الكتابة فعل إنساني، يرتبط بقيمة الإبداع وخصائصه الفنية، له خصوصيته المرتبطة بانعكاسات الواقع من حياة اجتماعية وحالة سياسية. يريد أن يعالجها الكاتب في عملية الكتابة بقالب فني، والجنس الذي يختاره لقضيته في سياق البنيان السردي. نحاول في هذه الدراسة قراءة رواية المعلم عبدالرزاق لسعود المظفر الصادرة عن مطابع النهضة بمسقط عام 1990. وستنطلق قراءتنا من أطروحة المسافات التي تعني «مجموعة من الفواصل بين الأنا والآخر، أو مجموعة من الحواجز التي تفصل بين رؤية ورؤية، أو بين تصور وتصور»(1)، فالرواية تتكئ جماليا على عالمين متنافرين؛ أحدهما الواقعي بمفرداته التي تعتمد على الحواس الخمس، وإمكانية حدوث ما تزعمه الرواية في سردها، والآخر هو الوهمي بما يعتمده من غرائبية وخيال خارج حدود الحواس وقدرات الإدراك. على أن الجمع بين العالمين في سردية واحدة هو ما يطبعها بما أطلق عليه النقاد المنظرون أدب الواقعية السحرية(2). وهكذا تتبدى الواقعية السحرية لتعبر عن رؤية كونية لا تاريخية تنمحي فيها الحدود بين الأحياء والجماد، أو بين الثقافة والطبيعة؛ حين تكتسب الأشياء والظواهر خواص وقدرات مميزة، فكل شيء في الظاهر «يبدو منطقيا غير انه يخفي واقعا آخر تشيع فيه الفوضى والغموض»(3). هذه الرؤية العدمية تتضمن شكلا من أشكال التراجيديا، أما الواقعية السحرية «فإنها تتجاوز هذا المفهوم لتوغل في عمق التراث الأسطوري»(4) وهذا ما نجده في رواية المعلم عبدالرزاق. وحري بنا أن نذكر في هذا السياق الإهداء الذي خطَّه سعود المظفر في روايته حاملا معه دلالاته التي أراد أن يبثها في عالمه المتخيل «الرولة العتيقة التي تحفظ الأسماء والأيام»، وفي الصفحة التالية يخط عبارة «لا تنظر إلى الخلف»(5)، كما علينا ألَّا نغفل مدلول العنوان الذي موَّه إليه المظفر «المعلم عبدالرزاق»، ودلالة ما تعنيه كلمة المعلم في السياق التاريخي والموروث العماني. هكذا تتأسس البنية الروائية منذ البداية حين استند مسار السرد عند سعود المظفر إلى التخييل داخل التخييل. فالحكاية التي يحكيها الراوي منذ البداية حكاية متخيلة؛ وسعى إلى إحالة المروي له إلى الفضاء المرجعي العماني المتمثل في ميثولوجيا السحر وغياب الأحياء، مقابل العالم التخييلي بوجود عالمين داخل بنائه الروائي، هما: العالم الواقعي (عالم الأحياء)، والعالم المتخيل (عالم المغاصيب). عن طريق توظيف الإيهام بفكرة الموت الحياتي؛ خاصة وإن هذه القضية تعالج في مرحلة حساسة من حياة الإنسان العماني، الذي يشهد نوعا من التحول والتطور في منظومة القيم من العادات والتقاليد والقناعات والأعراف. رواية رغم بنيتها الكلاسيكية/التقليدية في منظور النقد الروائي الحديث، إلَّا أنها استطاعت – بلا شك- أن تؤسس مسارا رائدا في حق الرواية العمانية. لقد عودنا سعود المظفر هذا الروائي الحاضر المنسي على الساحة الأدبية العمانية أن ينوع في أساليب التقنية الروائية، ونظم بنائها الفني. ونحن نتفق مع الدكتور أحمد الطريسي في أن جميع أعماله الروائية، ونضيف إليها القصصية «يستغرقها هم واحد، وتجمعها رؤية واحدة، فالكاتب في كل رواياته ما يريد الكشف عنه يهرب منه باستمرار، ولا يستسلم له بسهولة»(6)، وهكذا تظل كل كتابة جديدة عندة مرتبطة بكتابة سابقة. ولكن السؤال المطروح، ماذا أراد أن يقول لنا سعود المظفر؟!! يبدو موضوع الرواية اجتماعيا، ولكن التدقيق يشير إلى شيء بعيد وعميق؛ لذا يحسن قبل الشروع في قراءتها في ضوء نسقها، التعريف بها على نحو يجعل الحكاية فيها واضحة. الحكاية والحدث رواية المعلم عبدالرزاق تقوم على رصد الراوي للحظة تحول الشخصية ممثلة بزيانة التي تلبسها الجني، إلى النموذج الروحي المتخيل، والكامن في اللاوعي. هذا النموذج ينتشر ويتكرر في النص كمكون إبداعي لنشوء الشخصية في العالم والتاريخ والنص معا. لتتبلور حبكة الحكاية عند غياب/موت والدها راشد، ثم ظهوره ثانية. قدَّم سعود المظفر هذا العمل الروائي، وصوَّر عالما واقعيَّا شديد الواقعية، وفنتازيَّا شديد الغرائبية في آن واحد. صور البيئة المحلية في مرحلة انتقالية، بدأت باستتباب الجهل، وصولا ببزوغ العلم، ونمو الطبقة المتوسطة والمستنيرة، وانتهت فيما بعد إلى الصراع المتوقع بين الأجيال، أو بين القديم والجديد، أو بين الصالح والطالح من مخلفات الإرث الاجتماعي والظلم السياسي؛ آملا أن يعم نور العلم في الأذهان، وتشرق سبل الحياة الجديدة. تعنى الرواية بتفاصيل الحياة في عُمان من منطلق متخيل نُسِجت أحداثه من ميثولوجيا المعتقدات فكرة (الحياة والموت) ذات المنشأ الغيبي الخارق بفعل السحر، وتشكل لنا لوحات سردية وصفية حيَّة تكاد تنطق بالصوت والصورة والحركة واللون، لتحكي مشاهد وأحداثا من الفضاء العماني بطقوسه العائلية والاجتماعية من حب وكره، ميلاد وموت، جهل وعلم، فرح وحزن، وتكفين موتى وهلم جرا. إن هذه الصراعات تتم في مرحلة حساسة من حياة الإنسان العماني؛ إنَّها مرحلة تشهد نوعا من التحول والتطور في كل القيم والأعراف، ومن صفات هذه الصراعات أنها غير متكافئة وغير متوازنة، مما سيؤدي بأصحابها جميعا إلى مناشدة المجتمع بالتخلي عن أعرافه البالية وجهله المستتب، والكشف عن داء الشعوذة والدجل. تبدو الرواية – من خلال قراءة أفقية- إنَّها من النوع الاجتماعي، بفضل ما تكشف عنه من صراعات، بين شخصيات تنتمي إلى عدة شرائح وموروثات اجتماعية، تتآلف وتتباين في الأفكار والمعتقدات. يتم ذلك في لحظات زمانية متتالية تشهد تحولا في التوجهات السلوكية والثقافية؛ لكن إلى جانب هذه القراءة الأفقية، هناك قراءة أخرى عمودية، تدفع بالقارئ إلى السمو بحدثها إلى المستوى الإنساني، بسبب شمولية كاتبها، وتقنية بنائها الفني. إذ يلاحظ في الرواية أن الخيال يلعب دورا في نسج أحداثها، كما يتم إسقاط هذه الأحداث على الواقع السياسي والاجتماعي. إن الإنسان الذي يعيش التمزق النفسي في مرحلة انتقالية حاسمة، هو العصب الأساسي في لُحُمة الحدث الروائي، حيث تحتدم أنواع من الصراعات بين موروثات اجتماعية وثقافية خرافية، وقيم فكرية واقتصادية حديثة، وذلك من خلال توظيف الرمز والإيحاء. ويمكن حصر أنواع هذه الصراعات في صنفين اثنين: صنف لفئة تحاول الإبقاء على المألوف المعتاد، حتى وإن كان يهيمن سلبا على أذهان الناس من أمثال: المعلم عبدالرزاق، والخادم سلوم، وحفَّار القبور ثنيان. وصنف آخر ينشد التغيير والإصلاح في ضوء ما تتطلبه الحياة الجديدة من الإحاطة بالجهل وموروثاته في أذهان الناس من أمثال المهندس صالح، والملازم يعقوب، والطبيب أحمد. كما أننا لا ننسى الصنف الثالث، وهم بقية الناس الذين عانوا من فقد أهلهم وأحبابهم كالخالة موزة وزيانة وجوخة والدة ثنيان؛ والأخيرة تذكر: «ستة ذكور وثلاث بنات في حل الزواج… ظلم اللي ياكل الناس… لازم ياكلوه»(7) وسلوم نفسه فقد والدته «ماتت وأنا صغير…ربتني خالتي… وأيضا هي غابت»(8). يظهر جليَّا في رواية المظفر الاهتمام والاعتناء بالحكاية من أجل الفكرة، أو الرؤية التي يرغب الكاتب في إبرازها وإيصالها للقارئ. وهكذا استطاعت الرواية أن تلامس الواقع من خلال التقاطها المختلف، ومعالجته بطريقة ناقدة، حين سعت الى «الإمساك بنغمة الحياة وحيلها»(9)، وهذا ما أضفى عليهما الحيوية وأمكن من تصديق القوة المتخيلة في المعلم عبدالرزاق، «فبالقدر الذي يقدم لنا الروائي الحياة دون أن يعيد تنسيقها بقدر ما نشعر أننا نلمس الحقيقة»(10). الحكاية وعلاقتها بفضاء المكان لا ريب أن الاهتمام بالمكان وتصوير التحول الاجتماعي يدل على وعي الكاتب وإدراكه لأهمية التوتر الذي ينبغي أن تبنى عليه الرواية الفنية. «ولا شك في أن الرواية تصدر في مزاولتها هذه للمكان عن رؤية أيدلوجية عامة تجد فيها شتى مظاهر الفضاء، وإن تعددت وتباينت مناط تجانسها وترابطها»(11). وقد اقتضى هذا الاتجاه عند المظفر توسيع القاعدة التي يتم من خلالها إبراز هذا التوتر أو ذلك الصراع بين الأجيال. وليست القاعدة هنا قاعدة مكانية فحسب؛ إنها ليست اتساعا في الرقعة التي تنشب الأفعال وتدور الأحداث كما هو الحال في رواية المغامرات، بل اتساعا في الزمان الذي تنمو في امتداده الشخصية. وهكذا استطاعت الرواية أن تصور لنا المعتقدات المجتمعية التي يؤمن بها الناس من القرية إلى المدينة، أو من المدينة إلى القرية في مجتمع مغيب جاهل تسوده الموروثات البالية، إننا نصطدم بمجموعة من الأحداث الغرائبية تنطلق من أمكنة محددة، وتقع في لحظات زمانية معينة، وتجري في مجتمع إنساني يعيش مرحلة انتقالية صعبة. لم تعين الرواية المكان باسمه على خارطة عمان، لكن هناك إشارة إلى أن السيح الأحمر هو مسرح العمل الغرائبي لعمليات المشعوذ/ عبدالرزاق وحياة المغاصيب(12) الذين يسخرهم لسحره ودجله، أنى ذكره بين تصانيف الكلام، حين بدت عقدة الحكاية في تصاعدها. ومع مسار أحداث الرواية نراها تحتفي بالمكان الواحد. فلئن كان الراوي يصور لنا أماكن، ويصف أخرى في الليل والنهار، فإنه يحصر الحدث المركزي في مكان بعينه عندما يبلغ النص نهاية ذروته القصصية. إذ يذكر النص مسميات كثيرة من قلب القرية والمدينة، وهي: السوق القديم، البحر، الكرجين، العُوَّانة، الدروازة، الحوى، دكاكين البانيان، حارة المعلم، الرولة الكبيرة، السَّبلة، السيح الأحمر، سيح حوره برغه، المقبرة، النعمان، الأزقة، الحوش. مسميات هذه الأماكن تقودنا إلى طبيعة الحياة والمرحلة التي يروي عنها الكاتب بما تحمله من دلالات بيئية. مقابل ذلك هناك: المبنى الزجاجي، المؤسسة الرسمية، الطرق تخترقها الجسور، مطعم المعسكرات، المستشفى. لكن الحكاية ينحصر حدثها المركزي في مكان واحد يتسم بالضيق والاتساع من بيت المعلم/المشعوذ عبدالرزاق إلى السيح الأحمر مقر المغاصيب. بدا الفضاء المكاني الذي يحتضن الحدث المركزي يتشكل في مراحل ثلاث للحكاية:
– التأزم – منزل راشد …
– نقطة انطلاق الجهل – منزل المعلم عبدالرزاق
– مرحلة وسيطة التطور – المؤسسة الرسمية
– نقطة وصول.
وهكذا يتجلى لنا إن علاقة المكان المركزي (مسرح الأحداث) بالحدث المركزي (مرض زيانة، وغياب راشد، ظهور راشد ثانية) وطيدة جدا، إذ تجلى لنا التكثيف في وصف المكان المركزي مما جعله مرتبطا شديد الارتباط بدقة الوصف فأكسبه كثافة الإيحاء. ولما كان ذلك فإن هذا الوصف قد بلغ قمة توهجه مرتين. الأولى حين أراد المعلم عبدالرزاق إخراج الجني من رأس زيانة في منزله، والثاني حين تعرف المهندس صالح والملازم يعقوب مكان المغاصيب في السيح الأحمر. يمكننا القول أن رواية المعلم عبدالرزاق يتساوى فيها حدود المكان مع مشاهده الطبيعية، للدلالة على أن المكان وما يحويه من مقومات طبيعية: أشجار السمر والغاف، الجبال، الكهوف، حصى وادي السيح، المقبرة؛ كلّها تمثل المكان الذي هو المسرح الطبيعي لعمليات السحر والشعوذة، وليس المكان العمراني للمدينة الحديثة الذي طغى حدوده على الطبيعة كطفرة عمرانية قادت إلى نبذ الجهل والشعوذة. فهذا السيح هو الحيز المكاني الأكبر الذي تقع فيه الحكاية، وقد اعتمد الراوي على إبراز ملامحه من خلال السرد تارة،(13) والوصف تارة أخرى.(14)، كما عمد إلى محاكاة الحياة بأفكارها وثقافتها(15). التتابع الزمني وتقنية التذكر رواية المعلم عبدالرزاق تقوم على التتابع الزمني للأحداث، والاهتمام بتوالي الوقائع، والاحتفاء بالحكاية، وهي تعبر عن رؤية واحدة، وقيمة واضحة تصبح هدفا للرواية، وتنسج الأحداث للتأكيد عليها وإثبات صحتها. لذا جاء الزمان كالمكان غير محدد ولو عبر حدث تاريخي يمكن معه الاستشهاد بالحقبة. وهذا ما أضفى على الرواية إيحاء برمز اجتماعي سياسي ناقد. إن نظام الأحداث في الرواية يتسم بالخطِّيَّة، لأن الأحداث تجري وفق ترتيبها التاريخي، ومن ثم فإن زمن الحكاية يسير وفق المنطق فهو يطرد ولا يزيد. والرواي وهو ينقل لنا مشاهد الأحداث لا يتصرف فيها، بل يحافظ على نظام وقوعها في الحياة حسب الميثولوجيا العمانية للسحر، فلولا الكلاب المسعورة التي ضربها راشد بعصاه لما ظهر الرجل الأسود ليلا، ولولا رفض راشد التنازل عن عصاه، لما تلبس الجني ابنته زيانة، وذهابه إلى منزل المعلم عبدالرزاق وغيابه في السيح الأحمر بفعل القوة الخارقة للمعلم عبدالرزاق. وهذا الزمن الخطي يسير بخطين متداخلين في الجزء الثالث من الرواية /عودة المغصوب الذي أخذ حيزا كبيرا من الحكاية، فمقابل سيطرة المشعوذ/المعلم على حياة المتلبسة بالجني/ زيانة، والمغصوب/ راشد. يظهر التحول المجتمعي بظهور المهندس/ صالح، والملازم/ يعقوب، والطبيب/أحمد من خلال تقطيع الكاتب نصه عبر الزمن إلى ثلاثة أجزاء (ليلة الشفق، المغصوب، عودة المغصوب) دون أن يراعي تفتيته؛ وهذا الأمر أثر سلبا على بنية الرواية. تروى الحكاية بتوظيف تقنية الاسترجاع على لسان الراوي العليم بكل تفاصيل الأحداث وسيرها، تبدأ الرواية بوصف المكان ليلا، متخذة من الفضاء الذي يحيط بمنزل راشد منطلقا لحوار يدور بين راشد وزوجته على إثر صياغة الحدث الذي ستنطلق منه أحداث الرواية. فتبدأ سير الأحداث المتتابعة تلقائيا مما كان عائقا كبيرا في توظيف تقنية التذكر، لذا تزدحم الرواية بالوصف والتصوير والشروحات الممتدة والحوارات الطويلة بتفصيلات لا قيمة لها. الأمر الذي فصل بين أحداث الماضي وأحداث الحاضر بمساحة بيضاء، فعند بداية كل جزء أو فصل جديد لا يختلط الزمانان، ولهذا كانت أحداث الرواية متسلسلة دون تعقيد واشتباك. حتى الجزء الثالث تظهر فيه تقنية الاسترجاع بطريقة تضيف للنص حركة زمنية أخرى، وتكشف عن تفصيلات جديدة، وأبعاد أخرى في شخصية راشد المغصوب بظهور شخصيتين هما المهندس صالح، والملازم يعقوب/ وتقوم عملية السرد على أساس التوازي الذي قدَّم حدثين في زمن سردي واحد، يحدث أحدهما في زمن سابق للآخر. إلّا أن هذا التوظيف لم يكسر زمن الحدث/ الحاضر، فجاءت الحكاية مسرودة بتوالي الزمن المشحون بالتفاصيل التي أثرت على قيمة بنية النص الحكائي. الراوي والأصوات السردية بدا صوت الراوي العليم(16) حاسما في تحديد بقية عناصر المستوى السردي؛ إذ أن وظيفته لا تقتصر على العبء الذي ينوء به بحكي المحكي للمروي له على طول خط الرواية، بل إنَّه مسؤول عن بقية العناصر الأخرى في المسرود النصي، ويقع على عاتقه تحمل مسؤولية القيمة الجمالية المتحصلة من زمان ومكان وأحداث، «إنّ الراوي غير المؤلف، وأن العلاقة بينهما وطيدة، وهي علاقة الصانع بمصنوعه. ولذلك فإننا نرى للخروج من هذا المأزق، ألاّ نفصل بينهما فصلا حادا، وألاّ نطابق بينهما مطابقة تامة»(17)؛ حتى وإن كلا منهما اتخذ لنفسه أسلوبا مغايرا لسرد حكايته. لذلك لا يمكننا إغفال صوت الراوي في الرواية فهو حاضر بقوة بضمير المتكلم(18). إن عوالم الجن والسحر وكراماتهم، وحتمية تعاقب الظواهر في السحر في رواية المعلم عبدالرزاق تندمج في فانتازيا النص، وتسير سياقا افتراضيا تتحقق فيه قوة الفرد المتمردة على واقعه الأول دون انفصال بين العالمين. فراوي سعود المظفر لا يتمرد على الموروث الروحي الكامن في اللاوعي الجمعي للشخصيات، وإنما تعيد قراءته وفقا لإمكاناته الإبداعية الخفية؛ ففيه قوة الطاقة النَّصية حاضرة ضمن الحدث الواقعي المستعاد، وكأن الطيف قد تجرد من حتميات الإحلال في نطاقه الثقافي. وانطلق في النص ليحل في الشخصيات، ويساعد على اكتمال التحول باتجاه الذات الممتدة المتجاوزة للأنا الواقعي، فجاء السرد خاليا من حديث الذات، وبعيدا عن تصوير انفعالاتها الداخلية، ورغم أن الراوي بعيدا نسبيا عن بؤرة الحدث المباشرة، إلَّا أنه جزء من المشهد وليس راويا محايدا، ومثال على ذلك حين يروي حادثة ظهور المغاصيب في السيح الأحمر، بعد رؤية المغصوب راشد(19)، نلاحظ سرعة حركة السرد، وتضاؤلا في مساحات الوقف(20) التي يتطلبها عادة حديث الذات؛ الأمر الذي أدى إلى أن يكون راويا مشاركا ذا رؤية داخلية، وهو يعرف كل شيء عن حياة المعلم عبدالرزاق أفكاره ومشاعره ونواياه، وهي «الرؤية الأكثر داخلية»(21). ويكفي أن نسوق للتدليل على ذلك ما قاله المهندس صالح عند رؤية المغاصيب «مغاصيب.. مغاصيب يجب إنقاذهم.. لا أعرف كم عددهم ولا من يقودهم.. لا يهم من يقودهم.. المهم إنقاذهم وبسرعة.. الله يعلم كم سنة وهم هائمون هكذا.. أهلهم يحسبونهم ميتون.. المغصوب يعني أنه ميت حي.. هو أو هي في مكان ما لا أحد يعرفه أو يعلمه إلَّا الرجل الذي سحرهم وأغصبهم من أهلهم لأسباب كثيرة…»(22)، ويكشف الراوي عن وعي الشخصيات عن طريق تنوع التبئير الداخلي، لتعاين بكارة أحلامهم بقوة المعرفة الروحية عند المعلم عبدالرزاق، وتجسيدها الأدائي، وكأنها توحدت بالطيف الفانتازي المؤول لقصص الموروث، والمتمرد على حتميتها وآليتها. إنها حالة تقاوم وعي الشخص بذاته الثقافية المحدودة لتدخله في حالة النشوة، والغياب الروحي. هذا الغياب المجرد يجمع دلالات الفرح بالجسد كمدلول أنثوي، فزيانة جمالها «قرويا أخاذا. اكسبته أشعة الشمس وملوحة البحر لونا شفافا نقيا وبياضا ناصعا. عيونها صافية واسعة تحميها رموش طويلة سودا…»(23)، ومخاوف القوى الروحية الشريرة، ومعايشة الأولياء (المشعوذين) أو إكمال مسيرتهم. ولكن من خلال استعادة قوة الدافع الأول لولوج المتخيل المتجاوز للشخصي كبديل عن تقديس الشخص المتعين/ التاريخي، فطيفه النصي يحرر الأخيلة، والأساطير، والحكايات المتواترة. فالحال التي كان عليها راشد حين لمحه سلوم في السوق «هزيلا.. مغبرا.. ممزق الثياب.. أسقح.. طويل الشعر واللحية»(24). ويركز الراوي العليم على وصف المكان فيصور السيح الأحمر(*) بأشجاره وجباله وحصواته وكهوفه ومغاراته. يجعلنا نعيش في ذات المكان بوحشته وقواه الروحية الشريرة، ومعايشة المشعوذين بأفكارهم وتدبيراتهم وخططهم بين الكهوف والمقابر التي يدفنون فيها الأحياء، ثم يسرحونهم لحياة مقيدة في حوره برغه «السيح محاط بجبال متوسطة الارتفاع، قليلة السواد وضَّاحة البلورات»(25). كل ذلك من خلال استعادة قوة الدافع الأول للمشعوذ عبدالرزاق وحفَّار القبور ثنيان الذي يجهل سر العلاقة بينهما الخادم المطيع سلوم. كما يصف فناء منزل المشعوذ عبدالرزاق بالقناديل، والسبلة، والدعون، والكرجين. وما يستخدمه من أدوات لإيهام الآخرين بقدرته على السحر ومعالجة من تلبسه جني كالمغبار، والجمر. إلَّا أن هذا الوصف تكرر كثيرا، فبدا المشهد في السرد تقليديا لأنه قدَّم «الأحداث بكل تفاصيلها وأبعادها، فالوقائع مرتبة لا يجوز اختصارها، بل لا بد أن تقدم في تواليها وإنجازها كاملة»(26)
بحسب رؤية الراوي. أما الزمان فينقلك الراوي من قلب الحدث في عتمة الليل داخل السيح وخلف الجبل وبين الأزقة، وفي وضح النَّهار، حتى يشعر القارئ أنه يعيش هذه الأجواء. يسرد سعود المظفر الحكاية من خلال الراوي المشارك الذي يعمد إلى التبئير الداخلي الثابت، ويعرفه جيرا جينيت «الذي يكون فيه شخص واحد، وحسب في عملية التبئير، أي أن المواقف والوقائع تروى من وجهة نظر واحدة فقط»(27). اللغة وعلاقتها بالعناصر البنائية لعلنا حين نتناول دراسة اللغة في هذا العمل الروائي، إنما نحاول إبراز كيفية تعبير اللغة عن فكرة النص وأهدافه، فكما يرى جون فولز «إن للكتابة أهدافا مهمة: أن تمتع، وأن تنتقد، وأن تصور حساسيات جديدة، وأن تسجل وتعبر عن حياة جديدة، أن تحسن الحياة، وهكذا فهي أهداف مهمة وتحمل مقومات الحياة والاستمرارية»(28). إن كل روائي يتمنى أن يترك انطباعا خاصا عند استخدامه للغة، وهو مجبر سواء كان واعيا لذلك أم لا، على الاختيار من بين الأساليب الكثيرة والمتوفرة للخطاب»(29) وكل لغة هي رهن بمصادر ثقافة الكاتب، ورهن بمهاراته التقنية التي تحول النَّص المكتوب إلى نص أدبي ينسج ضمن لغته معاني لم يقلها فعلا، وإنَّما أوحى بها من خلال استخدام مفردات بعينها؛ يمكن أن تشير أو ترمز أو تحيل على مرجعية يدرك القارئ دلالته «إن فقر اللغة روائيا لا يحيل على اللغة، بل إلى ما هو وراءها، الأمر الذي يجعل البنية اللغوية الروائية حاملة لموقف نقدي-أخلاقي، يتجاوز حدود الوعي والطلاقة»(30) فإلى أي مدى استطاعت رواية سعود المظفر أن تحقق أهدافها التي تصوغ مقومات مهمة لمقومات الحياة، واستمرارية النص؟. لقد اتسمت اللغة في الرواية بسمات كاعتماد اللغة على نقل الصورة بشكلها الحقيقي، كوصف طبيعة المكان أو الزمان(31). وكذلك وصف سمات الشخوص كزيانة ووالدتها(32)، ووصف هيئة المعلم الرزاق وسلوم(33)، وهذه الأوصاف تبدو غير موحية، وتحدد بشكل مباشر تجاه فهم القارئ، وهي في نهاية الأمر لا تتجاوز الدلالة اللغوية بمسافة بعيدة. إن هذا الوصف الدقيق للهيئة الخارجية للشخصية يمثل إحدى سمات أسلوب السرد التقليدي، وهي سمة أمكن توظيفها لخدمة النَّص وإضافة أبعاد للغة النص الروائي، إلَّا أنها في رواية المعلم عبدالرزاق يتم بمعزل عن وعي مدرك، وبعيدا عن التفاعل بين الذاتي والعالم «إن توسيم الشخصية يجب أن يكون مثل وصف الفضاء، أن ينطلق من الداخل عبر رؤية ومشاعر تتفاعل مع الخارج»(34). تحفل رواية المعلم عبدالرزاق بالشروحات والاستطرادات التي لا مبرر له، بل هي توقف السرد، ولا تضيف شيئا للقارئ، وقد يستغرق الاستطراد صفحات لتقديم المعلومات وشرحها، والانتقال من موضوع إلى آخر دون مبرر، ويلاحظ إقحام صوت الرواي لتقديم معلومة إضافية، أو لتفسير بعض العبارات، وهو إقحام يشعر به القارئ، وكأن القارئ لا يستوعب الحكاية دون الإعادة والتكرار اللذين لا يضيفان شيئا جديدا، مثلما تتكرر قصة الحكم على زيانة بضرورة إخراج الجني قبل وفاة أبيها(35). إن ما يحكم اللغة الأدبية هو «الانزياح، بينما الدلالة الواقعية، والبسيطة أو العميقة هي التي تحكم اللغات الوظيفية بشكل عام»(36). ولاحظنا أن اللغة في الرواية تتفاوت بين سرد الراوي، وحوارات الشخصيات. فسعود المظفر استخدم اللغة الفصحى المبسطة والقريبة من العامية في الحوار بين الشخصيات، وتساوى الحديث بنفس اللغة، فهناك الجهلاء والمثقفون والمتعلمون وكبار السن، فلا فرق بين أي شخصية وأخرى في استخدام المفردات والألفاظ. وبشكل عام. فإن لغة الحوار في الرواية تلقائية ومباشرة، ويتم توظيف الحوار لدفع الحدث ليكون مصدرا للمعلومات. إن لغة الحوار في الرواية متعددة الوظائف يمكن أن تؤدي إلى تعقيد الحبكة، أو تنمي الشخصية.
وتصف الفضاء والمشاهد، أو أن تثير مناظرات ومناقشات أخلاقية، ويمكن دمج كل هذه الأهداف في حوار واحد، لكن الأهم على الإطلاق والأكثر إثارة للاهتمام والتنوع هو «تقديم وتطوير الشخصية»(37) وهذا الذي لم تستغله رواية المعلم عبدالرزاق. وحتى تتحقق فنية الرواية لا بد من فارق بين لغة الشخصيات ولغة الكاتب، وهذا ما يؤكده برنار فاليت «إن دراسة اللغة يجب أن تكشف عن وجود فارق بين لغة المؤلف، أو إلى حد ما بين لغة الكتابة الفنية ولغة الشخصيات المشروطة بوضعها الاجتماعي والثقافي»(38). تمارس الرواية دورا في نقل الميثولوجيا الثقافية، بتوظيفهما رموز البيئة المحلية لا تميز التراث الشعبي بأمثاله وحكاياته، وتعرف بتاريخ ثقافته المحلية، وتقدمه فنيا بشكل يعبر عن طريق التفكير وأساليب الحياة. فكما ترى يمنى العيد «اللغة مخزون ثقافي يتكلس أو يموت إذا عزل عن اللسان من جهة، وعن الثقافات الأخرى من جهة ثانية، وأعني باللسان المنطوق المحلي الحي، الحامل لعناصر من التجربة المعيشة ولحشد من الدلالات المحسوسة والمرئية غير المستقرة بعد اللغة، والقابلة باستمرار لرفعها إلى صياغة تعتني بها اللغة لتتجدد وتستمر في الحياة، وأعني بالثقافات الأخرى: المكتوب الذي يشمل التراث الكوني بما فيه لغتنا نفسها»فن الرواية»(39). إن الشخصية ما هي إلَّا تحديد للأحداث، «وما الحدث إلَّا تمثيل للشخصية، وما العمل الرواية كعمل سردي إلَّا للشخصية»(40).، فإن كانت الشخصيات غير مقنعة، فإن الأحداث تغدو غير ذات معنى.
قضايا الحدث الروائي على مستوى الخطاب
هناك مشكلات اجتماعية تشكل حالات فردية – وإن – تكررت في الواقع- لكن تمَّ التركيز عليها بوصفها حالات، وبدلا من أن ترد المشكلة ضمن مشكلات كثيرة خلال العمل الواحد لا يتم التركيز عليها، أو تناولها من زواياها المختلفة؛ يتم التركيز على مشكلة واحدة تبنى عليها الأحداث. في رواية المعلم عبدالرزاق تحولت حتمية القوة الغريبة إلى نوع من التحرر، وقبول الذات الروحية الممتدة بتناقضاتها النصية، والتاريخية، والثقافية. يبدو هذا واضحا منذ بداية الحكاية، ويأتي الراوي بالرمز المتجاوز للزمنية في اللاوعي الجمعي، ليؤكد تفوق النفس المتخيلة في دائريتها، فكل من زيانة وراشد وظهور شخصية والدة ثنيان العليمة بما يدور من شعوذة في المجتمع تخبر الخادم سلوم عن من تسبب في وفاة زوجها. وتناوبها في وعي ولا وعي الشخصيات بصورة محررة من آليات الماضي، «حين هجم المغاصيب على صنابير المياه وتدافعوا عليها»(41)، هكذا ظهر المغاصيب بقيودهم المكبَّلة على الأيدي ومن بينهم راشد في المستشفى يقودوهم المهندس صالح والملازم يعقوب ويعالجهم الطبيب أحمد، وترفض زيانة فكرة عودة والدها إلى الحياة من رحلة موته المغيبة «فقالت زيانة بعد سكون قصير، بتحديق كئيب فيه شيء من الخوف: أبي مات.. مات منذ سنين»(42)، فزيانة تطهرت من أزمة الصراع مع القوة الغريبة المدمرة، باتجاه التحقق من المتخيل. ظل المشهد الحكائي على خط سيره حقيقة واقعية، أو روحية حتمية، لكنَّها ترمز إلى التحول المجتمعي الذي يتجاوز حدود الموروث التاريخي للعالم الإنساني، وإدراك العالم في اتجاه الذات المتخيلة. إن لحظة التحول بين القديم والحديث قضية هامة في رواية المعلم عبدالرزاق، هي لحظة نشوء الشخصية في النص والتاريخ، وهي لحظة غيابها أيضا في الحلم النوراني، والكوني، والجسدي المناهض لتجسدها المحدود. وهي قضية تؤرق سعود المظفر في كل رواياته. فالقضايا التي طرحتها الرواية قضايا فكرية/اجتماعية في المقام الأول والتي تتأسس داخل النقد الاجتماعي للأفكار والعادات التي يؤمن بها الناس، وهي عبارة عن مقدسات وعقائد متوارثة يحفل بها المجتمع العماني، وغير قابلة للتنازل عنها لصالح الأجيال.
الدلالة بين الواقع والمتخيل
في هذا النص السردي بالتحديد يبحث سعود المظفر عن هذه القوة المتخيلة الممتدة من خلال حلولها الأني المتجدد المتجاوز للماضي من خلال آثاره. يلاحظ في الرواية أن الخيال يلعب دورا في نسج أحداثها، كما يتم إسقاط هذه الأحداث على الواقع السياسي والاجتماعي، وذلك عن طريق توظيف الرموز. قد تدل الأرواح غير المحددة التي تحل في الأشياء، والعناصر الكونية، والأماكن، والشخصيات على تقديس خفي للذات الأخرى التي لم تحقق اكتمالها في الشخصية، ومن ثم يغلب عليها الصراخ والخوف ونسج أخيلة القوة المدمرة الكامنة في الذات الأخرى الغريبة، وهنا يتمسك الفرد بوجوده التاريخي، لكنه يطمح أن يملك قوة الذات التي لايعرفها. إنه يتمرد على تكوينه، ووضعه الثقافي في المجتمع من خلال هذه الغرابة التي تتمتع بقوة حتمية لا تقبل الجدل؛ فالمعلم عبدالرزاق يخاطب زيانة المتلبسة بالجني بصورة يقينية تنقل القوة المتخيلة إلى شخصية المعلم نفسه كسر لا يمكن اختراق رمزيته(43)، إذ يتجلى الانفصام وتنازع الوعي واللاوعي في الصراخ والغضب؛ لكن وعي زيانة يتجه أيضا لامتلاك قوة المعرفة التي تنتقل إليها من النموذج الذي يستحق جانب التهميش الأحادي فيها(44)، وهو المعلم عبدالرزاق الذي يوحي للجميع بقدرته الفائقة على الشفاء من الأمراض، وتخليص من تلبسهم الجني، ويصدق الراوي زعم المعلم لتؤكد قوة جني زيانة، ففي داخل الراوي رغبة في إنجاز التحول. هكذا يلتبس صوت زيانة بصوت الجني، ويظهر صوت المعلم عبدالرزاق الحامل للقداسة الممتدة حين يطلب من الجني الخروج من رأس زيانة، وغيره من الأصوات التي اكتسبت الامتداد الخيالي الطيفي المجرد من الحدود الواقعية. إننا لم نعرف راشد إلَّا من خلال عمليات الحلول الأقرب إلى اللعب، والاستبدال والتحول باتجاه قوة غير شخصية تمحو وجوده الشخصي قبل أن يغيب عن واقع حياته البشرية. وفي مسار شخصية المعلم عبدالرزاق تختلط دلالات التحول بقضاياها من الميثولوجيا المجتمعية في وعي الراوي، لتؤكد دلالاتها على الثقافة المجتمعية، وتكسبها دلالة المتخيل كمدلول مضاد للصراعات المولّدة عن وضعها الهامشي. لقد انقلب التاريخ المجتمعي عن طريق فاعلية الطيف النصي/ أو الصوت هذه الفاعلية التي صارت تاريخية أدائية، صارت سياقا كاملا، وليست تحول لحظة مفاجئة. ويعكس هذا اقتران التفوق الكامل وتجاوز الأزمنة لحظة تحرر زيانة ورفضها فكرة قبول عودة والدها من الموت المغيب بصنع البشر(45). فراشد لم يكن شخصا، وإنَّما جزءا من الطاقة التأملية لموروث اجتماعي، وقد استبدلت تاريخه برمته. وتبدو حياته المغيبة صورة من كثيرين في المجتمع الإنساني حياة مرعبة مقيدة طوال النَّهار بين الجبال وكهوفها، ومسيبة ليلا في قلب السيح الأحمر وقبوره؛ كما أنها لا تستطيع الحراك، أو المبادرة إلا بأمر من المعلم عبدالرزاق. هذه الصورة تلح على مسار الحكاية لا كحقيقة واقعية، أو روحية حتمية؛ لكنها برمزية مبعثها التحول الذي يتجاوز في الضوء حدود العالم. وفي مسار شخصية زيانة تختلط دلالات التحول بقضايا النسوية، في وعي الراوي؛ لتؤكد جانب التأمل في المرأة وتكسبها قداسة المتخيل كمدلول مضاد للصراعات المولدة عن وضعها الهامشي، لقد تغير حال زيانة في العالم الواقعي، وصارت في العوالم المتخيلة متلبسة بصوت خفي قوي. فتحول سياقها الواقعي إلى عوالم سماوية تختلط بأصوات الذكر. الجهل/القيد المتمثل بـ: عبدالرزاق/ ثنيان/ سلوم رفض الجهل منذ بداية الحكاية، وتمثله الذات الأنثوية/زيانة العلم/ الحرية المتمثل بـ: صالح/يعقوب/أحمد نخلص أن رواية المعلم عبدالرزاق قدمت الحدث على رؤية واحدة من الفضاء الزماني، دون أن تعتمد على التفاوت، أو التبديل الزمني الذي يمكن أن يصل إلى حد التعقيد والغموض، ويستوعب الشخصيات وعلاقتها بالأحداث، وترابطها وفق منطق خاص، أو يستند على صراع بين الرؤى وتناقضاتها؛ ورغم توظيفه الرمز الغرائبي، إلَّا إنَّه لم يكشف عن جوانب الشخصية وأبعادها المختلفة، ولم ينظر إلى اللغة باعتبارها عنصرا فاعلا في الحدث، ويحدد نسبة العلاقة بين المؤلف والراوي والنص. وفي هذا يقول رولان بارت «إن واقعية المتوالية ليست في التتابع الطبيعي للأفعال التي يكونها، ولكن في المنطق الذي يتجلى فيها ويخاطر»(46). قد يكون السرد مجرد تتابع زمني بسيط لأحداث البناء الروائي، ولكنَّه لا بد من أن يحول الأحداث إلى سياق منطقي، وهو يتعامل مع الزمن ماضيه وحاضره ومستقبله؛ بأي أسلوب يتناسب، وتقدير المؤلف وحسابه للزمن الروائي. ورغم ذلك كلّه، إن القضية التي تطرحها الرواية، وما حملته من رموز إيحائية، وظلال حلمية، هو الذي أكسبها أبعادا عميقة، ورؤى متميزة.
الهوامش:
1) أحمد الطريسي، مجلة نزوى العدد27. 2) محمد القاضي، معجم السرديات، ص44، دار محمد الحامي. 3) انظر صلاح فضل في الإبداع الأدبي، ص31 وما بعدها. وراجع أيضا: د. ميجان الرويلي، وسعد البازغي، دليل الناقد الأدبي،ص173. 4) صلاح فضل، منهج الواقعية، ص313 5) انظر الرواية، صفحة الإهداء، وما بعدها. 6) أحمد الطريسي، مجلة نزوى، العدد27 7) الرواية، ص57 8) الرواية، ص56 9) هنري جيمس، الفن الروائي، ص89 10) المرجع نفسه، ص89 11) عبدالصمد زايد، المكان في الرواية العربية-الصورة والدلالة-، ص9-10 12) الرواية، ص128 13) الرواية، ص12، 13، 59، 110 14) الرواية، ص9، 11، 40، 52، 69 15) الرواية، ص41، 68، 88، 121 16) محمد القاضي، مرجع سابق، ص131 17) محمد نجيب العمامي، الراوي في السرد العربي المعاصر، ص 13 18) هذا ما يرفضه جيرار جينات، فهو لا يستعمل مصطلحي» حكاية بضمير المتكلم أو حكاية بضمير الغائب إلا وهما مقرونان بمزدوجتي الاحتجاج. خطاب الحكاية، ت محمد معتصم، وعمر حلي، وعبدالجليل الأزدي، المغرب، الدار البيضاء، مطبعة النجاح الجديدة، ط1، 1996م، ص 254 19) الرواية، ص7، ص12 20) الوقفة: إحدى تقنيات الحكي الروائي، وأبرز مظاهرها اشتغالها في بنية الحكي قدرتها على تنامي الأحداث السردية، بالحد من تصاعد مسارها التعاقبي لفتح المجال أمام الوصف لإقحامه في منظومة الحكي الروائي مما يؤدي جريان زمن الحكاية. انظر مرشد أحمد، البنية والدلالة في روايات إبراهيم نصر الله، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت2005. 21) تودرف، الشعرية، ص53 22) رواية المعلم، ص122 23) الرواية، ص11 24) الرواية، ص60 * السيح الأحمر: يقع في قرية فنجا من المنطقة الداخلية، وعرف عنه من الموروث أن سكنته هم المغاصيب. 25) الرواية، ص67 26) عبدالله إبراهيم، المتخيل السردي، ص135 27) خطاب الحكاية، ص201. 28) جون فولز، ملاحظات حول رواية لم تنته- الرواية اليوم، ص126 29) Norman Page.Speech in the English Novel. Macmillan Press. Second adition.1988. P25 30) فيصل دراج، نظرية الرواية، ص304 31) جون فولز، ملاحظات رواية لم تنته، ص126 32) رواية المعلم، ص20، 21، 22 33) رواية المعلم، ص29، 30 34) برنار فاليت، ص42 35) الرواية، ص32،33 36) عبدالمالك مرتاض، في نظرية الرواية، ص110 37) Norman Page نورمان بيج، مرجع سابق، ص55 38) برنار فايلت، النص الروائي، ص126 39) يمنى العيد، فن الرواية، ص54 40) هنري جيمس، الفن الروائي،85ص 41) رواية المعلم، ص140 42) رواية المعلم، ص167 43) رواية المعلم، ص29، 30، 31 44) رواية المعلم، ص32،34 45) رواية المعلم، ص167 46) رولان بارت، مدخل إلى التحليل البنيوي القصصي، ص93
عزيزة الطائية
كاتبة وباحثه من عُمان