ينزع شاكر نوري، الكاتب والإعلامي العراقي،إلى أن يجعل من روايته «جحيم الراهب» (بيروت، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر،2014)، مباشرة، عملا في قلب مسار البحث الذي تكفل به هذا الجنس الأدبي تاريخيا وأدبيا، منذ ولادته المتقدمة عند ثربانتس، ثم بدايات ظهوره الفعلي في نهاية القرن التاسع عشر، فالمؤصّل في القرن الموالي، ومنه إلى الآفاق الممتدة، حين تبلور على أكثر من صيغة وبجماليات وافرة، واستوعب عديد القيم والدلالات.
ولن يفوت القارئ الفطن، وهو المعنيُّ بهذه الرواية أكثر من غيره، والمنشغل بقلق الوجود وتنازع الذات بين الرغبة والإيمان والمطلق؛ أقول لن يفوته الانتباه منذ البداية إلى الطباق المعنوي في العنوان، إذ يبرز من البداية، أي الغلاف، إشهار المادة، الضِّدية المثيرة،لأول وهلة، طبعا،بين عالمين لا يتعايشان، أو يتصالحان، لاختلاف رؤيتهما ومنطقهما وروحهما، أيضا: الجحيم الذي هو بالتعريف(«مكان عذاب لا يُحتمل، وهو اسم من أسماء النار وكل نار عظيمة في مهواة فهي جحيم من قوله تعالى: (قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم)، كذلك الراهب تعريفا المتعبّد الزاهد(في صومعة النصارى، من تخلى عن متاع الدنيا) والرهبنة والرهبانية العيش وفق نظام ممارسة دينية مقنّنة بتعاليم تحكمها طقوس خصوصية(في المسيحية خاصة، فلا رهبانية في الإسلام). وإذا كان المعنى الأول المرتبط بالجحيم هو العذاب باحتراق النار، لوجود سبب سابق هو آثام اقترفها المرء(في الحياة الدنيا) ويستحق عليها العقاب(في الآخرة)، فإن مقام الرهبنة هو الإقامة في وضع طاهر، طهراني، ملتزم دينيا، يقي من الدَّنس ويضع حاجزا بين الراهب وأيِّ إثم محتمل يُقترف في الدنيا، فيما هو جدلا معصوم منه، بما أنه يقيم في الآخرة، بل في الجنة، دار النعيم، المنزّهة عن الآثام.
واضحٌ بذا كيف أن التعارض البدَهي بين عالمين، لَمِن شأنه أن ينقل المتلقي إلى مرتبة أعلى، تحضُر فيها التمثيلات الضرورية لهذا المعنى، ثم التمثيلات الانزياحية عنه، تلك التي تكسر منطق البداهة ومعطاها المعنى الأول، تدفع بعربة السرد في طريقها ومفازاتها ومنعرجاتها لخلق التمثلات الكبرى. بعبارة أخرى فإن الكاتب(نوري)يدرك من البداية أن صنع الرواية(كعالم مستقل بدلالته الإنسانية، ومتميز حسب إوالية إنتاجه) يتطلب وجود صراع يبرز على صعيدين متقابلين،هما:ذات الكائن، وكيان الخارج(بوصفه طراز حياة وسياقا تاريخيا ومنظومة فكرية عقيدية وخلقية)وهما،معا، في مساريهما التمثيلي السردي يولدان نسَق الصراع(التراجيدي)المرتبط بمصير الإنسان، وهذا على أساس بنية بحث(Laquête) تنتظم في أي نص سردي يستحق أن يتسمّى وينتسب إلى جنسه، لا لينقل حكاية وتوابعها ويحليها بتوابلها، منه كثير وفاض عن حاجة الكتابة، وأفسد مضمار الرواية، حدا اختلطت معه إمكانية التقويم والتجنيس، وأضحى جمع شتات أخبار ومعلومات متهافتة عن حادث، وافتعال الالتزام بقضية وقت، مصنفا روائيا بالزور ولغو التعاليق!
يتعلق الأمر في هذا النص السردي ببحث، بمعنى مسعى وطموح ذي طبيعة استكشافية، روحية، كالبحث عن الحقيقة،مثلا،هو فيه محكيُّ الرواية المركزي،دعك من تفاصيلها ونتوءاتها وفي الآن موضوعها، رهانها في بناء، بالأحرى إعادة بناء مأمول، تستعاد فيه حقوق ومُثل، وتصان فيه أعراق ومعتقدات، وفق فرضيات تاريخية وطروحات ثقافية بعينها، تتقاطع كلها حول مسعى نسج شخصية(بطولة)إشكالية، لو تهيأ لها ذلك، ما لا ينسجم مع تصور للروائية ذي طابع وإيقاع رومانسي (غنائي) ونقيض لمفهومها، وشرحه يطول.
يقود هذا البحث إسحاق الذي يغادر مدينته الأصلية بغداد راغبا في الانتقال إلى الغرب الأوروبي، وعوض ذلك، وبعد مغامرات شاقة يفقد فيها قريبا له، ويحبس سنوات في سجن سوري، يصل إلى بيروت ومنها بصُدف اتفاقية ينتقل للعيش في دير بالجبل، تابع لطائفة يتبين أنها جماعة آثورية، من شمال العراق، تتديّن بالمسيحية الكاثوليكية بتصرف وتأويل إصلاحي وتقشفي،لا يوافق تعاليم الكنيسة البابوية، بما سيجلب السخط على رهبانها الذين تتوالى حكاياتهم تنسج توليفة قصصية لمكان وفضاء الرهبنة والمراس الروحي، شبه الصوفي، وتصنع اللحمة المادية كذلك حيث تتمظهر حيوات هؤلاء الرهبان، وتعالقها مع بنية سلالية وتاريخية وعقيدية، هم جزء منها، متجذرة في تربة الكتابة، متنازعة بين الحقيقة التاريخية، التي هي هاربة دوما ونسبية، وبين فرضية المؤلف ولم لا نزعته التخييلية، باعتبار الرواية تخييلا بالدرجة الأولى، في تقويم النقد العالِم، لا المبتذل العائم.
محور هذا التراوح وبطله في الحقيقة هو الأب جوزيف، وليس إسحق، رغم تمثله بطولة ظاهريةهي في الحقيقة طافية، مرآوية انعكاسيةأكثر منها مضمرة وارتكازية، وخاضعة للهوى والشطحات(تنتسب إلى بنية تعبيرية قبل روائية). فالأب جوزيف عنوان المعاناة الدينية، ذاتية ودينية مذهبية، ثم سلالية بحكم ما يراد له تمثيله بالانتساب إلى الآثوريين، الذين يصرّ المؤلف على جعلهم مكان الآشوريين، ولعمري هذه قضية تستحق وحدها وقفة. هو أيقونة الصبر والثبات على العقيدة، داخلاً، والتحمل والمكابدة، تاريخاً، والتضحية من أجل رد الاعتبار لأبناء سلالته وإنصافهم، سيادياً، كما هو مضمرٌ في العمل وجهيرٌ في آن. وهو ملتقى ومفترق سبلٍ وبحثٍ،صعود وانهيار إيمان وأحلام رهبان الدير، كبارا وصغارا(الأب إلياس،المطران يوسف..) في تجربتهم الروحية وبحثهم، كلاًّعلى حدة، عن خلاص ما. إسحق، بطلا آخر وساردا، أبرزهم ولا شك باعتباره يروي السيرة الجماعية،أولا، ولأنه يطرح قصته، سيرته وإشكاليته المفترضة، بؤرة للعمل البحث كله، تثوي في عمقه الأطروحة التي بنى عليها ومن أجلها المؤلف روايته، ما الدفاع عن حق الأقليات وهوياتها الثقافية بل السيادية إلا أحد أطرافها وثناياها، شِنشِنةٌ أضحت محلّ عديد دعاوى، وتوظفُ في الخطاب الروائي العربي انسجاما،جدلا، مع واقع سياسي واجتماعي وعرقي ديني في خضم تحولاته، نتحفظ عن الإحالة إليهاتنزيها لمقولنا عن الهوى، يروم عندنا بالدرجة الأولى الكشف عن الإواليات الفنية للعمل الروائي ودلالاته انسجاما مع دواله وبنائه، الأهم.
معاناة إسحق هي في الصراع الذي يعيشه بين رهبانيته بفروضها والتزاماتها العقيدية ومقتضياتها السلوكية، وبين الغرائز والأهواء الدنيوية لم تنطفئ نارها في جسده، ولا تفارق تمثلاتها وأخيلتها واستعاراتها صحوه ومنامه،حتى صارت هذه الازدواجية صنوه، إشكاليته، لولا أنها ستتهافت في النهاية في ذوبان يظهر هذه الشخصية مصطنعة، ومفتقدة لهوية تاريخية وثقافية مركبة(Complexe) كما يجدر بكل شخصية إشكالية، لا مقتطعة من سياقها الاجتماعي والعقيدي لتوظف في البحث والاستجابة لمصير جماعي، بأدوات روائية اتفاقية، لم يكن ليسمح للرواية بأن تنمو عموماإلا في ذهن ساردها(مؤلفها) والتحول كذلك، الذي هو نمو منطقي، حدثي، وله إيقاع، بما يوفر التناغم الروائي الذي تحدث عنه غولدمان منذ زمن، طالما أن الرواية هي تعبير أدبي من قلب المجتمع، لا قبله ولا خارجه، أي ليست تجريدا ولا فرضية. وبكل تأكيد، فإن هذه الشخصية تمتلك مرتكزات شتى في بيئتها، وينزع المؤلف إلى صنع ملامحها من عجين هلاميتها كأي نحات لتخوض مسارها، وتنهج الخط المرسوم لها في سيناريو ينسجم إلى حد مع وضعها الصراعي،وعبورها من الجحيم (الصحراء، السجن، الضياع الخ..) إلى المطهر(الدير،الرهبنة، التصالح مع الذات، اكتشاف تاريخ منسي ومجهض، والرغبة في الإصلاح وتصحيح الدين، ومنه تقويم أخلاق الناس..). كذلك هي تعمل(العمل الروائي) بتضافر مع سنادات تاريخية أنتروبولوجية وعديد مرويات(خطابات)، ما همّ لبُّها من قشرتها، صحيحُها من زائفها، بلغة الصيرفة،إذ معلوم أن الرواية غير التاريخ،حتى والتوثيق من مصادرها(وكان لزاما على الكاتب توثيق مصادره، دعما لأطروحته،تنضوي زعما في متن التاريخي أكثر من استيحائه له، وهذه قضية أخرى).
وإذ نأخذ هذه الخصائص في الاعتبار، لوزن عيار الشخصية الروائية، طبعا، فإن هذه تحتاج إلى ما يُقيم معقوليتها، من جهة، ويقوِّم منطق مسارها ونهج مصيرها، من جهة ثانية. ليس من الناحية الأخلاقية المعنوية، وفي ما يصدر عنها من أقوال وتأتيه من أفعال، وتجنح إليه كذلك من خيالات أو هلوسات، يمكن أن نعزوها لنزوة التخييل. إننا نتحدث عن ذلك المصطلح البديع الذي ابتكره ابن طباطبا للشعر ونستعيره هنا للرواية مجازا وهو يلائم. هو ما يدعو إلى طرح جملة أسئلة، من قبيل كيفية التحول التي تخضع لها شخصيات الرواية، والحوافز التي تحكمها، أهي صادرة عنها، من طبيعة نموها، أم هي أيقونات خطابية تضاف إلى مسمى دير الأيقونات، محفل الرهبنة الطهرانية، ملاذا وبديلا عن الأرض الآثورية، وليس الآشورية،المفقودة والمأمول عودتها بعد الهجرة القسرية والاضطهاد الديني والشتات. ثم إلى أي حد يمكن تسويغ شخصيات لشحنها بخطابات تبدو، إما مصبوبة في جوفها صبّا، وإما هي بمثابة تدوينات وحواشٍ على متن سرد حبذا لو تُرِكَ لسياقه المناسب، ليستقل سردا مهيمنا عوض أن تهيمن عليه تيمة التاريخ ترويها مدونةٌ كاملة من الأخبار والسير والعبر والصيغ للتذكير وإقامة نصب في الحاضرـ عبر مرآة الرواية ـ إما تقابل وتتوازى مع المدونة الدينية الكنسية، أو تتقاطع معها، وهذا أفضل، وفي الحالتين فهي الغالبة بلا منازع.
ولا شك أن شاكر نوري تساءل قبل قارئه إلى أي حد، حتى وهو يستوحي قصة واقعية، يستطيع أن يجعل شخصاـ شخصية تنتقل بلا مقدمات،أو هي غير كافية، من مِلة إلى أخرى، هي ذاتُها تتخلص من الملة المعتنقةوإهاب الرهبانية بمقتضياتها، بمجرد خلع جبة الرهبان، صنيع أسحق وهو يتهيأ للنزول في مطار روما، يصل إليها بعد مجاهدة طويلة للنفس، وسعي حثيث من رؤسائه في الدير كي ينزل في الفاتيكان ليناقش أطروحة عن دير الأيقونات، وها هو، مثل أي فتىً نزقٍ، تراودُه، عجبا،عن نفسه غواياتُ مضيفةِ الطائرة،هي وهواجس الشهوة إلى حياة الملذات البشرية، ومحلقا في السماء، سريعا ينزل(يهوي)إلى الأرض ليُقبل بنَهم على المائدة الأبيقورية،لا يقبل أن يصبح الديرُ وطنا بديلا ولا السماء! لاشك تساءل،أيضا،إلى أي حد يمكن لهذه «القفلة» أن تحسم في الانتقال من الجحيم إلى المطهر، بكل هذا اليُسر المقلق، لينتهي صراع الراهب المُمضّ (جحيمُه) ذو البعد الذاتي، وكل معاناة الشخصيات والفجائع الآشورية (الآثورية) بالأحرى،المنقولة على لسانه،أو استخدم وسيطا لسردها وأيقونيتها، كبُعدٍ موضوعي.
في الحالتين معا، وبقياس جدارة المهارات والصيغ الفنية المستخدمة لدى الكاتب، وحدها تستحق تعيينا نقديا مفردا، فإن ما يلائم الإجابة على مثل هذه التساؤلات عندنا، وكذلك هو جدير بحوصلة في ختام قراءتنا ل «جحيم الراهب» يمكن التماسها في المنظور الأساس لهذا العمل، نعتبره ما رسم خطة الرواية وشخصياتها ومحكياتها وفوق هذا وذاك أملى خطابها، هو شكلا ومضمونا تبشيريٌّ، تبشيريٌّ بقضية، وللمنافحة عنها، وأدخل في ما يسمى بـ«رواية الأطروحة» التي يُبَجّلُ فيها القصد والسنادات والبرهنة، أخلاقية وقيمية، وهو اختيارٌ في الرواية ونوعٌمن كتابتها. غير أن من يتعاطى هذا النهج، ويتبنى منظوره، عرضةلأكثر من امتحان، من وساوسه القلق بين الرسالة المتبناة ونواياها ومدى مرونة وتكييف القالب الفني لاستيعابها. ومنه، الأصعب، احتمال المجازفة بمصداقية الرسالة نفسها، فيما لو ظهر أن مضمونها يمكن أن يتهافت قياسا ببحث الكاتب عن تماسك لعمله فنيا. بعبارة أخرى وأخيرة: على ما يقع الرهان في هذا النوع من السرد: الرواية، وهي عالم محكم ومحكوم بإوالياته الدقيقة، وأفقه التخييلي، أم ما قد تعُجّ به من خطاب بمحموله الإيديولوجي، ونزعته التبشيرية؟ لا أشك في أن شاكر نوري في روايته الأخيرة، هذه، كان على وعي بأنها مغامرة لا تخلو من مخاطر، وفي المجازفة قيمة، وطريقة للجواب محتواه هو سعي الجمع بين الحسنيين، نعني التركيب الخلاق الذي يظل طموح كل روائي حقّ، ونوري على دربه.
————–
أحمد المديني