آه من تلك الذاكرة التي تسعدنا وتشقينا، فكم من الخبرات البهيجة التي نجد متعة في استدعائها، وكم من الخبرات الأليمة التي نشقى بها بفعل الذاكرة! ولكن الخبرات البهيجة التي نجد متعة في استدعائها تظل عوضًا لنا عن الذكريات الأليمة، كما لو كانت مخزونًا أو رصيدًا من مباهج الحياة ومتعتها. ولذلك فإننا بدون الذاكرة لا نكون شيئًا؛ لأننا لن نعرف عندئذ الألم الروحي ، وإنما أيضًا لأننا لن نعرف البهجة، فبهما معًا نتميز كموجودات بشرية، ونكون وجودًا حقيقيًا في غمار هذا العالم. ومن الخبرات العميقة المبهجة في حياتي التي ساهمت بشكل ما في تشكيل شخصيتي ورؤيتي للعالم… تجربة البحر.
في عُمَان عرفت تجربة البحر الحقيقي. ولقد خضت هذه التجربة بحكم ولعي بالصيد الذي جعلني ألازم البحر من حين لآخر خلال فترة عملي هناك في بدايات التسعينيات. لم أعرف الصيد كهواية إلا بعد أن بلغت الثلاثين من عمري. بدأت ممارسة تلك الهواية كالكثيرين في ترع مصر ونيلها ، ولكن كلما أوغلت فيها لم تعد تشبعني تلك الترع ولا الصيد عن شطآن النيل الوديع ولا حتى شطآن البحر. شيء ما في تجربة الصيد يشدك إلى التوغل بعيدًا. وكلما توغلت عرفت شيئًا عن هذا العالم اللامرئي الذي يسكن في الأعماق، وعرفت شيئًا من فنون التعامل معه.
في الصيد متعة الترقب والتوقع الذي يسبق الانقضاض بغية الظفر والانتصار.. متعة غريزية بدائية، ولكنها تشحذ طاقة الذهن والانتباه في شيء بسيط بدائي يحرر الذهن من تشتته وتوزعه؛ ولذلك يصبح الذهن صافيًا مهيأً للتأمل.
في البدء كانت تجربتي مع البحر في عمان لا تزال غضة تكتفي بالشطآن، فكنت أذهب إلى شطآن مسقط التي يرتادها السياح وبعض قاصدي المتعة من أمثالي، حيث توجد الجزر القريبة من الشاطئ التي لها بدورها شطآن خاصة بها يرتادها الزوار ليقضون نهارهم مستمتعين بالمشاهد الخلابة ، ومتحممين بالمياه الوادعة أو متجولين في نزهة بحرية بقارب حول تلك الجزر. ولم يكن يعكر صفو تأملي للبحر وحبي لممارسة الصيد سوى وجود هؤلاء الزوار، أو ربما كنت أشعر شعورًا خفيًا فطريًا بأن هذا الذي أخبره ليس هو البحر الحقيقي، وأنه لا بد أن يكون شيئًا ما أبعد من هذا وأكثر منه عمقًا إلى ما لا نهاية.
أدرك أصدقائي العمانيون مدى حبي للبحر وافتتاني به؛ فدعاني سيف الرحبي وناصر العلوي أنا وصديقي المصري محمود عبد العاطي (رحمه الله) إلى رحلة صيد حقيقية في بحر حقيقي من بحور عمان. جاءت هذه الدعوة أثناء سهرة قضيناها معًا، واتفقنا على اليوم الموعود وعلى وجهتنا. كان مقصدنا هو رأس الجنز المجاورة لرأس الحد: أسماء غريبة لم أكن أعرف شيئًا عنها إلا من خلال الخارطة.
٭ ٭ ٭
عندما نسافر إلى مكان مجهول غير مطروق تستولي علينا متعة غريبة من ذلك النوع الذي يوقظ الرغبة البدائية لدى الإنسان في كشف المجهول. كان هذا هو الشعور الذي لازمني منذ بدء الرحلة وأخذ يتنامى كلما انطلقنا شيئًا فشيئًا بعيدًا عن العمران. كلما ابتعدنا كانت المسافات الواقعة على الطريق بين القرى تتباعد، وكانت القرى نفسها تقل عددًا وتتضاءل حجمًا بالتدريج، حتى تجد قرية قوامها عدة بيوت بدائية لأناس يعيشون على الرعي وقليل من الزرع.
كان الليل قد أرخى سدوله حينما وصلنا إلى مفترق طريقين علينا أن نختار أحدهما، لم تكن هناك سوى لافتة تشير »إلى الأشْخَرة«، فسلكنا الطريق الآخر. كان الطريق وعرًا، وسرنا فيه طويلاً حتى بدا لنا أننا ضللنا طريقنا. لم يكن أمامنا سوى أن نواصل السير في هذا الطريق الوعر إلى غايته حتى نصل إلى البحر ونجرب السير بحذائه. ولما بلغنا البحر صادفنا دربًا شديد الوعورة بحذاء الجبل الملاصق للبحر، فسلكناه حتى تعاظمت وعورته علينا وادركنا أنه لن يوصلنا إلى شيء وأننا تهنا لا محالة. كانت السيارة من ذلك النوع المعد للسير في الطرق الوعرة، ولكن لا يمكن لأية سيارة أن تجتاز هذا الطريق بعد الموضع الذي توقفنا عنده وبدأنا نعود أدراجنا.
لم ينتبني شعور القلق أو الخوف، وإنما غمرتني متعة عارمة: لقد طرقنا مكانًا لم يمسسه بشر بأي أذى… إنها الطبيعة كما خلقها الله، وراحت تشكل نفسها بنفسها. كانت الصخور قد بدأت تكشر عن أنيابها وتطل برؤوسها المدببة متأبية على ارتياد البشر لها، وهذا ما جعلنا نعود أدراجنا مرتادين الصخور الأقل وعورة. كان موج البحر يرتطم بتلك الصخور ويفيض عليها. كل شيء كان يتلألأ في ظلام الليل بفعل ضوء القمر الفضي المنعكس على صفحة الماء، وعلى الجبل والصخور السوداء التي نسير فوقها ويشع من بينها تلك الومضات الفسفورية المتلاحقة التي تضيء مع كل موجة من أمواج البحر الخصب العفي وتنطفئ بعد تراجعها، لتعود مع موجة جديدة في نوع من العود الأبدي. صمت بهيم مطبق لا يقطعه إلا ارتطام موج البحر بتلك الصخور وتراجعه من بين الشقوق. ليس هناك شيء بشري يمكن أن تراه أو تسمعه في هذا المشهد: فقط صوت الطبيعة وتجلياتها، وسرطان البحر الذي يسارع نحو شقوق الصخور متشبثًا بها. شعور بالمهابة والجلال يتولد هنا عن وحشة الطبيعة في بكارتها الأصلية. ولكن جلال الطبيعة هنا ليس من ذلك النوع الذي يهدد وجودنا؛ ولذلك فإنه يكون مقترنًا بالجمال، ويدعونا إلى التأمل الجمالي للمشهد في جلالته ومهابته. كم يفتقد الإنسان تلك العلاقة المباشرة مع الطبيعة؟! ترى كم من إنسان جرب يومًا ما أن يلتقي مباشرة مع مثل هذه الطبيعة الغفل البكر التي ينبغي أن يلتقي بها مرارًا ويخوض غمارها؟!
حينما عدنا أدراجنا وسلكنا طريقًا آخر، بدت لنا أضواء خافتة تتلألأ من بعيد، فبلغناها لنسأل هناك عن الطريق المؤدي إلى رأس الحد ورأس الجنز. أدركنا أخيرًا بغيتنا قبل الفجر بسويعات، وخيمنا بين جبلين بجوار الشاطئ…تلك هى رأس الجنز.
نصبنا خيمتنا في السهل الرملي الضيق الواقع بين الجبلين. افترشنا الأرض خارج الخيمة، والتحفنا السماء في تلك الليلة القمرية التي ترصع سماءها ملايين النجوم، ورحنا نتسامر حتى قبيل الفجر.. موعد خروج السلاحف من الماء لتضع بيضها. سرنا نتهادى لنتلصص على هذا المشهد المتناغم مع ما حوله من قوى الطبيعة الغريزية التي تعمل في صمت منذ ملايين السنين دون خطأ ودون أن يعكر صفوها شيء، إلى أن جاء البشر الذين تميزوا وحدهم بالرغبة الدائمة في خرق قوانين الطبيعة ومحاولة إزعاجها. أذكر أنني لم أشاهد مثل تلك السلاحف العملاقة النادرة من قبل إلا في بحر جزر الديمانيات المقابلة لولاية بركاء العمانية المشهورة عند علماء الأحياء البحرية بأنها موطن لأنواع نادرة من السلاحف: في البدء بدا لي الأمر وكأن هناك صخرة ناتئة في الماء، ثم تبين لي عندما اقتربت بالقارب الصغير أنها ذكر سلحفاة يمتطي أنثاه. كانت رأسه تشرئب ربما ليتنفس الهواء اللازم للجهد المصاحب لفعل التناسل الصامت. ولما اقتربت أكثر بدافع الفضول صدرت عن الذكر صيحة غضب عارم وغاص في الماء مع أنثاه.
عدنا أدراجنا لنغفو قليلاً حتى الصباح، فبت مستلقيًا على ظهري أقلب البصر في هذه السماء المتلألئة وهذا الشعاع الكوني الذي يفيض على المكان. لم يغالبني النوم ولم أحاول أن أغمض عيناي، وراحت تتداعى على ذهني الذكريات والتأملات. غالبتني مشاهد الذاكرة التي تتقاطع مع لحظاتها مشاهد الطبيعة الآسرة التي تكتنفني. حين تصفو الطبيعة يصفو الذهن والتأمل؛ ولهذا قال حكماء الرواقيين »عش وفقًا للطبيعة«. هذه حقيقة عرفتها من الخبرة:
في الليل تبدو لنا الأشياء والموجودات بخلاف ما تبدو لنا في النهار. حتى الأمكنة التي تعج بالأشياء وصخب البشر في النهار، تسكن في الليل وكأنها تدعونا إلى التأمل واكتشاف سرها. فما بالك بالأمكنة الساكنة في النهار التي لا يطالها ضجيج البشر. مشهد السماء المرصعة بالنجوم في الليل الساحر مشهد لا يعرفه سكان المدن. طالما عايشت ذلك المشهد حينما كنت أبات الليل على السطح العلوي لقارب في البحر الأحمر بقرب جزيرة شِدْوان أو رأس الجِمْشَة. تأملت مغزى عبارة كانط العميق البديعة التي تقول: »شيئان يملآن النفس بالإعجاب والروعة: السماء المرصعة بالنجوم من فوقي، والقانون الخُلقي في باطني«. إن الشق الثاني من هذه العبارة يمكن أن نتعلمه من الفلسفة (فلسفة كانط)، أما الشق الأول فلا يمكن أن نتعلمه إلا من الطبيعة.
وللبحر حالات وأحوال بالليل والنهار: مد وجزر بفعل صلته بالقمر، هيجان واضطراب بفعل الرياح، ثم هدوء وسكون.. سكون يخيف العارفين به إذا بات صمتًا مطبقًا؛ لأنهم يتوقعون بعده هيجانًا واضطرابًا. أعرف تلك الحال عندما أشاهد الجبال من بعيد يكسوها الضباب بحيث تبدو غير مرئية. وهناك أوقات معلومة يتوقعها الصيادون المحترفون والهواة المغامرون. ولكل حالة من حالات البحر جلالها وجمالها الخاص: البحر المضطرب الهائج على نحو يهدد وجودنا، يشعرنا بالجلال المطــــلـق الــذي لا يتيح لنا أن نتأمله إلا بعد أن تنقضي التجربة.. إنه جلال الطبيعة في عنفوانها الذي اطلعنا عليه كانط وشوبنهاور. ولكن أجمل مشاهد البحر في علاقته بما حوله وبالسماء هي تلك التي لا يكون فيها البحر هائجًا مضطربًا على نحو يهدد وجودنا، ولا يكون ساكنًا سكونًا مطلقًا، وإنما هي تلك التي يداعب فيها البحر نسيمًا عليلاً يرقرق أمواجه حتى يتراقص على صفحته ضوء القمر الفضي الساطع، وتلك أنسب حالات الصيد في الليل. ولا أدري لماذا لا يرتاد أهل المدن – بل عموم البشر- البحر، ولا يكادون يعرفون عنه شيئًا، رغم أنه يشكل معظم الكوكب الأرضي الذي يسكنون جزءًا ضئيلاً منه؛ وبذلك تفوتهم تجربة خصبة عن عالمهم.. عن الكتلة المائية الهائلة التي تحيط بهم.
قلبت البصر بين السماء والجبل الذي أرقد تحت سفحه. كان الجبل حادًا صارمًا في علاقته بالبحر، إنه يميل إليه بلا أي تدرج، يرتفع شاهقًا متعاليًا في مواجهته ليتلقى ارتطام أمواجه المتلاحقة منذ ملايين السنين، وليتصدى إلى كتلة الماء العميقة السحيقة الملاصقة له، إنه يعلن عن وجوده. ولم تترك الجبال التي تتحدى البحر سوى حيز ضيق فيما بينها ليتنفس فيه البحر ويصنع شاطئًا له تخرج منه كائناته لتضع بيضها. ترى هل الجبال هى التي تركت للبحر هذا المتنفس، أم ان البحر هو الذي نحت الجبال ليعلن عن وجوده وديمومة حضوره الطبيعي في مواجهتها؟ قد يكون أي الأمرين صحيح من الناحية الجغرافية، ولكني على يقين بأن هناك شيئًا ما من الصراع المتوازن الصامت الغامض بين قوى الطبيعة هنا وفي كل مكان آخر، وهذا شيء ما فوق حدود فهم الجغرافيا الطبيعية. فلقد وُهبت الطبيعة – أو تلك القوة الغريزية الباطنية في الأشياء- ما يلائمها ويليق بها. ومن ثم فقد وُهِب البحر ما يلائمه ويليق به: فالبحر الذي استنفد قوته وعنفوانه في الأعماق، تأتي أمواجه في النهاية هادئة مسترسلة لتداعب شاطئًا ناعمًا. أما تلك التي لم تهدأ بعد عند بلوغها اليابسة، فلقد صنعت الطبيعة لها جبالاً تلائمها.
كذلك كان نتوء الجبال الشاهقة عند رأس مسندم في ولاية خصب العمانية. إن اضطراب الأرض تحت قاع البحر هنا في الأزمنة السحيقة أهاج البحر، ولكن الأرض اليابسة من حوله لم تسمح له أن يخترقها إلا بقَدَر كي لا يغرقها؛ فبرزت له الجبال الهائلة من حوله، وسمحت له بمنفذ ضيق يلج منه كي يقضي وطره ويهدأ في الخليج العربي. وكان هذا المنفذ هو مضيق هرمز الذي تحده الجبال الشاهقة من حواليه على مدى خمسين كيلومترًا باتجاه الخليج، وكلما ابتعدت عن هذا المضيق متجهًا إلى حدود الإمارات تجد الجبال قد تضاءلت تدريجيًا، والبحر قد هدأ وسكن شيئًا فشيئًا. كذلك كان الأخدود الأفريقي العظيم أو ذلك الانكسار الأرضي الهائل الذي من خلاله شق البحر طريقه عنوة داخل اليابسة، فبرزت له جبال البحر الأحمر لتواجهه في نفس لحظة الشق والانكسار، كما لو كانت نتوءًا في الأرض خلقته غريزة الطبيعة.
المضيق الذي يلج منه المحيط إلى البحر كالنبع الذي يتدفق منه النهر. عند المضيق يكون البحر متوترًا حتى يقضي وطره ويهدأ، وهو يبلغ غايته هذه بعد أن يقطع رحلته التي قد تطول أو تقصر بحسب عنفوانه، وبحسب ما يلائمه من عنفوان وصلابة جبال الأرض التي تواجهه لتروضه: يمضي البحر الأحمر رحلته الطويلة حتى يهدأ في خليجه. وحتى في الخليج الواحد نجد أن أمواجه تهدأ تدريجيًا كلما أبحرنا معه باتجاه غايته: فالأمواج في رأس غارب ما زالت مضطربة، ويقل اضطرابها نسبيًا عند الزعفرانة لتهدأ تمامًا عند العين السُخْنَة التي لا تبعد عنها كثيرًا؛ فجبل العين السخنة يطبق على البحر ويحجب عنه رياح الأرض حتى تبدو صفحته غالبًا أشبه ببساط مائي. كذلك نجد البحر مضطربًا عند مضيق هرمز.. ذلك الشق في جسم اليابسة الذي يحاول البحر?540;المحيط أن ينفذ منه بعنفوانه؛ ولذلك لم تكتف اليابسة بأن تصنع له الجبال الشاهقة عند بدء تدفقه في الخليج، بل صنعت له أيضًا جزرًا شوكية مدببة في المضيق نفسه يُقَال لها »جزيرة سلامة وبناتها« التي تكتنفها الأساطير. وكم أغرقت تلك الجزر السفن العاتية، وخدعت الربابنة المهرة ما لم يكونوا على خبرة بها.
البحر الذي يصل إلى الشطآن ليس إذن هو البحر الحقيقي. فالبحر الذي نراه عند الشاطئ ليس هو البحر الذي يكشف عن عمقه ونبعه.. عن مصدر قوته وعنفوانه. فمثل هذا البحر إنما هو البحر الذي قضى وطره، فبلغ الشاطئ ليداعبه ويداعبنا. إنه البحر الذي لم يعد بحرًا، وإنما تحول إلى أنثى قابلة للترويض، ومهيأة للمداعبة. لا أدري لماذا استدعت لي تجربة البحر هنا تجربة النيل في بعض مناطق قِبْلي بمصر! ربما لأنني أدركت أن كل شيء يكون في عنفوانه عند نبعه، وكلما سرنا باتجاه هذا النبع. فما زال النيل في بعض هذه المناطق يعلن عن وجوده الأول الصريح عندما شق الجبال والجلاميد، فتجد سيل النهر ملتصقًا بالجبل شاهدًا على اختراقه، وتجد الجبل هو الآخر قائمًا في مواجهته متحديًا بجلاميده المتساقطة عبر الزمن حتى يتهادى تدريجيًا في طريقه نحو مصبه، وتضعف قوته وعنفوانه أو تتبعثر خصوبته في فروع الدلتا وكأنه يبلغ وطره هناك. وكان هذا هو حال النيل دائمًا، لولا السد العالي… ذلك الإجراء الجراحي في جسمه الفياض الذي قلل من ثورته وهياجه، وحاول إخصاءه. ذلك النيل الذي لا يعرفه كثير من الشباب اللين الطيع الذي يعيش الآن في »بر مصر« (كما يحب أن يسميه يوسف القعيد). وكأن ما آل إليه حال النيل يشبه ما آل إليه حال الناس في بر مصر على وجه الإجمال. ذلك النيل… نيل حسن طلب الذي يقول عنه متأسيًا في قصيدته »النيل ليس النيل« بديوانه »لا نيل إلا النيل«:
نيل كان هنا موجودًا
يومًا… كان الماء يغطي هذا الطمي الناشف
كان المجرى هذا الأخدود
ولكن ما زال هناك شيء شاهد على ذكورة هذا النيل وخصوبته وعنفوانه؛ إذ يشهد كما لو كان النيل نفسه يقسم على لسان حسن طلب:
يا أيها الفانون
يا أيها السادة والساسة والمستمصرون
لي ما لكم من فطنة
ولكن ليس لكم ما لي من الجنون
فاحترسوا من فيضاني، وانظروا تجلياتي
لن تروني بمجرد العيون
وانتظروني حيث شئتم
إنى أوجد حيث لا أكون
»إني أوجد حيث لا أكون«… إني أوجد في النبع… في المصدر… في العمق المتخفي الذي لا ترونه.
٭ ٭ ٭
لا أدري لماذا تداعت عليَّ كل تلك الرؤى والذكريات حينما بت الليل في رأس الجنز أقلب البصر في السماء المتلألئة بالنجوم من فوقي، ولم يغالبني النوم حتى أصبح الصبح. ما ان صحا الصبح حتى أيقظت رفاقي لنشق عباب هذا البحر الذي ينتظرنا وينادينا. اعتلينا أول قارب صادفناه لعجوز عماني كان يتهيأ لنزول البحر بحثًا عن رزقه. كنت في هذه اللحظات طفلاً ذاهلاً كما لاحظ صديقي الشاعر سيف الرحبي… حالة من البهجة الطفولية عندما اعتليت القارب وألقيت فيه بأشيائنا من الطعام والشراب وأدوات الصيد، وغرقت في ذلك التأمل البهيج الطفولي المليئ بالدهشة التي يولدها ذلك اللقاء بالطبيعة البكر… بالبكارة نفسها، بالينابيع الأولى. وسرنا في البداية بالقرب من حافة الجبل، وتوقفنا قليلاً للصيد. شاهدت شيئًا ما داكنًا يبدو من سطح الماء، ولكن ملامحه تتوارى تدريجيًا في الأعماق. قال العجوز: هذه سفينة برتغالية غارقة منذ زمن بعيد، وقد أصبحت الآن عشًا للأسماك؛ فأدركت مدى عمق البحر عند حافة الجبل. قال العجوز قولته مبتسمًا بشيء من الزهو والفخر لينبهني أنا الغريب إلى أن بحورهم وصلابتهم العفية قد أغرقت سفن الغزاة، فما زال البحر شاهدًا على ذلك. تأملت وجه العجوز، ووجدتني أقلب البصر بينه وحافة الجبل الملاصقة للبحر، فكانت الأخاديد العميقة التي رسمها الزمن على وجهه تشبه إلى حد بعيد تلك النتوءات التي تطل من وجه الجبل الصلب العتيق في تحد.
٭ تداعت علي مشاهد تلك الذكرى لسنوات عديدة، فرأيت أن أدونها بعد انقضاء أكثر من عشر سنوات لعلها تكون دالة لغيري
سعيد توفيق (باحث اكاديمي من مصر)