في اليوم الأول لسفري كان الجو ماطراً، ما زلت أتذكر الحشود التي تصعد إلى الطائرة، كنتُ ضئيلة حينها، ولا أعرف لما حسمتُ أمر ألا أعود دون أن أتخلص من كل الأعباء التي ألقتها تربيتي عليّ. كنا قد وضعنا حدوداً للتعامل مع كل شيء، أشكالاً ونماذج لصور التعامل مع الآخرين وذواتنا، وكلما اقتربنا من ذواتنا كما هي، صادقة وعارية من التزييف، ضربنا أبي بعصا صنعها من سعف النخيل في قريتي البعيدة. كان يربطنا في عود النخلة، يتركنا قليلاً هناك، يذهب لساعات ثم يعود مستعداً لضربنا. تلك الساعة التي كنتُ أقضيها لوحدي، كانت كل رصيدي من التأمل ومحاولة فهم الحياة. أستعيد كل هذه التفاصيل عندما أصعد السلم إلى الطائرة. تحييني المضيفة الفاتنة بابتسامة آلية، وضعتها على محياها تقديراً لمتطلبات العمل، كم يحزنني أنها تضطر لهذا، ويسعدني أنني من حظي بفرصة الرد عليها بابتسامة أخرى.
أمشي في الممر الطويل للطائرة، أبحث عن مقعدي مثلما كان براد فرانكل يبحث عن مقعده في فيلم “الحياة في مكان آخر”، أجلس وأبدأ بقراءة التعليمات التي وضعت في ظهر المقعد الذي أمامي، أقرأها لأقضي الوقت بينما نقلع، لستُ من النوع الذي يخاف فقدان حياته. كنتُ دائما مستعدة لأن أرحل دون عودة.
بينما تهبط الطائرة في الكويت، كان رأسي يطن، وعيني غائرتين، لا بد وأنّه استقبال حافل، قلتُ لنفسي، عندما نزلت في مطار الكويت لأول مرة، كان كل شيء مألوفاً، هذا ما تخيلته تماماً، والأهم من هذا كله، أن لا أحد يلاحظني بعد الآن، أنني اذوب في الحشود، الناس على اختلاف مشاربهم وأذواقهم يمشون دون أن يلتفت أحدهم للآخر، أشاهد الكثير من النساء اللواتي يضعن خماراً لتغطية الوجه، مثل أمّي تماماً، والكثير من النساء اللواتي اخترن ألوانا صارخة للشعر والمكياج. كان الجو بارداً، وهذا ما لم أعتده في قريتي، فحتى وإن كانت درجة الحرارة في أدنى مستوياتها، لم يكن ثمة داعٍ لارتداء الملابس الشتوية. فجأة شعرت بالدوار وأنا أدخل من بوابة “القادمون” كانت الجماهير الغفيرة تنظر اليّ، كلٌ منهم ينتظر قريباً أو صديقاً، كانت تلك الدقائق أشبه بقرن كامل.
الكويت، الشوارع المتهالكة، الجسور التي تضع إعلانات لمنتجات رديئة أو لكراجاتٍ في الجوار، زحام السيارات، وضجيج مكبرات الصوت في السيارات الفارهة، الكويت ليلاً بينما تنام قريتي في هدوئها الأول، في وحشتها التي لا تتغير.
وصلتُ إلى غرفتي، كدت أطفو في الهواء، لفرط الخفة والسرور، لم أمتلك يوماً مكاناً لي وحدي، ولطالما شعرت أن الأمان الحقيقي هو أن تتمكن من امتلاك غرفة بمفتاح يخصك لوحدك، في القرية كنت مع ثلاثة من اخواتي، بمزاجات مختلفة، وجداول حياة متباينة، أخرجتُ دفتر مذكراتي، طويلٌ وسميك، وفي طرف الورقة كتبتُ التاريخ، ووقفت بعدها عند النافذة، أشاهد ليل الكويت وهو لا يغلب أعمدة الانارة وأضواء البنايات العالية التي توشك على أن تكون وحشاً سيلتهمك في الحال.
لم أنم في تلك الليلة، كنتُ أحس بالأشياء أكثر من المعتاد، والذي يسلم رايته لمشاعره لا بد وانه يسلم دفة القيادة لدمه، دمه الذي يندفع دون رادع، هكذا ذهبت إلى الجامعة في اليوم الاول، مدفوعة بحرارة لا مثيل لها لعيش الحياة كما أريد. راقبتُ فك المدرس وهو ينطق بالكلمات، بلكنة تبدو لي ثقيلة، يأمرنا الآن أن نتأكد من انضمامنا لهذا الصف. يوزع علينا أوراق توصيف المقرر، مادة ” مقدمة في الجغرافيا السياسية”
عندما كان يتحدث، لم أكن استطيع سماع صوته، كان كل شيء مموها في مخيلتي، بينما كان يتحدث عن البحر الأحمر، وقناة السويس، كانت أشجار النخيل السامقة في قريتي تتكاثر على نحو غريب، بدأت اشاهد وجوها من في الصف كما لو أنهم يشاركون في جريمة ضربي وأنا مربوطة هناك، كنتُ لا أسمع شيئاً، صوت العصافير يخفف علي وطأة الضبابية. استيقظت من حلم ثقيل وأنا في استراحة الكلية. كان كل شيء رائعاً، الطقس ربيعي والأحلام ما زالت تنتظرني في مكان ما في هذه الجامعة.
* عنوان النص مقتبس من مجموعة شعرية لإيمان مرسال بنفس العنوان.
أمل السعيدي