وقع تحوّل جذري في حياتي خلال السنة الدراسية الثانوية الأولى في عام 1974حينما تعرّفت إلى جماعة من الأدباء في كركوك، وهم: جان دمو، وحمزة حمامچي، وإسماعيل العبيدي، ومحمد البدر. لم أقرأ للأخير أي نص أدبي لكنه استمرأ مرافقة الجماعة، ولديه مكتبة كبيرة، ولما اقتحمنا، عواد علي وأنا، تلك الجماعة شبه البهيمية التي يكبرنا أفرادها عمرا بأكثر من عشر سنوات، كان البدر منها، وهو مشّاء ينتسب إلى سلالة أرسطو، ولطالما قادني، مشيا على الأقدام، من قلب كركوك إلى أقصى جنوبها الشرقي حيث يقع بيته، وبيتنا.
(1)
ومن شهر لآخر كان يحضر رمضان محمد الحديدي، وهو ضابط في رتبة متوسطة، ولم أعرف أنه عسكري إلا بعد مرور أكثر من سنة على لقاءاتنا، وسعى بجدٍّ لأن يكون أديبا، فكتب الشعر، لكن التربية العسكرية الصارمة التي تلقّاها، منذ أول الستينيات، حالت، فيما أرى، دون اندماجه الكامل بالأدب، فبقي مجاورا للمنطقة الأدبية إلى أن أحيل إلى التقاعد برتبة لواء في نهاية التسعينيات، بعد أن تولّى مسؤوليات كبيرة في القوة الجوية، ولطالما اصطحب رهطنا بكامله إلى صالة «القادة» الفخمة في نادي الضباط، وأستدعي، مرّة، واستجوب، وحوسب؛ لأنه دعا جملة من الصعاليك إلى قاعة كبار قادة الجيش. وآخر عهدي به، حينما زرته في بيته، صيف عام 2004، فوجدته منكبّا على مخطوط ضخم يكتبه عن تاريخ كركوك مذ عرفت باسمها القديم «أرابخا».
وعلى حافة هذه الجماعة، وبمسافة محسوبة، كان يقف «فاروق مصطفى» أنيقا، جذابا، وأكثرنا معرفة بالعربية لأنه تخصّص بها، ودرّسها في الجزائر، أول السبعينيات، وهو صاحب السيارة البرتقالية الصغيرة جدا، والوحيدة التي تجوب شوارع المدينة. وفيما كنا نقيم في المقاهي صيفا مثل كدس مهمل من بقايا الجنس البشري، كان فاروق يطوف بلاد الأناضول، وشرقي أوروبا، ويعود محدثا بمغامرات تلهب أجسادنا. وهو يكتب قصائد أنيقة مثله. وقد أصدر كتابا عن جماعة كركوك الأولى التي عاصرها قبل أن تطويها يد الأيام. وكان قريبا بما يكفي، وبعيدا بما يرضي.
لم تنتزع جماعة كركوك الثانية شهرة أدبية كالأولى، التي تكوّنت في الستينيات، من: جليل القيسي، وسركون بولص، وفاضل العزاوي، وجان دمو، وأنور الغساني، ومؤيد الراوي، وصلاح فائق، ويوسف الحيدري، ويوسف سعيد- وهو قيّم إحدى كنائس المدينة-. وجميعهم غادروا العراق، باستثناء القيسي والحيدري اللذين انتصرا على كل شيء بالموت داخل أسوار الوطن قبل سنوات. وجان دمو من مخلفات الجماعة الأولى، لكنه زعيم الثانية، وهو شخصية محيرة: أديب بلا أدب، ومترجم ينقّب عن معاني الكلمات في قاموس صغير يحمله معه، هو مذواق، ومتبرم، وكثير التثاؤب، ونحيل، وقد تشبّع بالتخيلات الأدبية مثل «الدون كيخوته» الذي غرق قبله بأربعة قرون في روايات الفرسان، وكان مثاله الأعلى «أماديس الغالي».
أما إسماعيل العبيدي وحمزة حمامچي فخاضا تجربتين متناقضتين، إذ انتميا إلى الإخوان المسلمين أولا، في الستينيات، ثم انتقلا بعد ذلك إلى الحزب الشيوعي، ولما تعرّفت إليهما كانا محبطين، ومشرّدين، وجائعين، ومنقطعين عن أية أيدلوجيا، يجترّان ذكريات الماضي، ويتسكّعان على غير هدى كثنائي لا ينفك أمره، وبقيا على هذه الحال إلى النهاية. أما البدر والحديدي فشكلا ثنائيا آخر، وتدرجا في مسؤوليات وظيفية عالية، إذ أصبح الثاني مديرا للدفاع الجوي في إحدى مناطق العراق. أما الأول فتبوأ، لأكثر من عقدين، منصب مدير الإحصاء في كركوك، واشترى خلالها مزارع للدواجن قرب المدينة، وعند الاحتلال الأميركي للعراق، وإبان موجة النهب والسلب، والفوضى، اقتحمت جماعات ناقمة من دهماء الأعراق والطوائف مزارعه، وبيته، ونهبوهما كلية، ففرّ بأسرته إلى قرية «تل الورد» مسقط رأسه، غرب كركوك، ولاذ بقبيلته. وقد بحثتُ عنه لأيام في زياتي الأولى للعراق صيف عام2003 فعثرتُ عليه في منزل طيني متهاوٍ في تلك القرية، وأمضينا ساعة الغروب- على مرمى حجر من قاعدة كبرى للقوات الأميركية- نستعيد ما كنا عليه قبل ثلاثين سنة، ونفكر في مصائرنا القاتمة. أما عواد علي وأنا، فكنّا مراهقين رماديين، نسبح في سراب الأدب، والأوهام الكبيرة، ولا نؤمن بفكرة، ولا نأخذ بمعتقد، ولا نعرف ماذا نريد، ولا هدف لنا، وقد استأصلت الفوضى منّا أي أمل بالنجاة. ولا أعرف تصنيفا أُتفق عليه، يمكن أن أُدرج فيه حياتنا آنذاك.
ثم التحق بالجماعة الشاعر الأرمني «خاچيك ربيت آيدنجيان» الذي استلهمتُ شخصيته في قصتي «مارثون الليل» بعد خمس عشرة سنة من ذلك التاريخ. كتب خاچيك مطولات شعرية غامضة، وملتوية، استلهمتْ تاريخ أرمينيا، وأعدّ ديوانا بعنوان «الحشرة الأفيونية» ودفع ثمن نشره في مطبعة بدائية في كركوك، لكنّ منضّد الحروف لم يكن يفرّق بين حرفي الشين والسين، شأنه في ذلك شأن الشاعر نفسه، فصدر بعنوان «الحسرة الأفيونية» فسرَّ هو بذلك، كما سرّتْ الجماعة بالعنوان المبتكر الذي حسبناه كناية عن حسرة الشاعر على وطنه الذي أصبح مجرد ذكرى.
ظلّ الديوان بورقه الرخيص، والرسومات اليدوية البدائية على غلافه، مركونا في مكتبة «الطليعة» وسط كركوك، دون أن تباع منه نسخة واحدة، فكتبتُ عنه مقالة في جريدة «الراصد» التي كان لها شأن أدبي في تلك الفترة، فلم يثر ذلك أي صدى سوى ما كنا نتمازح به من مقاطع سريالية ركيكة لا معنى وردت فيه. ولنتخيل شاعرا يكتب بالعربية، وهو يتعثّر بنطق الدارج منها، ولا يعرف للفصحى نحوا ولا صرفا، ويجهل معظم معاني الألفاظ، ومن أجل أن يقول «الملك فيصل الثاني» كان يركّب العبارة بالأرمينية في ذهنه، ويترجمها إلى العربية قائلا «الملك فيصل اثنين»، ومع ذلك فهو شاعر طبقا لمعاييرنا في تلك السنوات الذهبية.
وخاچيك أضخم رجل رأيته في شبابي، وهو شفاف، ونقي، ورائع. يعمل موظفا في شركة نفط الشمال، فيخترق شوارع كركوك بدراجة هوائية كخيمة منفوخة، وبربطة عنق عريضة تلعب بها الريح خلفه، كأنه في سبيله للإقلاع، وهو نجم شارع الجمهورية التجاري الذي يشطر المدينة من الشمال إلى الجنوب، حيث تتقاطع خطانا على أرصفته طوال المساء. وكان يسكنه حنينٌ هوسي إلى أرمينيا، وتخيلته في قصتي وقد وشم ظهره بملحمة أرمينية. وفي مطلع الثمانينيات غادر إلى ألمانيا تاركا زوجته الممرضة الصغيرة «أستر» وابنه «هايكاز». وشقته العتيقة تقع في نهاية زقاق ضيق مغلق قبالة سينما الحمراء التي أدمنت ارتيادها حينما كنت صبيا.
علمتُ بعد ربع قرن أنه قضى نحبه في بلاد الجرمان، ولم يكحّل عينيه بجبال أرمينيا التي ارتحلتْ منها أسرته مطلع القرن العشرين هربا من إبادة محققة. وظل، إلى النهاية، يراهن على أن الزمن سيجعله، في يوم ما، الشاعر الملحمي للأمة الأرمينية، شأن هوميروس عند الإغريق, والمتنبي عند العرب، والفردوسي عند الفرس، فيمّم وجهه شطر وطنه وحيدا، وعنيدا، لكن السبل تقطّعت به، فقضى قبل الوصول إلى أرض الأحلام. ولست متأكدا إن أحدا من بلاد الأرمن عرف بأمره.
عَمِلَ حمزة حمامچي في حمّام يجاور بيته، ومنه استعار لقبه، ولطالما زرته في بيته الشرقي، الخرب، الضيق، المعتم، المتهاوي، المتكوّن من غرفة واحدة فيها سريره العائلي، ومكتبته، وأشياء البيت بأجمعها؛ فالغرف الأخرى يسكنها مستأجرون آخرون، ولضيق الغرفة كنا نقف في الزقاق المغطى بالسخام الذي يفضي إلى بيته بمواجهة نهاية شارع أطلس نتساجل حول سارتر، وماركس، ورامبو، وتروتسكي، ونقارن بين صورة الله في التوراة والقرآن، ونتخاصم حول جلال الدين الرومي، وابن عربي، والسهرودي، ونتحدّث بخشوع عن جويس وبروست. كتب حمزة قصيدة النثر، ونُشرت له مقاطع مفعمة بالغرابة في مجلة «الكلمة» التي كانت من أشهر المجلات الأدبية في مطلع السبعينيات من القرن العشرين، ثم نشر أجزاء من رواية بالتركمانية، عنوانها «ثيران الجنة» فاكتشفتُ بعد أكثر من عشر سنوات أن العنوان مستعار من أحد فصول رواية «يوليسيس» لجيمس جويس، ولكن طبقا لـ«نصرت مردان» المتخّصص في الثقافة التركمانية، فإن عنوان الرواية هو «أيتام الجنة» وحصل الخطأ في الترجمة بسبب عدم التمييز بين كلمة «يتيم/ أوكسوز» وكلمة «ثور/أوكوز».
كان حمزة عاطلا عن العمل طوال السبعينيات، وحينما رحلتُ أنا إلى بغداد أصبح عاملا في دائرة الكهرباء، يحمل السلالم المعدنية الطويلة، ويربط الأسلاك، ويتفقّد الانقطاعات الكهربائية في أرجاء المدينة. ولم يغير بيته العتيق، ذهبت أتفقده في صيف 2003، ولم أجده في البيت نفسه الذي تضاعف خرابه، إنما وجدت زوجته التي لم تعرفني بعد أكثر من ربع قرن، إلى أن ذكّرتها بأمري فتذكّرت. وفي العام التالي زرته أيضا، فوجدته مصابا بأزمة قلبية، وممدّدا على أريكة عتيقة في الدار نفسها، وقد منعه الطبيب من الكلام، فكان يجيب عن أسئلتي هزاً برأسه في حالتي النفي أو الإثبات، وكأننا لم نعش معا ذلك الماضي المجيد، على أنني في مطلع تموز/ يوليو 2008 جمعت بصعوبة شمل ما تبقى من أعضاء العصبة القديمة في كركوك، وذهبنا نفتش عنه، فعلمنا أنه في ذلك اليوم نفسه قد أحيل على التقاعد، وحاول موظفون متبرمون من أصدقائه إرشادنا إلى بيته بإشارات، وهمهمات، وعبثا أمضينا ساعتين في ظهيرة قائظة في البحث عن مرشدنا المعمّر، فلم نعثر له على أثر.
في يومياتي قصيدة بعنوان «بعض التفاصيل عن مقتل حمزة صالح» كتبتها يوم 20/9/1976 وطالما قرأتها على الجماعة ونحن هائمون في الشوارع، نترنّح سخرية من أنفسنا، وغضبا على العالم:
أصغر من أن تطلق صرخة في وجه الكارثة البيضاء
لأن لياليك تمرّ كالموج المتألّق خلف رمال الشاطئ
لأنك تنوس بأقنعة الخطيئة، وتتعطر برائحة الليل، وتهيم في عوالم الخوف
لا تبحث عن قبرك لأنه كبير
لا تبحث عن قاتلك لأنه كبير
لا تبحث عن شيء لأن العالم كله متّهم.
بقي الوديع إسماعيل إبراهيم العبيدي، ببشرته القطنية، وهدوئه الملائكي، وكان موظفا في بلدية كركوك، عربي ينظم شعرا بالتركمانية، ويكتب قصصه بالعربية، في محاكاة خلاقة لواقعية تشيخوف، فالتداخل الثقافي، والاندماج الإنساني، أبعدنا عن التفكير بالخصوصيات الضيقة، وقد ترافقنا طويلا، ولم أسأله عما يعدّ الآن من «الازدواج اللغوي» فقد كنا نتعايش في منأى عن الانتماءات العرقية والدينية الضيقة التي لم تطل برأسها إلا في فترة متأخرة، فالألقاب العربية شائعة بين الأدباء من قوميات غير عربية، المثال الأشهر عائلة العزاوي، ومنهما فاضل العزاوي الذي لم يكتب بغير العربية، فيما أعلم. لم يلفت انتباهنا أمر الازدواج الثقافي، وكنا نعدّه من صلب هوية المدينة؛ فكركوك سبيكة من التنوع الكردي، والعربي، والتركماني، والآشوري والكلداني، وفيها كافة الأديان والطوائف. وكان إسماعيل العبيدي أحد النماذج السامية التي تفكّر وتعبّر بلغتين، وينطبق عليه وصف الجاحط لأبي موسى الأسواري في إجادة اللغتين.
وأكثر أفراد الجماعة تأثيرا فيّ هو جان دمّو الذي عاد من بيروت قبل نحو سنة، فتعارفنا في مكتبات المدينة التي كانت تجمع شتاتنا، فأدمنّا اللقاء كل مساء في المقاهى، وخلال ثلاث سنوات انتقلنا بين أكثر من مقهى. كان جان يلوك الأسماء المدهشة لكبار الكتاب والشعراء في العالم، ويمضغها، كأنه تربى مع أصحابها في حضانة للأطفال، ويصدر صفيرا تعجبيا طويلا حينما نذكر أمامه أيا من النصوص لهؤلاء، فيما كانت تلك الأسماء تثير الذعر والمهابة في نفسي، كأنها لنخبة مبجلة من الأولياء والقديسين، إذ كنت لتوي ألامس طرف هذه القارة الغامضة. ولما رأى حمزة وإسماعيل تعلّقي بكتب السرد، اقترحا بيعي ذخائرهم، فكانا يحدّدان الروايات المهمة، وأثمانها، فاشتري بشغف المُريد. وأنا مَدينٌ بكل شيء لرعاية هذه الجماعة من الجيل الوسط الذي واصل المسار الخاص لجماعة كركوك الأولى، وقد ترحّل أقطابها في بقاع الدنيا.
(2)
أحدثتْ جماعة كركوك الثانية صدعا في ذائقتي الأدبية، فقبل أن التحق بها كنت، بتأثير من القصائد الرومانسية الأولى لشعراء المقاومة الفلسطينية، بدأت محاكاة شعرية ساذجة استنفذتني. أكتب خواطر مبهمة أنسقها على غرار قصيدة التفعيلة، ملأت بها دفاتر عدّة. لغتي ضعيفة، ومعجمي فقير، وأخطائي كثيرة، ولا أجيد الإلقاء، وأجهل البنيات الصرفية للكلمة، وفيّ كل مساوئ الشويعر الحديث، ومع ذلك انغمرت في عالم الشعر مثل غيري، ولم أسمع بالوزن والقافية إلا بعد سنوات من تلك الممارسة المحاكاتية. اقتنيت دواوين الشعراء، وانجذبت إلى الشعر الغنائي المبسّط الذي يثير الغرائز والمشاعر.
كانت حقيبتي المدرسية ملأى بالدواوين الصغيرة، أقرأ في البيت، وفي المدرسة، وفي الحافلة، وفي المقهى. قراءات لتكوين انطباعات تظهر حالا في خواطري التي حسبتها قصائد لا نظير لها، وما عرفتُ تمثّل الشعر أبدا، وما عبرتُ، على الإطلاق، الهوّة التي تفصلني عنه، ومع ذلك دُفعت شاعرا ناشئا بين الشعراء في كركوك، والمرجّح أنني كنت أسوأ الجميع قاطبة، فتواطئنا على قبول ضحالة مواهبنا. نطوف على المنتديات، ونظهر في المناسبات المدرسية، وندعى للاحتفالات الثقافية، وننال الجوائز، وتوارينا بمرور الأيام، ولم يثبت للشعر أحد منا.
في صيف عام 2003 دفعني الفضول لاستعادة تلك الحقبة، فتشت أدراج مكتبتي، في الطابق العلوي من منزلنا في المزرعة غرب كركوك، فعثرت على دفتر سميك غلافه أزرق، وأمضيت قيلولة كاملة أقرأ تلك الأشعار البدائية التي تزيد على خمسين قصيدة كتبتها في الأعوام 1973و1974وفيها ظهر أن قريحتي الضحلة تفتّقت عن خواطر نثرية لا صلة لها بالشعر إلا في كونها عالة عليه.
ولم تزودني قراءاتي الشعرية بمهارات ذوقية لتقدير الشعر ومعرفته، ولهذا فكل ما استأثر باهتمامي منه الصور المدهشة، وبانتقالي إلى الثانوية، ومخالطة الجماعة الجديدة، تعرّفت إلى الشعر المترجم، فشغفت بالرومانسيين الإنجليز مثل بايرون، وشللي، ووردزورث (= وقد تعقّبت خطى الذكريات، فأمضيت صائفة عام 2006 في منطقة البحيرات، شمال غرب بريطانيا، حيث انبثقت الحركة الرومانسية، فاستعدت في منزل وردزورث Dove-cottage طرفا من أحلام الصبا) واجتاحتني حمّى الأحاسيس المفرطة. كنت مراهقا، ومعذبا، أرى العالم مهما لأنني فيه، وسُحرت بخطى بايرون العرجاء، وشغفه بالمحرمات، وإغواء النساء، ومزاجه المتمرّد، ونهايته اليونانية في مقتبل العمر.
وقبل أن أهضم التجربة الرومانسية، وأتمثّل قيمتها الشعرية، اقتحمني الرمزيون الفرنسيون: رامبو، ومالارميه، وفاليري، وسان جون بيرس، فتشظيت رِمما، وتناثر تماسكي القروي، وتوسعت قراءاتي، فشملت ويتمان، وبوشكين، وإيلوار، لكن أكثر شاعرين تقرّبت إليهما في آخر تلك الحقبة: إليوت، وبودلير. اطلعت على القصائد الكبيرة للأول، بدءا من «أغنية حبّ لألفرد بروفروك» مرورا بـ«أربعاء الرماد» و«الأرض الخراب» وانتهاء بـ»الرجال الجوف». واحتفظت بترجمات عدة لـ»الأرض الخراب» وهي ملحمة مصغرة ارتسم فيها قلق العصر الحديث. وتابعت كل ما تُرجم لبودلير، واستثرت عجبا بعنوان ديوانه الوحيد «أزهار الشر» قبل أن أقرأ شيئا منه، واطلعت على ترجمة مختارات له قام بها إبراهيم ناجي في الخمسينيات، أسقط عليها رومانسيته وعذاباته، فظهر بودلير المتأجج المشاعر، وليس بودلير العربيد.
وبتأثير من جماعتي الضالة دفعت إلى تقمّص ممارسة دور الشاعر الغامض، فتعرفت إلى مالارميه الذي يرى أن للقصيدة الواحدة طبقات عديدة من المعاني والدلالات تسمو بعضها فوق بعض، بحيث تنتهي آخر هذه الطبقات وأعلاها إلى معنى لا يكاد يفهم، وهو القائل «إن الشيء المقدس، الذي يريد أن يبقى مقدسا، ينبغي أن يتلفّع بالسر». على أنني بدأت قبل ذلك برامبو، فأسرني بسلوكه، ونزقه، وأسطورته الشخصية، فقد كتب الشعر في السادسة عشرة (= وقد كنت آنذاك في عمره)وهجره في الحادية والعشرين، ومات في السابعة والثلاثين. وانخرط في كومونة باريس، وعاش حياة بهيمية مع فرلين، وترافقا، وتشردا، وطافا مدنا كثيرة، ومرت علاقتهما بتوترات حقيقية تخلّلها رصاص، وهجران، وكانت موضوع ريبة، بل شبهة.
رحل رامبو إلى عدن، فاستكشف المجاهل الشرقية لإفريقيا، وهرّب السلاح لملك إثيوبيا الوسطى، ثم تربع تاجرا في هراري برفقة حبشيّة برونزية، يقايض الجلود والبن والمسك بالسلاح، إلى أن تورمت ساقه، وبُترتْ، فحمله عبيده عبر بلاد النوبة على أكتافهم، ومن مصر اتجه إلى فرنسا، ويعتقد بأنه قضى نحبه بالزهري في نهاية خريف1891. وقد وصف فرلين شعره بأنه «نَثر شَهيّ».
وأول ما قرأت لرامبو قصيدته «المركب السكران» أو «النشوان». وهي قطعة متوهجة كتبها في السابعة عشرة، في قريته «شارلفيل» ضمن منطقة «الأردين» التي اجتاحت عبرها الفرق الألمانية المدرعة، خلال الحرب العالمية الثانية، الأراضي الفرنسية، ثم عرفتُ نثرياته المتقدّة، مثل «فصل في الجحيم» و «إشراقات» ودهشتُ بقوله إن الشاعر «ينبغي أن يجعل من نفسه رائيا، وقادرا على إحداث بلبلة دائمة وحادّة في حواسه، بالانغماس في كل تجربة حسية ووجدانية ممكنة، وما غايته من بلبلة الحواس وتعمّد تشويهها إلا معرفة الحقيقة الجوهرية الكامنة وراء الظواهر الخارجية والتعبير عنها، فهو الرائي، يستنفد كلّ سمّ، وكلّ شراب لكي يحافظ على الجوهر واللباب، إنه يصبح بين الناس المريض الأكبر، والمجرم الأكبر، والملعون الأكبر، والعارف، والرائي الأعظم؛ ذلك لأنه يصل إلى المجهول، وعندما يصيبه مس الجنون، ويبوء بالعجز عن فهم رؤاه، تكون هذه الرؤى قد أصبحت ملكا لديه».
ما برح رامبو يطوف في عالمي كأجمل ذكرى، وأخفقت في أن أكون مثله في كل شيء، وما نفعني توهمي بمحاكاته، وعشرات القصائد التي كتبتها في منتصف السبعينيات استوحت طريقته الشعرية، واحتفظ بها دليل إثبات على إحساسي في تلك الفترة بالضياع، والاستغراق في محاكاة الآخرين. وبِكرِّ السنين توهمتُ أنّ جذوة رامبو انطفأتْ في أعماقي، وتوارى حضوره إلى خلفية عالمي، وقام بيننا سدّ؛ لأنني نبذتُ من داخلي تلك الحقبة التي تبوّأ فيها مكانة الشيطان الملهم، فإذا به ينبثق عاصفة مدمّرة في ربيع1980حينما كنت أكاد اختم دراستي في جامعة بغداد، بعد أن قرأت كتاب «هنري ميللر» عنه «رامبو وزمن القتلة» بترجمة سعدي يوسف، فأعادني إلى هذيانات منتصف السبعينيات.
غزاني رامبو، فتخيلته شيطان التمرّد، والدنس، والرفض، والتبرّم، والمغامرة، أرنو إليه في أحلامي، وأعيش في خضمّ الأوهام الكبرى كمُحاكٍ له في كل شيء. كنت عالقا في مستنقع الحيرة. وضربتني الوجودية في الصميم منذ سنوات، وأحالتني القصائد الرمزية إلى هشيم، ولم أجد أي ملمح أثق به في العالم الذي كنت أعيش فيه. أحكامي سريعة، ومتقلّبة، ورغباتي مفاجئة، وأبدو متبرما بكل ما في العالم. أحلامي تطوف كالمجرات، واجتر تخيلاتي السوداء، وأسعى للتخلص من عالم أراه يضيق بي، لكنني لا أعرف إلى أين أتجه. لم تكن لي بوصله. عشت جنون القرف والغثيان من كل شيء. أحيا بين الصمت والرغبة في تحطيم كل شيء. أطوف مع عواد علي على المقاهي والمنتديات، وليلا كنا نسهر صحبة جماعات من التائهين في الحانات والنوادي. وكدّتُ أفقد قدرة الاختيار، ولا أعرف كيف نجوت في تخطّي تلك المرحلة.
كنا ثُلّة عابثة، مسدلة الشعر، بملابس فضفاضة ملونة نتجنب مفارز الشرطة التي تربض في تقاطعات الشوارع والأسواق تجزّ الخصلات الطويلة التي كان شباب السبعينيات يحاكون بها حركات «الهيبز» في الغرب، وتصبغ بالدهان سيقان النساء اللواتي يرتدين تنورات قصار تكشف أفخاذهن. ضربتني نزعة المحاكاة السلبية، أقرأ فرويد فاهتم بتفسير أحلامي التي تضاعفت في تلك المدة، أقرأ سارتر فأقلّد «أنطوان روكنتان»، وأقرأ كامو، فأتخيلني «مرسو»، وأقرأ رامبو فأحاكي تمردّه. وحينما قرأت اعترافات روسو أدعيت بأن لي حياة سرّية أكثر غنى من حياته، وأنني في سبيلي للإدلاء باعترافاتي المذهلة، لكن يومياتي لم تتضمن أيا من تلك الاعترافات المزعومة، فانطباعاتي الأولى كانت جزءا من إحساسي الداخلي بالمبالغة، والمباهاة، والمحاكاة. كنت أضفي قيمة مختَلقة على الأشياء لأبرز أهميتي.
وفي «المنتدى الثقافي» حيث انتقل اللقاء اليومي لجماعة كركوك الثانية، بعد أن استأجره صديقانا حمزة وإسماعيل في عام 1975، وأصبحت أنا مسؤولا عن لجنة القصة فيه، وعواد مسؤولا عن لجنة الشعر، فتح القاص الكردي عبدالله السراج عينيّ على الفظائع المريعة لما كان يحدث في الشمال. سرّني بأنه «آمرهيز»(=آمر لواء) في البيشمرجة، ويقود العلميات العسكرية الكردية، وحينما تتوفر له الفرصة يأتي ويجالسنا في المنتدى. قرأتُ بعضا من قصصه، وجميعها رمزية، واحتفظت لنفسي بسرّه، وما فرّطت لأحد به. زرته في بيته في منطقة «رحيم آوه» بعد انهيار القوات الكردية إثر معاهدة الجزائر بين العراق وإيران، فوجدته منكسرا، متبرّما، مكروبا، وكأن العالم على شفا هاوية، كالأب «يورج» في رواية «اسم الوردة». يجلس في دكان صغير شبه خال يملكه جوار بيته، يعتاش منه، وقد تبخرت أحلامه، ينظر إلى العالم بغضب عبر زجاج نظّارته السميك كعقب كأس، ورحل إلى أربيل بداية الثمانينيات، فبقيت أراسله على عنوانه في إحدى المقاهي، ثم انقطعت السبل بيننا حينما انتقلت إلى بغداد.
(3)
التحقنا بالجماعة عواد وأنا في وقت واحد. كنا درسنا معا في المتوسطة والثانوية، وسكنّا حيا واحدا، ومثلي نزح أهله من الحويجة منطقة القبائل العربية، ولكنه سكن المدينة قبلي، وكان يعتز بلقبه «المعماري» الذي تخلّى عنه بعد سنوات من تخلّييّ عن لقبي «الحمداني» احتقارا للانتماءات العشائرية؛ لأنها لا توافق الرؤى الفكرية التي نؤمن بها في مدينة متنوعة. وسكن هو محلة «بريادي» التي يمتزج فيها التركمان بالأكراد بالعرب في بيت يعود ليهودي هجّر إلى فلسطين نهاية الأربعينيات. والبيت أشبه بخان كبير تسكنه ست عشرة أسرة، فامتزج منذ الصغر بعالم متعدد اللغات، والأعراق، ومثلي بدأ بالتمثيل المسرحي، فالشعر، لكن لغته تفوق لغتي دقة وجمالا، وموهوب في التمثيل على النقيض مني.
كان عواد ولوعا بارتداء ملابس صارخة الألوان في مراهقته. ولطالما أربكتني بذلته البرتقالية المثيرة ذات البنطال العريض من الأسفل الذي يقارب نصف متر حينما نتجول في محلتنا. يعنى بأناقته، وهندامه، وتسريحة شعره الطويل(= الذي تلاشى الآن) صقلته المدينة قبلي، ولمع نجمه في الثمانينيات ناقدا مسرحيا، وأنجز أطروحة عن السيميولوجيا في المسرح العراقي. وأصبح أستاذا في جامعة بابل، وبعد مغادرتي العراق بسنة غادر إلى الأردن، وعمل ست سنوات باحثاً في المعهد الملكي للدراسات الدينية، ثم هاجر إلى كندا. وأصبح رسميا مواطنا كنديا فى مطلع عام 2006.
لكن جان دمو هو الشخصية الاستثنائية في الجماعة. أقام في بغداد ثم رحل إلى بيروت، وعاد إلى كركوك حيث تعرّفنا إليه، ورحل بعد ثلاث سنوات إلى بغداد مرة أخرى قبل أن يغادرها إلى عمّان في منتصف التسعينيات، وتركها لاجئا إلى أستراليا حيث توفي في 8/5/2003. بقينا مدة طويلة عصبة نتسكع في شوارع كركوك منتصف السبعينيات، يوقد فينا جان جذوة الفوضى، ولوثة الأدب، ويعدنا بأنه سيكتب رواية أفضل من «موسم الهجرة إلى الشمال» لو أقرضه أحدنا عشرين ديناراً. ظل مفلسا إلى آخر يوم في حياته، ندفع ثمن قهوته، وأجرة السيارة التي يأتي بها من البيت. يتأبط كتبا إنجليزية مسروقة من إصدارات «بنغوين» ولم يكن أدمن بعد على الخمرة، لكن أسماله تفوح برائحة كريهة. لا يرغب في تغيير أي شيء حتى أوساخه كانت مقدسة لديه، وظل عنيدا إلى وفاته، وهو الذي فتح لي نافذة التحديات التي لا تنتهي في مجال الأدب، وغرس في أعماقي عشق الرواية.
وفي مقهى «زقاق آدم» كان جان يرمي في سلّة النفايات مُعظم القصص التي أعرضها عليه من دون رأفة، ولم يرض أبدا عن أية قصة كتبتها، وما أثنى على سطر فيها أبدا، وحينما انصرفت إلى النقد في النصف الثاني من الثمانينيات أظهر أعجابا بشيء لي قرأه صدفة، لا أدري أين، وراح يشغل مجالس السكر من مريديه في بغداد مبشّرا بي، ولم أخذ أيا ما كان يقول مأخذ الجد, كما كنت أفعل أيام أحلامى قاصا.
رحل جان إلى بغداد في عام 1976، ثم عاد إلى كركوك في التاسعة من مساء يوم10/2/1977صحبة غالب هلسا، فالتقينا في المقهى، وكنت قرأت لتوّي رواية «الخماسين». وانتظرناه في المقهى صباح اليوم التالي لكنه لم يحضر، فاتجهنا حمزة، وإسماعيل، وعواد، وأنا، إلى بيته الذي يقع في أحد الأحياء الشمالية من المدينة، ويقيم مع والده العامل في شركة النفط، وهو الوحيد بين جماعة من الأخوات، أما شقيقه فسبقه إلى أستراليا مهاجرا بثلاثين سنة. وصلنا البيت وقرعنا الباب، فأطلت شابة نحيلة، فسألنا عن جان، فقالت «دنخا؟»، وهو اسمه الحقيقي، وقد انتحل الاسم لسبب أدبي، أمهلتنا للحظة، ثم عادت وقادتنا إلى الطابق العلوي، فوجدنا مضيفنا ممدّدا على سريره أشبه بصرصار كافكا. خيل إلينا أنه سيستقبلنا بما يليق بعد فراق طويل، لكنه استقبلنا بشتيمته المعهودة «يا حقراء, يا كلاب, ما الذي جاء بكم؟». أحدث دخولنا المفاجئ فوضى، لكنه لم يهتم بنا، وظل رابط الجأش، ولم يغادر سريره إلى نهاية الزيارة، يتّقى البرد ملتفّا ببطانية عتيقة. عبثنا بكتبه، ووضع عواد كتيبا صغيرا بعنوان «بودلير بقلمه» في الجيب الداخلي لمعطفه.
عُرف جان لصّ كتب لا يجاريه إلا عبد القادر الجنابي الذي أقلق المكتبات في قلب لندن بسرقاته إلى أن ضبط متلبّسا فاقتيد إلى الشرطة، لكنه لم ينثن، فواصل عمله إلى أن غادر إلى باريس، أما جان فحصل على معطف طويل، يخبّ به كراهب، فشقّق بطانته الداخلية، وأحالها جيوبا تغطي الظهر والجانبين، وكثيراً ما ضُبط في بغداد بمعطفه المعبأ بالكتب الإنجليزية الصغيرة، وهو يهم بمغادرة مكتبات الباب الشرقي. ولم ينته الأمر ببودلير، إنما عرض على عواد أن يبيعه بعض الكتب، فاختار «الدون الهادئ» لـ»شولوخوف» بترجمته العربية الكاملة، و«الدون كيخوته» لـ«ثربانتس» بترجمة عبد الرحمن بدوي، وتفاصلا على الثمن، فنقده عواد أربعة دنانير، فأصبح جان ثريا.
كانت المساومة مشهدا تمثيليا جرت وقائعه أقرب ما يكون إلى الصيغة الآتية, ولم يوفر جان لفظاً من معجم شتائمه الثري بالوقاحة: مرّر أصبعه على عنواني الكتابين, وقال «كم تدفع أيها الحقير لهذين الدونين؟» مشيرا إلى اسمي الكتابين. أجاب عواد مساوما «دينارين». ضمّ جان الكتابين إليه «يا تافه، تنتزع مني الدونين بدينارين وسخين مثلك, أريد ستة». توسّل عواد «هذا كثير يا جان, والله أنا مفلس، ولم أبع الكتب التى سرقتها بعد», وضغط بيمناه على بودلير، وواصل «حتى عبدالله لم يشتر مني كتابا منذ أكثر من شهر». بصق جان «يا سفاح, يا قواد، تحوز الدونين بهذه الدوانق!». طأطأ عواد رأسه «طيب, أدفع ثلاثة». نشط جان «يا صعلوك، لن تأخذهما بأقل من خمسة».
زرّ عواد معطفه، والتصقت ذراعه ببودلير «كيفك». مرّر يده على بطنه الضامرة، وقال «هات أربعة يا نذل، يا مرابي، يا حفيد شايلوك، أعرف ألا فائدة ترجى منك». أخرج عواد الدنانير، وفركها أمام جان، ورماها إليه، واحتضن الكتابين. طوى جان الأوراق النقدية بكفّه، والتفت إلينا، ونحن قرب أقدامه على حافة السرير، وقال «وأنتم يا سفلة، ألا تريدون شيئا؟ والله حتى هذا النذل أشرف منكم وأكرم. تف عليكم، تقرأون فقط، ولا تدفعون، ولا تسرقون، وتريدون أن تصبحوا كتّابا، هاه, مكانكم هنا». وأدار جسده النحيل, وأشار إلى مؤخرته, ثم صفر متأوها، وكـأنه نادم على الصفقة, وخاطب عوادا « يا سافل، أتمنّى أن تقرأ الكتابين حتى تصير آدميا. أنت مثلهم ميئوس منك يا قذر».
ومن المستحيل التصديق أن جان أكمل قراءة كتاب بكامله، فهو ملول، ويبدأ بكل شيء ولا ينتهي منه. غادرنا البيت بعد ساعتين، والتقينا مساء في المقهى، إذ عرضت عليه قصائد جديدة، فوعد بنشرها في جريدة «الفكر الجديد» التي يصدرها الحزب الشيوعي، لكنني لم أجد لها أثرا بعد ذلك. وسافر في اليوم التالي إلى بغداد.
عرفتُ جان يفرض حاجاته على أصدقائه، ويرغمهم على منحه المال، فيغمرهم الرضا، ولم يتساءل أحدنا عن سبب تحمّل مصروفاته الضئيلة. وفي النصف الثاني من الثمانينيات، كنت أتردد على نادي إتحاد الأدباء في بغداد، فيأتي إليّ النادل، ويطلب إليّ تسديد طلبات جان. ينتزع الأموال من أصدقائه متى رغب، وهم مسرورون، والمرة الأخيرة التي رأيته فيها كانت في عمّان صيف 1997.
كنت قادما من ليبيا حيث أدرّس في إحدى جامعاتها لحضور مؤتمر نقدي في جامعة اليرموك، وقد منحتُ جائزة شومان، وعلى موعد مع صديق، في فندق القدس الدولي، وما أن دخلت حتى رأيت جان وحيدا على الأريكة الجلدية السوداء الفخمة، فاتجهت إليه، وجلسنا معا، وكنت أعلم أنه وبعض الأدباء العراقيين يقيمون في كوخ عتيق في وسط البلد، فعرضتُ عليه أي مبلغ يحتاجه، وكنت جادا، لكنه أبى بإصرار، وأكد أنه غير محتاج الآن، ولما أخبرته بأنه سيحتاج غدا، غضب، ونهض، وغادر الفندق، ولم أره بعد ذلك. كان في حالة إفلاس دائمة منذ عرفته قبل ثلاثين سنة، لكنه نبيل متى اكتفى، وحاجاته قليلة.
(4)
أصبح جان دمو ظاهرة في الثقافة العراقية خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين، وقرأتُ أغلب ما كتبَ، وترجمَ، فلم أجد فيه أية قيمة أدبية، وهو لم ينخرط في الادعاءات الشعرية الكبيرة، والومضات النارية التي تصدر عنه سرعان ما تنطفئ، وقصائده المتفرقة القليلة- ومنها قصيدته «الهبوط إلى العبقرية»- لم ترسم في أفق المتلقّي مسار تجربة تقود إليه، قصائده مثله تتنازعها اليقظة المدهشة السريعة، والتثاؤب الدائم الطويل. وهو ظاهرة غذّتها ظروف الثقافة العراقية الملتبسة في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، فقد ضرب جيلَ الستينيات من الأدباء- وجان منهم- مزيجٌ مركبٌ من الوجودية والماركسية، ولم تفلح الأيدلوجية القومية التي مثلها حزب البعث في ملامسة أعماقهم، وأغلبهم ظل وجوديا في السلوك، والرؤية، والموقف، وماركسيا في السجالات، والادعاءات، وبعثيا في الانتماء الرسمي.
يجد الباحث المدقّق في البطانة الداخلية للأدب العراقي إلى الثمانينيات أن الرؤية الداخلية المتحكمة فيه هي الوجودية، وجان يمثل هذه الحالة خير تمثيل. تشبّع بالوجودية قبل أن يذهب إلى بيروت، وإبان وجوده فيها استغرقته بصورة كاملة، وإثر عودته انجذب بصبيانية توافق ذوقه النزق المتقلّب، وفكره الفوضوي، إلى الأدبيات الماركسية، ولطالما رأيته على بساط متهرئ تحت سلّم بناية شبه مهجورة في «الحيدرخانه» الحيّ العتيق لبغداد حيث تتزاحم بيوت المومسات، غارقا في كراسات لينين حول كهربة الريف الروسي، وسكك الحديد، والعلاقة بين الدولة والثورة، والموقف من الدين، وكأنه يتطلّع لقيادة ثورة شيوعية في بلاد الرافدين.
انشطر المثقفون العراقيون إلى اتجاهات ثلاثة: اتجاه توارى صامتا، ومال إلى الترميز في كتاباته الإبداعية، واعتكف، ولم ينخرط في النشاطات الثقافية العامة، واتجاه شرع في الهجرة إلى الخارج بسبب المضايقات بعد أن استشعر انغلاق الآفاق العامة، واتجاه ثالث انخرط في بناء الايدولوجيا الشمولية. ولما تفكّك المجتمع الأدبي العراقي أصبح جان مركز استقطاب المهمّشين الذين تضاعفت أعدادهم في الثمانينيات والتسعينيات، فهو الصوت الخفي في أعماقهم، فالتفوا حوله بصورة مثيرة للإعجاب، وجابت أعداد منهم خمارات بغداد بزعامته، ومارست السرقة من متاجر «الشورجة» لتوفر المبالغ التي يحتاج إليها في الحانات المتناثرة في الباب الشرقي، ومنها مقره النهاري، حانة «الركن الهادئ». ومارس «فتوة» نبيلة على الجميع، وحيث يكون يفرض «أتاوات» خمرته على معارفه، ليدفعوا عنه ما يطلب بطيب خاطر، كأنهم يفون بنذور تقدّم لوليّ. وقد وجدوا فيه الصراخ المحتجب في أعماقهم.
كان جان يربط الجميع بماض لا ينفكّون يحنّون إليه، ويتصلون به، وحاضر لا يستطيعون هضمه، واستيعابه، ومواكبته. وبعيدا عن عصبته الملتفّة حوله، وجد كثير من المثقفين العراقيين فيه ما كانوا يتمنّونه ولا يستطيعون فعله، ما كانوا يريدونه ولا يقدرون عليه، فكان يرتسم في أذهانهم متمردا، ورافضا، طالما حلموا في أن يكونوا مثله، كأنه بطل وجودي لفظه أدب الستينيات في قلب بغداد الشمولية. كان حاضرا بينهم، بنزقه وشفافيته المطلقة، فاضحا الخنوع العام الذي كانوا عليه، فيما هم عالقون بين رغبات يكتمونها ليتماهوا مع شخصيته، وأيدلوجيا شمولية مسحت ذاكرتهم، وأجبرتهم على الامتثال لفرضياتها العامة.
أحسب أن كثيرا من المثقفين العراقيين كانوا يشعرون بأنه ينتمي إليهم، وينطق نيابة عنهم، لأنه تجسيد حيّ لما أخفقوا هم فيه. وحريته المطلقة كانت موضوعا يحسده الجميع عليها. يبدو معدما لكنه حرّ، وناقم، ومحرّض بصورة معلنة، فيما وقعوا هم تحت طائلة الخوف. وبمرور السنين اتفق الجميع بصمت على أنه بسلوكه المتحدّي أصبح في منأى عن الخوف، فكان يمثل حلمهم، ورغبتهم، والطفل المشاغب في أعماقهم.
وفي النصف الثاني من الثمانينيات اندفعت إلى بغداد موجة من الأدباء الشباب الساخطين على كل شيء: الايدولوجيا، والسلطة، والحرب، والجوع، وضيق المجال العام للحريات، والأشكال الموروثة في الأدب، وكل العلاقات التقليدية في المجتمع العراقي، وراحوا يحتالون على السلطة نفسها، عبر استلام أدوار في الصحف، والمجلات، والمنتديات الثقافية، فقد عرفوا جهل السلطة، وانشغالها بالحكم، وانخرطوا في مؤسساتها، وحصل كثير منهم على مناصب مرموقة.
وجد بعض هؤلاء في جان ضالتهم الحقيقية، فجعلوا منه رمزا سرّيا، وتعويذه ضد الخوف المتفاقم. وجمعوا أشعاره المتفرقة وطبعوها في ديوان «أسمال» وتحمّلوا كلفة نشره، ووزعوه، كما لم يحصل لأحد في تاريخ الأدب العراقي الحديث، في حدود علمي. ونسختي الشخصية أوصلها أحدهم إليّ، وليس عليها إمضاء جان، كأنها منشور سري، وقد كتبتُ عن الديوان مقالة طويلة فور صدوره في نوع من التضامن الخفي مع الحال التي كنا نعيشها، استعدتُ فيها طرفا من علاقتنا القديمة في كركوك. ونسخ ديوانه وزعتها الجماعات المحيطة به من دون أن يعرف هو نفسه إلى أين وصلت، ولا كيف وزعت، ولا كان بحاجة إلى أن يعرف ذلك. فأصبح الديوان مثار حديث الأدباء في الأشهر التي طبع فيها، وأرجح أنه يعدّ من النوادر في المكتبات العراقية، ووثيقة أدبية شخصية يصعب التفريط بها لمن يمتلكها. تطوّع أصدقاؤه في توزيع النسخ على عموم المثقفين الساخطين والموالين للسلطة على حد سواء. كان جان زعيما مخمورا لمحفل المحبطين، والمتمرّدين، والناقمين من الأدباء في بغداد.
وبلغ الاحتفاء الرمزي بجان تمامه في مطلع التسعينيات، وهو آخر احتفاء شاهدته قبل مغادرتي البلاد، إذ تمكن منتدى الأدباء الشباب من عقد ندوة عن القصة الجديدة في العراق، واقنع وزارة الثقافة بأن تكون وقائع الندوة في فندق «السدير نوفوتيل» قرب ساحة الأندلس، وعلى مرمى حجر من مبنى إتحاد الأدباء- وهو الفندق الذي طالما تعرّض للقصف المتواصل في السنوات الأولى للاحتلال الأميركي من طرف المقاومة، لوجود الخبراء والمقاولين الأجانب الداعمين لسلطة الاحتلال فيه- اتصل المشرفون على الندوة بالنقاد للمشاركة، ودعوا عددا كبيرا من الأدباء للحضور، وجعلوا من جان ضيف الشرف دون أن يعلنوا رسميا ذلك. اشتروا له ملابس جديدة، وحجزوا غرفة كبيرة له في الفندق الفخم، في إحدى الطبقات العليا، فيما كانت وقائع الندوة تجري في القاعة الأرضية الكبرى.
راح جان يطل ساخرا من علٍ على عالم أرضي مدنّس لم تفارقه قدماه أبدا. قدمان لم تعرفا سوى أزقة كركوك، ودروب بغداد، والسلالم العتيقة للبيوت العثمانية في «الحيدرخانه»، والحانات الرخيصة في الباب الشرقي. بدا الاحتفاء به كالكرنفالات الساخرة من الثقافة الدينية في القرون الوسطى، فوسط أبهة الشباب، وسلطتهم الثقافية، والتفافهم حوله، وصرفهم عليه، ترنح جان مخمورا لا يعي دوره كأنه بطل مسرحية «النورس» لـ«تشيخوف».
تلقيتُ دعوة للمشاركة في الندوة ببحث عن مستويات السرد في القصة العراقية الجديدة، وكلّفتُ برئاسة إحدى الجلسات، وكنت آنذاك أستاذا في الجامعة المستنصرية. ولن أنسى كيف كان جان ينزل من غرفته محفوفا بالأدباء الشباب المسرورين- الساخطين الذين يلتفون حوله من النجف، وبغداد، وكربلاء، والبصرة، وبابل، كما كان يحصل معنا في كركوك قبل عشرين سنة. يجلس وسط جماعته بحفاوة تفضح نفسها في نهاية القاعة، فيسخر من المثقفين الرسميين الذين يحتلون المقاعد الأمامية، ويشوّش عمل الجلسات النقدية. وجماعته تبالغ في العناية به، كأنه محور الندوة مركزها. كنت أفهم ذلك، وأحبّه، وأشجعه كجزء من الرغبة الكامنة بالتحريض في داخلي منذ أيامي معه.
وفي أرجاء الفندق الفخم طافت الجماعة به، منتهكة كل القواعد والأعراف، بما فيها قواعد الندوة التي تشرف عليها. وهبط جان إلى القاعة بملابسه الجديدة، وسنّه الوحيدة، محاطا بزمرة تشعّ عيونها بالسخرية، وبعد لحظات عمّ هرج في الفندق، وتبين أن أصدقاءه أصروا على أن يأخذ حماما في غرفته، قبل أن يشرّف الحضور في المناقشات المعمّقة حول البنيات السردية للقصة العراقية، تركوه في الحمام، وراحوا ينتظرون في مدخل القاعة ليستقبلوه مهملين عن قصد المسؤولين الرسميين المتوافدين.
هبط جان بعد ربع ساعة، لكنه نسي حنفيات الحمام مفتوحة، ويغلب أنه لا يعرف كيف تغلق. إثر مغادرة الغرفة، طفح الحوض بالماء، وملأ الغرفة الوثيرة، واندفعت الأمواج من الباب باتجاه السلالم إلى الطوابق السفلية، فأحدث ذلك هرجا رائعا خلخل أعمال النقد الأكاديمي في تلك الأمسية. وجد أغلب الحضور في جان ضالتهم التي يحتمون خلفها فبانحيازهم إليه، يعبّرون عن أنفسهم بالوساطة عما يرغبون فيه. وهم لا يعرفون أنه شقّ طريقه مؤمنا بالحرية المستحيلة، فصارت حريته كناية عن عبوديتهم.
ينظر كثيرون ممن وسمتهم الثقافة الرسمية ببصمتها الدامغة إلى جان بوصفه صعلوكا مخمورا، ومتسكّعا، ومقتلعا، لا جذر له، وهذا وهم يعرفه كل من اتصل به، واقترب إليه، فقد صار مركزا لاستقطاب عدد كبير من المثقفين مدة ربع قرن، ولم يكن ذلك ممكنا لولا حاجة الثقافة العراقية لشخصية مثله. أربكني موته في منفاه الاسترالي، معارفه وأصدقاؤه، وأنا منهم، يعرفون أنه كان يركض مسرعا باتجاه الموت منذ منتصف التسعينيات. كان يتضاءل ببطء لا يحسد عليه حتى انطفأ في أقصى الشرق حيث ينبثق النور الدائم. وينبغي أن اعترف بأنني كنت أتوقّع موته مذ تعرفت عليه في عام1974، وطوال ثلاثين سنة لازمتني هذه الفكرة إلى أن تحققت في نهاية المطاف. وخلال الأسبوعين اللذين أعقبا وفاته ظهر عنه في الصحف ومواقع الانترنت نحو خمسين مقالة، وأول مقالة نشرت في اليوم التالي لموته كتبتها أنا.
قادتني جماعة كركوك الثانية إلى القراءة الحقيقية. وحينما كنت أقوم بتدريس الرواية في الجامعة الليبية في التسعينيات كان زادي من الروايات تلك التي قرأتها في كركوك قبل ربع قرن، ولم تتح لي فرصة بعد ذلك للانصراف إلى قراءة الرواية كما وقع في تلك الفترة. مئات الروايات التي أخذت بي لاستكشاف العوالم المتنوعة للسرد الأدبي، والمثل الأكثر حضورا كتاب «الدون كيخوته» الذي أربطه دائما بجان دمو، وببصمته. فقد صدمني الكتاب بقراءته الأولى، إذ لم أتلقاه ضمن النسق المعروف باعتباره كتابا للبطولات الخيالية الساخرة، إنما فوجئت به كتابا ينتمي إلى نسق مختلف، وهذا بحد ذاته أشبه بالكشف الشخصي الذي جعلني أتعلّق بالكتاب، وكلما مضيت معه عبر السنين ازددت يقينا بذلك الكشف البسيط. حصلتُ على الكتاب من عواد الذي اشتراه من جان في زيارتنا الوحيدة لبيته، ووجدت نفسي أدلف عالما مترعا بالمتعة، والمفارقة، والسخرية التي تتباين في المفاهيم، والتصورات، والرؤى، وتعلقت بالكتاب, فكأنه تجسيد لعالم جان دمو.
في إحدى زياراتي إلى العاصمة الأردنية في نهاية التسعينيات، عثرتُ على طبعة جديدة للكتاب، وهي التي ترجمها بدوي في الخمسينيات حينما كان مقيما في سويسرا، فاقتنيتها فورا، وظلت معي في أسفاري، ألجأ إليها دائما، واختار عشوائيا أحد الفصول للقراءة، فصفحات الكتاب رضابا شهيا لامرأة فتية. وفي زيارة طويلة إلى أوروبا صيف 2001 حملته معي في حقيبة السفر، فقرأت أطرافا منه في المغرب، وفي مضيق جبل طارق جلست أمام إحدى النوافذ في السفينة، وقرأت فصلين من مغامراته العجيبة، ومضيت أقرأ في غرناطة، بعد العودة من قصر الحمراء، وفي قرطبة بعد زيارة المسجد «لاميثكيتا»، وفي أشبيلية بعد زيارة الكاتدرائية العظيمة «الخيرالدا» في «سانتا كروث»، ثم مدريد، ولكن الذكرى الأكثر جذبا كانت طليطلة، المدينة التي تقع في إقليم لامنتشا الذي ينتسب إليه «دون كيخوته المنتشاوي» وتنتمي زوجة ثربانتس إليه، وتقع معظم أحداث الكتاب فيه، وقد ادعى ثربانتس داخل الرواية بأنه وجد مخطوطة الكتاب العربية التي كتبها مؤلف عربي اسمه سيدي حامد الإيلي في أحد أسواق طليطلة.
وما إن غادرت المدينة، واتجهت إلى محطة القطار في الثالثة عصرا، باتجاه مدريد، حتى فوجئت بالمحطة التي بنيت على طراز محطات القطار في الغرب الأميركي، وهي خالية إلا من امرأة في الطرف الآخر من المقاعد الطويلة. جلست متكئا على حقيبتي، أقرأ المغامرة التي يتوهم فيها دون كيخوته القس جيشا من فرسان الأعداء، فيحمل عليهم. وتخيلت للحظة أنه وتابعه «سانتشوبانثا» سينبثقان في أفق السهل المترامي الأطراف أمامي، حيث صوّر المؤلف مغامراتهما في هذه السهول نفسها، فالمحطة الخالية، والوقت، والدهشة، كل ذلك جعلني على يقين بأن فارس لامنتشا سيظهر أمامي على ظهر بغلته الهزيلة «روثينانته» يرتدي بزة الفرسان، ويحمل رمحه، وخلفه التابع العجيب. ارتبط في ذهني إلى الأبد جان دمو بالدون كيخوته. فقد قرأت نسخته، وبإغراء مباشر منه، فلا أكاد أعرف إن كنت تعرّفت إلى جان أم الدون كيخوته.
عبدالله ابراهيم
ناقد من العراق