، وتحصيل دراسي، ووظيفة.الخ)، لكنها السيرة بوجهها الآخر الذي تختلط فيه المدينة، بالناس، بالكلمات، بالفضول، عمّا لمسته أو لم ألمسه حتى الآن.
l هل أفهم من كلامك أنك رغبت بأن توقظ الشاعر في نفسك ؟
uu تماما هذا القرار جاء محاولة مني لإيقاظ الشاعر المهمل فيّ، وأعترف الآن، وأنا أحاول أن أجيب على أسئلتك،أن الشاعر الذي ربطته العرب بـ«الشياطين» وكيف أن البعض «شيطانه أنثى.. وشيطاني ذكر» هو من رافقتني شياطينه حتى في أشدّ حالاتي إيمانا وتقى، وهي من أستنجد بها لتعود بي إلى ما يقرب من نصف قرن، حيث البصرة القديمة.شيطاني الشعري، هو من يحرّضني الآن على أن أشِي بـ»ـبصرتي القديمة»، فهي من زرعت في رأسي فكرة أن أكون شاعرا، ولم ترض لي أن أكون من «الغواة».
l حتى لا نذهب بعيدا عن جوهر السؤال، أنا مصر وأنا قربك أن تحدثني عن الطفولة ؟
uu حسنا لك ذلك، فقد أردتني أن أعود إلى الطفولة ومكوّناتي الأولى سأقول وبلا تردّد كان تأثير جدّي لأبي كبيرا عليّ، ففي العطل المدرسية كان يصحبني معه إلى مكان عمله (وكان عاملا في سكك حديد منطقة المعقل، حيث يستقبل هو وأصحابه البضائع المختلفة ثم ينقلونها من القطارات إلى موانئ شط العرب) فأحببت ملابس العمّال الزرق، وأغانيهم، وكفاحهم اليوميّ من أجل الرزق، أو تظاهراتهم المتواصلة لاستعادة حقوقهم العمّالية، وأذكر أنني كتبت لهم بعض الأغاني البسيطة التي تجعلني الآن أضحك كلما تذكّرتها، لكنهم كانوا يردّدونها بحماس وبإيقاع متناسق، إكراما لجدّي أو تشجيعا لهذا الفتى اليافع الذي تنازل عن ألعابه مع الأقران، وجاء إلى عالمهم الصعب تحت لهيب الشمس، ومخاطر نقل البضائع ما بين القطارات والسفن، لسبب لا يجدون له تبريرا، مثلما لم يكن لي السبب ذاته واضحا في تلك الأيام.هذا الجوّ هو الذي رافق بداياتي الشعرية، وسيطر بالكامل –تقريبا-على ديواني الأول «سلاما أيها الفقراء»، وأمتّد تأثيره عبر كلّ الدواوين التي أعقبت «السلام»، فقد تكّون لديّ رصيد هائل من انحيازاتي لهؤلاء الفقراء ولمعتقداتهم،وهمومهم، ومعاركهم اليومية.أعتقد إنّ على الشاعر إي شاعر أو أيّ كاتب-أن يخلق له مدينته إذا لم تكن في حياته مدينة، وأظنّ إني قلتها مرّة، أو استفدت من قول ما، البصرة خلقتني وأضاف إليّ الربّ الشعر والتوابل.
l كلامك هذا يجعلني أتساءل هل ما زالت مدينة البصرة مدينة ذكريات مع كل ما حل بها من أسى؟ وماذا عن بغداد التي نلتقي بها الآن ..لنتحاور معا ؟
uu المدن أشبه ما تكون بالنساء، ولها ما لهنّ من عطر، وحضور، وتفشّ في المسامات، ولذلك من الصعب أن توجِد مقارنة بين مدينة وأخرى، مثلما لا يمكنك قياس امرأة بامرأة أخرى، وجميعنا يتذكر حينما يصف بدر شاكر السيّاب، بغداد بأنها «مبغى كبير» وفي حضارتنا الرافدينية أن الـمبغى» معبد مقدّس» حيث تقام فيه احتفالات الخصب، بعد أن تقود «اينانا» الرجال إليه.أما بالنسبة لي، فبغداد والمدن التي مررت بها عبر مختلف مناطق العالم، جميعها تأخذ شكل البصرة، وأحيلك إلى كتابي «يوميات فندق ابن الهيثم» حيث كتبت فيه عن البصرة أيام مواجهتها للصواريخ في حرب إيران «في الهجوم.. ينقسم العالم إلى نصفين، نصف به البصرة، ونصف به.. البصرة»!الآن، أنا من يدعوك إلى المقارنة.
*** لو كان علي المقارنة لقلت لك لتكن البصرة يا صديقي ….
نعم لتكن فهي الفردوس الذي يمثلني روحيا والمكان القابع في الذاكرة شعريا ووجدانيا.
l اسمح لي أن نذهب لمحور آخر،استطعت منذ بواكيرك الأولى بأن تجد لنفسك خطا وأسلوبا شعريا يمثلك ..السؤال هنا كيف تمّ التخطيط للتمسّك بخيوط لعبة الشعر، من دون مؤثرات قصيدة النثر اللبنانية وسطوة ادونيس بالقياس لأقرانك من الجيل الثمانيني ؟
uu مع الشعر.. ليس هناك من تخطيط مسبّق، قد يصحّ هذا القول مع الرواية … القصة القصيرة أو بقية الأجناس الأدبية، حيث يكون هناك موضوع، أو تجربة مباشرة، أو قناعة من نوع ما، لكن مع الشعر –في الأقل بالنسبة لي-الأمر ليس هكذا، وباعتقادي اأن أي شاعر تستهويه «لعبة الشعر» ويغرق فيها، يفقد أهمّ مميزات شاعريته وهي «العفويّة»..قد تستغرب إذا قلت لك إنّ من مصادر تكويني الشعري الأولى، بعد القرآن الكريم، هو «الشعر الشعبيّ» بما يصطلح عليه «الشعر المحكي».
l هذا القول يعيدنا إلى البذرة الأولى في التكوين الشعري وهي البصرة وتأثير جدك عليك ..
uu تماما فاسمح لي أن أعود إلى البصرة ثانية، المدينة الساحلية التي تحطّ على أرضها كل بضائع وعادات شعوب العالم، وإلى جدّي الرجل الأمّيّ الذي كان يتقن أكثر من لغة ويجيد الإنجليزية إجادة تامة، في عالمه العمّالي الذي حرصت على أن أنتمي إليه طوعا، لم يكن هناك أطفال بعمري يمكن ان العب معهم، او أتبادل الأحاديث الطفولية. ولذلك اخترعت لي أصدقاء افتراضيين، وحرصت على أن تكون البنات أكثر من البنين، (وهذا ما يفسّر مستقبلا ارتباطي بالنساء وتمجيد حضورهن)، لهؤلاء الأصدقاء «الافتراضيين» أوجدت لهم نوعا من الأغاني أنا كاتب كلماتها وملحنها، وضابط إيقاعها، وفي أحايين كثيرة موزّع أدوار منشديها.
l تتحدث عن ارتباطك بالنساء بينما تنهال في مخيلتي صورة الزميلة أطوار بهجت،لماذا نصك عنها أخذ حيّزا في مغامرة الكتابة لديك،وكيف جعلت كل تلك الأواصر تجدّد الإحساس لدينا ونحن نعيد قراءة قصيدتك عنها لمرّات عدّة من دون أن يفقد النصّ سحريّته؟
uu اعتقد أني لا أسرك بشيء إذا قلت بأن علاقتي مع أطوار لم تكن عادية، فهي كانت عدّة نساء في امرأة: ابنة، وأخت، وصديقة، وحبيبة وأمّ،ولا تستغرب ذلك لو عرفت مقدار ما تملكه من روح أموميّة كانت تفيض حتى على الشيوخ الذين يكبرونها بأعمار،فضلا عن زمالة عمل في ثلاثة أماكن كنت فيها أنا مديرها المباشر (مجلة ألف باء-الفضائية العراقية- قناة العربية) مثلما كنت عرّاب قصائدها وبداياتها الأدبية الأولى، والدافع الرئيسي لتحويل مسارها نحو الرواية. خلال هذه الصداقة التي امتدت إلى سنوات، كانت تطالبني بأن أكتب عنها قصيدة، وعدتها وتباطأت.
l لماذا.تباطأت وهي الأقرب لنفسك من الكثير من الصديقات اللواتي كنا نشاهدهن معك ؟
uu أطوار امرأة من معدن ثمين يصعب الشعر مع وجودها، ولكن ما أن حلّت الفاجعة عادت إلى داخلي بكل كثافتها هي والقصيدة، فكان نصّ «استغاثة الأعزل» الذي تحوّل من مجرّد مرثية إلى «نص بانورامي» سعى إلى الجمع بين أطوار والوطن، حتى لم يعد هناك من فاصل بينهما، ومن هنا تفرّدت هذه القصيدة بكونها «ترجمة» لزمن من أصعب الأزمنة العراقية، ولم تكن أطوار شاهدة عليه فقط، وإنما بطلته أيضا.
(وماذا في رحيلك يا قديسة :
عينان
خضراوان
..واحتاجهما الله لإضاءة ليل الجنة).
l لهذا يبدو الشعر معك نوعا من المغامرة ..؟
uu ها أنت ترى أن الشعر في بداياته معي، لم يكن «لعبة» بقدر ما كان «حاجة» لسدّ حاجة نفسية.من الشعر الشعبي، أخذت رهافة المفردة، ودقّة تصويرها، لأكبر قضايا الإنسان بأقل ما يمكن من المفردات، ولو لم يكن شعر «الهايكو» الياباني ممتدّ الجذور لقلت انّه مسروق من «الدارمي» العراقي، فكلاهما يسعيان إلى تجسيد أحاسيس الشاعر بأشدّ العبارات اختصارا، وأكثرها تأثيرا، وقد امتدّ هذا الهايكو العراقيّ في ذاكرتي الطفولية ولم يزل إلى اليوم، متسلّلا من مطارحات العمّال، وردودات بعضهم على بعض.
l هل هذا يقين أم انتماء ؟
uu أنا موقن تماما بأن عصر النبوغ، قد تخلّف عن ركب حياتنا الثقافية من زمن طويل، وليس من «نابغة» معاصر يدهشنا بكشوفاته الشعرية، وإذا كان «جيمس جويس» أو «اليوت» يقول لمعجبيه «لا تنظروا إلى قامتي الخارجة من البحر، ولكن انظروا إلى الأكتاف التي وقفتُ عليها حتى ظهرت» فماذا أقول أنا ؟ربّما تعاون العراق بكلّ مبدعيه على رفعي إلى الأعلى لكي أتنفس.
l اسمح لي أن أعود لادونيس وسطوته على جيلك، هل تأثرت به أم بتجربة الشعراء العراقيين ..؟
uu وأنا أمامك الآن عليّ الاعتراف ، أن تجربتي لم تكن بملامح لبنانية أو عليها بصمات «ادونيس» برغم قراءاتي المكثّفة له، بقدر ما يجد المتفحّص فيها تأثيرا من «السيّاب» ومن «سعدي يوسف» ومن «يوسف الصائغ»، أما عن «الجيل» والـ»أقران» فبإمكاني أن أقول إنّي بلا جيل، ففي يقيني أن الشاعر الحقيقي عابر للمجايلة، ولا أدري في أية مقابلة قلت إنّ «الشاعر الفاشل وحده من يبحث عن جيل لينتمي إليه، مخافة أن يداهم اسمه النسيان».وكيلا تستغرب إنكار انتمائي لجيل ما، فإنّ بإمكانك العودة إلى ما قاله كبار نقّادنا (عبد الإله الصائغ، عبد الرضا علي، ياسين النصير، حاتم الصكر، آخرون) من ان جواد الحطّاب من الصعب تجييله.
l دعني أسمع منك كلاما عن العراق بلدنا العزيز هل تعد بقاءك فيه انتصارا للشاعر الملتزم في قضايا وطنه.السؤال هنا إلى أي مدى يمكن أن يكون للشاعر صدى مدوٍ في واقع اليوميات التي لها علاقة بجرح المحتل ؟
uu مع سقوط القنابل الأمريكية المحرّمة دوليا كقذائف اليورانيوم المنضّب والقنابل الفوسفورية على عموم مناطق العراق، وتحديدا على بغداد، بدأت قصائدي المناصرة لوطني، والمندّدة بالنوايا السوداء وما يخطّط لاحتلاله، فكانت مجموعة قصائد «الصواريخ بحذافيرها» والتي نشرت عربيا على نطاق واسع، كما ترجمت فيما بعد إلى لغات عدّة، حيث نقلت للقرّاء ماذا فعلت صواريخ وقنابل أمريكا بأطفال العراق:
(أطفالنا يلبطون في اليورانيوم
كأسماك زينة ملوّنة
مذاكراتنا مع غرف الإنعاش
ذهبت سدى
في برد الصواريخ
طلبنا موتا على قياسهم
فزوّدتنا الطائرات بأحجام
..اضطررنا، أن نحشر الآباء والأمهات أيضا
فمن المخجل أن يدخل أطفالنا الجنّة
وهم مصابون بالزكام)
l حتى إذا دخلت الدبابات الأمريكية إلى قلب بغداد، كانت المواجهة ؟
uu نعم.. ابتدأت المواجهة الحقيقية بيني وبين المحتلين، والتي وصلت إلى تدبير عملية اغتيال لي بعد صدور مجموعتي المقاومة «اكليل موسيقى على جثة بيانو-2008-دار الساقي» بزرع عبوة ناسفة أسفل سيارتي، وهي حادثة معروفة تناقلتها العديد من الفضائيات، واتهمتُ في وقتها قوات الاحتلال والحكومة المتواطئة معه، حيث كانت سيارتي مركونة بين نقطتي سيطرة عسكرية لا تبعدان عنها سوى 20 مترا فقط، وزرع عبوة ناسفة –أيّامها-يحتاج إلى أكثر من واحد –تقنيّ-فضلا عن أشخاص للحماية والمراقبة، فكيف لم ينتبه جنود السيطرتين لكل هذا النشاط، إذا لم يكن هناك أمر لديهم بالتغاضي، أن لم يكن بإبداء المساعدة؟
(أيها المجندون
أحذيتكم تشعرني بالإهانة
فامشوا حفاة في طرقات وطني
وطني أيها المهزوم يا وطني
دعني أقبّل شجاعتك.
l آخر ما صدر لديك كان عن والدتك، لقد رثيتها في مجموعة شعرية مؤثرة في نفسية المتلقي، إلى أي مدى يمكن للشاعر أن يترك أثرا وصدمة لتبقى قصيدته أقرب للوجدان .ما السر وراء تلك الطاقة من البوح والاختلاف في لغة المجموعة ؟
uu يقول ريلكه ( لا تكتب الشعر إلا عندما تشعر أنك ستموت إذا لم تفعل)هكذا كان حالي مع هذه القصيدة، فلو لم اكتب هذه المرثية لقتلني الشعور بالخذلان.. ولذلك كان عليّ أن اسهر الليالي، وابتكر، وأعيد، وأشطب، وأمزّق عشرات الأوراق، من أجل أن أبقى على قيد حماقاتي، ومن أجل أن استعيد أمّي “بدرية نعمة” من حماقة الموت التي حاول أن يهزمها جلجامش بعشبة الخلود وفشل، ونكاية بـ”أفعى” أسطورته اللعينة حاولت أن اهزم “الغياب الجسدي” بالشعر، حاولت أن أحرّض الشعر على أن يأخذ دوره في تمجيد حيواتنا، وانتزاع من نحب من “عالم الغيب” إلى “عالم الشهادة”، فكانت “ربيئة وادي السلام”، مرثيتي الاحتجاجية، «بعد»، وليس «على»، رحيل والدتي. وهو ما أشار إليه الناقد الكبير حاتم الصكر، حين كتب ( الحطّاب يكتب في هذا النصّ، نصّا موازيا لمتن الموت ) وهي جملة أرعبتني حقا، مثلما بيّنت لي فداحة ما كتبت.. في الروايات، في الأفلام، في القصائد، في التشكيل، في المسرح، تجارب موجودة لاشتراك مبدعين اثنين، أو أكثر، في انجاز عمل ما، لكن العمل المنجز محكوم بشرط بسيط وهو أن يكون المشتركون فيه على قيد الحياة..واستثناء من هذا، وضعت اسم “بدرية نعمة” مع اسمي على الغلاف، لكونها قد كتبت معي هذا النص، وإذا كانت كلماتي حاضرة كـ”مادة ملموسة” فقد كانت “روح بدرية” حاضرة هي الأخرى بكل كثافتها “الأمومية” والتي لولاها لما تحقّق هذا الذي أمامكم الآن.. وربما هي المرة الأولى في التاريخ الأدبي أن يشترك (حيّ) و (ميت) بكتابة منجز!! لكنها “بدرية” الاستثناء، ومثلما اشتغل «والت ويتمن» على ديوانه الوحيد «أوراق العشب» طوال عمره، أظنّني سأجاريه بالاشتغال على ديوان «ربيئة وادي السلام» من حيث الإضافة والتعديل.
l أود أن أتساءل معك هل انتصرت الرواية على الشعر بسبب توظيفها للمحلية ..ولمن تعزو مشكلة فهم الشعر لدى المتلقي ..؟
uu لا أحد ينكر أن الرواية فن العصر، لكن الشعر يبقى هو الأقرب إلى روح الإنسان وعاطفته، بل يمكنني أن أشبهه بأنه «بارومتر العواطف الإنسانية» والذي لولاه لأصبح الإنسان، أحد كائنات شركة هوندا موتورز الروبوتية لا أنكر بان الشعر قد فقد العديد من وجاهته الاجتماعية، بسبب البون الشاسع الذي أصبح بينه وبين المتلقي، ففي حين ركب الشاعر المعاصر كل موجات التغريب، والحداثة، والغوص إلى أعماق الذات لاكتشاف كنهها، بقي القارئ على ثقافته التقليدية منشغلا بالبحث عما يديم حياته المعيشية، منتظرا من الشاعر أن يتقدم إليه لا أن يتقدم هو إلى الشاعر، ويكمن السبب هنا في ضعف ثقافة المتلقي، أو ما يمكن أن أسميه «انعدام تجديدها» ولذلك ترى العالم العربي، برمته تقريبا، يحتفي بالشعر المحكي أو ما اصطلح عليه بـ»الشعر الشعبي» الذي يقدّم «وجباته الشعرية» بشكل عفوي وفي الهواء الطلق، على العكس من الشعر الحقيقي الذي يتطلب منك أن تلبس قميصا بياقة «منشّأة» وعليه «بابيون» لأنه ينوي اصطحابك إلى «حفلة ملكية» رسمية..
حاوره : خضير الزيدي