أوكتافيو باث شاعر وأديب ومفكر مكسيكي، ولد في مدينة مكسيكو في 31 مارس1914، حصل على جائزة نوبل للأدب سنة 1990. عرف بمعارضته الشديدة للفاشية، وعمل دبلوماسيا لبلده في دول عديدة. شمل نشاطه مجالات عديدة، الشعر والتاريخ والسياسة والدين والنقد الأدبي. صدرت له خمسة دواوين شعرية، نشر أولها سنة 1949، وآخرها سنة 1987. ومن أهم أعماله الفكرية كتاب «متاهة العزلة» الصادر سنة 1950، وفيه حاول باث الكشف عن شخصية الإنسان المكسيكي، لكن بحثه هذا أفضى به إلى خلاصات ذات بعد إنساني كوني، تضمنها الفصل الأخير من الكتاب، وهو الفصل الذي نقدم ترجمة كاملة.
ليست العزلة، وهي إحساس الإنسان بوحدته ومعرفته بها، وانفصاله عن العالم واغترابه عن ذاته، خاصية استثنائية للإنسان المكسيكي. فكل الناس، في لحظات معينة من حياتهم، يشعرون بالعزلة، بل أكثر من ذلك كل الناس في عزلة. إن الحياة هي انفصال عما كناه، لكي نلج الى ما سوف نصيره، وهو مستقبل غريب على الدوام. فالعزلة هي أساس الوضعية الإنسانية. والإنسان هو الكائن الوحيد الذي يشعر بأنه في عزلة، وهو الكائن الوحيد الذي يمثل بحثا عن الغير. إن طبيعته – إذا كان من الممكن الحديث عن طبيعة خاصة بالإنسان، وهو الكائن، على وجه الدقة، الذي أبدع ذاته بنفيه للطبيعة – تكمن في السعي إلى التحقق في الغير. فالإنسان يحن إلى المشاركة، ويبحثٌ عنها. لهذا فهو كلما شعر بذاته، شعر بها كحاجة إلى الغير، وكعزلة.
نص المقالة المترجمة:
يمثل الجنين، وهو وحيد في العالم المحيط به، حياةً خالصة، حياة في حالتها الخام، تدفقا جاهلا بذاته. حينما نولد، نقطع الصلات التي تربطنا بالحياة العمياء، التي عشناها في رحم الأم، حيث لا فاصل هناك بين الرغبة والإشباع. فإحساسنا بالحياة يعبر عنه كانفصال وقطيعة، كتيه وسقوط في بيئة معادية وغريبة. وبقدر ما ننمو، بقدر ما يتحول هذا الإحساس البدائي إلى شعور بالعزلة، وبعد ذلك إلى وعي: فنحن محكومون بالعيش في عزلة، لكننا محكومون أيضا بتجاوز عزلتنا واستعادة الصلات، التي كانت تربطنا بالحياة في ماض فردوسي. كل جهودنا تسعى إلى محو العزلة. هكذا يملك الإحساس بالعزلة دلالة مزدوجة: فمن جهة يدل على الوعي بالذات، ويدل من جهة أخرى على الرغبة في الخروج من الذات. إن العزلة، وهي شرط حياتنا، تبدو لنا كامتحان وتطهر، وفي نهايتها يختفي القلق والتيه. فالامتلاء والاجتماع، وهما راحة وسكينة وانسجام مع العالم، ينتظراننا في نهاية متاهة العزلة.
إن اللغة الشعبية تعكس هذه الازدواجية، بمطابقتها بين العزلة والحزن. أحزان الحب هي أحزان عزلة، فالمشاركة والعزلة والرغبة في الحب تتعارض وتتكامل. وقدرة العزلة على الإنقاذ تكشف عن فكرة غامضة لكنها حية، فكرة الخطيئة: فالإنسان الوحيد هو الذي «هجره الله». العزلة عقوبة، أي إدانة وتطهر. إنها عقوبة، لكنها أيضا وعد بنهاية منفانا. وكل حياة هي حياة مسكونة بهذه الجدلية.
الميلاد والموت تجربتان للعزلة: نولد في عزلة، ونموت في عزلة. لا شيء أكثر خطورة من هذا الغوص الأول في العزلة، الذي هو الميلاد، إلا هذا السقوط الآخر في المجهول، الذي هو الموت. إن تجربة الموت تتحول سريعا، إلى وعي بالموت. لا يؤمن الأطفال والرجال البدائيون بالموت، وبتعبير أفضل إنهم لا يدركون وجودها، على الرغم من أنها تعمل سراً بدواخلهم. ولم يكن اكتشافها متأخرا أبداً، بالنسبة للإنسان المتحضر، مادام كل شيء يحذرنا وينبهنا إلى أننا سنموت. إن حياتنا تعلم يومي للموت. إننا نُلقن كيف نموت أكثر مما نُلقن كيف نحيا. وإن ذلك ليلقن لنا بطريقة سيئة. تمضي حياتنا بين الميلاد والموت. حينما نطرد من رحم الأم، ونشرع في قفزة قلقة وخطيرة حقا، لا تنتهي إلا بسقوطنا في الموت. هل سيكون الموت عودة إلى هناك، إلى الحياة السابقة على الحياة؟ هل سيحيا الإنسان من جديد هذه الحياة السابقة على الميلاد، حيث يكف عن التعارض بين السكون والحركة، بين النهار والليل، بين الزمن والأبدية؟ هل سيكون الموت كفا نهائيا عن الكينونة؟ ربما يكون الموت هو الحياة الحقة؟ ربما يكون الميلاد موتا والموت ميلادا؟ إننا لا نعرف شيئا.
وحتى إن كنا لا نعرف شيئا، فإن وجودنا كله يسعى إلى الفرار من هذه المتناقضات التي تمزقنا، ومادام كل شيء (الوعي بالذات، والزمن، والعقل، والعادات)، يطردنا من الحياة، فإن كل شيء يدفعنا كذلك إلى العودة، إلى النزول إلى الرحم الخلاق الذي انْتُشلنا منه. ونطلب من الحب ـ باعتباره رغبة، وحاجة إلى المشاركة، وحاجة إلى السقوط والموت، مثلما هو حاجة كذلك إلى الانبعاث ـ أن يمنحنا شيئا من الحياة الحقة، والموت الحق. لا نطلب منه السعادة ولا الطمأنينة، بل لحظة فقط، وفقط لحظة، لحظة من الحياة الممتلئة التي تنصهر فيها الأضداد، وتتصالح فيها الحياة والموت، والزمن والأبدية. ونعرف على نحو غامض، أن الحياة والموت ليسا حركتين متعارضتين، بل هما حركتان متكاملتان للواقع ذاته. وإن الخلق والهدم لينصهران في فعل الحب، إذ خلال جزء من الثانية يلمح الإنسان حالة أكثر اكتمالا.
إن الحب في عالمنا تجربة يكاد يكون بلوغها متعذرا، ما دام كل شيء يقف ضدها: الأخلاق، والطبقات، والقوانين، والأعراق، والمحبون أنفسهم. لقد كانت المرأة دوما هي «آخر» الرجل، ونقيضه، ومكمله. وإذا كان جزء من كياننا يسعى إلى الانصهار فيها، فإن الجزء الآخر، وليس بقدر أقل إلحاحا، يبعدها ويقصيها. المرأة شيء ثمين وضار بالتناوب، لكنه مختلف على الدوام. وبتحويل المرأة إلى شيء، إلى موجود خاص، وإخضاعها الى كل التشوهات التي تمليها على الرجل مصالحه، وكبرياءه، وقلقه، وحبه لها، فإنه لا يلبث أن يحولها إلى أداة ووسيلة، للحصول على الاعتراف وعلى اللذة وعلى طريق ما للاستمرار في الحياة. إن المرأة وثن، وآلهة، وأم، وساحرة أو ربة فن، حسب «سيمون دي بوفوار»، لكنها لا تستطيع أبدا أن تكون هي نفسها. من هنا تكون علاقتنا الجنسية منحرفة من أصلها، ومشوهة في جذورها. يحصل بيننا وبين المرأة استيهام: الاستيهام الخاص بصورتها، والاستيهام المتعلق بالصورة التي نكونها عنها، والتي تتقمصها. لا نستطيع حتى لمسها كجسد يجهل ذاته، مادامت تتسلل بيننا وبينها هذه النظرة الخاضعة والذليلة لجسد يستسلم. يحصل للمرأة الشيء ذاته: إنها لا تشعر بذاتها، ولا تتصوره إلا باعتباره شيئاً، إلا باعتباره «آخراً». إنها لا تكون سيدة على ذاتها بالكل. إنها صورة تمليها عليها العائلة، والطبقة، والمدرسة، والصديقات، والدين، والعاشق. أنوثتها لا تعبر عن نفسها أبدا، لأنها تتجلى من خلال أشكال ابتكرها الرجل. ليس الحب فعلا طبيعيا. إن الحب شيء إنساني، وهو بالتعريف الشيء الأكثر إنسانية، أي إبداعاً، شيئاً صنعناه نحن، ولم تمنحه لنا الطبيعة، شيئاً قمنا به، ونقوم به كل يوم، ونقوضه كل يوم.
ليست هذه هي العوائق الوحيدة التي تحول بيننا وبين الحب. إن الحب اختيار. ولربما هو اختيار حر لقدرنا، واكتشاف مفاجئ للجزء الأكثر سرية وقدرية في وجودنا. لكن الاختيار المبني على العشق مستحيل في مجتمعنا. وقد قال بروتون Breton من قبل، في أحد كتبه الأكثر روعة: «الحب المجنون»، بأن هناك عمليتي تحريم تمنعان اختيار المعشوق: التحريم الاجتماعي، وفكرة الخطيئة المسيحية. يحتاج الحب، كي يتحقق، إلى انتهاك قانون العالم. الحب في زمننا فضيحة، وهو فوضى وانتهاك: حب النجمين اللذين كسرا حتمية مداريهما، والتقيا في منتصف الفضاء. إن التصور الرومانسي للحب، والذي يفترض قطيعة وكارثة، هو التصور الوحيد الذي نعرفه، لأن كل شيء في المجتمع يمنع الحب من أن يكون اختيارا حرا.
تعيش المرأة سجينة الصورة التي يفرضها عليها المجتمع الذكوري، ولذلك فهي لا تستطيع الاختيار، إلا من خلال القطيعة مع ذاتها. «لقد غيرها الحب، وجعل منها شخصا آخر». هكذا اعتاد الناس القول عن العاشقات. وقولهم حق: إذ الحب يغير المرأة، لأنها كلما أقدمت على الحب وعلى الاختيار، وكلما أقدمت على أن تكون هي نفسها، إلا وتوجب عليها إقامة قطيعة مع الصورة التي بداخلها يأسر العالمُ وجودها.
لا يستطيع الرجل أيضا الاختيار، فدائرة إمكانياته محدودة جدا. إنه يكتشف الأنوثة، وهو طفل، في الأم والأخوات. ومنذ ذاك الحين، يصبح الحب مطابقا للمحرم. إن علاقتنا الجنسية مشروطة برعب وجاذبية زنا المحارم. ومن جهة أخرى، تثير الحياة الحديثة شبقيتنا دون الحاجة إلى ذلك، وفي الوقت ذاته تكبحها بكل أصناف التحريمات ـ من التحريم المرتبط بالطبقة والأخلاق، الى ذلك المتعلق بالوقاية. إن الذنب هو إثارة للرغبة وكبحها. كل شيء يحد من قدرتنا على الاختيار. نحن مجبرون على إخضاع ميولاتنا الدفينة، إلى صورة الأنثى التي تفرضها علينا دائرتنا الاجتماعية. من الصعب أن نحب أشخاصا من عرق آخر، يتكلمون لغة أخرى أو ينتمون إلى طبقة أخرى، رغم أنه ليس من المستحيل أن يفضل الأشقر النساء الزنجيات، وأن تفضل الزنجيات رجالا صينيين، كما أنه ليس من المستحيل أن يصبح السيد عاشقا لخادمته، أو العكس. إننا نخجل من إمكانيات مماثلة. ننتقي، مادمنا عاجزين عن الاختيار، زوجاتنا من بين النساء اللواتي «تناسبننا». ولن نعترف قط بأننا ارتبطنا ـ أحيانا إلى الأبد ـ بامرأة قد لا نكون أحببناها، والتي حتى لو أحببناها، فهي عاجزة عن الخروج عن ذاتها وإظهارها كما هي. إن العبارة التي يقول فيها سوان: « وأفكر بأني أضعت أفضل سنوات حياتي في رفقة امرأة ليست من صنفي»، يستطيع معظم الرجال المعاصرين أن يرددوها لحظة موتهم؛ وكذلك النساء.
يتصور المجتمعُ الحبَ على نحو يتعارض مع طبيعة هذا الإحساس، كاقتران ثابت لإنجاب الأبناء، ويطابق بينه وبين الزواج. وكل خرق لهذه القاعدة يعاقب عليه بعقوبة تختلف قساوتها، باختلاف الزمان والمكان. (وبيننا تكون العقوبة قاتلة مرات عديدة ـ إذا كان المنتهك امرأة ـ مادامت تسود في المكسيك، مثلما هو الشأن في كافة الدول الناطقة بالإسبانية، منظومتان أخلاقيتان تحصلان على ثناء عام: أخلاق السادة، وأخلاق الآخرين بمن فيهم الفقراء والنساء والأطفال).
إن الحماية التي يحظى بها الزواج قد تكون مبررة، إذا كان المجتمع يسمح لأفراده حقا بالاختيار الحر. لكن يتوجب عليه، مادام لا يفعل ذلك، بأن يقر بأن الزواج لا يمثل التحقق الأسمى للحب، بل شكلا قانونيا واجتماعيا واقتصاديا يملك غايات مختلفة عن غايات الحب. إن استقرار الأسرة يرتكز على الزواج، الذي يتحول إلى انعكاس خالص للمجتمع، وبدون هدف آخر غير إعادة خلق لهذا المجتمع نفسه. من هنا يكتسي الزواج طبيعة محافظة تماما. ويكون الطعن فيه حلا لأسس المجتمع نفسها، ويكون الحب أيضا، ودون أن يقصد ذلك، فعلا مناهضا للمجتمع، مادام تحققه يقوض الزواج، ويحوله إلى ما لا يرغب المجتمع في أن يتحول إليه: انبثاق لموجودين منعزلين يخلقان من تلقاء نفسيهما عالما يقطع مع الكذب الاجتماعي، ويلغي الزمن والعمل، ويعلن عن اكتفائه بذاته. هكذا ليس من الغريب أن يطارد المجتمع بنفس القدر من العداء، الحب والشعر الشاهد عليه، ويلقي بهما إلى السرية والهوامش، إلى عالم الممنوع العكر والغامض، إلى عالم التافه والشاذ. وليس من الغريب أيضا أن يتفجر الحب والشعر في أشكال غريبة وخالصة: فضيحة، وجريمة، وقصيدة.
إن حماية الزواج تقتضي مطاردة الحب والتسامح مع الدعارة، إن لم نقل إضفاء الشرعية عليها. ولا يكف غموض العاهرة عن أن يكون معبرا: كائن مقدس بالنسبة لبعض الشعوب، وبالنسبة إلينا كائن ـ هو بالتناوب ـ محتقر ومرغوب فيه. إن العاهرة، باعتبارها صورة ساخرة للحب وضحية للحب، هي رمز للقوى المذلة لعالمنا. لكننا لا نكتفي بأكذوبة الحب هذه، والتي تستتبع وجود الدعارة، وتضعف في بعض الأوساط الصلات التي لا تسمح بالمس بالزواج، فتختلط الأمور. ولا يصبح حتى الانتقال من سرير إلى آخر فجورا. إن الغاوي، الرجل الذي لا يستطيع الخروج من ذاته، لأن المرأة هي دوما أداة لغروره أو قلقه، قد تحول إلى صورة من الماضي، كالفارس الذي يسير على قدميه. هكذا لا يمكن غواية أحد بنفس الكيفية التي لا توجد بها فتيات تقع حمايتهن، أو أخطاء يقع إصلاحها. إن الحياة الجنسية المعاصرة تملك معنى مغايرا للمعنى الذي امتلكته مع ساد مثلا. كان ساد صاحب مزاج تراجيدي، مهووساً بالمطلق. وكانت أعماله كشفا عنيفا عن الوضعية الإنسانية. ولا أحد أكثر يأسا من بطل ساد. تكاد الحياة الجنسية المعاصرة أن تكون دوما بلاغة، تمرينا أدبيا وتجملا، وليست كشفا للإنسان، بل إنها أكثر من ذلك وثيقة حول مجتمع يحث على الجريمة، ويدنس الحب. هل هي حرية الأهواء؟ لقد كف الطلاق عن أن يكون نصرا. فالأمر لا يتعلق بفسخ العلاقات القائمة، بل بجعل الرجال والنساء قادرين على الاختيار بحرية. ففي مجتمع مثالي سيكون السبب الوحيد للطلاق هو اختفاء الحب، أو ظهور حب جديد. وفي مجتمع يستطيع كل أفراده الاختيار، سيكون الطلاق مغالطة، وشيئا غريبا كالدعارة، أو الاختلاط، أو الخيانة الزوجية.
يتظاهر المجتمع بكونه كلا يوجد بذاته، ومن أجل ذاته؛ لكن المجتمع، إذا كان يتصور ذاته كوحدة لا تنقسم عراها، فهو في باطنه منقسم بفعل ثنائية، ربما يعود منشأها إلى اللحظة التي انفصل فيها الإنسان عن العالم الحيواني، وابتكر ذاته والوعي والأخلاق، حينما استعمل يديه. إن المجتمع عضوية تعاني من الضرورة الغريبة، ضرورة تبرير غاياتها، ونزوعاتها. تتوافق أحيانا غايات المجتمع، متخفية وراء مبادئ الأخلاق المهيمنة، مع رغبات وحاجيات الأفراد الذين يكونونه. وتتعارض أحيانا أخرى مع طموحات فئات، أو طبقات مهمة. وليس من النادر أن تنفي غرائز الإنسان الأساسية. وحينما يحدث هذا الأمر الأخير، يعيش المجتمع مرحلة أزمة تنفجر، أو تبقى راكدة، ويكف أفراده عن الوجود كأناس، ويتحولون إلى أدوات بسيطة، ومفرغة من الروح.
إن الثنائية الملازمة لكل مجتمع، والتي يطمح كل مجتمع إلى حلها من خلال التحول إلى جماعة، تعبر عن ذاتها في زمننا بكيفيات متعددة: الخير والشر، المباح والمحظور، المثالي والواقعي، العقلاني واللاعقلاني، الجميل والقبيح، الحلم واليقظة، الفقراء والأغنياء، البورجوازية والبروليتاريا، البراءة والوعي، الخيال والفكر. إن المجتمع بفعل حركة لا تقاوم من وجوده الخاص، يسعى إلى تجاوز هذه الثنائية، وتحويل مجموع الأفراد المنعزلين والمتخاصمين الذين يؤلفونه، إلى جماعة منتظمة ومنسجمة. لكن المجتمع الحديث يحاول حل ثنائيته، بإقصائه لجدلية العزلة التي تجعل الحب ممكنا. إن المجتمعات الصناعية ـ بمعزل عن اختلافاتها «الإديولوجية»، والسياسية أو الاقتصادية ـ تصر على تحويل الاختلافات الكيفية، أي الإنسانية، إلى تماثلات كمية. تطبق أنماط الإنتاج بالجملة على الأخلاق والفن والمشاعر. تمحي التناقضات والاستثناءات؛ وبذلك تغلق طرق الوصول إلى التجربة الأكثر عمقا التي تمنحها الحياة للإنسان، والتي تكمن في النفاذ إلى الواقع ككل، الذي تتصالح فيه الأضداد. تلغي السلطات الجديدة العزلة بمرسوم، وتلغي معها الحب، الشكل السري والبطولي للمشاركة. إن الدفاع عن الحب كان دوما نشاطا مناهضا للمجتمع وخطيرا. وقد بدأ يصير اليوم بحق، نشاطا ثوريا . تكشف وضعية الحب في زمننا كيف أن جدلية العزلة، في مظهرها الأكثر عمقا، تفضي إلى الحرمان بفعل المجتمع ذاته. فحياتنا الاجتماعية تنفي تقريبا على نحو دائم، كل إمكانية لمشاركة جنسية أصيلة.
إن الحب واحد من الأمثلة الأكثر وضوحا على تلك الغريزة المزدوجة، التي تقودنا في آن واحد، إلى الغوص والتعمق في ذواتنا، وإلى الخروج منها والتحقق في الغير: موت وانبعاث، عزلة ومشاركة. لكن الحب ليس هو المثال الوحيد. فـفي حياة كل إنسان توجد سلسلة من المراحل تمثل قطيعة ووصلا، انفصالا ومُصالحة. وكل مرحلة من هذه المراحل، هي محاولة للتعالي على عزلتنا، يتلوها انغماس في بيئات غريبة.
إن الطفل يواجه واقعا لا يمكن اختزاله في وجوده، ولا يستجيب لمثيرات هذا الواقع في البدء، إلا من خلال البكاء أو الصمت. يقطع الحبل الذي كان يربطه بالحياة، فيحاول إعادة خلقه بالعاطفة واللعب. وبذلك يشرع في حوار لا ينتهي، إلا حينما يتلو مونولوج موته. لكن علاقاته بالعالم الخارجي لم تعد سلبية، كما كانت عليه في الحياة السابقة على الولادة، لأن العالم يُلزمه بالاستجابة. وينبغي أن يكون الواقع حافلا بأفعاله. وبفضل اللعب والخيال تكتسب فجأة، أشياءُ الكبار الجامدة ـ مثل الكرسي، أو الكتاب، أو أي شيء آخر ـ حياة خاصة. وبواسطة القوة السحرية للغة أو الإشارة، للرمز أو الفعل، يخلق الطفل عالما حيا، تكون فيه الأشياء قادرة على الإجابة عن أسئلته. وتكف اللغة، حين تُعرى من دلالاتها العقلية، عن أن تكون مجموعة من العلامات، لتصير من جديد بنية دقيقة للجذب والمغنطة السحرية. فتنعدم المسافة بين العدد والشيء، ويصبح التلفظ بكلمة ما تحريكا للواقع، الذي تدل عليه. ويساوي التمثل إعادة إنتاج حقيقية للشيء، بنفس الكيفية التي كان بها التمثال بالنسبة للإنسان البدائي، ليس تمثيلا بل بديلا للشيء المتمثل. ويصير الكلام من جديد خلاقا للوقائع، أي نشاطا شعريا. يخلق الطفل، بفضل السحر، عالما على صورته، ويفك بذلك عزلته، ويتوحد مع محيطه. يولد الصراع من جديد، حين يكف عن الاعتقاد في سلطة كلماته وإشاراته. إن الوعي يبدأ كفقدان للثقة في الفعالية السحرية لأدواتنا.
إن المراهقة هي قطيعة مع عالم الطفولة، ولحظة توقف أمام عالم الكبار. ويشير سبرنجر إلى العزلة باعتبارها سمة مميزة للمراهقة. إن صورة نرسيس المنعزل، هي نفسها صورة المراهق. في هذه المرحلة يكتسب الإنسان لأول مرة، الوعي بخصوصيته. لكن جدلية المشاعر تتدخل من جديد: فالمراهقة كوعي حاد بالذات، لا يتم تجاوزها إلا كنسيان للذات واستسلام. لهذا فالمراهقة ليست مرحلة العزلة وحسب، بل هي مرحلة الحب الكبير كذلك، والبطولة، والتضحية. وإن الناس لعلى حق حين يتخيلون البطل والعاشق كأنهما شخصيتا مراهق. إن رؤية المراهق كمنعزل ومنغلق على ذاته، تلتهمه الرغبة أو الخجل، لتختفي في زمرة الشباب الذي يرقص، ويغني، أو يسير ضمن جماعة، أو في الزوج الذي يتجول تحت القوس الأخضر في الطريق.
إن المراهق ينفتح على العالم، على الحب والفعل والصداقة والرياضة والبطولة. يزخر أدب الشعوب الحديثة ـ مع الاستثناء المعبر للأدب الاسباني، حيث لا يظهر المراهقون إلا كيتامى أو شطار ـ بالمراهقين المنعزلين والباحثين عن المشاركة، عن الخاتم والسيف والرؤية. إن المراهقة حراسة مسلحة، منها نخرج إلى عالم الأفعال.
ليس النضج مرحلة عزلة. فالإنسان، بصراعه مع الآخرين والأشياء، ينسى ذاته في العمل، في خلق أو بناء أشياء، إنشاء أفكار ومؤسسات. يرتبط وعيه الخاص بوعي الغير، ويكتسب الزمن معنى وغاية. إنه تاريخ، علاقة حية ودالة بالماضي والمستقبل. إن تفردنا، في الحقيقة، المنبثق من زمنيتنا، من اندماجنا المحتوم في زمن هو ذواتنا نفسها، والذي بتغذيتنا يلتهمنا ـ لا يلغى، بل يصبح هادئا، وبشكل من الأشكال نفتديه. ينصهر وجودنا الخاص في التاريخ، ويتحول هذا الأخير إلى «لحظات خارج الزمن»، كي نوظف عبارة «إليوت». هكذا يمثل الإنسان الراشد المصاب بمرض العزلة في مراحل الإنتاج نشازا. إن التواتر الذي نصادف به اليوم هذه الفئة من المنعزلين، يبين خطورة أمراضنا. ففي مرحلة العمل المشترك، والغناء المشترك، واللذة المشتركة، يكون الإنسان أكثر عزلة من أي وقت مضى. إن الإنسان الحديث لا ينخرط كلية في ما يفعله، ويبقى دوما جزءا منه، الجزء الأكثر عمقا، سليما ويقظا. ففي قرن الحركة، يتجسس الإنسان على ذاته. لقد كف العمل، الإله الحديث الوحيد، عن أن يكون خلاقا. العمل دون غاية ودون نهاية، يوائم حياة المجتمع الحديث التي تفتقد إلى الغائية، والعزلة التي تتولد عنها، العزلة المشوشة للفنادق والمكاتب والورشات وقاعات السينما، ليست اختبارا يهذب الروح، وليست تطهرا ضروريا. إنها إدانة شاملة، مرآة لعالم دون مخرج.
تتجلى الدلالة المزدوجة للعزلة ـ قطيعة مع عالم ومحاولة لخلق آخر ـ في تصورنا للأبطال والقديسين والمنقذين. تدون الأسطورة والسيرة والتاريخ والقصيدة مرحلةَ عزلة وانسحاب، تكاد تتحدد دوما في الشباب الأول، الذي يسبق العودة إلى العالم وإلى العمل بين الناس. إنها سنوات الاستعداد والدراسة، لكن وبخاصة سنوات التضحية والافتداء، والامتحان، والتكفير والتطهير. إن العزلة قطيعة مع عالم بال، واستعداد للعودة والصراع النهائي. يبين أرلوند توينبي هذه الفكرة من خلال أمثلة عديدة: أسطورة الكهف الأفلاطونية، حياة سان بابلو، وبوذا، ومحمد، وماكيافللي، ودانتي. وكلنا عشنا في حياتنا الخاصة أيضاً، وفي حدود صغرنا، العزلة والابتعاد كي نتطهر، ونعود بعد ذلك الى العيش بين الناس. إن جدلية العزلة «وهي حركة مزدوجة: حركة خروج وعودة»، حسب توينبي، ترتسم بوضوح في تاريخ كل الشعوب. وربما توضح المجتمعات القديمة، الأكثر بساطة من مجتمعاتنا، هذه الحركة المزدوجة بشكل أفضل.
ليس من الصعب أن نتخيل إلى أي حد تشكل العزلة حالة خطيرة ومرعبة، بالنسبة الى من يسمى ـ بكثير من الغرور وعدم الدقة ـ إنسانا بدائيا. فمنظومة الممنوعات المعقدة والصارمة، وقواعد وطقوس الثقافة القديمة كلها، تسعى إلى حمايته من العزلة. إن الجماعة هي المنبع الوحيد للصحة. المنعزل مريض، وغصن ميت ينبغي قطعه وحرقه، مادام المجتمع نفسه يصبح مهددا إذا ما كان أحد مكوناته ضحية للشر. إن تكرار المواقف والصيغ القديمة، لا يُؤمن فقط استمرارية الجماعة في الزمن، بل وحدتها وتماسكها. فالطقوس والحضور الدائم لأرواح الموتى ينسجان مركزا، وعقدة من العلاقات التي تحد من الفعل الفردي، وتحمي الإنسان من العزلة، وتحمي الجماعة من التشتت.
إن الصحة والمجتمع، والتشتت والموت، هي بالنسبة الى الإنسان البدائي، كلمات مترادفة، فمن يبتعد عن أرض مسقط رأسه «يكف عن الانتماء إلى الجماعة، يموت، ويقام له الحفل الجنائزي المعتاد»(1). يعادل المنفى الدائم عقوبة الموت: إن تماهي الجماعة بأرواح السلف، وتماهي هؤلاء بالأرض، يعبر عنهما هذا الطقس الرمزي الإفريقي: «عندما يعود أحد المولودين بالأرض من كمبارلي، رفقة المرأة التي تزوجها، يجلب الزوجان معهما قليلا من تراب مقامهما. ويتوجب على الزوجة كل يوم تناول قليل من الغبار… كي تتعود على الإقامة الجديدة. فهذا القليل من التراب يجعل الانتقال بين المسكنين ممكنا». إن التضامن الاجتماعي بين أفراد الجماعة يكتسي «طابعا عضويا وحيويا، إذ الفرد هو تماما عضو داخل جسد». لسبب كهذا لا تكون الردات الفردية كثيرة، «لا أحد يمكنه أن يخلص، أو يدين لحسابه الخاص، ودون أن يؤثر فعله في الجماعة كلها»(2).
إن الجماعة رغم كل الاحتياطات، لا تكون في مأمن من التفكك. فكل شيء بإمكانه أن يفككها: الحروب، والخلافات الدينية، وتحولات أنظمة الإنتاج، والغزو… الخ. وبمجرد ما أن تنقسم الجماعة، يواجه كل جزء منها وضعية جديدة: العزلة، نتيجة القطيعة مع مركز الصحة المتمثل في المجتمع القديم المغلق، ليست تهديدا ولا حادثا، بل وضعية، الوضعية الأساسية، الأساس النهائي لوجوده الإنسان. إن التيه يظهر كوعي بالخطيئة ـ خطيئة لم تكن خرقا لقاعدة، بل تشكل جزءا من طبيعة الإنسان. وبتعبير أفضل هي طبيعته. العزلة والخطيئة تتطابقان، والصحة والمشاركة تصيران كلمتين متطابقتين، لكنهما فقط تتموضعان في ماض بعيد، تشكلان العصر الذهبي، مملكة عاش فيها الإنسان قبل التاريخ، والتي ربما يمكن العودة إليها، إذا قوضنا سجن الزمن. هكذا تولد مع الوعي بالخطيئة ضرورة الخلاص، وعن هذه الأخيرة تتولد ضرورة المنقذ. تنشأ ميثولوجيا جديدة ودين جديد. والمجتمع الجديد، خلافا للمجتمع القديم، مفتوح ومتدفق، مادام يتشكل من المنفيين. والميلاد داخل الجماعة وحده، لا يمنح الإنسان نسبه. إنه هبة من الأعلى يتوجب عليه أن يستحقها. تنمو الصلاة على حساب الصيغة السحرية، ويزداد الطابع التطهيري لطقوس المسارة. وينبثق مع فكرة الخلاص، التأمل الديني، والزهد، واللاهوت والتصوف. إن القربان والمشاركة يكفان عن كونهما وليمة طوطمية، إذا كانا حقا كذلك في بعض الأحيان، ويتحولان، إلى طريق لولوج المجتمع الجديد. إله، غالبا ابن إله، سليل الآلهة القديمة الخالقة، يموت وينبعث دوريا. إله الخصب، لكنه إله الخلاص أيضا، وقربانه دليل على أن الجماعة تجسدت مقدما في الأرض، المجتمع الكامل الذي ينتظرنا في الجانب الآخر من الموت. في الأمل في حياة أخرى يكمن الحنين إلى المجتمع القديم، وفي الوعد بالخلاص تحيا ـ في خفاءـ العودة إلى العصر الذهبي.
مؤكد أن من الصعب بروز الخصائص باختصار، في تاريخ أي مجتمع خاص. ومع ذلك فبعضها يطابق تقريبا في كل تفاصيله، الخطاطة السابقة. ويمثل ميلاد الأورفية مثالا على ذلك. وكما هو معروف، فإن عبادة أورفيوس قد انبثقت بعد نكبة الحضارة المسينية، التي أدت إلى تفكك عام للعالم الإغريقي، وإلى إعادة تنظيم شاملة للشعوب والثقافات. ضرورة استعادة الصلات القديمة، الاجتماعية والمقدسة، تولدت عنها عبادات سرية، يشارك فيها فقط «أولئك المهجرون الذين أعيد توطينهم وتجميعهم بكيفية مصطنعة، والذين كانوا يحلمون ببناء تنظيم لا يستطيعون الانفصال عنه»، إسمه الجماعي الوحيد هو «اليتامى»(3). (وأشير هنا إلى أن أرفانوس ليس يتيما فقط، بل فارغ. وبالفعل، فالعزلة واليتم هما في النهاية تجربتا خواء). إن ديانات أرفيوس وديونيزوس، مثل ديانات الكادحين في نهاية العالم القديم، تظهر بوضوح الانتقال من مجتمع مغلق، إلى آخر منفتح. إن الوعي بالذنب وبالعزلة والكفارة، ليلعب فيها نفس الدور المزدوج الذي يلعبه في الحياة الفردية.
إن الإحساس بالعزلة، الحنين إلى جسد انتزعنا منه، هو حنين إلى المكان. وهذا المكان، حسب تصور قديم يوجد عند كل الشعوب تقريبا، ليس إلا مركز العالم، سرة الكون. وأحيانا تتطابق الجنة مع هذا المكان، وهما معا مع المكان الأصلي للجماعة، سواء أكان أسطوريا أم واقعياً(4). فالموتى، لدى الأزتيك، يعودون إلى «ميكتلان»، المكان الموجود في الشمال، وهو المكان الذي هاجروا منه. وكل طقوس البناء تقريبا، بناء مدن أو مساكن، تشير إلى البحث عن هذا المركز المقدس الذي طردنا منه. والأماكن المقدسة الكبرى ـ روما، القدس، مكة ـ توجد في مركز العالم، أو ترمز إليه، أو تجسده مقدما. والحج إلى هذه الأماكن المقدسة هو تكرار طقوسي للسفر، الذي قام به كل شعب في ماض أسطوري، قبل أن يستقر في الأرض الموعودة. وعادة الدوران حول البيت أو المدينة، قبل اجتياز أبوابهما، تملك نفس الأصل.
إن أسطورة المتاهة تندرج ضمن هذه المجموعة من المعتقدات. فقد ساهمت عدة تصورات متقاربة في جعل المتاهة رمزا من بين الرموز الأسطورية الأكثر خصوبة ودلالة: وجود طلسم أو شيء معين في مركز ما، في مكان مقدس، قادر على استعادة الصحة أو الحرية للشعب، وحضور بطل أو قديس. بعد التوبة وطقوس التكفير، التي تستتبع في غالب الأحيان فترة من الانعزال، يدخل إلى المتاهة أو القصر مبتهجا، يعود سواء لبناء المدينة أو لتخليصها وافتداءها.
وإذا كانت العناصر الصوفية في أسطورة «برسيو» تكاد تكون غير ظاهرة، فإن التصوف والزهد في أسطورة «كريال» يقترنان: الخطيئة التي تؤدي إلى عقم الأرض ورعايا الملك الصياد، وطقوس التطهر، والصراع الروحي، وأخيرا العفو أي الاتحاد.
لم نُطرَد فقط من مركز العالم، وحكم علينا بالبحث عنه عبر الغابات والصحاري، أو عبر الطرق المتعرجة والخفية للمتاهة. لقد كان هناك زمن لم يكن فيه الزمن تعاقبا وانتقالا، بل انبثاق متواصل لحاضر ثابت، يتضمن كل الأزمنة، الماضي والمستقبل. وسقط الإنسان بعد أن فقد هذه الأبدية حيث كانت الأزمنة واحدة، في الزمن المعدود وتحول إلى سجين للساعة والروزنامة والتعاقب. وما كاد الزمن ينقسم إلى أمس ويوم وغد، إلى ساعات ودقائق وثواني، حتى كف الإنسان عن التوحد مع الزمن، وكف عن التطابق مع تدفق الواقع. حين أقول في «هذه اللحظة»، تكون قد مرت هذه اللحظة، فالقياس المكاني للزمن يفصل الإنسان عن الواقع، الذي هو حاضر متواصل، ويجعل من كل أشكال الحضور التي يتجلى فيها الواقع أوهاما، كما يعلمنا ذلك «برغسون».
إذا ما فكرنا في طابع هذين المفهومين المتعارضين، نستخلص أن الزمن المعدود هو تعاقب منسجم وخال من الخصوصية، مساو لذاته دوما، مستخف باللذة أو الألم، إنه ينصرم فقط. إن الزمن الأسطوري، خلافا للزمن المعدود، ليس تعاقبا منسجما لكميات متساوية، بل هو مشبع بكل خصوصيات حياتنا: طويل كالأبدية أو قصير كنفس، مشئوم أو سعيد، خصب أو عقيم. هذا المفهوم يسلم بوجود أزمنة عديدة. ينصهر الزمن والحياة، ويشكلان كتلة واحدة، وحدة لا يمكن تفكيكها. لقد كان الزمن، بالنسبة للأزتيك، مرتبطا بالفضاء،وكل يوم بجهة من الجهات الرئيسية. ذلك هو ما يمكن قوله عن أي تقويم ديني. فالعيد أكثر من مجرد تاريخ أو ذكرى، ليس احتفالا، بل إعادة إنتاج لحدث: فصم الزمن المعدود إلى زمنين، لكي يحل الحاضر الأبدي من جديد، خلال ساعات معينة لا تقبل القياس. يجعل العيد الزمن خلاقا، والتكرار حبلا. يلد الزمن ويعود العصر الذهبي. الآن وهنا، في كل مرة يحتفل فيها الكاهن بطقس القديسة «ميسا»، ينزل المسيح فعلا. يرعى الناس ويخلص العالم. إن المؤمنين المخلصين، كما يريد ذلك كيركيغارد، معاصرون للمسيح، فليس في العيد الديني أو الأسطورة وحدهما، يقتحم الحاضر الزمن، ويفك التعاقب التافه. ويكشف لنا الشعر والحب أيضا أن هذا الزمن الأصلي عابر. «زمن مديد ليس أبدية» يقول خوان رامون خيمينيس، متحدثا عن أبدية اللحظة الشعرية. وبدون شك، فإن تصور الزمن كحاضر ثابت وآنية خالصة، هو أكثر قدما من تصور الزمن المعدود، وهو ليس إدراكا مباشرا لاندفاق الواقع، بل عقلنة لتدفق الزمن. إن الثنائية السابقة تعبر عن ذاتها من خلال التعارض بين التاريخ والأسطورة، أو بين التاريخ والشعر. فزمن الأسطورة مثله مثل زمن العيد الديني، أو زمن حكايات الأطفال لا يتضمن تواريخ: «حدث ذات مرة»، «في العصر الذي كانت فيه الحيوانات تتكلم»، «في البدء…» وهذا البدء ـ الذي لا يتحدد في سنة معينة أو يوم معين ـ يشمل كل البدايات، ويدخلنا في الزمن الحي، حيث يبدأ حقا كل شيء، وكل اللحظات. وبفضل الطقس الذي يحقق، ويعيد إنتاج المحكي الأسطوري، والنص الشعري وحكاية الجنيات، يبلغ الإنسان عالما تنصهر فيه الأضداد. «كل الطقوس تملك خاصية الحدوث الآن، هذه اللحظة»(5)، وكل قصيدة نقرأها هي إعادة للخلق، أعني احتفالا طقوسيا، عيدا.
إن المسرح والملحمة هما أيضا عيدان، واحتفالان. في التمثيل المسرحي كما في الإنشاد الشعري، يتوقف الزمن العادي عن التدفق، ويترك مكانه للزمن الأصلي. بفضل المشاركة، يلاقي هذا الزمن الأسطوري، الأصلي والأب لكل الأزمنة التي تحجب الواقع، زمننا الداخلي والذاتي. إن الإنسان، وهو سجين التعاقب، ليحطم سجن الزمن اللامرئي، ويبلغ الزمن الحي: تطابق الذاتية في النهاية الزمن الخارجي، لأن هذا الأخير كف عن كونه قياسا مكانيا، وتحول إلى منبع، إلى حاضر خالص، لا يكف عن إعادة خلق ذاته. بفضل الأسطورة والعيد ـ دنيويا أو دينيا ـ يكسر الإنسان العزلة، ويعود إلى التوحد بالخلق من جديد. وهكذا تكاد الأسطورة ـ المقنعة والسرية والخفية ـ أن تظهر من جديد في كل أفعال حياتنا، وتتدخل على نحو حاسم في تاريخنا: تفتح لنا أبواب المشاركة.
لقد عقلن الإنسان المعاصر الأساطير، لكنه لم يستطع تدميرها.
فكثير من حقائقتا العلمية، مثلها مثل الجزء الأكبر من تصوراتنا الأخلاقية والسياسية والفلسفية، ليست سوى تعابير جديدة عن ميولات تجسدت من قبل، في أشكال أسطورية. ولا تكاد اللغة العقلانية لعصرنا تخفي الأساطير القديمة.
وتعبر اليوتوبيا بعنف مركز، وخاصة اليوتوبيات السياسية الحديثة، على الرغم من خطاطاتها العقلانية التي تخفيها، عن هذا الميل الذي يدفع كل مجتمع، إلى تخيل عصر ذهبي انتشلت منه المجموعة البشرية، وسيعود إليه الناس في اليوم الموعود. وتجسد سلفا الأعياد الحديثة ـ الاجتماعات السياسية، الاستعراضات، التظاهرات وطقوس أخرى ـ يوم الخلاص. يأمل الكل أن يعود المجتمع إلى حريته الأصلية، والناس إلى صفائهم البدائي، وبذلك سيتوقف التاريخ، وسيكف الزمن (الشك والاختيار القسري بين الخير والشر، بين العدل والظلم، بين الواقع والخيال)، عن سحقنا. ستعود مملكة الحاضر الثابت والمشاركة الأبدية: يلقي الواقع بأقنعته، ونستطيع في النهاية معرفته، ومعرفة أمثالنا.
إن كل مجتمع يحتضر، أو في طور العقم، ملزم بإنقاذ ذاته بخلقه لأسطورة الخلاص، والتي هي أيضا أسطورة الخصب والخلق. العزلة والخطيئة تتحولان إلى مشاركة وخصب. إن المجتمع الذي نعيش فيه أنجب أيضا أسطورته. فعقم العالم البورجوازي يفضي إلى الانتحار أو إلى شكل جديد للمشاركة الخلاقة. تلك هي «تيمة زمننا» حسب عبارة « أورتيكا وجاسيت»، مادة أحلامنا ومعنى أفعالنا.
إن الإنسان المعاصر يدعي أنه يفكر بيقظة، لكن هذا الفكر اليقظ قادنا نحو دهاليز كابوس متعرج، حيث تضاعف مرايا العقل غرف التعذيب، وربما أثناء خروجنا نكتشف أننا كنا نحلم بعيون مفتوحة، وأن أحلام العقل فظيعة. ربما سنشرع إذاك في الحلم مرة أخرى، بعيون مغلقة.
الهوامش:
1ـ لوسيان ليفي برول: العقلية البدائية. باريس 1922
2ـ المرجع المذكور.
3ـ أمابل أودان: الأعياد الشمسية. باريس1945 4ـ بصدد مفهوم «المكان المقدس» أنظر (مرسيا إلياد): تاريخ الأديان. باريس 1949
5ـ فان دير لوي: الإنسان البدائي والدين. باريس 1940
1