جسدي ممدد على أرضية رصيف رطبة. لا أرى أمامي سوى الظلام الذي يخيم على المكان من حولي. رصيف ممتد إلى نهاية لا يدركها بصري. بقعة ضوء باهتة تطل من البعيد، لا تكاد تضيء شيئا مما هو حولي. لا شيء آخر سوى العدم. طين يلطخ وجنتي، ولكنني لا أستطيع أن أتلمسهما، فيداي ترتجفان من البرد، وتنملات تسري في عروقي تتيبس على إثرها أطراف أصابع قدمي. أحاول أن أسحب طرف ثوبي الذي ارتفع وكشف عن نصف ساقي، ولكنني عاجرة.. عاجزة تماماً .
مرت الدقائق والساعات التي لم أعد أستطع أن أحصيها، ولم أعد أعي في أي وقت من المساء نحن .. وهل سينتهي هذا المساء قريبا أم لا. لا شيء سوى الرصيف الجامد في برودته.. يحتجزني ويطوقني بأرضيته الإسمنتية الصلبة .. كل أعضائي متجمدة ما عدا عيني.. مقلتاي المرتعشتان تمشطان المحيط من حولي، علي أجد من ينتشلني مما أنا فيه..
ألمح ظل أحدهم من بعيد .. إنه قادم نحوي .. حاولت أن أحرك شفتي ولكن دون جدوى .. أحتاج أن يرفعني أحد ما .. عقلي لا يعي شيئاً مما يحدث لي .. لم أستطع تحريك لساني .. فقد عجز هو الآخر عن النطق تماما.. أخذت أحدق به وعيني مشدودتين نحوه: أتوسل إليك أن تنحني قليلا وتنتشلني.. أتوسل إليك .. انتشلني فقط .. لم تجبني سوى دمعتي الوحيدة التي شقت الطين الذي غطى وجنتي. مر الغريب بجانبي، وطرف ثوبه الرمادي الأملس يلامس ثوبي المدفون تحت الوحل .. رمقني بعين من اللامبالاة.. فكأنه لم ير ما يستدعي الوقوف ، وأكمل طريقه !
مر الكثيرون من بعد ذلك الصامت.. غرباء عابرون من حولي، وأنا .. جيفة يابسة .. كومة غبار .. حبة رمل .. لا أعلم .. ولكن لا يبدو لي أنني في حالتي البشرية التي تدركها ذاتي.. كثرت اللامبالاة التي تخزني بنظرات لا أعي مغزاها وترحل مع أصحابها .. يرحل معهم ظلهم الطويل على امتداد الرصيف الطويل والموحش جدا ..
رصيف .. رصيف .. رصيف .. أبعدوه عن ناظري .. أبعدوني عنه .. أكره الرصيف !
صرخة صامتة ابتلعت الرعشات المتتالية من عروقي.. أطلقتها حنقاً وألماً. دموعي المتواصلة ترطب حبيبات الإسمنت الجافة تحت عنقي .. هالة تغشى رموشي المتلاصقة وتحجب عني رؤية ما تبقى أمام محيط عيني.. لماذا لا ينجدني أحد؟؟ لماذا يعبرون أمامي ولا يكترثون لأمري؟؟ اختنقت أسئلتي التي شلت جسدي فوق العجز الذي لازمني منذ أفقت واستعدت وعيي .. لم أجد أي جواب لتساؤلاتي التي أخذت تقتلني ببطء شديد، وتبعث في داخلي يأساً موجعاً..
قطط ! نعم يبدو لي أنها قطط مشردة .. متسخة مثلي، ومبللة أيضا. أرى ظلها المتمايل وهي تقترب نحوي بهدوء وحذر شديد.. تشتم رائحتي من على بعد بسيط ، محركة أذيالها يمنة ويسرة.. زادت الغشاوة في عيني مع ازدياد عبراتي الخانقة.. عقلي ينطق مرتعداً: أغربي عني أيتها القطط، أتوسل إليك أن لا تقتربي مني .. أنجدني يا إلهي .. إنها تقترب مني .. أنا لا أحب القطط المتسخة .. لا أحب مواءها الكئيب.. رباااااه إنها تقترب نحوي ..
أنفها البارد الصغير يتحسس عنقي وظهري المتجمد .. قشعريرة هزت أركان قوامي المتيبس.. أغلقت عيني وانا أتمتم بتوسلات وتضرعات لربي كي يسلمني منها .. القطة تحك جسدها بكاحلي وهي تصدر أصواتا مقززة.. لا حيلة لي في ستر ساقي التي عرتها تلك القطة العجوز وهي تمرر جسدها بسطح ثوبي الخشن الذي أصبح شبه مهترئ.. ابتعدت.. يبدو أنها لا تستلطفني أيضا ! اختفت القطة بعد أن ابتلعها الظلام ..
لم أعد أقوى البقاء أكثر من ذلك .. لست بحية، ولست بميتة .. إنني أتعذب ولكنني لا أموت .. أيعقل أن تكون هذه جهنم؟! .. لا أثر للنار في هذا المكان ! .. فقط .. إنه الرصيف .. يقيدني كرهينة لديه .. ولا أعلم ما هي مطالبه كي يفك أسري .. فإما أن يدركني الصباح وإما أن أصاب بالجنون وأهلك.. أغمضت عيني ورصصت أجفاني ببعضها بقوة.. لتموتي يا روحي سريعاً .. أنت هالكة لا محالة .. لا محالة ..
إحساس بالدوار والصداع يلازمني بشدة .. ستارة بيضاء طويلة مألوفة لدي تقابلني مباشرة .. حوض استحمام مملوء بالمياه الفاترة.. صنبور الماء الذي ما زال مفتوحا والمياه تتدفق منه .. ملابسي ملقاة على أرضية السيراميك البيضاء .. فرشاة ومعجون أسناني ملقيان على الأرض .. قطتي لوسي (النظيفة) تراقبني من بعيد .. رفعت جسدي بتثاقل وألم شديد في أسفل رأسي يشل تفكيري .. لممت ملابسي المبعثرة من حولي وخرجت من المسبح.. لحقتني لوسي وهي تحرك ذيلها يمنة ويسرة.
وفاء المصلحي