حسن خضر
كاتب مصري
كانت ساعة الهاتف الرقمية تقترب من الرابعة عصرًا، حين توقفت السيارة لأول تفتيش، بعد عبورها بنا إلى جهة الشرق من جوف قناة السويس، عبر نفق الشهيد أحمد حمدي، عند بوابة تذكارية من الفسيفساء، مقوسة تعلو بداية طريق جنوب سيناء، وعليها ساعةٌ عقاربها مُعطلة! هذه ليست المرة الأولى التي أذهب فيها إلى سيناء، لكنها الأولى إلى «سانت كاترين»؛ لرصد مغامرة الصعود الروحية إلى قمة «جبل موسى» برفقة حجيج من مختلف الأجناس والديانات، واستطلاع مشهد شروق الشمس مِن أعلاه؛ تلك التجربة الفريدة التي يمتزج فيها سحر الطبيعة بقدسية المكان.
كنتُ قد أعددت قبل أيامٍ ما يلزم الرحلة، خاصة شراء قفّازين لحماية اليدين من البرد، وحذاءٍ رياضيّ ذي نعلٍ مرن، يعين مُسنًّا -جاوز الخمسين- على وطء حوافّ الصخور الحادة، أثناء الصعود إلى قمة جبل موسى الذي يبلغ ارتفاعه 2285 مترًا فوق سطح البحر. كما أمضيت وقتًا طيّبًا في قراءة آيات من القرآن الكريم، تتناول طور سيناء وموسى وقصته في سور شتى؛ ما وضعني روحيًّا في حالٍ من صفاء النفس والتشوق، حتى إني خلال السفر، شعرت للحظاتٍ بما قد يشعر به الحاج! ولمَ لا؟ والقاهرة من خلفي -في مسحةٍ فاطميةٍ محبَّبةٍ- شوارعها عامرة بسرادقات بيع حلوى المولد النبوي الشريف.
وها هي أولى خواطر صفاء الروح تتوارد، بعدما استأنفت السيارةُ سيرها بنا، وتجاوزتْ «رأس سدر»، كنت أتابع الشريط الساحلي عن يميني، وهو يتلوى كثعبان، يظهر ويختفي من خلف جبل حمّام فرعون حتى أبو رديس، وشمس الغروب تتهادى، في سبيلها لإطفاء وهجها الناري في مياه خليج السويس. حين التفتُّ إلى يسار الطريق، رأيت قمر الثالث عشر من شهر ربيع أول، فاقشعر جسدي، وتهللت سريرتي: «الشمس عن يميني والقمر عن يساري»! سبق لي أن رأيت القمر طالعًا في حضرة الشمس.. لكنني للمرة الأولى أراه مجسّمًا (3D) وبهذا القرب حقًّا، وقد حفَّ من استدارته زمن يوم واحد بقي على اكتماله بدرًا.
فور دخولك إلى سيناء، سوف تشعر بطاقة روحية إيجابية، وراحة نفسية، ربما لم تشعر بهما من قبل في مكان. فهي إلى جانب كونها أرضًا مباركة، فالهواء نقي، والسماء مفتوحة، تمتد تحتها صحراء شاسعة، تتخللها غابة من الجبال على امتداد الطريق؛ مثال: أم شومر، وحمّام موسى، والناقوس الذي تصدر صخوره أصواتًا أشبه بالناقوس، وجبل حمّام فرعون، وجبال الفيروز: المغارة، وسرابيط الخادم، والصهر؛ «وترى الجبالَ تحسبها جامدة وهي تمرُّ مرَّ السحابِ صنع الله الذي أتقن كلّ شيء»(النمل: 88).
تلك الغابة الجبلية التي تحوي بداخلها الكنوز والأسرار، ولبعضها قمم بركانية موغلة في القِدم؛ يسميها الجيولوجيون «الكتلة الصماء»، وهي إن أنت أمعنت النظر، وأطلقت عنان الحواس، لفككت رموز لغتها الفنية الموحية، بالنحت والتجريد. وأنت تتأمل مكونات هذا المتحف الجيولوجي المفتوح، من جبال، ووديان وهضاب، وكهوف، دع الخيال يصور لك ما يشاء. لأنك سترى في بعض الأودية كتلًا متوسطة الارتفاع من الحجر الأبيض، تبدو كل كتلة منها كحلقة من عدة أشخاص يقفون متكاتفين، وتتكرر تلك الكتلة بهذا التكوين، على مسافات متقاربة، بامتداد عمق الوادي بين جبال الساحل، كأنهم الحراس أو حفظة السر.
يهبط الظلام تدريجيًّا؛ وتغيب في الليل التفاصيل، ولا يبقى سوى الهواء النقي والسكون والنجوم التي بدت مثل قِطعٍ من الكريستال النقي، ترصع ثوب السماء الأسود، وتعين القمر على إشاعة الضوء، وكسر حدة الظلام.. وتفصح بُقع من الضوء الساطع على الجانب الشرقي من الطريق، عن وجود حياة ما هناك، في منتجعات استثمارية على ساحل خليج السويس. أما بقع الضوء الخافت، التي تتناثر تحت سفوح الجبال على امتداد الطريق، فتلك تجمعات سكنية بدوية، بيوتها البسيطة مبنية من الأحجار وخشب الأشجار.
وصلنا «سانت كاترين» محطتنا الأخيرة، بعد سفر استغرق حوالي سبع ساعات. جلست داخل المقهى المتفق عليه بالقرب من مسجد المدينة، ومنطقة الخدمات، ثم اتصلت بـ«الدليل» المُتَّفق معه، وجاءني خلال دقائق، فالمدينة ليست كبيرة، وأهلها يعرفون بعضهم البعض جيدًا. وسانت كاترين هي أعلى أماكن جنوب سيناء المأهولة بالسكان، حيث تقع فوق هضبة ارتفاعها 1600 متر فوق سطح البحر وسط منطقة جبلية وعرة، في نهاية وادي الإسباعية مع وادي الأربعين، وتحيط بها قمم جبال سيناء – موسى، والمناجاة، والصفصافة-، وسانت كاترين هو أعلاها.
ويعيش بالمدينة قرابة الـ 10 آلاف نسمة، ينتمون جميعهم إلى قبيلة «الجبالية»؛ بعشائرها الأربع (الحمايدة- الوهيبات- أولاد سليم- أولاد الجندي). ويسكنون المنطقة منذ القِدم. وقد ضم إليهم الإمبراطور جستنيان مائة عائلة من إقليم «والاشيا»، في رومانيا الآن. وعاشت هذه العائلات الرومانية الوافدة، مع قبائل العرب الأصليين -خصوصًا بني واصل والجبالية- واختلطت بها وذابت فيها، بعد أن تحوّلت للإسلام أواخر القرن السابع الميلادي. وبين عامي 1517 و1520م أضاف إليهم السلطان العثماني «سليم الأول» مجموعة أخرى من سكان «المطرية» شرق دلتا مصر.
ويعمل البدو هناك بالزراعة في بعض الوديان، والرعي، والتجارة والخدمات، ومؤخرًا السياحة. والفتاة البدوية ترعى الماعز والغنم، وتتعلّم إذا حرص أهلها على ذلك. لكنها عادةً حين تبلغ سن النضوج لا تعمل إلا في أضيق الحدود، أو في وظيفة حكومية بالمدينة. ولا يزال البدو رجالًا ونساء يحافظون على ارتداء زيهم التقليدي، خاصة النساء اللاتي لا تراهن إلا قليلًا، وهن ملثماتٍ كالرجال، أو بأغطية للرأس والوجه لا يظهر منها سوى العينين. وتضم سانت كاترين قريتين رئيستين، هما «الطرفة» و«السعال»، ويتبعها 31 تجمعًا بدويًّا، موزعين على 37 وادٍ.
حين وافاني «فرج» الدليل خلال دقائق في المقهى، قلتُ: جاء «الفرج»، واستبشرت خيرًا بسير الأمور على ما يرام، لكنه سرعان ما صدمني، حين أخبرني أن أخاه أخذ دوره «المحجوز لي» في طلوع الجبل، وأن الأدوار تتوزع على الأدِلاّء تبعًا لأنصبة عائلية. استنكرت تلك الخسّة المفاجئة، وبدا عليّ الانزعاج، خاصة أنني كنت أنسق معه طوال الطريق. فقلت له: إن مجموعة سائحين أجانب، أو ما شابه، ستكون أفضل ماديًّا بالطبع من صاعدٍ «محليّ» بمفرده! فاستشعر الحرج، وقال: لا تقلق، سوف أدبّر لك دليلًا آخرَ. وقام يتحدث في الهاتف، وهو يدور ويلفّ خائب الرجا، في أرجاء المقهى المفتوح للصقيع من كل جانب، وليس به من زبون سواي، والنادل الذي جاءني بالقهوة منذ قليل، يجلس إلى مائدةٍ -خالي شغل- برفقة أحد الأشخاص، فناديته وطلبت أخرى.
من مكاني، تأملت حركة دليلي الحائر، المخادع، فأيقنت أن ثمة مناورة سخيفة هنا، تحدث مع الشخص الخطأ، وأنني يجب أن أعتمد على نفسي! انتظرت اكتمال شحن بطارية الهاتف، من موصل للطاقة بالحائط جواري.. وقمت واشتريت تمرًا سيناويًّا فاخرًا في عبوة مغلفة، وزجاجتَي مياه، وبعضًا من اللدائن المحمصة كالبقسماط وغيره، والحق يقال: لا يمكن أن يضيع لك شيء تركته بين العرب.
سألت البائع عن الفندق، فاتضح لي أنه يبعد حواليّ أربعة كيلو مترات، والساعة جاوزت التاسعة ليلًا. وآن للجسد والدماغ أن ينالا قسطًا من الراحة؛ استعدادًا لرحلة صعود الجبل التي تستغرق ثلاث ساعات. وقفت على الطريق العام بالقرب من ذلك المقهى، لأجد وسيلة مواصلات، لكن دون جدوى. إذ لا تمر -بين الحين والآخر- سوى سيارات خاصة، حتى توقّفت إحداها، وأطل منها شاب ثلاثيني في زيه البدوي، وسألني: لوين يا حاج؟ قلت: إلى الفندق. وفتحت الباب، وفي لحظة كنت بجواره، وحقيبة ظهري الخفيفة أصبحت فوق حِجْري.. وبعد لوين؟ ومن وين؟ أنزلني أمام بوابة الفندق الجرارة على مزلاجين أرضيين، وحين أردت إعطاءه مقابل التوصيلة رفض بشدة، فأخرجت التَّمرَ، وأعطيته والحارس بعضًا منه؛ فتقبّلا ذلك بترحاب وود. شكرت الشاب «يونس»، وأعطيت الحارس رقم الهاتف ليجهز لي سيارة في الثانية عشرة ليلًا، لتقلّني من الفندق إلى مدخل الجبل.
في الوقت المحدد أقلّتني السيارة إلى المدخل المفضي إلى بوابة الجبل، وفي بدايته عند المنعطف، جداريةٌ عليها مفردات بارزة من البيئة السيناوية، ونَصُّ وصايا موسى العشر.. قبيل بوابة التفتيش الأمني على مشارف سفح الجبل، كان حشد من رجال البدو الذين يعملون بالسياحة، يتسامرون أمام «بازارات» تبيع ما يحتاجه الزائرون من أغطية للرأس، وبطاطين، أو ملابس ثقيلة، وكشّافات إنارة، وهدايا تذكارية جبلية من أحجار مختلفة الألوان والأشكال، بعضها مصوَّر، وأجملها -في رأيي- ما تيبَّس داخلها العشب منذ القِدَم، لأنك كلما كسرت قطعة منها، وجدت متوالية من العشب منقوشة بجوفها.
استشعرت أنني أبكرت المجيء إلى المزار، لكن لا بأس، فهذا أفضل. اشتريت ما ينقصني؛ كشّافَ إنارة وغطاءً صوفيًّا للرأس، وجلست وسط الأعراب على دكة خشبية، وضعها البائع، أشرب شايًا وأستأنس بالمكان والناس، مستجيبًا للغتي الروحية الخاصة، أنظر من أسفل للجبل الغارق في الظلام، إلا من عدة أمتار قليلة من الممشى المرصوف، تنيرها أضواء بوابة تفتيش الحقائب الإلكترونية، وكأنها ترشد أقدام الصاعدين إلى بداية الطريق الممتع الطويل.
تممت على أغراضي، ودفعت ثمن ما اشتريت، وقصدت بوابة الدخول، التي لم أعد غريبًا على رجال أمنها، الذين من دون شك تفحّصوني جيدًا، خلال الدقائق التي جاورتهم فيها عند البازارات. عامَلني المسؤولُ بمودة أثناء مرور حقيبتي، وسأل عمّن عليه الدور، فتقدّم صبي صغير السن، وقال: الدور عليّ. فأوصاه الضابط بألاّ يفارقني، وألا يتعجلني. وقال لي: لا تدفع مالًا للدليل، إلا بعد نزولك صباح الغد. انطلقت مع الصبي واسمه «موسى»، فوق تلك الخطوات المبلطة المنيرة، ثم شعرت مع بداية الظلام أنه سيرهقني، فخطاه أصبحت سريعة! جاريته لمسافة، ثم وقفت مكاني حتى انتبه لي وانتظر.. فقلت له بهدوء: ما زلنا قريبين يا «موسى»، إذا كنت متعجلًا، أعود الآن، وأستبدلك بآخر. فأبطأ سيره، ومشينا صامتيْن، حتى كسرتُ ثِقَل الصمت بالحوار، فالكلام يحملُ المتكلمين، ويقطع الوقت، ويقصّر الطريق الطويل.. قلت له: يا «موسى» تعرف أنك ثاني نبي أقابله اليوم بعد «يونس»، فابتسم، وارتاح، وبدأنا نغزل بخيط الكلام عن الجبل، وعن دراسته، وعمله ليعين أسرته بعد وفاة والده.. فأكبرته في نفسي، وارتحت إلى صحبته.
بعد مسافة من السير بدأت أشعر بالتعب، فجلسنا قليلًا فوق صخرة مناسبة، ورحت أتطلع للنجوم التي لم أرها بهذا الكم وأحجامها أكبر من المعتاد، وأنصت لأصوات البدو الذين يعيشون في جوف الجبال المحيطة بدير طور سيناء، الذي أمر بتأسيسه الإمبراطور جستنيان في القرن السادس الميلادي، لكنه سُمّي بدير «القديسة سانت كاترين الأرثوذكسي» في القرن التاسع. ومررنا من أمامه منذ قليل، على يمين الصاعد، عند قدم جبل «حوريب» المذكور في العهد القديم، أو جبل موسى الذي تلقى عليه من ربه لوح الوصايا.
ويُفتح الدير في الصباح أمام الزائرين لسويعات قليلة.. وهو الدير المسيحي الأقدم تاريخيًّا، ويديره أسقفُ سيناء الذي لا يتبع سلطة أي بطريرك، ولا مجْمَعٍ مقدس، لكن تربطه علاقات وطيدة ببطريرك القدس؛ ويُذكَر اسمه في القُدّاسات، كما يدير غيره من الكنائس والمزارات المقدسة بمنطقة الطور وواحة وادي فيران والطرفة. ورهبان الدير وقساوسته يونانيون، وليسوا عربًا أو مصريين. وتوجد بداخله «كنيسة الموتى»، وهي حجرة لحفظ جماجم الموتى، وبئر سيدنا شعيب، وكنيسة العُلّيقة خلف الكنيسة الرئيسة، ومسجد صغير بناه الحاكم بأمر الله. وبجوار شجرة العُلّيق المقدسة -التي اشتعلت لتَهدي موسى إلى الطريق- يوجد مقام النبي هارون، وهو تاريخيًّا لا علاقة له بالنبي هارون الذي مات خلال التيه في سيناء، وقبره غير معروف. وقد أدرجت اليونسكو المنطقة في عام 2002 ضمن قائمة التراث العالمي.
بعد أن استأنفنا الصعود، نصحني موسى أن أستأجر جملًا، لأن الطريق طويل وشاق. ترددت في بادئ الأمر مؤْثِرًا المشقة على الراحة في تجربة أراها روحيةً كهذه. وبعد مسافة أطول أيقنت أنني لن أستطيع الصعود سيرًا على قدميّ لثلاث ساعات، فسألته: أين الجمل؟ وبكم؟ فتوقف ونادى شخصًا ما، رد عليه، وأقبل نحونا، وحين حملقت في الظلام الذي يخفف من حلكته ضوء القمر والنجوم؛ لأعرف من أين أتى الرجل؟ رأيت مجموعة من الجمال تَنِيخ قُرب عشش سكنية بسيطة، بُنيت من الأحجار والخشب، يسكنها بدو يعملون بالسياحة وخدمة الزائرين. جاء الرجل واتفقنا على السعر، سألته: ما اسمك؟ قال:«محمد»! ركبت الجمل، وسحبه الرجل، قلت له: أنت عجوز مثلي، لعلك تعرف اسم هذه المجموعة الساطعة من النجوم، فنظر إليها، وقال: لا. لكن أبي كان يعرف، وما أخذتها عنه.. كان «موسى» قد استأذن ومضى نحو تلك العشش، بعد أن تبادلا حوارًا قصيرًا.
تجاوزت الساعة الثانية بعد منتصف الليل، وما زال الطريق يتلوى بالجمل صاعدًا بي فوق أحجار أشبه بالمَدَقِّ الممهد، لكنها ليست كذلك على الإطلاق؛ فأغلب الأحجار عالٍ سميك، وحادّ السطح. حتى أني أشفقت على الجمل. كانت حساسية نقلات أقدامه تُظهر مدى خبرته بالطريق، وحرصت طوال الوقت على تسليط ضوء كشافي الصيني الشحيح أمام قائمتيه.. وتساءلت في نفسي: تُرى كم مرة يوميًّا يصعد الجبل هذا المخلوق الصبور؟ فقلت لمحمد: دعه يسترح قليلًا، فقال: لا، بيقطعها مرة واحدة، إذا استراح بيتْعَب! لحقنا أثناء الصعود بآخرين من أعمار وجنسيات مختلفة، وبعضهم كبار سن، يصعدون سيرًا على الأقدام أو على جِمال، وقابلنا هابطين كثرًا، ووجدت «موسى» بانتظارنا على جانب الطريق الصخري، وبدت على ملامحه آثار الاستيقاظ من النوم. قلت له: زين ارتحت لك شوي؟ وأخذ من «محمد» قيادَ الجمل.
عرفت من «محمد» الذي أصبح بمحاذاة الجمل، يحثه بصوته على المسير، أن هذا الطريق هو المعتاد، وأن هناك طريقًا آخر أقدم وأصعب، يُغلقُ ليلًا، هو طريق «وادي الأربعين»، وبه بساتين مشمش وعنب وتين وزيتون، ويعيش به ما يقرب من أربعين أسرة بدوية، يسير أطفالها -ممن لا يملكون الجمال- خمسة كيلومترات ذهابًا لمدارسهم كل صباح. ويلتقي الطريقان عند استراحة تقدم المشروبات قبيل المرحلة الأخيرة، وهي حوالي ثمانمائة من الدرجات الصخرية الضخمة غير المشذبة، والأكثر حدة وانزلاقًا من بقية الطريق.. عندها تنتهي مهمة الجمال. دفعت لمحمد ما اتفقنا عليه، ودخلت برفقة «موسى» إلى الاستراحة، وضعت حقيبتي، وذهبت إلى كشك خشبي به حمام.
عدت فوجدت الاستراحة أكثر ازدحامًا بالناس واللغات والألوان، الأسبانية والعبرية والروسية والإيطالية، كانت أكثر اللغات حضورًا، بين الجالسين والجالسات على راحتهم فوق مصاطب تعلوها مفارش مصنوعة من قصاصات القماش وتسمى «الكِلِيم».. ومن حين لآخر يعلو صوت صاحب الكافتيريا معلنا عن مشروباته بلغة إنجليزية ركيكة لكنها مفهومة للجميع. اتخذت لي مكانًا في الركن وخلعت حذائي، فجاءني موسى وقال لي على راحتك، سأعود إليك في الرابعة والنصف صباحًا، وشرح لي كيف تسير الأمور، أقل مشروب هناك بثلاثين جنيهًا، والبطانية بسعر، والمرتبة إذا أردت بسعر. فقلت أريد قهوة وبطانية فقط، انصرف «موسى» وناولني الرجل ما أريد، فاتخذت لنفسي زاوية في الركن بعيدًا عن هواء الباب، شربت القهوة، وأرحت ظهري إلى الحائط، ثم التحفت البطانية وفردت ساقيّ اللتين سرعان ما ضممتهما، لأفسح مكانًا يكفي لزوجين عجوزين ألمانيين، ربما جاوزا الثمانين، جلست زوجته على الطرف الآخر من المصطبة، ووضع هو رأسه فوق حجرها، وفرد ساقيه، ناحية ساقيّ فسحبتهما ليكون على راحته. هزت لي السيدة رأسها وابتسمت، ونام الرجل خلال دقائق، كطفل صغير.
كنت أغفو وأصحو على هذا الوضع، حتى جاء «موسى» الدليل، قبل الخامسة بقليل. أفقت وذهبت إلى الحمام، وغسلت وجهي، وعدت شربت قهوة في عجالة وأكلت عدة تمرات وبعض البقسماط، وقمنا بهدوء وسط الجموع لصعود السلالم الأخيرة، إلى قمة جبل «موسى»، التي مكث فوقها النبي أربعين يومًا يناجي ربه، ويتلقى عنه الرسالة. وفي أعلاها صخرة ضخمة أشبه برأس فيل، تحمل كنيسةً صغيرة الحجم جدًا، يعلو سطحها الهرمي صليب نحاسي مفرغ صغير، ومسجدًا أقل حجمًا، يعلوه مجسم نحاسي للفظ الجلالة بخط الثلث بديلًا للمئذنة، أسفله كهف، منحوت في جوف الصخرة يتسع لمحراب صغير، تهبط إليه عدة سلالم.
كانت الشمس توشك على الشروق، حين اصطفت الجموع فوق قمة جبل موسى، في انسجام روحي فريد، تلاشت فيه الديانات واللغات والأعراق.. الكل يدعو الله ويبتهل، أو يناجي، أو يصلي، وفق طريقته، والهواة جاهزون بالكاميرات لالتقاط وتسجيل هذا المشهد النادر المدهش، والشمس تُشرق ببطء من بين السحاب القريب، فيتغير لون السماء وتشكيلها كل دقيقة تقريبًا.. تصادف أن كانت وقفتي على الحافة بجوار عائلة يهودية، من زوجة وزوج تتوسطهما طفلتهما الصغيرة، أخرج الأب كتابًا من لفافةِ قماشٍ، افترشها على حافة سور الجبل، وفتح كتابه المقدس، وراح يتطلع للشمس وهو يقرأ منه في صمت إلا من بعض التمتمات. وبين الحين والآخر كان يضحك لطفلته، ويقرّب شفتيه من الصفحات، ويهمس للسطور، وهو يجذب الطفلة تحت إبطه نحو الكتاب.
ومع ضوء النهار البازغ، يصبح المكان من حولك أكثر جمالًا، وباعثًا على المتعة، خاصة حين تدرك مدى ارتفاعك عن الأرض، وتنظر إلى الأسفل لترى مباني الدير وملحقاتها، تبدو كعلب ثِقاب صغيرة الأحجام للغاية، يميزها لون أسطحها الأبيض الموحَّد.. وتحيط بها الجبال من كل ناحية، جبل موسى الذي تقف الآن أعلى قمته، وجبل الصفصافة، وجبل عباس، وجبل «دكّا» أو المناجاة، وبالقرب منك قمة جبل سانت كاترين.. بكل تفاصيلها الجيولوجية المبهرة، وتلمس السعادة والراحة تنعكس على وجوه الجميع كبارًا وصغارًا، وتتجسد في انفعالاتهم العفوية هنا وهناك، فالنهار له عيون.
أثناء هبوطي الجبل على قدميّ ببطء وسعادة وهدوء، حرصت على التوقف كلما شاء لي ذلك أتأمل وأصور وأكلم الناس، وأوزع التمر والبقسماط الباقي على الأطفال أثناء الطريق، و«موسى» يسبقني وألحقه، ثم يسبقني وألحق به، حتى وافيته في استراحة كنا مررنا عليها ليلًا وأعجبتني، لكنها كانت مزدحمة بالناس.. دخلت لالتقاط الأنفاس، وشرب قهوة تعين عينيّ اللتين أثقلت أجفانهما قلة النوم وكثرة الإجهاد.. كان اسم صاحب هذه الاستراحة «صالح»، فضحكت وقلت مداعبًا: ما هذا اليوم الطيب المليء بالأنبياء! يجب أن أعود مرة أخرى.