حمود سعود
كاتب عُماني
في مديح المحو
في المحو ذاكرة ونبل وغياب شفّاف، هو نسيان نقيّ، وارتقاء عن مزاحمة الأشياء والطرق والحضور والخديعة، هو انحسار خفي عن أعالي الوهم، تساقط ضروري إلى شرايين النبع. يمحو الشاعر كلمات من قصيدته في الليل، تظلُّ الكلمات التي أعدمها الشاعر عالقة في رأسه، يحملها إلى سريره، تقلقه، يعود إلى قصيدته على الطاولة، يجدها قد نامت، لا يُريد أن يُقلق القصيدة بقلقه، يحاول محو قلقه بأن يكتب قصيدة عن الكلمات التي شنقها بالممحاة أو بـ(ماوس) الحداثة. المحو غياب أوليّ، وتجلٍّ عميق للظلال، ومراوغة فلسفيّة للموت، فكلُّ محو له حضور خفي. تمحو الحياة صور الطفولة، وروائح الأشياء، ضحكات الأصدقاء، فتحضر كل تلك الصور في حدائق التذكر أو في قلق الأحلام أو في أفخاخ الحنين. تمحو الدموع حزن الغائبين، فيترسب حضورهم في الروح.
المحو والنسيان وجهان أو طريقان إلى عملة واحدة هي الهامش، خطان يتجاوران ولا يلتقيان، سلّمان لا يطلان على شيء، سيقول لك المحو أنا أنبل من النسيان، النسيان فعل نكران، وتعمد وتجاهل أحيانا، هل تنسى ذاتك، طفولتك، صوتك وجهك، ألمك الخاص؟ سيرد النسيان وقد نفض عن أطرافه غبار الإهمال وأشواك الحضور التي قيدته، من قال لك ذلك أيها المحو؟ وهل علينا أن نستعمل أفعل التفضيل ونحن أبناء سلالة الهامش؟ ينسى الطفل دفتره في البيت فيقلقه غضب المعلم، هو لم يفكر بفعل النسيان بقدر خوفه مما سيأتي لاحقا. تنسى العاشقة الوردة التي تريد إهداءها إلى الرجل الذي ينتظرها على كرسي الحديقة، تتوتر كثيرا، لا يهمها كلام الرجل قدر تفكيرها بالوردة المنسية. ينسى الرجل عدّ الشعرات البيضاء التي نبتت في شاربه، لم يقلقه بياض الشعر قدر قلقه من سواد العمر الذي قضاه دون أن يشعر. ينسى الجنرال نجومه وسيوفه التي علقها بقميصه وتعلّق بها، هو لا تقلقه الدماء التي سفكها، بل ينهض من نومه مفزوعا على السيوف والنياشين، فيلبسها ويعود إلى نومه ناسيا ومتناسيا كل الذين خنق أحلامهم وأعمارهم. ينسى الطفل نطق كلمة بحر، فتحاصره الحيتان في أحلامه، أنت أيها المحو قد تنسى تاريخك، وتنسى كل الذين محوا الكلمات والأحلام والأشواق وقلوبهم وحياتهم وجلاديهم، ومحوا الطريق والرحلة والمسافر، وتتذكرني أنا؟ أنا ليست لي علاقة بالذاكرة، لا تاريخ لي، لا سلالات أنتمي لها، لا أمكنة تحتويني، أنا ابن لحظة منسية مهمشة من زمن لا يلتفت له أحد. يلهث البشر والمهوسون بالمجد الزائف للبحث عن الذاكرة، متجاهلين وجودي، لا أحد يدون النسيان، لا أحد يرسم النسيان، لا أحد يُغني للنسيان. المنسيون لا يبحثون عن خلود، ولا عن تاريخ يقيد أوهامهم وهشاشتهم. المنسيون أبناء اللحظات الهامشية والزمن الجارح، ولكنهم يصنعون من الهامش حياة أخرى، يعيدون ترتيب أبجدية الزمن، وسلّم المعنى، يشقّون دروبا ضيقة لرحلتهم، تضيق الرحلة وتتسع الدروب لهم. المصابون بالنسيان يُتركون في المستشفيات، يعيدون ترتيب زمنهم الخاص، وأبجدية اللغة. وفي مستشفيات النسيان، يرسم المنسيون طفولتهم على الستائر المغلقة، يرون طفولتهم تركض في الجدران البيضاء.
صمَت المحو، حاول أن يصنع له لحظة، لحظة هاربة من التهميش، فقال: أنا صديق التلاميذ الصغار، أنا كنت معهم في لحظات العثرات الأولى، يركضون وراء الحروف وأصابعهم ممسكة بأقلام الرصاص، وعندما يتمرد الحرف أو ينكسر أو يذبل قليلا، تأتي السيدة الممحاة بكل زهوها وغنجها لتعدم التمرد، يبتسم التلميذ عندما يمدد جسد الحرف على الخط. يقول المحو حينها، حتى أنتِ أيتها الممحاة من حزبنا، فلا داعي لكلِّ هذه النرجسية، لا دور لكِ سوى المحو، هل فكّرتِ يوما بوظيفة لكِ في هذا العالم؟ تزيحين الحجارة والأشواك عن طريق اللغة، فتصبح الكلمات فخًّا للتلاميذ.
في الطرق البعيدة التي تشكلها أقدام الرعاة والمسافرون، والباحثون عن عزلتهم، تأتي الريح فتمحو الآثار، وتمحو تاريخ الطريق وسلالات الدروب. فيعود الرعاة والمسافرون والباحثون عن عزلتهم ليشقوا طرقهم فوق المحو المنسي. يمحو الزمن ذاكرة الأشياء، يأتي الإنسان لينحت ذاكرة للأشياء المنسية طامعا في خلود متوهم له. ويقع الزمن أحيانا في شباك المحو، يمحو المؤرخ تاريخ الأشياء، والأحداث، والحروب، طمعا في مال السلطة أو خوفا من سيوفها. ويذهب هذا المؤرخ إلى حدائق النسيان ليزرع تواريخ تُمجّد الطغاة.
المحو يتبع ذئب القلق، كل قلق يتبعه محو، حين تقلق المدن تمحو ذاكرتها، وحين يقلق الماء يمحو جوهره، يقلق الزمن فيجرح كبرياء الفيلسوف. هل يفكر المحو في ذاكرته؟ هل يبني هذا المحو ذاكرة قصيرة لأحلامه؟ أم لا ذاكرة لسلالات المحو؟
المعرفة قائمة وساكنة في المحو، لا تمدُّ المعرفة خطوة إلا لتمحو خطوة سابقة، لا يكتب الشاعر نصّه إلا على آثار محو سابقة. الرماد محو أبدي للغابة والمعنى والحكاية. الألوان ذاكرة محو لعزلة البياض، الندم محو متأخر لشعور أو حماقة، الظلال محو حالم لضوء خادع. الميناء محو شاعري لمعنى الوداع. القطارات محو لحكايات العابرين على الصباحات.
الجسر
جسور تربط الضفاف وتكسرها، وضفاف تعانق جسورًا خشبيّة، وجسور تكسر ألفة المكان، الكلام جسر من الكلمات المنكسرة، الكلمات جسر خشبيّ من الخيبات والصور، تقف امرأة على الجسر لتقذف بخيبات العمر، يصرخ بها الجسر، ما الذي فعلته بقلبكِ؟ يقف العالم على جسر اللغة، تربط اللغة جسور المعاني والشعوب. الشعوب جسور من الروائح والحكايات، والحكاية جسر ممتد من الدهشة. الجنازة جسر بين ضفة الحياة العابرة وحقيقة الموت. الخيبات جسر بين الحلم والواقع.
بينك وبين الحنين جسر، بينك وبين طفولتك جسر آخر، بينك وبين المعنى جسر لا مرئي، بينك وبين الحب جسر من الأغاني، جسر من الأحلام لا ضفاف لها، الزمن جسر من الخسارات، لا أحد يقف على جسر الزمن إلا الفكرة. التاريخ جسر بين الأكاذيب والغزاة، الفن جسر من القلق والعتمة. ينحت الضجر في روحك جسورا من الخيبات والظلال والروائح، ولكنك لا تعبر إلى الضفة الأخرى. فضفاف روحك عالقة في الينابيع الأولى.
الموسيقى جسر لمن لا ضفاف لهم، الخيال جسر لمن لا يملكون تذكرة سفر، والسفر جسر للغياب المتكئ على الحضور. الخيبة جسر بين خيال العاشق ولا مبالاة العاشقة، الجسور تحمل الرعاة إلى ضفاف العشب، ونداءات الفجر، وتحمل الغزاة إلى أبواب الدم ودروب الخراب، وتحمل الشعراء إلى ضفاف المعنى الذي لا يُرى، وتحمل الفلاحين إلى جذور الأرض وأمومتها. الحدائق جسور للعشّاق والخيبات، كراسي المطارات جسور من الدمع والمنافي. جسور الشوارع عميان تركوا تحت الصهد.
للحرب جسر، وللحب جسر آخر، للشاعر جسره المكسور بالعاطفة، وللجنرال جسره الرابط بين الدم والخراب، للرماة جسورهم، وللرعاة دروبهم. للجسر جناحان: الماء، والأعالي. يتذكر الجسر تاريخ سلالاته الأولى، عندما سقطت شجرة ميتة على ضفة النهر، ومشى فوقه ذئب جائع. وبعدها مرت حيوات وحكايات وأزمنة فوق الجسر الأول. لا يتذكّر الجسر من أسقط الشجرة، لكنه يتذكر الأقدام التي عبرت فوقه. لا تتذكّر الشجرة ولا الجسر الريح التي عبرت. الغراب جسر بين الخطيئة والموت، الجسر جسر بين زمن ومكان، بين تذكّر وجرح.
لفيروز جسرها الذي رسمته في مخيلة عشّاق لم يعرفوا اللوزية، ولكنهم رسموه في مخيلتهم العاطفية، يعبرون فوق جسور الإسمنت والحداثة، ولكنهم لا يشعرون بجسر المغنيّة، والغربي الذي هبَّ على جسر اللوزية لا يشبه غربي هذه البلاد. فغربي اللوزية يطيب تحته النوم، وغربي بلادك يجعل الموتى يهربون من قبورهم.
«يعبرون الجسر في الصبح خفافا
أضلعي امتدت لهم جسرًا وطيدْ
من كهوف الشرق، من مستنقع الشرقِ
إلى الشرق الجديدْ
أضلعي امتدت لهم جسرا وطيدْ
«سوف يمضون وتبقى
فارغ الكفين، مصلوبا، وحيدْ
صنما خلَّفه الكهان للريحِ
التي توسعه جلدا وحرقا”1
في جسور مقاطعة ماديسون، تلتقي روح رجل عابر بروح امرأة متدثرة بالوحدة والهدوء، تبني جسور الأسئلة بينهما ضفافا من العاطفة، ورمادا سينثر على الجسر بعد رحيل الرجل العابر، وموت المرأة. الجسور الخشبية في مقاطعة ماديسون، حرّكت سفن المرأة وعصفت بأشرعة الرجل. ماذا سيفعل الجسر برماد امرأة عاشقة؟2
جسور الطين أبناء الأرض الأوفياء، جسور الخشب أبناء الغابة التي احترقت بنار الارتحال، جسور الحديد لا عائلة لها، فهي مسخ الحداثة. جسور الحبال شعراء مجانين يركضون في الريح. للجسور أحلامها أيها العابرون إلى ضفاف العالم والزمن. ترمون أشواقكم وعواطفكم المعطوبة، حنينكم إلى النهر، ترمى الجثث في النهر، من فوق الجسر، ثم تتركون الجسر يلملم خيباتكم ويدفن الجثث. هل فكّر أحدكم أن يُهدي هذا الجسر وردة أو أغنية، هل فكر النهر يوما أن يُغنّي لتعب الجسر؟
الأنهار ظلال منسية للجسور، لا يدرك تعب الجسر سوى ماء النهر، يشتكي الجسر للنهر من أقدام البشر، يحدثه عن أقدام تقف على حافة الجسر لتنظر إلى الزمن العابر، وتقف أخرى لتعانق أصابع الجميلات، وتقف الأقدام المتعبة فوق الجسر لتفكر في الانتحار، وتقف أقدام الشعراء ليحدثوا الجسر عن خيبات العمر وانكسار المعنى. يمر الأطفال ليذكروا الجسر بطفولته الغائبة. يمر الجنود فوق الجسر ليخبروه عن قبح الحياة. تمرُّ أقدام الجدات على الجسر لتذكّره بجرح الزمن، تمر الصباحات فوق الجسر لتذكّر الجسر بفاجعة الزمن، يقف الطائر فوق الجسر لينظر إلى ضفاف الحنين.
الهوامش
1 – مقطع من قصيدة الجسر، للشاعر خليل حاوي.
2 – إحالة إلى أجواء الفيلم الأمريكي: جسور مقاطعة ماديسون، (1995)، للمخرج: كلينت إيستوود، الفيلم مقتبس من رواية تحمل العنوان نفسه، للروائي الأمريكي روبرت جيمس والر.