توطئة منهجية:
في إطار «نقد النقد»، تسعى هذه الدراسة إلى تقييم جهود نقد القصة العمانية القصيرة. ولتأطير البحث، والسير فيه سيرا منهجيا، اقترح الباحث مجموعة من الأسئلة التي يأمل أن تقدم الإجابة عنها تقييمًا موضوعيًّا ودقيقًا لتلك الجهود النقدية. والأسئلة المقترحة هي الآتية:
1- هل تمكنت جهود نقد القصة القصيرة في عمان من أن تشمل بالدرس والتحليل جميع المجاميع القصصية؟
2- ما مدى عمق تلك الجهود النقدية: ما المستويات البنائية والفنية التي تعاملت معها؟ وبأية تقنيات ووسائل كان ذلك التعامل؟
3- هل تمكنت من الكشف عن خصائص القصة العمانية القصيرة -إن كان ثمةَ خصائصُ معينة- والوقوف على مراحل تطورها؟
4- هل أسهمت في تطوير كتابة القصة القصيرة في عمان؟
يرى الباحث أن تقييم الدور الذي اضطلعت به جهود نقد القصة في عمان يتطلب النظر إليها من زوايا ثلاث: الشمول، والعمق، والتأثير. الزاوية الأولى (الشمول) تتيح تقييم مدى قدرة تلك الجهود على مواكبة الكم القصصي المنشور، انطلاقا من أن تقديم رؤية نقدية ناضجة ومتماسكة للمشهد القصصي في عمان لا يتأتى إلا في ظل الإحاطة بمعظم النتاج القصصي درسا وتحليلا. أما الزاوية الثانية (العمق) فتسمح لنا أن ننظر في طبيعة المعالجات النقدية المنجزة، من حيث مستويات البناء السردي التي تناولتها، ومن حيث التقنيات والوسائل التي استخدمتها في التعامل مع تلك المستويات دراسةً وتحليلاً، ومن حيث النتائج التي خرجت بها وكشفت عنها. وتأتي الزاوية الثالثة (التأثير) باعتبارها نتيجة للزاويتين -أو السمتين- السابقتين، فالنقد الشامل العميق، لا بد -من وجهة نظر الباحث- أن يكون مؤثرا. وفي ضوء هذه الزوايا الثلاث تم اقتراح أسئلة الدراسة المحررة أعلاه.
وعلى طريق الإجابة عن الأسئلة المطروحة اتبع الباحث منهجا وصفيا تحليليا. ولما كانت المساحة الزمنية المتاحة لهذه الدراسة ضيقة نسبيا، لم يكن في المتناول تقصي جميع أفراد مجتمع الدراسة، أي كل ما كتب من دراسات نقدية في القصة العمانية القصيرة، إذ إن بعض هذه الدراسات متناثر في مواضع شتى في الصحف والمجلات، وعملية تتبعها والتوفر عليها تتطلب وقتا طويلا نسبيا. ومن ثم، لم يكن مناص من الاشتغال على عينة من تلك الدراسات، وهي عينة ممثلة جدا، إذ ضمت الكتب المنشورة، والكتب المعدة للنشر وهي حاليا تحت الطبع، والدراسات المنشورة ضمن إصدارات المنتدى الأدبي. وعليه فالكتب والدراسات التي أخضعت للوصف والتحليل هي الآتية – مرتبةً زمنيا من الأقدم إلى الأحدث-:
1- ندوة التجربة القصصية العمانية الأولى، 1991، وقد ضمت دراساتٍ ثلاثًا لكل من د.سعيد يقطين، واعتدال عثمان، وسعيد السريحي. وقد نشرها المنتدى الأدبي ضمن حصاد أنشطته لعام 1991م.
2- قراءة في القصة العمانية المعاصرة، دراسة لـ د.أحمد الشتيوي أستاذ مساعد بقسم اللغة العربية بجامعة السلطان قابوس. وهي محاضرة ألقيت بالمنتدى الأدبي 1998، ونشرت ضمن إصدارات المنتدى عام 2000، تحت عنوان «نماذج من المحاضرات التي ألقيت بالمنتدى الأدبي 1996- 1999م».
3- قراءات في القصة العمانية المعاصرة، حصاد الندوة التي أقامها المنتدى الأدبي في الفترة من 28 و29 جمادى الآخرة 1422هـ، الموافق 16 و17 سبتمبر 2001م، وقد ضمت الندوة ست دراسات لكل من: د.أسية البوعلي، د. أيمن ميدان، د.طه عبد الحميد زيد، د.محمد بن سالم المعشني، د.سمير هيكل، ناصر بن سليمان الشبيبي.
4- آمنة الربيع، البنية السردية للقصة القصيرة في سلطنة عمان 1980-2000، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2005م.
5- د.شبر بن شرف الموسوي، القصة القصيرة في عمان من عام 1970 وحتى عام 2000، وزارة التراث والثقافة، مسقط، 2006م.
6- د. ضياء خضير، القلعة الثانية – دراسة نقدية في القصة العمانية المعاصرة.
7- سعفة تحرك قرص الشمس «أوراق نقدية من أماسي أسرة كتاب القصة في عمان للعامين 2007، و2008، إعداد سليمان المعمري ومازن حبيب.
– الزاوية الأولى «الشمول»:
نحاول في هذه الفقرة أن نجيب عن السؤال الأول:
هل تمكنت جهود نقد القصة القصيرة في عمان من أن تشمل بالدرس والتحليل جميع المجاميع القصصية؟
على نحو ما أشرت أعلاه، ليس في مقدور هذه الورقة أن تتقصى وتتعقب جميع جهود نقد القصة العمانية، ولا سيما ما كان في بداياتها. لذلك، يبدو من الصعب الإجابة عن السؤال المطروح إجابة دقيقة. ولمَّا لم يكن بالإمكان تجاوز طرح هذا السؤال لأهميته، عملتُ على تعقب الإشارات المختلفة التي تضمنتها الكتابات التي مثلت عينة الدراسة، مع مراجعة متعجلة وسريعة جدًا لجزء من المجلات والملاحق الثقافية المحلية التي كانت بحوزتي وقت إعداد هذه الورقة، من أجل استخلاص جواب مبدئي، وأشدد على صفة (مبدئي)، عن السؤال المطروح.
لم تتحرك القصة العمانية القصيرة منذ نشأتها بعيدا عن النقد؛ فقد كان النقد حاضرا، حتى في البدايات الأولى، وإن بدا عليه البطء والتثاقل في حركته لمجاراة الوتيرة المتسارعة لحركة الإصدارات القصصية. وهذا الحضور البطيء والمتثاقل ينفي عنه تهمة الغياب التي درج على تردادها في مناسبات مختلفة الكثير من المهتمين بالقصة، ولا سيما القصاص أنفسهم. نستفيد ضمنًا من التوثيق الجيد للحركة القصصية في عمان الذي قدمه د.شبر الموسوي في كتابه (القصة القصيرة في عمان من عام 1970 وحتى عام 2000) أن أول مجموعة قصصية عمانية، وهي «سور المنايا» لأحمد بلال، والصادرة عام 1981م، حظيت بقراءة نقدية للكاتب عبد الستار خليف منشورة في جريدة الوطن، عام 1983. وثاني المجموعات القصصية العمانية «قلب للبيع» لمحمود الخصيبي، والصادرة عام 1983، قوبلت بنقد لاذع لعبداللـه الريامي، منشور في جريدة عمان في العام نفسه. والقراءتان، كما نستشف من الاقتباسات التي أوردها الموسوي، تتسمان بدرجة من العمق تجعلهما تسبقان، من حيث الوعي الفني، مجموعتيْ بلال والخصيبي. فمثلا يشير خليف إلى أن في مجموعة «سور المنايا» بعض الصفحات التي لا تندرج تحت اسم القصة القصيرة على الإطلاق، وعلى سبيل المثال الصفحات التي تحت عنوان «الصديق»(1). ويتساءل الريامي ما إذا كانت قصة «قلب للبيع» – التي أطلقت عنوانا على مجموعة الخصيبي- قصة أو خاطرة أو رؤية ذاتية، ويؤكد أن قصص المجموعة تتسم بالتقريرية المباشرة، ويستشهد مؤلفها في بعضها بأبيات من الشعر، كأنما يكتب مقالة تحتاج إلى إثبات(2).
وفضلا عما كان يكتب من نقدٍ بعد صدور المجموعات القصصية، فلقد تضمنت بعضُها مقدماتٍ نقديةً بقلم بعض الأساتذة المتخصصين، على نحو ما نجد في مجموعة (لا يا غريب) لأحمد بلال، التي حرر لها د.أحمد درويش مقدمة نقدية ضَمَّنَها في بعض المواضع نقدا لاذعا للقاص، كالذي نقرؤه في المقطع الآتي:
«لكن ما يؤخذ على لغة هذه المجموعة، هو إغراقها فيما يمكن أن يسمى باللغة الرومانسية دون داعٍ في معظم الأحايين، ومع أن الصيغ اللغوية التي تختار في هذه المواقف قد تكون جميلة في ذاتها، إلا أنها لا تضفي على العمل جمالا، بل على العكس قد تعطل نموه وتقدمه أو تتناقض مع مضمونه (…) إن هذا النوع من الأداء اللغوي ينتشر في كثير من قصص هذه المجموعة وفي إنتاج أحمد بلال بصفة عامة، وهو يجعل الحدث القصصي في كثير من الأحيان يبدو وكأنه يتقدم بخطى راقصة بدلا من تحركه بخطى ثابتة، ويجعله في أحايين أخرى يلف حول نفسه، ويقدم انطباعات لعلها، ليست هي التي يريدها الكاتب على وجه الدقة».
ويتضح من هذا المقطع المبطن بشيء من السخرية أن وعي الناقد بطبيعة السرد وآلياته متقدم كثيرا على وعي القاص.
وفي عام 1989، ضمن فعاليات الملتقى الأدبي للقصة القصيرة في دول مجلس التعاون المنعقد بالكويت، قدَّم الأستاذ يوسف الشاروني ورقة نقدية بعنوان «القصة القصيرة في سلطنة عمان»، وفي الملتقى نفسه، قدم جبرا إبراهيم جبرا قراءة نقدية لبعض النصوص القصصية العمانية أطلق فيها حكما قاسيا على القصة العمانية حينما قال: «… من عمان، يؤسفني أن أقول، إنني لم أجد فيما أرسل إلي من قصص (لعل هناك قصصا رائعة لم أقرأها لأنها لم ترسل إلي)، أقول لم أجد إلا قصتين تستحقان الذكر، والغريب أن بعضها كان مضحكا بسذاجة»(3)
لم يهادن النقدُ القصةَ العمانية في بداياتها، وكان صارما في التعاطي معها، فأزاح الستار عن العيوب، وعرَّى مواطن القصور الفني. وقد اتضح هذا التوجه فيما سبق من أمثلة، وأيضا في الندوتين اللتين عقدهما المنتدى الأدبي، في 1991م، وعام 2001م. وفي ندوة «أسئلة النص القصصي في عمان» التي عقدها النادي الثقافي في سبتمبر 1996م. وقد شارك في الندوات الثلاث نقاد متخصصون، وأساتذة أكاديميون.
وعلى امتداد الفترة الزمنية التي شهدت الندوات والملتقيات السابقة، رأى النورَ العديدُ من المحاضرات والدراسات والمقالات النقدية في القصة العمانية، من مثل دراسة إبراهيم بن حمود الصبحي «تاريخ القصة وتطورها في عمان» 1986، ومقالة د.إبراهيم شعراوي «الروح الأسطورية في القصة العمانية القديمة» 1988، ومقالة «سجن المغامرة الشكلية» لمحمد حسن بدر الدين1994م، ودراسة إبراهيم اليحمدي «القصة القصيرة في سلطنة عمان» 1989، ودراسة محسن الكندي «التجربة القصصية في عمان» 1995، ومحاضرة د.أحمد الشتيوي «قراءة في القصة العمانية المعاصرة» 1999، ودراسة د.شريفة اليحيائي «تجليات المكان: المكان وعاء التناقضات إنتاج التسعينيات القصصي نموذجا» 2002، ومحاضرة د.خليل الشيخ «المغامرة والتجريب لتأسيس أفق الكتابة القصصية العمانية» 2003، ودراسة د.عبد الواحد لؤلؤة «رؤية نقدية حول القصة القصيرة بسلطنة عمان»، ودراسة بربارة بولسكا «تطور القصة القصيرة في سلطنة عمان»، ودراسات أخرى غيرها(4).
ولقد تُوَّجَتْ جهود نقد القصة القصيرة في عمان، بدراستين أكاديميتين متخصصتين، الأولى رسالة ماجستير عام 2002م بعنوان «البنية السردية للرواية والقصة القصيرة في سلطنة عمان للفترة من (1985-2000)» للباحثة والناقدة آمنة الربيع. ورسالة دكتوراه «القصة القصيرة في سلطنة عمان من عام 1970 وحتى 2000م» لشبر بن شرف الموسوي، وصدرت عام 2006 عن طريق وزارة التراث والثقافة.
في ضوء ماسبق أخلص إلى أن المجموعات القصصية الصادرة ما بين عاميْ 1970، و2000، والبالغ عددها ما يزيد عن الأربعين مجموعة بحسب د.شبر الموسوي(5)، حظيت بالعديد من الدراسات النقدية المتخصصة، بعضها كان في صورة قراءات أو دراسات مخصصة لمجموعة أومجموعات قصصية بعينها، وبعضها كان في صورة دراسات مسحية شاملة كالدراستيْن الأكاديميتين المشار إليهما. وأكاد أشك أن هناك مجموعة قصصية، ولو واحدة، خلال الفترة المذكورة، لم تخضع للدراسة النقدية الفاحصة في ضوء الجهود النقدية المشار إليها أعلاه.
أما القصص الصادرة ما بين عاميْ 2000 و2008م، والبالغ عددها ستًّا وخمسين مجموعة بحسب الببليوجرافيا التي أعدها سليمان المعمري ومازن حبيب(6)، فإن حظوظها في الدراسة والنقد تبدو أقل بقليل من حظوظ نظيراتها الصادرة قبل عام 2000. إلا أن ذلك لا يعني أبدا أنها مهملة على مستوى المتابعات النقدية؛ فالعديد من الدراسات التي تناولت مجموعات هذه الفترة ظهرت على صفحات المجلات والصحف والملاحق الثقافية، وهي من الكثرة والتوزع بحيث يصعب تقصيها في هذه العجالة، لكني أسوق عليها أمثلة قليلة جدا. نشر د.ضياء خضير في مجلة نزوى العدد 51 دراسة بعنوان «جدل الحضور والغياب في القصة العمانية القصيرة، عبد العزيز الفارسي نموذجا». وفي العدد 49 من المجلة نفسها، كتب د.وليد محمود خالص قراءة في مجموعة (جارة الوادي) لطيبة الكندي، وفي العدد نفسه، قدم القاص يحيى المنذري قراءة لمجموعة (رفرفة) لبشرى خلفان بعنوان «عذابات المرأة في قصص مجموعة رفرفة». وفي ملحق شرفات-جريدة عمان 23 يناير2008م، قدم الأستاذ ناصر أبوعون قراءة نقدية لمجموعة محمد بن سيف الرحبي «وقال الحاوي». وقدم القاص محمود الرحبي قراءة لمجموعة ناصر المنجي في ملحق أشرعة الخاص بجريدة الوطن 23-9-2008م. هذه الأمثلة مجرد نزر يسير من فيض الدراسات والقراءات النقدية التي تشهد ازدهارا على صفحات الصحافة المحلية. إلى ذلك، بذلت أسرة كتاب القصة في عامي 2007، و2008، جهودا جادَّة في تقديم قراءات نقدية من قبل متخصصين ومهتمين لأكثر من 30 مجموعة قصصية.
ولقد تُوِّجَتْ الجهود السابقة بظهور كتابين يفرد الأول منهما مساحة واسعة لقصص ما بعد 2000، مع تسليط الضوء على بعض المجموعات السابقة لهذا التاريخ، أما الثاني فيقتصر على ما صدر خلال عام 2006 وما بعده. الأول هو كتاب الدكتور ضياء خضير (القلعة الثانية: دراسة نقدية في القصة العمانية القصيرة)، والثاني هو كتاب (سعفة تحرك قرص الشمس) من إعداد سليمان المعمري ومازن حبيب، ويضم عينة منتقاة من الدراسات المقدمة في أمسيات أسرة كُتَّاب القصة في النادي الثقافي. وبالإضافة إلى هذين الكتابين، يلوح في الأفق مشروع أطروحة أكاديمية تتناول القصة القصيرة في عمان من عام 2000 وحتى عام 2008، تشتغل عليه باحثة عمانية كما أخبرني القاص سليمان المعمري.
من باب الخلاصة، أقرر أن جهود نقد القصة القصيرة تمكنت من تحقيق صفة الشمول النسبي في تغطيتها بالدراسة والتحليل النقدي للإصدارات القصصية العمانية، ولاسيما ما صدر قبل عام 2000م. وأرى أن صفة الغياب التي يتهم بها النقد في السلطنة غير حقيقية(7)، فهناك متابعة جيدة وحثيثة لكل ما يستجد من إصدارات قصصية. صحيح أن بعض الدراسات التي قُدِّمت في هذا السياق كتبت من قبل مهتمين بالقصة لا متخصصين فيها، أو من قبل القصاص أنفسهم، إلا أنها أضاءت مستويات بنائية هامة في القصة العمانية القصيرة.
الزاوية الثانية «العمق»:
نجيب في هذه الفقرة عن السؤال الثاني:
ما مدى عمق تلك الجهود النقدية: ما المستويات البنائية والفنية التي تعاملت معها؟ وما التقنيات والوسائل الفنية التي توسلتها في التعامل مع تلك المستويات؟
إن الوعي بالسرد، على نحو ما يقرر الناقد المغربي سعيد يقطين، حتى في الغرب، لم يتحقق إلا مع تطور تحليل الخطاب السردي وظهور علمين يهمتمان به، منذ الستينيات من القرن العشرين، في الدراسات الغربية نفسها. هذان العلمان هما: السرديات والسيميائيات الحكائية(8).
ولقد كان نقد القصة القصيرة في عمان، منذ البداية، واعيا بمعطيات علوم السرد الحديثة. ففي أول ندوة عن القصة العمانية، وهي المنعقدة عام 1991م تحت مظلة المنتدى الأدبي، نقف على توظيف واعٍ وعميق لبعض المقولات والمفاهيم السردية الحديثة. الناقد سعيد يقطين يقارب التجربة القصصية العمانية تأسيسا على مقولة جامعة يسميها «الصوت السردي» يختزل فيها كل ما يتعلق بالراوي كمنتج للسرد، وإنتاج له من جهة، وعلاقته بالمروي له، وبالكاتب، وبالقارئ، وبمجمل المكونات التي يتشكل منها وهو يشكلها، من جهة ثانية(9). وبسبب المنظور العلمي الحديث الذي تبناه تمكن من استجلاء ملامح هامة جدا في التجربة القصصية الأولى في عمان، والوقوف على أمارات مرحلة جديدة آخذة في التشكل.
وفي الندوة نفسها وظفت الناقدة اعتدال عثمان مقولات حديثة مثل: الرؤيا من الداخل، والرؤيا من الخارج، النزعة التجريبية، قص الحداثة، الكاتب الضمني/الراوي، المونولوج أو المناجاة الداخلية، والتشكيل الطباعي للغة. كما أنها استعانت بتقنيات السينما في تحليل بعض نصوص طاهرة عبد الخالق ومحمد اليحيائي، فوظفت مفاهيم (الخيال البصري)، (اللقطة)، (المونتاج: تقطيع الصور وتركيبها)، (عين الكاميرا الراصدة: المنظور)… إلخ وبفضل الرؤى والتقنيات الحديثة التي توسلت بها كشفت النقاب عن خصائص فنية هامة في القص العماني آنذاك، ولا سيما ما كان يشكل النزعة التجريبية لدى القُصاص الشباب، موضحةً مواطن التجديد والتميز، ومواطنَ القصور الفني التي قد ينزلق إليها هذا المسار الفني(10). ولقد كانت إشارتها إلى مواطن القصور والضعف الفني بمثابة النبوءة للمطبات التي ستنزلق إليها القصة العمانية بعد ذلك وستعاني منها لفترة زمنية طويلة نسبيا.
وقد شنَّ الناقد السعودي سعيد مصلح السريحي، في الندوة نفسها، حملة شعواء على كُتًّاب القصة التقليديين من أمثال: أحمد بلال، وسعود المظفر، وصادق عبدواني، انطلاقا من تصور عصري لوظيفة الأدب، وفهم دقيق لفن القصة القصيرة وأبرز خصائصه التي تميزه عن غيره من الفنون السردية الأخرى كالرواية والمسرحية، ليوضح أشكال القصور الفني في أعمال الجيل الأول ومظاهر الخلط بين الأجناس النثرية التي وقعوا فيها(11).
إن هذا الوعي بمفاهيم السرد الحديث، وتوظيفها الجيد في تحليل النصوص القصصية يحضر كذلك في بعض الأوراق المقدمة في الندوة القصصية الثانية التي عقدها المنتدى الأدبي عام 2001م. من تلك الأوراق ورقة د.أسية البوعلي «فنية القص: مدخل نظري ودراسة تطبيقية»(12). قبل أن تُعمل الناقدة مبضع الدرس والتحليل في النصوص القصصية المختارة، وَطَّأتْ بمدخل نظري عرفت فيه القارئ بمفهوم السرد، وعناصر القصة من شخصية، وحوار، وحدث، وحبكة، ومكان، وزمان، ولغة. وفي ممارستها التحليلية لم تقف عند توظيف المفاهيم السردية الحديثة، كالسرد بضمير الغائب، بل وظفت كذلك معطيات الفن السينمائي في تحليلها لقصة «حبات البرتقال المنتقاة بعناية» ليحيى سلام المنذري. ومما يؤخذ على هذه الدراسة أنها اقتصرت على خمسة نصوص فقط، لتمثل ثلاثة اتجاهات فنية: الاتجاه الرومانسي، وتمثله قصتان، والاتجاه الواقعي، وتمثله قصة واحدة، والاتجاه التجريبي، وتمثله قصتان. إن هذه العينة الصغيرة لم تكن كافية لتُمَكِّنَ الناقدة من استخلاص سمات عامة للقصة العمانية المعاصرة في الاتجاهات الثلاثة المشار إليها.
وفي الندوة نفسها تلفت النظر ورقة د.أيمن ميدان «تجليات الزمان والمكان في القصة العمانية القصيرة- مقاربة أولى»، حيث يحاول الناقد رصد تجليات الزمان والمكان في القصة العمانية القصيرة، وآليات رصدهما وتوظيفهما. وقد وقف على آليات متعددة لرصد المكان، مثل: الرصد الأبستمولوجي، الرصد بالحواس كالبصر والسمع والشم، والرصد باستخدام تقنيات الفنون الأخرى، كالرسم (اللون)، والمسرح والسينما. وفيما يتعلق بالزمان رَصَدَ موقفين مختلفين، الأول هو موقف كتاب الواقعية، ويهيمن فيه الخط التصاعدي المتنامي للزمان دون قطع لتدفقه أو تفتيت لتسلسله. والثاني هو موقف قص الحداثة (أو الحساسية الجديدة) حيث الحد من تدفق الزمن في اتجاه واحد، والاحتفاء بأزمنة حقيقية تتقاطع مع أزمنة نفسية، من خلال تقنيات جديدة، كالارتداد إلى الوراء، والمونولوج الداخلي، وتيار الوعي، والحلم. ويحسب لهذه الورقة على قصرها ملاحظاتُها الدقيقة المكثفة، وتنبُّهُها كذلك لبعض المآخذ الفنية التي وقع فيها بعض القصاص فيما يتعلق بالمكان والزمان.
وعلى نحو ما استعرضنا في الندوتين المذكورتين أعلاه، نجد أن الأطروحتين الأكاديميتين لكل من د.شبر الموسوي وآمنة الربيع تستقيان بشكل مباشر في رؤاهما النقدية وأدواتهما الإجرائية من معطيات علم السرد الحديث والفنون الأخرى التي تتقاطع معه كالسينما والمسرح. وإذا كانت أطروحة د.شبر تتميز بتمثُّلها الوافي والعميق لكل ما كتب قبلها في نقد القصة العمانية، وتسجيل خلاصة وافية له، مع بعض الإضافات الهامة، تبدو أطروحة آمنة الربيع أكثر استقلاليةً وجرأةً في تبني صوت خاص بها في نقد المجموعات القصصية وتحليلها، وإن كانت أحكامها أحيانا تبدو متسرعة وغير ناضجة فنيا. ومن الأمثلة التي تتضح فيها جرأة الباحثة، ويبرز صوتها الخاص معلنا عن نفسه، نقدها لعلي الصوافي في مجموعة «جنون الوقت»، حيث تقول:
«أما تجربة صاحب جنون الوقت فيستدعينا أن نتوقف قليلا عند إصداره لما يثيره من فوضى غير منظمة… في جنون الوقت تنتصر النصوص للجنون المسطح، الجنون الذي لا يبدع صاحبه من ورائه شيئا يمكن أن نشير إليه، فثمة خلط كبير جدا بين الأنواع الكتابية وغير الكتابية، تتماهى فيه الحدود الفاصلة، فنظل أمام كتابة بيضاء!… وقد نقرأ نصا هو ليس أكثر من كونه خاطرة نثرية وجدانية، لغة وفكرة وتمامية. إنها نص دافئ ينم عن مشاعر مكبوتة تجاه الليل، ولا يمكن كخاطرة أن تنتمي لجنس القصة القصيرة جدا، كما يشير إلى ذلك العنوان»(13).
وكثيرة هي الأمثلة التي تدل على صوت نقدي متميز يتسم بدقة الملاحظة وعمق التحليل. أما ما ذكرتُه من أن الباحثة أحيانا تصدر أحكاما متسرعة، فهو قليل ومحدود، وأستشهد عليه بمثالين اثنين:
1) في نقدها لقصة (القرية التي لا تعرف السحرة) لخالد العزري تسجل للقاص نجاحه في إدخالنا إلى معاناة الأم بواقعية فنية واضحة. لكنها تأخذ عليه، في الوقت نفسه، إخفاقه في تقديم معطيات الشخصية الاجتماعية، فأم خديجة التي تقوم عليها بنية النص لا نعرف من تكون، ولماذا طفلتها بالذات، وهل هي على صلة بالسحرة أم لا؟(14) وفور قراءة هذا النقد تتبادر إلى الذهن أسئلة من مثل: هل على القصة القصيرة فعلا أن تقدم تفصيلات من هذا النوع؟ وهل تتسع لذلك أصلا؟ أليست هذه التفصيلات أقرب إلى عالم الرواية منها إلى عالم القصة القصيرة؟
2) في نقدها لقصة (النزهة الدائرية الصفراء) لسالم آل توية، تقرر أن القص يجري بضمير المتكلم، وبأسلوب السرد الخارجي الذي يهيمن عليه الراوي الواسع المعرفة. وبعد أن تلقي ضوءا على الخلفية المكانية الاجتماعية للقصة، تشير إلى أسلوب تقديم الراوي لإحدى شخصيات القصة وهي شخصية الرجل البلغاري، حيث يخبرنا عنه أنه «صرف أيامه الطويلة في بناء بيت يتألف من 1500 قطعة من الورق المقوى، رتبها بمهارة وصبر حتى اكتمل البناء: بيتا، وحديقة، وممشى ترابيا ناعما تحف به الكروم (…) أما اليوم فلم يتبق على ترحيله إلى بلاده سوى ساعات، يراها تركض بمسدس حول معصمه، وسرعان ما أيقن أنها ستحرمه إلى الأبد سكنى البيت، فحطمه، وأعاده إلى الصندوق، وعبس وتولى…» وفور إكمال الناقدة اقتباسها تطرح سؤالا بصيغة انتقادية: «من أين للراوي كل هذه المعلومات، وكيف عرف ما ستؤول إليه حال البلغاري، كيف عرف مشاعرها وأحاسيسها وأفكارها، هل هناك وسائط تحصل عليها الراوي ليستنتج كل ذلك؟»(15) ومن وجهة نظري الشخصية أن سؤالا كهذا لا مكان له في السياق الذي ورد فيه ولا مسوغ أصلا لطرحه، بما أن الناقدة قررت أصلا أن السرد يتم بواسطة راوٍ واسع المعرفة؛ فالراوي الواسع المعرفة هو أحد التقنيات السردية التي تتيح للقاص أن يتحدث عن تفاصيل الشخصيات الخارجية والداخلية بحرية تامة. وإذا كان ثمة من سؤال يصح أن يطرح في مثل هذه الحالة هو عن الدور البنيوي الذي لعبته هذه التقنية في القصة المشار إليها، وعن مدى نجاحها في ذلك.
وعلى الرغم مما سبق، يبقى العمل النقدي الذي قدمته آمنة الربيع إضافة هامة إلى مكتبة النقد السردي العماني، بما تحقق له من شمول، وعمق، وجدة.
ومن الدراسات الهامة التي لا يمكن تجاوزها كتاب د.ضياء خضير «القلعة الثانية»؛ فالناقد يتمتع بثقافة سردية قوية ومتماسكة، ويوظف أدوات إجرائية دقيقة، ولديه من عمق الملاحظة ما يكفل له دائما الدخول إلى دهاليز العمل القصصي، سعيا إلى هتك المستور، وتعرية المختبئ، وفضح المتواري. في تضاعيف المقدمة التي مَهَّدَ بها لمشروعه النقدي الطموح حدد تصوره للنقد. إن القراءة الجادة أو الاستقصاء النقدي، على نحو ما يرى، يهدفان إلى الوصول للمعنى، باعتباره تجسيدا للبنية العميقة للوعي الذي أنتجه. وذلك جانب من المهمة الأخلاقية والتربوية للنقد، إلى جانب مهامه الأساسية ذات الطبيعة الجمالية والمعرفية. فنحن بحاجة دائمة إلى البحث عن بنية النص، وإجراء نوع من (التصفية النقدية) التي تنفي عن الساحة الثقافية ما هو دخيل عليها، ووضع ما يرتفع بنفسه عن ذلك في مكانه الصحيح، في ضوء ما يكشف عنه التحليل النقدي فيه من حمولة عاطفية وفكرية وفنيّة، وفي ضوء منهج نقدي هدفه الأول قول الحقيقة ورؤية النص مجرّدا من كل اعتبار غير ما يتكشف عنه من حقائق جمالية ونفسية واجتماعية ضمنية أو ظاهرة(16).
وعلى هدي هذا التصور قارب الناقد النصوص القصصية العمانية، وحاكمها محاكمة صارمة بعيدة كل البعد عن المداهنة أو المجاملة. وقد وضع يده على الكثير من العيوب الفنية التي لا تزال القصص العمانية الشابة تعاني منها وترزح تحت وطأتها، في الوقت الذي أظهر للعيان بعض نجاحات هذه القصص وأشكال تفردها وخصوصيتها. ومن الأمثلة على كشفه عن خصوصية بعض المجاميع القصصية العمانية وجمالياتها تلك القراءة التي أضاء بها مجموعة سالم آل توية «حد الشوف» حيث ثمنها تثمينا عاليا:
لا تنهض القصة عند سالم آل تويه صاحب هذا النص على كلمات، بل على حياة. أعني كلمات توحي بهذه الحياة وتبتعثها على الورق من خلال مجموعة مدهشة من الوسائل الأسلوبية. فهناك، أولاً، النغمة الشخصية للخطاب، وطريقة الراوي الأثيرة في السرد المشهدي المباشر، وخلط الزمن في الحكاية، أو استحضار ما هو ضروري منه في اللحظة المناسبة وبصورة طبيعيّة عن طريق تيار الوعي. أي دون حلم يقظة، أو رؤية تحدث في المنام، ودون محاولة للهرب من تفاصيل المعيش اليومي، وما تنطوي عليه الحكاية من تتابع سريع وغير منتظر للأفعال والأشياء والأسماء واللغات والأوضاع البشرية.. وغير ذلك من ملامح مبنى حكائي يحاول أن يصنع، دون كلل، طباقه الخاص مع متن حكائي عصي على التعريف، متحرِّك، وغير قابل للدخول في شكل نهائي أو وضعه في قفص بنية سردية ثابتة، إلا بعد تفكيكه ونثر أجزاء وشظايا عارية منه على سطح النص وهوامشه(17).
وفي السياق نفسه ترد القراءتان الإيجابيتان لمجموعات محمود الرحبي (اللون البني، وبركة النسيان، ولماذا لا تمزح معي ؟)(18)، ومجموعة «الأشياء أقرب مما تبدو في المرآة» لسليمان المعمري التي اعتبرها مجموعة فريدة في القص العماني الحديث(19).
وعلى الرغم من هذه الالتفاتات الجميلة لبعض مظاهر تميز القص العماني الحديث، والتي تبعث الأمل في مستقبل أفضل، يؤخذ على كتاب د.خضير إفراطه الشديد في تأكيد نقائص القص العماني الشاب، والإلحاح عليها باستمرار بين الفينة والأخرى، على نحو يوحي بأنها قدر لازم لا يستطيع الحراك القصصي في عمان فكاكا منه. ومن أبرز النقائص التي كرسها الناقد، وسجن فيها القص العماني الحديث، هي الآتية:
1-بنية الإخفاق: وهي البنية التي أسس لها بشكل صارخ، كما يرى الناقد، القاص أحمد الزبيدي في قصته المعروفة (انتحار عبيد العماني)، والتي شهدت بعض التخفيف لاحقا عندما قدم القاص العماني الحديث، من وجهة نظر الناقد أيضا، بعض التنازلات التي جعلت سكناه في المدينة الحديثة ممكنا. وعلى الرغم من أن النموذج الحديث أقلّ سخرية وشعوراً بالمفارقة بين واقعه وطموحاته، إلا أن (بنية الإخفاق) تظل هي السائدة في أعماق هذا النموذج وتلفظاته السردية(20). وقد حرص الناقد على الكشف عن بنية الإخفاق في معظم، إن لم يكن كل، المجموعات القصصية التي أعمل فيها مبضعه التحليلي. وخطورة هذه البنية، كما يرى الناقد، أنها لا تطبع شخصيات القصص فحسب، وإنما قد تنتقل إلى القصاص أنفسهم. فإذا كانت نهاية «عبيد العماني» بطل أحمد الزبيدي هي الانتحار، فإنها «قد تقود إلى انتحار الكاتب نفسه أعني صمته وعدم قدرته على تجاوز الحدود الملغومة التي سمح لوعيه بالتحرك فيها»(21).
إن هذه النبوءة المفرطة في سوداويتها، والتي أخرس بها الناقد القاص، وعقد بها لسانه، أطلقها أيضا بشأن قاص عماني شاب يمثل مشروعا واعدا هو القاص عبد العزيز الفارسي، وذلك في معرض تحليله لمجموعته الأخيرة «مسامير» والتي رأى أنها تحولت إلى «حشد من العبارات القصيرة الذكية القائمة على مفارقات لفظية ومعنوية صغيرة. إنها تصلح، مثل المسامير، لتثبيت الأوجاع أو تعليق التعب، أو أنها تستخدم للدقّ في نعش الكاتب نفسه، إذا لم تكن لها فائدة أخرى !! فهل يعني هذا البيان الموضوع في صدر المجموعة الأخيرة الإعلان عن تعب الكاتب وموت الكتابة ؟ «(22).
2- ضعف الصلة بالواقع، أو اغتراب القاص بالمعنى السلبي للكلمة: فالقاص العماني الشاب، على نحو ما يرى الناقد، «بدلا من أن يخبر(23) الأشياء بنفسه نجده ميّالا إلى اختبارها بفكرته عنها، أو الفكرة التي يعتقد أنها فكرته. وهو ما يجعله خاضعا لوهم كونه على صلة بالعالم، في حين أنه ليس على صلة حقيقية بغير الكلمات والأوهام. ولذلك فهو إنسان مغترب بالمعنى السلبي للكلمة، لأنه يسقط ما في داخله المضطرب على العالم. وهو لا يعيش خبرته الشخصية العميقة بوصفه فاعلا لمشاعره وساردا لأفعاله، بل تحكمه أشياء وإشارات أخرى من الوعي واللاوعي، محملة بهذه المشاعر والانفعالات. والقاص قد يخون بذلك مهمته الفنية والأمانة التي يتحملها بوصفه شاهدا على عصره ومرحلته التاريخية ودوره في ترجمة ما يجري فيها بطريقته الخاصة البعيدة عن التقليد والنسخ»(24).
3- الرغبة في حرق المراحل: فالناقد يرى أن القاص العماني يعاني من خلل وانحراف في التعامل مع المرجعية العربية. وهي المرجعية التي تمثّل فضاء ثقافياً مسانداً أكثر سعةً وعمقاً. فقراءةُ القاص العماني لإدوار الخرّاط قبل قراءته لنجيب محفوظ من المصريين، وزكريا تامر قبل عبد السلام العجيلي من السوريين، ومحمد خضير قبل فؤاد التكرلي من العراقيين، تنشأ من الإحساس الدائم لدى هذا القاص بضرورة حرق المراحل وركوب الموجة الأخيرة للحداثة والحسّاسية القصصية السائدة. والمشكلة هي أن نصاً أدبياً لا يندرج في نسق أدبي – ثقافي سابق عليه هو نص فقير ومشوّه. لذلك تبدو قضية (حرق المراحل)، على مايرى د.خضير، أمراً لا مفرَّ منه في الأدب العماني المعاصر(25).
وهناك نقائص وعيوب فنية أخرى ألح عليها الناقد، ويضيق المقام عن إيرادها هنا. وإنني إذ أَحْمَدُ للناقد صرامته المنهجية، وبعده عن المجاملات، آخذ عليه أنه شدَّدَ على هذه النقائص تشديدا كبيرا، وبالغ في استعراضها وتضخيمها، ولم يترك فرصة سانحة للتذكير بها إلا واغتنمها، على نحو يكرسها –ربما بطريقة عكسية- ويحولها إلى أشباح تطارد القاص وتضيق عليه الخناق، ولربما تدفعه في النهاية إلى الانتحار الفني والتزام الصمت المطبق. وآخُذُ عليه أيضا عباراته الجارحة بالغة القسوة التي استخدمها في نقد معظم القصاص الشباب. وأورد عليها مثالا واحدا فقط، لكنه كافٍ في الكشف عن لغة الناقد وأسلوبه. يقول في نقد مجموعة «لا يجب أن تبدو كرواية» للقاص هلال البادي:
لن أقوم بعملية قراءة تفصيلية لمتن هلال البادي السردي، ولن ألخّص نصوصه، وهي عديدة. لأن ذلك يبدو بلا جدوى لتشابه لغتها ومنطلقاتها، ولأن عنصر الحكي أو القص ضعيف وغير منضبط فيها، ولا يخلو أحيانا من اصطناع وعدم ثبات وتشتت (…) وهكذا لا يبدو أن هلال البادي يفعل هنا شيئا سوى أن يضع في رأسه حكمة القصة وهدفها المجرد، ثم يكسوه بكلمات من بعدها كلمات بدلا من اللحم والدم، دون أن يدرك أن ذلك قد لا ينتج مخلوقات قصصية سويّة قادرة على الحياة والحركة (…) لقد رأينا أن الكاتب يبدو ميّالا في عدد من نصوصه إلى الخروج من بطن الحكاية التي يرويها، فيكسر السياق ويزيح الراوي ويطل برأسه فيما يشبه الحركة المسرحية التي يحاول الممثل فيها أن يقطع الدور ليخاطب الجمهور وينبهه إلى مواطن معينة في الدور الذي يؤديه (…) وكأن المؤلف يصنع هنا صنيع بعض الشعراء العمانيين الذين قرأنا لهم وكتبنا عنهم. فهو يكرّر حياته وكلماته بأشكال وصيغ مختلفة. والدافع إلى ذلك ليس الشهوة إلى الكلام، وإنما الجوع الذي يفرض على صاحبه أن يشعر في كل مرة أن ثمة مكانا ما خاويا في نفسه، ولا بدّ أن يملأه حتى إذا لم يجد شيئا في المدينة التي يسير فيها. والسبيل الوحيد أمامه، إذ ذاك، هو أن يتغذّى على نفسه باستمرار (…) شاعرين بعدم جدوى الاستمرار في قراءة بقية نصوص المجموعة لتشابهها وتكرار عبارتها ولغتها وثيماتها الرئيسية(26).
ولا يخفى ما في هذا النقد من قسوة مشوبة بسخرية صريحة وضمنية. وإنني أخشى أن نقدا من هذا النوع يتوخى البناء والتعمير لربما يتورط في الهدم والتدمير.
كخلاصة لما سبق، يتضح أن نقد القصة القصيرة في عمان كان واعيا بمعطيات علم السرد الحديث، ووطف تقنياته وأدواته توظيفا جيدا. صحيح أن هناك قراءات ودراسات نقدية متناثرة هنا وهناك لم تكن على نفس المستوى من القوة والإحكام، كدراسة د.أحمد الشتيوي(27)، وبعض الأوراق النقدية المقدمة في الندوة الثانية التي عقدها المنتدى الأدبي في 2001م، وبعض ما ينشر في الصحف والمجلات، إلا أن الصوت الأعلى كان ذلك الصوت الواعي بعملية السرد، وآلياتها، وفضاءاتها.
الكشف عن خصوصية القص العماني:
نجيب في هذه الفقرة على السؤال الثالث من أسئلة الدراسة:
هل تمكنت جهود نقد القصة في عمان من الكشف عن خصائص القصة العمانية القصيرة إن كان ثمة خصائص معينة؟ وهل وقفت على مراحل تطورها؟
أجيب عن هذا السؤال بالإيجاب. وكتاب د.شبر الموسوي «القصة القصيرة في عمان من عام 1970 وحتى عام 1980» يجلي تلك الخصائص والمراحل بشكل جيد، لأنه، كما سبق أن أشرت، تميَّز بالتمثُّلِ الجيد والواعي لكل ما كتب قبله في نقد القصة القصيرة في عمان، وتسجيلِ خلاصة وافية له، مع بعض الإضافات الهامة والجيدة. ومن الأمثلة التي يكشف فيها الموسوي عن جانب من خصوصية القصة في عمان حديثُه عن تأثير الغيبيات والسحر فيها:
حكايات المغيبين والسحر والخرافات متأصلة في الوجدان الشعبي العماني، ولذلك انتقلت إلى فن القصة كأحد التأثيرات البيئية والشعبية في هذه القصص، ولا تكاد تخلو مجموعة قصصية صادرة في عمان، من هذه الحكايات والخرافات، أو صورة من صورها. وتتبع حكاية السحر والمغيبين عند توظيفها في القصة نمطا قصصيا واحدا، أو ما يمكن تسميته بسيناريو موحد للأحداث التي تجري بالنسبة لهذا النوع من القصص، فبالنسبة لتغيب الرجال أو سحرهم، تبدأ الحكاية من تعرُّض بطل القصة للساحر في محاولة لإيقافه ومنعه من إيذاء الآخرين، وبعد ذلك تتحول الحكاية إلى تحدٍّ بين بطل القصة والساحر، بحيث تكون كل عناصر القوة في يد الساحر الذي لا يترك ثأره إلا بإيذاء بطل القصة إو إيذاء أحد أقربائه وأحبائه، أو التخلص منه شخصيا، وهذا ما حصل في قصتيْ (نهاية جيل) و(المعلم عبد الرزاق) لسعود المظفر.
وعندما تكون المغيبة بنتا، فإن أحداث القصة تبدأ بإعجاب الساحر بجمالها وحسنها، مما يجعلها عرضة لطمع الساحر في الاستيلاء عليها والتمتع بجمالها وفتنتها، وعندما ترفض أو يرفض أهل الفتاة تزويجها له، فإن الساحر يقوم بتغييبها عن أهلها، وذلك بأن يجعلها تموت بين أهلها، بينما هي في الواقع مغيبة وتعيش مع الساحر في مكان آخر بشكل وملامح جديدة، وبدون قدرة على التذكر (…) ويتجلى ذلك في القصص الآتية: المسحورة، وقرية لا تعرف السحرة، ويالحزن الدودة عندما تفقد ذاكرتها(28).
ومن الأمثلة التي يُجَلِّي فيها الموسوي بعض مراحل التطور في القصة العمانية، رَصْدُه لأشكال لغة السرد، حيث يشير إلى أن لغة السرد في عمان مرت بأطوار ثلاثة: اللغة التقريرية، ثم اللغة الرومانسية، ثم اللغة الشعرية. في نطاق اللغة التقريرية يوضح أنها كانت لغة المجموعات القصصية في بداية كتابة القصة في عمان، وكانت أقرب إلى اللغة المقالية أو الصحفية. ولهذه اللغة ملامح خاصة بها، منها: استخدام الأساليب الإنشائية، والعبارات ذات الصيغ الجاهزة، واللغة ذات التوجه الوعظي الخطابي، والاعتماد على الأسلوب الأدبي المنمق. أما على مستوى اللغة الرومانسية فيشير إلى أن كتاب القصة الذين يمثلون مرحة الوسط توجهوا للتعبير عن الحدث بأسلوب ولغة رومانسية. وتتجلى مظاهر الرومانسية ليس فقط في المستوى اللغوي، وإنما في مضمون القصص واقترابها من التوجه الرومانسي في موضوعاتها ومضامينها القصصية، ومنها العودة إلى الماضي وخصوصا مرحلة الطفولة وإلى القرية والمروج الخضراء، وتذكُّر أحداث الماضي المقترنة بالحسرة والألم على الواقع المعيش، والرغبة في العودة إلى الفترات السابقة من حياة الشخصية. أما في مستوى اللغة الشعرية فيوضح أن كتاب القصة في عمان في مرحلة لاحقة توجهوا إلى تبني لغة حديثة مكثفة تتجه إلى تكثيف الحدث القصصي في جمل سريعة ومكثفة، وتبتعد عن الحوارات المطولة واللغة المباشرة والأسلوب الرومانسي، وتتصف هذه اللغة بتوجهاتها الشعرية(29).
ولقد رصد الموسوي، مستفيدا مما أنجزته الجهود النقدية قبله، خصائص القصة العمانية ومراحل تطورها، في معظم مستويات القصة القصيرة، من سرد، وحدث، وحبكة، وشخصيات، وزمان، ومكان، ولغة، وحوار.
الزاوية الثالثة «التأثير»:
نحاول في الفقرة القادمة الإجابة عن السؤال الرابع من أسئلة الدراسة:
هل أسهمت جهود نقد القصة في تطوير كتابة القصة القصيرة في عمان؟
تبدو الإجابة عن هذا السؤال أصعب بكثير من الإجابة عن الأسئلة الثلاثة الأولى، ذلك أن قياس سمتيْ «الشمول» و«العمق» التي تطرقت إليها الأسئلة السابقة يمكن تحقيقه بالعودة المباشرة إلى المدونة النقدية وإجراء التحليلات المناسبة عليها. أما صفة «التأثير» أو«التطوير» التي يتوخى هذا السؤال قياسها فمرتبطة بالنصوص القصصية أكثر من ارتباطها بالمدونة النقدية، لأنها هي الصفحة التي يفترض أن ينعكس عليها الأثر، ويبين فيها التطور. وهذه النصوص في تأثرها أو تطورها لا تستجيب للنقد فقط وإنما لعناصر أخرى كثيرة، من بينها الحراك الثقافي بشكل عام الذي يصوغ ثقافة القاص ويزوده ببعض أدواته. ويبدو الفصل بين العوامل والمؤثرات التي تسهم في إنجاز عملية «التأثير» أو «التطوير» متعذرا. إلا أن ذلك لا يمنعنا من طرح السؤال لأهميته، وسنحاول أن نتوسل إلى الإجابة عنه بضرب من «الحدس» المستند إلى بعض المؤشرات الواقعية.
بحسب ما توصلنا إليه في الفقرات السابقة من هذا البحث، تمكن النقد القصصي في عمان من تحقيق صفة «الشمول النسبي»، وصفة «عمق المعالجة والتناول»، ومن وجهة نظري أن النقد إذا كان شاملا عميقا فلا ريب أنه سيترك بصمة قوية في مسار تطور الموضوع الذي ينقده. من ناحية أخرى لاحظنا أن الندوة القصصية الأولى المنعقدة في عام 1991، وفيما سبقها من كتابات نقدية متناثرة، اتخذت موقفا سلبيا جدا من كتاب النزعة الاجتماعية التقليدية كأحمد بلال وسعود المظفر وصادق عبدواني، واحتفت بكتاب النزعة التجريبية أوالحساسية الجديدة، ولا أظن أن انتقادًا شديدًا ولاذعًا للتوجه الأول، واحتفاءً جيدًا بالثاني، لن يكونا بدون أثر. لقد عملت تلك الجهود النقدية بحسب ما أظن على دفع القصة العمانية باتجاه التجريب والاستكشاف على الرغم من المزالق التي تتهدد هذا الاتجاه. ثم إنه وبعد أن اتضحت الكثير من العيوب الفنية التي شابت مسار هذا الاتجاه، اضطلع النقد بدوره في التنبيه إليها والتحذير من مغبة الانزلاق إليها بوعي أو بلاوعي، ولا أظن أن تلك الأصوات النقدية ذهبت أدراج الرياح، إذ إن بعض قُصاص «النزعة التجريبية» بدوا في مجموعاتهم اللاحقة أكثر ضبطًا لأدواتهم السردية وأكثر إتقانًا وإقناعًا من الناحية الفنية، وتخلصوا من بعض شوائب المجموعات الأولى، على نحو ما نجد لدى محمد اليحيائي، وسالم آل توية، وسليمان المعمري، وغيرهم.
في ضوء ما سبق أرى أن جهود نقد القصة في عمان اضطلعت بدور هام أسهم في تطوير كتابة القصة القصيرة، وحفزها على ممارسة التجريب والاستكشاف.
الهوامش
1 – شبر الموسوي، القصة القصيرة في عُمان من عام 1970 وحتى 2000م، وزارة التراث والثقافة، مسقط، 2006، ص 33.
2 – المرجع نفسه، ص34.
3 – أشار إلى الملتقى وبحث الأستاذين يوسف الشاروني وجبرا إبراهيم جبرا الناقد السعودي سعيد مصلح السريحي في هامش (2) وهامش (31) في بحثه:
سعيد مصلح السريحي، القصة القصيرة في عُمان- الدور الاجتماعي والقصور الفني، ضمن حصاد أنشطة المنتدى لعام 1991، وزارة التراث القومي والثقافة، مسقط، يونيو 1992م.
4 – نستفيد هذه الدراسات من مسرد المراجع في دراسة د.شبر الموسوي المشار إليها سابقا.
5 – شبر الموسوي، مرجع سابق، المقدمة ص أ.
6 – سليمان المعمري ومازن حبيب، سعفة تحرك قرص الشمس، تحت الطبع، ص106.
7 – إحدى هذه التهم ما كتبه مازن حبيب في ملحق أقاصي، جريدة عمان، العدد26، 29-أكتوبر-2008، تحت عنوان «كسل النقاد».
8 – سعيد يقطين، السرد والسرديات والاختلاف- وهم النظرية السردية العربية، مجلة نزوى، العدد 56.
9 – سعيد يقطين، الأصوات السردية في القصة القصيرة بعُمان، ضمن حصاد أنشطة المنتدى الأدبي لعام 1991م، وزارة التراث القومي والثقافة، مسقط، يونيو 1992م، ص123.
10 – اعتدال عثمان، التجربة القصصية العمانية الأولى، ضمن حصاد أنشطة المنتدى الأدبي لعام 1991م.
11 – سعيد مصلح السريحي، القصة القصيرة في عمان- البدايات: الدور الاجتماعي والقصور الفني، حصاد أنشطة المنتدى الأدبي لعام 1991.
12 – آسية البوعلي، فنية القص: مدخل نظري ودراسة تطبيقية، ضمن كتاب: قراءات في القصة العمانية المعاصرة، حصاد الندوة التي أقامها المنتدى الأدبي عام 2001م، الطبعة الثانية، 2006م، ص 7 وما بعدها.
13 – آمنة الربيع، البنية السردية للقصة القصيرة في سلطنة عُمان 1980-2000، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 2005، ص65.
14 – المرجع السابق، ص92، 93.
15 – المرجع السابق، ص137.
16 – د.ضياء خضير، القلعة الثانية، تحت الطبع، ص10.
17 – المرجع السابق، ص27.
18 – المرجع نفسه، ص115.
19 – المرجع نفسه، ص149.
20 – نفسه، ص16.
21 – نفسه، ص16.
22 – نفسه، ص144.
23 – هكذا في الكتاب، ولعلها «يختبر».
24 – نفسه، ص17.
25 – نفسه، ص24.
26 – المرجع نفسه، صص 97-101.
27 – د.أحمد الشتيوي، قراءة في القصة العمانية المعاصرة، ضمن كتاب: نماذج من المحاضرات التي ألقيت بالمنتدى الأدبي 1996-1999، الطبعة الأولى 2000م.
28 – د.شبر الموسوي، مرجع سابق، ص157،158.
29 – د.شبر الموسوي، مرجع سابق، ص 376-392.
حميد عامر الحجري
كاتب من عُمان