بين 1920 و 1994 يمتد ارخبيل هائل من السنين والتقلبات ومن المجازر التي لا حصر لها ومن ابداعات الانسان واكتشافاته وتوقه الدائم الى المجهول … بين هذين الزمنين تمتد حياة الاستاذ «جبرا ابراهيم جبرا» كواحد من كبار مبدعينا عبر هذا القرن الباحث عن وجهه الحقيقي وسط الانقاض والجثث والنيران .
من مكانه الولادى ببيت لحم حتى هجرته الدراسية والعرفية الأولى باتجاه الغرب الاوروبي وعودته الى العراق الذي اختاره موطن اقامة وابداع 1948، ابان السقوط التراجيدي لموطنه الاول لتبدأ معه رحلة التأسيس والبحث فى اعماق الثقافة العربية وتطلعات التجديد والتحديث الآخذة فى الانجاز والتبلور والاسئلة .
كان جبرا كما يعترف بذلك محبوه والذين ليسوا كذلك ، من اهم المساهمين فى صياغة الثقافة العربية الحديثة وبهويتها وملامحها القلقة والمندفعة لفك اسرها وقيودها صوب افق يتوسل الرحابة والحرية والابداع .
كانت حياته المتوترة دوما بالابداع والكتابة في شتى حقول المعرفة والفنون والترجمة ، حياة غزيرة بالانتاج والحيوية ، بمثابة معين ومرجع سواء لمجايليه او من اتى بعده ، حياة المعرفة عبر مراياها المتعددة والمسكونة بثقافة موسوعية فريدة .
كان حارث ارض الثقافة ورائدها بجانب اقرانه فى صمت واخلاص وتواضع نادرا ما نجده فى دنيا العرب المعاصرة .
* * *
اخر لقاء كان لي بالاستاذ جبرا فى مهرجان جرش بعمان ، لم يتغير كثيرا رغم سنوات القسوة والحصار وموت الاحبة اقربهم موت زوجته ورحيل آخرين عبر اصقاع الارض الموحشة ، اما هو فلم يختر الرحيل رغم الشروط المغرية لمكانة شخص مثله «اختار السفر في الروح المدماة بالهجرة الأولى» كما كتب ضياء العزاوي… وغرق في الكتابة والتأمل والذكريات ليراوغ الما وفجيعة فوق طاقة اي احتمال …
كانت الكتابة ملاذه الاخير، هو الذى اختاره خيار وجود وفعل حياة وموت منذ بداية حياته ولم يجد غيره فى آخر الرحلة اشد اخلاصا وديمومة فى البقاء والدفاع عما تبقى لهذا الكائن من انسانية ونقاء امام زحف الاستئصال لكل ما يمت لهذه الوجهة المحاصرة من صلة .
كانت جلساته بعمان لاتذكرنا بأي موت قادم فى الافق ، رغم اننا رهائنه فى كل هنيهة ولحظة، ربما بسبب حيوية جبرا واحساسنا بأبوته الصادقة الحنان فى المضمرة دوما من غير تصريح او تعال أو ما يشير الى ذلك . أبوة لايستدعي القتل وفظاظته وانما تستدعى المحبة .
لكن "كان ما سوف يكون " كما يعبر الشاعر الكبير… ففي صباح ذلك اليوم وكنت لم اقرأ اخبار الصباح بعد جاءني الصديق عبدالله الحراصى ليخبرني ما يظن أنني عرفت عن وفاة الاستاذ «جبرا ابراهيم جبرا" وكنت قبل اربعة ايام على مكالمة تليفوينية معه لاذكره بالمادة التي وعدنى بارسالها فى عمان ، مكالمة استمرت وقتا طويلا وهو يرتشف قهوة الصباح ، تلك القهوة التى احبها طوال حياته المفعمة بالجمال والحب والشتات ، وكأنها واحد من احاديث وداعه الاخير.
ما كنت اظن ان الرسالة ستصل ، لكنها وصلت مع النصوص الشعرية التي قال عنها فى المكالمة التليفونية انها آخر ما كتب ، وكما توضح ذلك رسالته التى ننشرها مع نصوصه الاخيرة .
واذ اتشرف بالقيام بذلك وبما خدمتني به الصدفة والعلاقة فان ذلك لايقلل من حزننا على الراحل الكبير الذي غاب وسط صخب شخصياته واصواته ومراياه حيث يبزغ صوت سراب عفان .
«من هنا الى اقاصي الصين ، فى كل واد وعلى كل جبل تتفجر عيون الظلام والبؤس
والتوق – وكذلك الظلم ، من ذوى القربى وذوى البعد على السواء… وربما الهوس ، والعشق
ونحر الذات ".
سيف الرحبي