صدام الزيدي
كاتب يمني
40 سنة و30 ألفًا من جبال الحيرة وكثبانها.
«بلغت الأربعين»، فمي حزين، وعقدة في لساني، والصداع يضرب رأسي في خواتيم ليلة احتفيت فيها بنهاية عالم (وهميّ) تعايشت معه وكشفت خباياه، ورأيته نقطة صغيرة في دائرة صغيرة جدًا في إصبعي، التي في كل ساعة تحدثني بلغة أقوام جدد.
آخر سنة ميلادية، كانت مرعبة بما تحمله الكلمة من معنى: تعلمت فيها ما ينبغي لإنسان تعلمه في 900 سنة، على الأقلّ… هكذا بكل بساطة أمسكت يدي بقدح فيزياء، وشرِبت من نهر أزرق مدفون تحت الثريا الكونية…
في المكان الذي أكتب منه، ملايين الوجوه المسطحة والمكعبة والمربعة تنتشر على الجدران، كلها تنظر إليّ، ما يجعلني أخفف من وطأة سخطي من هذا المصير الذي حُمِّلت في أتونه 10 جبال أولها في مكة وآخرها في البلقان….
لم يحدث شيء مما نتوهم: (ولادة/ طفولة/ مراهقة/ شغف بالجنس الآخر/ قصص حب/ دراسة جامعية/ زواج/ إنجاب/ وظيفة/ …..)، كل هذا لم يحدث من مشرق الشمس حتى المغرب الأميركيّ… ما حدث هو أن دورة واحدة تمضي في طريق الخلق والتكوين، بدَأَت الآن، وبعد مليون سنة في المكان نفسه الذي أكتب منه، بدَأَت لتوها…. يا إلهي….
لا موت يحدث، لا ولادة، لا مدنًا تنشأ وتكبر، لا بحار تتموج، لا محيطات تعبر نفسها؛ كل ما في الأمر، شريط هولوغرام يمشي بسرعة فائقة جدًا، نلتقط صورًا في سهوله وجباله، وفي اللحظة نفسها كائنات بعيدة تلتقط الصورة نفسها وتلقي النكات في حفلة شاي التأمت على رصيف مقهى يسافر هو الآخر منزلقًا في هوة الشريط التي ننزلق فيها نحن والتراب والماء والأشجار والجرائد وقنوات الأخبار والقنوات المشفرة والمعكّرة وإذاعات الـ F.M وبسكويت ماري والسفن والغابات وملاعب الغولف وضحكات أطفالنا وأحلامهم وهم نائمون/ ينزلقون معنا في الشريط ذاته لمخرج سينمائي كبير ينفذ أوامر رب المشارق والمغارب…. كم هو إيماني بهذا الرب برغم أنف أصدقائي (الملاحدة)!
تعبت كثيرًا فيما مضى، لكني مؤخرًا اغترفت من الطمأنينة حتى امتلأت روحي. تجربة 40 سنة خلَسَت جلدي الأول الذي كنت أرتديه وأنا أخرج صباحًا أقود قطيعًا من أغنام مُحجّلة قاصدًا جبل ريشان والتُّرنجة وشِعب الظُّب والمُكيمِن، متحينًا لحظة خروج (……)، تقود قطيعًا من الأغنام بيدها (زمزميّة) ماء مُبخّرة، وفي جيبها مليم معسل، وفي قلبها رماد ودموع وأغنيات الراعيات…
بلغت الأربعين…. نهوي جميعنا في داخل شريط هولوغرام، كل منا له حكاية. أنامل أمي الحبيبة ما زالت تعبث بشعر رأسي، والليل حالك، والحمى تنال مني، وعطشي شديد، و(دبّة الماء المشوّلة) في النافذة المفتوحة بلا زجاج ولا عازل، وأنا مريض، وغدًا امتحان عند الأستاذ السوداني في مدرسة «بير الغمر»، ولن أستطيع الذهاب صباحًا إلى هناك. يكفيني من الحياة كلها أن أصابعك (يا مَّه) عبثت في غير ليلة بشعر رأسي وأنا ممدد بجوارك تنهشني الملاريا ويذبحني زماني ومكاني، وكلما قلت (أَمَّه) ارتوى حلقي بشربة ماء باردة من يديك، والديَكة تصيح عند أول الفجر، وأبي يصارع كثبان (الربع الخالي) عائدًا من السعودية بسيارته (الشاص) حاملًا عفش المغتربين إلى ذويهم، وعبد الحميد ابن أخي أمين مفقود منذ أسبوع وكلما تذكرت هذا الأمر ضربتني كهرباء فمزقتني ورمتني لكلاب صنعاء الملعونة، وابنتي أسوار تناديني من زاوية غير بعيدة من داخل شريط الهولوغرام، وأبرار من ورائها بمسافة تسعين ألف سنة (هولوغرامية)، ومازن في الطابور نفسه لكن من مسافة (220 ألف سنة) أبعد قليلًا، ودمعي لا يجفّ.
ولأنني غريب الأطوار، منعزل في عالمي المطبوع بالرهبنة والسهر والتوحد والصمت، فقد قررت الاحتفال بأربعينيتي وحيدًا، في تمام الـ 6:35 من أصبوحة يوم سبت، والناس نيام، ولا موسى في الخزانة لأحلق ذقني عند انتصاف النهار.