رضا عطية
ناقد أدبي مصري
ينفتح سرد الكاتب المصري، مجيد طوبيا (25/ مارس/ 1938- 7/ أبريل/ 2022)، على عوالم متعددة، مكانًا وزمانًا، ويمتدُّ في تجربة ثرية ومتنوعة، رواية وقصة، بين استحضار التاريخ القديم، ومواكبة العصر بحداثته وتحولاته الفارقة، وينتمي مجيد إلى جيل ظهر وبرز بعد هزيمة يونيو/ حزيران عام 1967، حيث كان همه، كمعظم رفاقه من أبناء جيله، البحث عن صياغات فنية جديدة وشكل كتابي مميز في مواجهة أجيال الرواد في الرواية والقصة المصرية والعربية.
انتمى طوبيا إلى الجيل الذي ضم أسماء بارزة في السرد المصري مثل جمال الغيطاني ويوسف القعيد وصنع الله إبراهيم وبهاء طاهر ومحمد البساطي وصبري موسى ومحمود دياب، وغيرهم. هذا الجيل الذي كان معنيًّا بالتجريب والبحث عن طرق أخرى للكتابة غير التي سلكها الرواد أمثال توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويحيى حقي وفتحي غانم ويوسف إدريس وغيرهم. اتسم مشروع طوبيا الكتابي بالتوازن كمًا ونوعًا، فلم يكن من الكتُّاب المُسرفين في إخراج عدد كبير من النصوص الإبداعية كما أنه لم يكن كذلك مُقِلًَا، فيبدو عدم مجانيته في الكتابة. وقد راوح في كتابته بين الرواية والقصة والسيناريو السينمائي والأدب الساخر وأدب الطفل.
التخييل التاريخي واستلهام التراث
سعى مجيد طوبيا، كعدد من مجايليه، إلى استعادة التاريخ في عدد من رواياته، غير أنَّ استعادة التاريخ لم تكن مجرد تسجيل لأحداثه، وإنَّما إعادة بناء سردي تأسيسًا على واقعة أو مجموعة من الوقائع التاريخية، ليكون هذا طريقًا مختلفًا وأسلوبًا سرديًّا مغايرًا عن أسلوب سرد الواقعية الذي كان في الرواية عند نجيب محفوظ والقصة عند يوسف إدريس، أو الرمزية الأمثولية عند نجيب محفوظ في أولاد حارتنا، فيكون التاريخ مادة أولى تُعاد صياغته سرديًّا وبناء حكايته دراميًّا، استلهامًا له وإسقاطًا عليه، فضلًا عن التعريف به أو بالأحرى التركيز على بعض حوادثه المهمة.
في روايته «تغريبة بني حتحتوت»، التي جاءت ضمن أفضل مائة رواية عربية في القرن العشرين، يستلهم فيها طوبيا التراث الشعبي وفن السيرة، وتحديدًا سيرة بني هلال، مع تمايزات عديدة، حيث اغتراب بني حتحوت الذين موطنهم «تلة» بمحافظة المنيا، ارتحالًا نحو الشمال عبر النيل، وفي الجزء الثاني هربًا نحو الجنوب بعد قتل الحفيد «حتحوت» لفرنسي أثناء الحملة الفرنسية على مصر، فتنتمي هذه الرواية إلى نوع الرواية الملحمية، رواية الأجيال، إذ تبدأ أحداثها من العام 1754، وتمتد إلى أوائل القرن التاسع عشر.
ويتجلى التميُّز الفني في تغريبة بني حتحتوت، في كونها سيرة للجماعة والمكان والوطن في حقبة تاريخية بعينها:
وحملهم التيار معه شمالًا، ومع كل مغيب يبيتون إلى جوار الشاطئ بعد شراء التموين. ومضت الأيام والريس جابر يُحدِّثهم عن النيل، وعن مصر حديث العارفين:
– لما خلق الله آدم وجعله يرى ما ستكون عليه الدنيا شرقها وغربها، ومن سيسكنها من الأمم، نظر آدم إلى مصر، فرآها أرضًا ذات نهر جارٍ مادته من الجنة، فدعا في النيل بالبركة، ومن يومها وهو النيل المبارك، وهو سيد أنهار الدنيا.
فنظروا جميعًا إلى النهر نظرة جديدة. وبعد شهر سمعوا صوتًا آتيًا من بعيد وكأنَّه صوت السواقي، ثم عبروا بجوار شاطئ الجيزة، فرأوا البساتين وقصر إسماعيل بك الفاخر الذي يقود الحرب ضد الغزّ، وعلى مدى الشوف رأى مرسي في صحراء الجيزة الأهرامات الباقيات، ولمح رأس أبي الهول يطل من فوق الرمال التي تغطي جسده كله، وقال العجوز جابر عن الأهرام:
– ليس على وجه الأرض بناءٌ باليد- حجر على حجر- أعظم منها.
– ومن بناها؟
– قيل إنَّه شداد بن عاد، لكنَّ القبط ينكرون دخول بني عاد مصر، لأنَّ مصر كانت تحميها الطلاسم، ويقفل السحر حدودها.
– فمن بناها؟
– قيل -والله أعلم- أحد ملوك مصر قبل الطوفان الذين كانوا يسكنون «الأشمونين» بالمنيا عندنا.
– أنا أصدِّق هذا. لماذا بناها؟
– قيل إنَّه رأى في المنام أنَّ الطوفان سيغرق الأرض، فلما أصبح أحضر جميع رؤساء الكهنة من جميع أهل مصر، وكانوا مائة وثلاثين كاهنًا، وسألهم إن كانت آفة الطوفان ستحلُّ ببلادنا، فقالوا نعم، فأمر ببناء الأهرام، وجعل في داخله الطلاسم، والأموال، وأجساد الملوك الأوائل، ونقش في سقوفها وحيطانها جميع العلوم الماضية كي يعرفها الأبناء والأحفاد.
يكشف الحوار الذي تقيمه الصياغة السردية عند مجيد طوبيا، عن الجدل الفكري والنقاش الرؤيوي الذي يُمثِّل جوانب الوعي للشخصية الجمعية المصرية في تلك الحقبة الزمنية من النصف الثاني من القرن الثامن عشر وما كان يشاغلها من تساؤلات وجودية حول معالم وعلامات في حياة المصريين، كنهر النيل والأهرامات. ويتبدَّى ربط الوعي الجمعي لدى المصريين -قبل فكِّ رموز حجر رشيد من «شامبليون» الذي أفضى إلى استعادة وفهم تاريخ مصر الفرعوني- أصول الأشياء ومد جذورها بمبادئ الخلق الوجودي، كما في تمثُّل نهر النيل منحدرًا من الجنة والأهرامات بناء شيِّد للوقاية من الطوفان، فيتبدَّى النزوع إلى التصوُّرات الأسطورية في فهم العالم وتفسير الوجود، فثمة تقاطعات يقيمها الوعي بين الأحداث التاريخية الكبرى كبناء الأهرامات ومقدم الطوفان، ولا تخلو رؤية العالم عند «أهل مصر» في ذلك الزمن من التصوُّرات المثيولوجية.
عوالم الريف العجيبة
مما غاص فيه سرد مجيد طوبيا، عوالم الريف المُدهشة، وجلاء وعي الشخصية الريفية بما تؤمن به وتعتقد فيه من عجائب وغرائب في وعيها بذاتها وبعالمها، ما تكابده من معاناة وما تحمله من هموم وما تعانيه من مآسٍ، وكيف تحاول مدواة آلامها، وكيف تتشكل أفكارها وتتكوَّن رؤاها، كما في أولى روايات مجيد، دوائر عدم الإمكان، التي تأتي أقرب إلى نوع «النوفيلا»، وتحكي قصة مأساوية لمعاناة بطل الحكاية، «عواد» من غياب زوجته، «هنومة»، التي ضاقت بعدم الإنجاب الذي كان حلم «عواد»، كأي ريفي، أن ينجب الذرية، وأن يأتيه وريث:
أزَّ الباب منفتحًا عن دار أم السعد الداية، بانت الصفيحة في يد ولدها السمين محروس، ثم ظهر وجهه المستدير، مسرعًا مشدودًا إلى صوت الأولاد، رآني، فتردد وخبَّأ الصفيحة خلف ظهره. دخلت عليه فتسمَّر مكانه خائفًا… سألته عن أمه، تراجع حتى الحائط وصوته يتلعثم:
– زوجة سائق الجرَّار تلد، أمي تولِّدها.
تركت المكان فجرى، وابتعد، لكنّي أفهم كل شيء، بعد قليل سيحوم من حولي محتميًا بالأولاد، البدين ابن الداية.
امتدَّ خيالي أمامي طويلًا باهتًا، فأدركت أنَّ نور القرص يأتي من ورائي وفي ظهري، تضايقت وغيرتُ اتِّجاهي، وألقيت بظلي خلفي، فجاء البشع بنفسه في وجهي… استدرت وجعلت ظلي عن يساري، لكن أصوات الملاعين اقتربت من أمامي، فكرهتُها، وألقيتُ بظلي إلى يميني… وسرتُ أخترق القرية ولم أنادِ.
لكني بعد ذلك رأيت العجلة الكبيرة نائمة فوق التراب، ونجَّار السواقي يدقُّ فيها المسامير… رآني فتوقف، ونظر إلى القرص، ثم إليَّ، ثم إلى ظلي الباهت، وتصعَّب وعاد إلى ساقيته الجديدة يدق فيها المسامير، فسمعتُ الدقات وتركته، وطفت أنادي.
يتسم سرد مجيد طوبيا بالتنوع في عناية الوصف السرد ما بين رسم الأحداث الكبرى، كغياب «هنومة» وبحث «عواد» عنها ومناداته عليها، ووسم الأحداث الصغيرة والتفاصيل الدقيقة، كالتوتر الدائر بين الذات، «عواد»، وظلها المنعكس في مراوحاته. ويعمل سرد طوبيا على تشعير المواقف واللفتات الصغيرة، فيبدو وعي الذات بخيالها (ظلها) طويلًا باهتًا، عاكسًا لشعور بحضورها الباهت رغم طوله وما يشغله من حيز مكاني، غير أنَّه حضور شاحب، كما تعكس مراوحات الذات لتغيير موضع ظلها حالة الشتات النفسي والانقسام النفسي الذي تعيشه، إذ يرمز الظلُّ إلى الذات الأخرى، الذات الشبحية، أو القرين أو الذات الضد.
ثمة تعدد في شخصيات الحكاية في سرد مجيد طوبيا، ما بين شخصيات فواعل رئيسيين في السرد، ويتنوعون أيضًا ما بين أبطال بالحضور مثل «عوَّاد»، أو بالغياب مثل شخصية «هنومة». كذلك ثمة فواعل ثانويون أو شخصيات عابرة تمثل الخلفية المشهدية أو هم بمثابة «الحشو» المساعد على اكتمال النسيج الدرامي، كشخصية «الطفل» البدين ابن الداية، وأصدقائه من الأطفال، أو شخصية «نجِّار السواقي». وتبدو شخصية «نجار السواقي» -رغم كونه شخصية عابرة- ثانوية الفاعلية، كنموذج للشخصية السلبية المضادة لشخصية البطل والمحبطة له والمثبطة لعزيمته، ولكن هل ثمة موازاة شعرية تؤسس على التناظر الاستعاري بين الساقية التي يدق فيها النجار مساميره والبطل «عواد» الذي يدور في البلدة، بحثًا عن زوجته الغائبة «هنومة» وما يلاقيه من مشاعر الرثاء لحاله، كما في «تصعَّب» نجار السواقي، تلك المشاعر التي قد تكون بمثابة «مسامير» مؤلمة لها وخزها الموجع، كالمسامير التي يدقها النجار في السواقي؟
تعمل رواية «دوائر عدم الإمكان»، على كشف بنية الوعي للشخصية الريفية المصرية، ضمن بنية الحكاية المتنامية دراميًّا:
عرقت الحامل رغم البرد، تأوهت وتصلب جسدها. (….) غطتها أم السعد وعادت تقول:
– ناحت البنية وانكمشت باكية. فكَّرت وقلت لم يعد لها إلا حلب النجوم، ربنا يسهِّل لها… فكَّرت وقلت الأمل في حلب النجوم، ووصفة الأسلاف لا تخيب… اصعدي يا غالية إلى سطح دارك، ومعك يا غالية لبن حمارة حديثة الولادة، ثم قومي بحلب النجوم… شهقت البنية وقالت إنَّها لا تعرف؛ فشرحت لها الأمر، وقُلت لها: انذري للأولياء، علَّ باب السماء يكون مفتوحًا.
اهتزت العجوز في الركن المعتم:
– أصيلة يا أختي، لكنَّ المكتوب لا رادَّ له.
– أبدًا يا حبيبتي…
تحرَّكت الحامل فجأة، لو تلد الآن- الصمت- لو تلد الآن؟ أريد أن أرى طفلًا يخرج، بفمه وبساقيه وبقدميه وبرأسه وبكل الإنسان، يخرج من الفتحة الصغيرة ليبكي!!… أنا خرجت لأكبر وأتألَّم وتهجرني هنومة وأبكيها وأدور في كل القرية أناديها، وسأظل أناديها حتى تعود.
يبدو سرد مجيد طوبيا أقرب إلى أساليب السرد السينمائي؛ إذ يعتمد في صياغته السردية، كما في المقطع السابق من الرواية، على تقنية المزج المونتاجي والمراوحة بين المشاهد؛ مشهد آني: حيث تقوم الداية، «أم السعد»، بتوليد زوجة سائق الجرار، هذه المشاهد بما يحمله الميلاد الجديد لطفل يخرج إلى الدنيا من رمزية الخصوبة، ومشهد استرجاعي: حيث اعتماد الداية، «أم السعد»، على وسائل «شعبية» تنتمي إلى عوالم المثيولوجيا والخرافة، في محاولة معالجة زوجته، «هنومة»، من عقمها ومساعدتها على الإنجاب، بأن تجعلها تصعد على سطح الدار ومعها «لبن حمارة حديثة الولادة» وتقوم بـ«حلب النجوم»، في جلاء لطرائق الوعي الشعبي لدى الريفيين في مواجهة المشكلات الصحية، بديلًا عن الطب أو بالأحرى «الطب الشعبي» الذي يستعمل أحيانًا «وصفات» أقرب إلى السحر، في محاولة لحل المشكلات المعقَّدة. ثم يعود السرد عبر صوت «عوَّاد» ليربط بين رؤية خروج طفل إلى العالم، ومشهد بكاء الطفل الوليد عند خروجه إلى الدنيا، وبكاء «عوَّاد» حين يدور في القرية مناديًّا على زوجته الغائبة «هنومة»، فتضفي مثل هذه التماثلات المشهدية على السرد شعرية خاصة قائمة على التناظر الصوري المؤسس على التشابه الاستعاري بين المشاهد، فيبدو مشهد بكاء «عوَّاد» على «هنومة» وخروجه في القرية مناديًّا عليها وبحثًا عنه كمُشبَّه، وخروج الطفل إلى الدنيا باكيًّا، كمُشبَّه به، في تضفير ترميزي يعتمد على المزج الاستعاري للمشاهد.
قص طوبيا بين المعاصرة ونقد العالم
لقص مجيد طوبيا اشتباك في النسق الموضوعاتي والبنية المقولاتية لخطابه اشتباك حاضر ورؤية مفلسفة لأحداث العصر الكبرى ومستجداته الحادثة. فاستوعب الخطاب السردي في قصص طوبيا التحولات الفارقة في حياة الإنسان في لحظته الراهنة، زمن كتابة النص، كما في تناوله انعكاس جهود التقدُّم العلمي في ارتياد الفضاء ومنها الوصول إلى سطح القمر الذي كان حدثًا جليلًا وفارقًا في ستينيات القرن العشرين، مثلما في قصة «فوستوك يصل إلى القمر» التي تتناول آثار جهود رحلات الفضاء التي مثلت نقلة كبرى في وعي البشرية على سائق بسيط:
«إلى القمر بالسلامة يا فوستوك»
وقف السائق يقرؤها مكتوبة على مؤخرة السيارة.. ربما المرة المائة في خلال اليومين الأخيرين. ويبتسم لنفسه في زهو.. كان صاحب السيارة يريد أن يكتب مكانها عبارة أخرى.. «يا خفي الألطاف نجنا مما نخاف».. وإزاء تمسك السائق بجملته.. قنع بأن تنزوي عبارته على باب السيارة حيث هي مكتوبة الآن..وترك المؤخرة بطولها وعرضها لسائقه يكتب عليها ما بدا له.. فكتب جملته السابقة.. ورسم أعلاها صاروخًا صغيرًا في طريقه إلى قمر رسم على هيئة وجه إنسان يطل باسمًا في سعادة من خلال زهور جميلة زاهية تحيط به.
تجسِّد القصة الجدل بين خطابين، الأول خطاب صاحب السيارة الذي يبدو محافظًا ومؤثرًا السلامة في الشعار الذي كان يفضل وضعه على مؤخرة السيارة: «يا خفي الألطاف نجنا مما نخاف» الذي يمثِّل وعيًا شعبويًّا تقليديًّا، وهو كذلك وعي البورجوازية الصغيرة التي تتجنب المخاطرة، في مقابل الجملة المارقة التي أصرّ السائق على وضعها على مؤخرة السيارة: «إلى القمر بالسلامة يا فوستوك» وهو الخطاب الذي يمثِّل روح التطلع والمغامرة والرغبة في الانفتاح على المجهول والتطلع على الغريب والمختلف، كما يربط السائق في رسمه بين الصاروخ الصغير الصاعد في طريقه إلى القمر الذي يرسمه على هيئة وجه إنسان كإشارة إلى التطلع لوجود إنساني جديد في بقعة جديدة من الكون، وكأنّ ثمة حسًا وثابًا ووعيًّا رومانسيًّا يمازج الجموح الإنساني لارتياد المجهول، وكأنَّ ثمة جدلًا ما بين ثقافة مترسبة كما في الوعي المحافظ لمالك السيارة وثقافة أخرى بازغة، متطلعة إلى الجديد ومتسلحة بروح المغامرة.
اتجه جانب من الخطاب القصصي لمجيد طوبيا نحو نقد العالم وهجائه لما انتشر من دمار بفعل الحروب، كما في الحرب الفيتنامية، أبرز حروب فترة الحرب الباردة، في ستينيات القرن العشرين بعد عقدين من انتهاء الحرب العالمية الثانية، كما في قصة «الوجه الآخر» التي يبرز من خلالها تأثر بطلها بمتابعة التليفزيون في مواده الدرامية ونشرات الأخبار التي يكون موضوعها الرئيس أخبار الحروب:
«صراع حتى الموت بين نصفي دولة أوروبية».. هابيل لماذا تقتل أخاك قابيل؟!..
«احتمال نشوب حرب ذرية عالمية».. «إعصار يجتاح استراليا».. «تفجير قنبلة جديدة تحت الأرض».. نجازاكي أين ذهبت أختك هيروشيما؟!
وينهض ثائرًا.. أين الأنباء الطيبة؟!
يستعمل مجيد طوبيا تقنية «الكولاج» بإيراد مقتطفات مقتطعة من عناوين الأخبار التليفزيونية في ذلك الوقت لتبدو كطرقات صادمة بتدافعها على الوعي تكثِّف المأساة الإنسانية والمأزق الوجودي الذي بلغ ذورته، حيث الصراع بين شطري ألمانيا الغربي والشرقي ليرد بطل القصة بتساؤل يُشَعِّر الحالة ويتمثل جذور الصراع الإنساني منذ أزلية التاريخ كما في قصة (هابيل وقابيل)، وكأنّ الوعي في تشبيه ضمني يعيد قراءة الراهن في ضوء التاريخي. ثم يرد بطل القصة على نبأ الاختبارات باستعادة تاريخ المأساة النووية الكبرى في الحرب العالمية الثانية بضرب الولايات المتحدة الأمريكية لهيروشيما ونجازاكي المدينتين اليابانيتين، فتبدو الذات في حالة تساؤل وجودي حائر إزاء ما تعاين من أحداث مدمرة وأخطار مفنية للبشرية في ذلك الوقت، فكأنّ ثمة حوارية ما تدور بين صوت «الميديا» عبر الأخبار المبثوثة تليفزيونيًّا وصوت بطل القصة، وعلى الرغم من وفرة الحمولات والقضايا السياسية التي يتعرض لها النص القصصي لدى طوبيا فإنّه يتجنب الخطابية ويتقي المباشرة المجانية والإنشائية.