عند مدفن داخل مقبرة بروكتور في مدينة آندوفر من ولاية نيو هامشير، يقف شاهد قبر، حُفر عليه: «أنا أؤمن بمعجزات الفن، لكن أية أعجوبة سوف تبقيك بجانبي». هذه الكلمات مقتبسة من قصيدة «مساء في ماكدووال» للشاعرة الأمريكية الراحلة جاين كانيون، والتي كانت كتبتها تخاطب فيها زوجها الشاعر دونالد هول، حائز لقب شاعر الولايات المتحدة الأمريكية، ومستشار مكتبة الكونجرس في الشعر لعام 2006-2007، الذي كان مصاباً آنذاك بالسرطان، وفي طريقه إلى الموت. غير أنه من سخرية الأقدار، أن كانيون هي التي ستموت، لا الزوج، في ٢٢ نيسان 1995، عن عمر لا يتجاوز الثامنة والأربعين عاماً، بعد معاناة مريرة مع مرض اللوكيميا الذي أتاها فجأة. وهكذا فإن ما يبدو أنه كُتبَ للشاعرة إنما هي صاحبته. شاهد قبرها يحمل أيضاً اسم زوجها الذي يوماً ما، سوف تحلّ المعجزة، ويُوارى الثرى قربها.
تركزّت تجربة كانيون الشعرية حول صعوبة إيجاد مطرح لها في هذا العالم، ولذا، عاشت في حواسّها؛ في ما ترى وتسمع وتشمّ وتلمس وتتذوّق. وهذا ما استدعى لديها تلك اللغة الوصفية، القريبة من لغة إليزابيث بيشوب، ذات العين المحايدة البارعة في رصد أدقّ التفاصيل بلا محاباة، والتي سعت من خلالها إلى رسم خارطة لوجودها تتجلّى فيها علاقاتها مع كل ما يحيط بها، وتسعفها في تحديد موقعها في هذا العالم. لكأنّ فعل الحياة للشاعرة لا يتأتّى من صنع الأشياء فحسب، وإنما أيضاً وخصوصاً من مراقبتها عن قرب وبحب كبير. ولعلّ هذا الجهد المبذول في تأمّل ما حولها ووصفه ببراعة هو ما أبقاها حيّة داخل كفن موتها البطيء.
كان أيضاً لصراعها العنيف مع مرض الاكتئاب، الذي لازمها طوال حياتها، الأثر البالغ على كتاباتها، وخصوصاً في ما تظهره من قدرة بالغة على سبر أعماق النفس البشرية. كذلك كان لإقامتها خلال العقدين الأخيرين من عمرها في مزرعة في شمال إقليم نيو إنجلند، تجلّياتها في أشعارها، وذلك عبر انشغالها في تجسيد الحياة الريفية والمنزلية بما تملكه من طاقة مميزة على الوصف، وبأسلوب رواقيّ بعيد عن كل انفعال. شعرها لافتٌ بإخلاصه للحياة المنزلية، لحميميتها وألفتها وأسرارها، وبشدة هدوئه في وجه خيبات الحياة ومآسيها المتكررة، ناهيك عما يشفّ عنه من صلابة إرادة، وشغف، وإيمان راسخ بأنه في مستطاع الإنسان إيجاد العزاء والمواساة والعطف والتسامح في مفردات الحياة الصغيرة وما يصادفه من نثريات في محيطه القريب وعالمه المباشر.
التقت كانيون المولودة عام 1947 في مدينة آن آربر من ولاية ميشيغن، بالشاعر دونالد هول، في جامعة ميشيغن، حيث كانت تلميذة في أحد صفوفه. بعد زواجهما، انتقلت معه عام ٥٧٩١ للعيش في إيغل بوند؛ مزرعة تملكها عائلة هول، تقع في مدينة ويلموت من ولاية نيو هامشير. وهناك بين الغابات والتلال، سوف تعيد الشاعرة اكتشاف ذاتها، حيث ستقابل رحلتها في عالم الطبيعة الخارجي، رحلة أخرى إلى الباطن، في عالم الطبيعة الداخلي. وهناك أيضاً، سوف تتعامل كانيون مع الكتابة بجديّة أكبر، فتجعلها ممارسة يومية، تستمدّ موضوعاتها من حياة الريف والمنزل، مكتسبةً إيقاعاً هادئاً، وطابعاً أليفاً وحميمياً. تصدر للشاعرة أربع مجموعات شعرية في حياتها: «من حجرة إلى حجرة» 1978، «مركب الساعات الهادئة» 1986، «دعِ المساء يأتي» 1990، «ثباتز 1993، وواحدة بعد وفاتها: «مُغاير» 1996 تضمّ عشرين قصيدة جديدة، هي آخر ما كتبته، عطفاً على مختارات من مجاميعها السابقة تؤرّخ لمسيرتها الشعرية. وتقوم كانيون بترجمة عشرين قصيدة للشاعرة آنا أخماتوفا عن الروسية، وذلك بعد دراسة معمّقة لأشعارها، تصدر في كتيب عام 1985، ثم لاحقاً من ضمن كتاب «مائة زهرة بيضاء من النرجس البري» الصادر بعد مماتها والمشتمل على مجمل كتاباتها النثرية وترجماتها باستثناء أعمالها الشعرية.
على رغم انتاج كانيون القليل نسبياً إلا أن شعرها، بالمعايير النقدية، استطاع فرض مكانته الخاصة في الشعر الأميركي المعاصر. وثمة خارطة تقاطعات كثيرة رسمها النقّاد تجمع بين تجربة كانيون وتجارب شعرية أخرى عديدة (كيتس، بيشوب، ديكنسون، بلاث، سكستون، أخماتوفا…)، مما يدلّ على رحابة هذه التجربة في قابليتها للتأويل، وعلى عمقها الوجداني لكونها تستبطن معاناة شعراء كثر يلتقون تحت سقف معاناتها. المقارنة بينها وبين جون كيتس، تجد مسوّغاتها في أنّ الشاعرة على غرار الشاعر الإنكليزي الرومنطيقي، أيضاً سعتْ إلى الخلاص من وضعها المَرَضي بخلق نوع خاص من الحيوية يمكّن الذات من التنكّر لواقعها، ومحاولة التماهي مع أشياء أخرى سليمة ولا يتهدّدها الخطر. تكتب كانيون «شيءٌ واحدٌ أخضرُ يَشْطَأ بورقه، يعيد ترميمي».
مقارنته بأعمال سيلفيا بلاث، ولو أننا نرى أن لغة كانيون أكثر هدوءاً من لغة بلاث، وأقلّ دراماتيكية في التعاطي مع الذات. وفي حين أن الأخيرة تقرّ بعجزها، مسطّرةً استسلامها الشعري لليأس والنسيان، نجد أن كانيون تقاتل حتى النهاية. لا رثاء للذات في أشعار كانيون، علاوة على المقدرة النادرة لشخص في موقعها، على الإنفصال عن أنويتها والإلتفات إلى أحزان الآخرين وآلامهم، كما سنجدها مثلاً في قصيدة «سُتراتز التي اخترناها هنا للترجمة. تجنّب الشاعرة للنزعة العاطفية والوجدانية المفرطة، أكثر ما يتبدّى في مجموعتها الأخيرة «مُغاير». فنحن هنا إزاء قصائد تعاينُ مئزرَ ربّة منزل مغسولاً ومعلّقاً على الحبل، امرأةً تنزّه كلبها، رجلاً يشعل سيجارته، ضيفاً ثرثاراً، قميصاً، وهلمّ جرّا… لكأنّ الشاعرة في سعي حثيث إلى إلهاء ذاتها بتفاصيل عالمها الخارجي الصغيرة، عن سوداويةٍ مُستفحلةٍ في عالمها الداخلي، وحالِ بُحْرانٍ تعتريها. هي إذاً كتابة تستدرج أفكارها بعيداً عن الخطر؛ كتابة الهروب، أو لنقل كتابة الخلاص، التي تتغلّب على المرض الساكن فيها، بجعل أشياء أخرى لا تعاني، سُكناها. وهي إنْ سكنتْ كائنات تعاني، يظلّ ألمُ الآخر فيها أقلّ وطأة عليها من ألمها الخاص.
أشعار كانيون لابدّ أنها ستستحضر أيضاً في ذهن قارئها عوالم إميلي ديكنسون. فنحن أمام شاعرتين تشابهت عوالمهما الشعرية عبر تناولهما للتيمات ذاتها: الموت، الكآبة، الإيمان القويّ بالخالق، الحياة المحليّة في الريف، العلاقة الحميمة بالأزهار والطيور والحيوانات والمنزل، دورة الفصول، دورة الضوء والعتمة الخ…يُضاف إلى ما سبق، ذلك التوازن الصعب الذي تقيمه أشعارهما بين مسألتَي الزوال والديمومة، بين جاذبية الأرض وجاذبية السماء، بين «تلك السعادة (ال)عنيفة إلى درجة يصعب معها تمييزها عن الألمز وذلك الأسى الذي تمرّ فيه «الساعة التي من رصاص» . وها هي كانيون تكتب أيضاً، أنها «لا تملك الشجاعة لتتمرّد، ولا قلباً مطيعا». هي إذاً تقيم في هذه الـ «بين» جاهدةً كيما تحفظ توازنها في خضمّ الشك والحيرة.
في قصيدة بعنوان «يا امرأة، لِمَ تبكين؟» كانت امتنعت كانيون عن نشرها، وظهرت بعد مماتها، تقول الشاعرة «النار لا تعبأ بمرضي/ ولا براهما، الخالق، ولا شيفا الذي يرى الشرّ/ بعينه الثالثة الرهيبة/ فيشنو؛ الحامي، لا يحميني.» ثم يبلغ يأسها ذروته في القصيدة، حين تسأل «ماذا علينا أن نفعل إزاء هذا؟» فلا يأتيها جوابٌ سوى صوت الألم واللامبالاة: «…الجوابُ كان/ ريحاً حارقة، تلاطمَ مياهٍ،/ ضربَ المجذّفين السُود بمجاذيفهم…»
الطقس، الشجر، الحيوانات، الرفقة الحنونة، المنزل، وكل تلك الأشياء التي لطالما وجدت فيها السلوى، الشفاء، والأجوبة على بعض أسئلتها الهامة، باتت الآن غائبة. حقيقة فظيعة عن العالم تكشّفت لها أخيراً؛ تلك الأشياء التي أنفقت حياتها تحتفي بها وتعزّزها وتلفظ أسماءها بحفيف قلبها، في النهاية، خذلتها.
نورد هنا ست عشرة قصيدة قمنا بترجمتها عن الأمريكية، وهي من مجموعتها الأخيرة «مُغاير» التي ضمّت قصائد من اختيار الشاعرة قبل مماتها، عطفاً على خاتمة بقلم الشاعر دونالد هول.
القراءة جِهاراً لوالدي
اخترتُ الكتابَ عشوائياً عن الرفّ،
لكنْ من جملة نابوكوف الأولى
عرفتْ أنه ليس بالشيء الذي يُقرَأُ
لرجلٍ يصارعُ الموت:
«المَهْد يتأرجح فوق هاوية»، هكذا بدأ،
«والمنطق يُبيّن لنا أنّ وجودنا
ليس سوى بصيص نورٍ قصير الأمد
بين أبديتين من الظلمة».
الكلمات عكّرت صفوَ كليْنا توّاً،
فتوقفتْ.
ولئن كانت الموسيقى الخلفية هي نفسها تتكرّر
– كونشيرتو شوبن على البيانو-
فقد سألني إيقافها.
كَفَّ عن الأكل، وارتوى قليلاً،
فيما الأورام الخبيثة
ناشطة في اكتساح ما تبقّى منه.
لكنْ بالعودة إلى تأرجح المَهْد،
أعتقد أنّ نابوكوف أخطأ الحُكْم.
هذه هي الهاوية.
ولذا، الأطفال يصرخون عند الولادة،
والمشرفون على الموت، يعمدون دائماً
لبلوغ الشيء الذي في متناولهم فحسب.
عند النهايات، هم لا يريدون أن تكونَ أيديهم
تحت الأغطية،
وإن اقتضى الحالُ وَضْعَ يدكَ على أياديهم
في بادرةِ تعاطفٍ متردّدة،
فسوف يعمدون إلى سحبها،
وعليكَ أن تحترمَ تلك الرغبة
وتدعهم يطلقون سبيلها.
صيف 1890، قرب الخليج
الساعة كانت متأخّرة، والآخرون نيامٌ.
قدَحَ بعُودِ ثِقابٍ لدى درابزون الشُرفة الخشبي
وأشعلَ سيجارة،
فيما كانتْ هي تتأمّلُ رأسَه ويدَه
المنفردَيْن عن الجسد،
في الضوء المرتعش.
ما أحسّتْ به آنذاك كان كفيلاً،
كمثل ريحٍ عاتية ومطرٍ ثقيل،
بإيقاع أية زهرة متفتّحة أرضاً.
تركَ العُودَ المحترقَ يسقط،
لكنّ الوجهَ لبِثَ أمامها
مثلما نور ساطع
قُبالة عَيْنٍ مُطْبقة.
مُغَاير
نهضتُ من السرير على قدمَيْن قويّتين.
كان يُحتمَل أن يكونَ الحالُ مُغايراً.
تناولتُ وِعَاءً من الحبوب مع الحليب المُحلّى،
ودرّاقة مُشقّقة يانعة.
كان يُحتمَل أن يكونَ الحالُ مُغايراً.
اصطحبتُ الكلبَ صُعُداً
إلى غابة البتولا.
الصباح كلّه انصرفتُ
إلى أعمالٍ أحبُّ.
عند الظهيرة، استلقيتُ مع زوجي.
كان يُحتمَل أن يكونَ الحالُ مُغايراً.
معاً تناولنا العشاء على طاولةٍ
عليها شمعدانات فضّة.
كان يُحتمل أن يكونَ الحالُ مغايراً.
نمتُ في سريرٍ في غرفةٍ
تزيّنُ اللوحاتُ جدرانَها،
ورحتُ أخطّطُ ليومٍ آخر
تماماً كهذا اليوم.
لكنْ يوماً ما، أعلمُ،
سوف يكونُ الحالُ مُغايراً.
حفلة أيلول في الحديقة
نجلسُ مع أصدقاءٍ إلى طاولةِ الزجاج المستديرة.
الحديثُ شيّقٌ؛ الكلُّ ينخرطُ فيه.
نَحْلٌ يتهافتُ على قُشَارةِ الإجّاص اللولبية في طبقكَ.
من حِجْري أو من يدِكَ
طِيبُ خَلْوَتِناالصباحية يفوحُ عالياً.
شمسُ الخريف تتسلّل عبر النبيذ.
سُتَرات
رأيتُه مغادراً المستشفى
وعلى ذراعه سُتْرة نسائية.
جلياً، لن تعوزها.
النظّاراتُ الشمسيّة التي وضعها
لم تكن لتخفي مُحيّاه النديّ،
سدورَه.
وكأنْ بدافع السُخرية،
النهارُ كان صافياً، والهواءُ معتدلاً
قياساً إلى برودةِ كانون الأول.
سيَّان،
فقد كان أغلقَ زمامَ سُتْرتِه
وأحكمَ عُقْدةَ قبعةِ الرأس والعنق تحت ذقنه
مستعداً لبَرْدٍ عُضال.
الآن إلى أين؟
يستيقظُ حين أستيقظُ،
يسيرُ حين أسيرُ،
يعودُ أدراجه حين أعودُ
سابقاً خُطاي إلى الباب.
يفسدُ عليّ طعامي
ويسلبني نومي،
ويقلّدني مستهزئاً بقولي:
«أين هو إلهكِ الآن؟»
وهكذا، فإني مثل أرملة،
أستلقي بُعَيْد العشاء.
إنْ أستلقِ أو أجلس
فالأمر سيَّان.
الأيام والليالي تدفعني قُدُماً.
للغرباء، لا بدّ أني أبدو حيّة.
الربيع يأتي، الصيف؛
جوّ صاحٍ معتدل، حرٌّ، مطر…
لا
الصلاة الأخيرة كانت أُلقيتْ،
والوقت حان للإبتعاد عن التابوت
وقد استوى على سقالته الفضيّة
فوق الحفرة الفاغرة
التي كانت برائحةِ حقلٍ سُويّتْ تُربتُه.
وعندها، تناهى إليّ صوتٌ
بدا أنّه غير آدمي.
كان أقرب إلى صوتِ الريح بين شجرٍ عارٍ،
أو خوارِ قطيعٍ في حظيرةٍ نائية.
توقّفتُ مكاني قليلاً وأنا أضعُ يداً واحدة
على سطح السيّارة،
بينما راحَ الصوتُ يرتفعُ بطبقاته،
إلى أن تجلّى في لغة:
«لا، لا تفعلوا بي هذا! لا، لا…!»
وكلٌّ منا تلبَّثَ بمكانه، حائراً،
أَيبقى أم يُبقيها هناك.
القميص
القميصُ تُلامسُ عُنْقَه
وتُملّسُ على ظَهْرِه.
هي تنسدلُ على جانبَيْه.
هي حتى تسترخي إلى ما تحت حزامه
نزولاً إلى بنطاله.
يا لها قميصاً محظوظة.
الشمسُ والقمرُ
إلى دونالد كلارك
مخدّرة وناعسة لكنْ لستُ غافية
سمعتُ إبنةَ المريضة العمياء التي تشاركني الغرفة
بينما تساعدها في تناول طعامها:
«ما هذا؟ قَرْع؟»
«لا، إنّه سبانخ.»
بُعَيْدَ عودتها من فحصٍ للدماغ،
أخذتْها الغفوة على صوتِ المسلسلات التليفزيونية:
الخيانة الزوجية، فقدان الذاكرة، صفقات الأعمال السرّية،
أروقة المستشفيات البيضاء الطويلة…
لا فصل بين الحياة والفن.
تناهى إليَّ هَمْسُ مُمَرضتيْن:
السيّد مالكومسون فارق الحياة.
وما هي إلاّ ساعة حتى عادتْ إحداهن لتقول
بأنّ غرفة خاصّة باتت شاغرة.
نسمةُ ربيعٍ باردةٍ هزّتْ الستائرَ البلاستيكية.
استلقيتُ على السرير الجديد وحضرَتْني رؤيا
لأرواحٍ مكدّسةٍ الواحدة فوق الأخرى
كجلودِ الحيواناتِ المسلوخة
تحت روحي المريضة، المُثقلة بالحزن،
إلى درجةٍ تحول دون ارتفاع
البقيّة الرا«حة.
لا أنابيبَ من شتى الألوان
تلتفُّ تحت الأغطية؛
لقد توفّرتُ على السِمَات الحيوية لإمرأة مُعافية،
في أوائل خريف العمر،
وليس من شيءٍ ليُشقَّ أو يُضمّدَ،
ليُستأصلَ أو يُستبدلَ.
أسبوعٌ في شبه غيبوبة.
الشمسُ والقمرُ ارتفعا وغابا
فوق الفِناء المُسوّر،
الأشجار …
الطبيبُ بان محيّاه واختفى
عند قدم السرير.
بمسارٍ بطيء، أخذتْ سُحُبُ الكآبةِ الغريبة
بالإنحسار.
مع شفائي وعودتي إلى حجرة جلوسي
جعلتُ أنظرُ إلى الطاولات، المقاعد، الصور،
بشيءٍ من البهجة، إنما وأنا شاحبة، دائخة،
كأنْ من علوٍّ شاهق.
تركتُ الهاتفَ يواصلُ رنينَه،
رسائلَ البريدِ تتراكمُ غير مفضوضة
على الطاولة في الصالة.
الوِعاء الأزرق
كالبدائيين دفنّا الهرَّ ووعاءه معه.
بأيدينا العارية جرفنا الرملَ والحصى
وردمنا الحُفْرة.
انهمرا مُرْسِلَيْن هسهسةً وصوتاً مكتوماً،
فوق جنبِه،
فوق فروِه الأحمر الطويل،
الشَعْرِ الأبيض بين أصابع قوائمه،
وأنفِه المستطيل لئلا نقول الأعقف.
نهضنا وواحدُنا حَمَلَ الآخرَ على المُضِيّ.
ثمة أحزانٌ أشدّ وطأة من هذه.
صامتَيْن لبقيّة النهار،
انصرفنا إلى أعمالنا، تناولنا طعامنا،
أرسلنا ناظرَيْنا، واستسلمنا للنوم.
الطقسُ كان عاصفاً طوال الليل؛
الآن بدأ يصحو، فيما أبو الحِنّاء يغرّدُ
من أجمة متقطّرة،
مثل جارة حَسَنَة النوايا
ولكنها دائماً تُسيءُ التعبير.
الزيارة
الضيفُ الثرثارُ رحلَ،
وها نحن نجلسُ في الفِنَاء
عازفَيْن عن الكلام.
القمرُ النحيلُ يطلُّ
من فوق سقفِ الحظيرة.
الهواءُ رطبٌ، وعابقٌ برحيقِ أزهار
«صريمة الجَدي» …
الحكايةُ الشيّقةُ الأخيرة، سُردَتْ،
وقُوبلتْ بالضحك.
بكياني الراقد أَتْمَمْتُ واجباتي،
لكنّي الآن متنبّهةٌ للصمت،
لعاطفتكَ،
وللحزن الرقيق للغَسَق.
البِرْكة عند الغَسَق
ذبابةٌ تجرحُ المياه،
لكنْ، سرعان ما يلتئمُ الجُرْح.
سنونواتٌ تنحدرُ وتغرّدُ في الأعلى
هابطةً بين حينٍ وآخر نحو
طعامٍ تشعُّ دلائلُه إلى الخارج.
السديمُ الأخضرُ على الشجر يُمْسي أوراقاً،
وما يبانُ أنّه دخانٌ منتشرٌ فوق حظيرةِ الجار
هو زهراتُ تفاحٍ فحسب.
لكنْ أحياناً ما يبدو أنّه كارثة، هو كارثة:
اليومُ يجيءُ أخيراً،
والرجالُ يجهدون بالتابوت
لمجرّد إجلاءِ صفوفِ المقاعدِ في الكنيسة.
مساء في البيت
المكانُ هادىءٌ هنا.
القططُ تتمدّدُ، كلٌ منها في موضعِها الأثير.
نبتةُ الغُرْنُوقي تميلُ بهذا الإتجاه
لترى ما إذا كنتُ أكتبُ عنها:
الرأسُ كلّه بتلات،
سيقانٌ بُنِيّة،
وتلك المرواح الخضراء.
وعليه، هل ترين،
ها إنني أكتبُ عنكِ.
أديرُ المذياع. عملٌ خاطىء.
لنحرصْ على ألا يكون أية جلبة
في هذه الحُجْرة، باستثناء
جلبة صوتٍ يقرأ قصيدة.
القططُ تطلبُ
«فأرة المرج» لثيودور روثكي.
البيتُ يستقرُّ على وركَيْه ليحظى بغفوة.
أعلمُ أنكنّ معي أيتها النباتات
والقطط،
ومع هذا، يتملّكني الرعب
جالسةً وسط إمكانية مكتملة الشروط.
الإبرة
جدّتي، أنتِ شاحبة بقدر ما هما يدا المسيح
على الجدار فوقكِ.
عندما تغمضين عينيكِ، تمسين بيضاءَ كّلكِ:
الشَعْر، الجِلْد، الثوب.
أطرفُ بعينيّ كيما أتبيّنكِ مجدداً في السرير.
أذكرُ حين أخبرتِني مرّةً
بأنكِ كنتِ تزنين مئة وثلاثة وعشرين باوند
يوم تزوجتِ جدّي.
كانتْ لكِ ساقان بهيّتان،
وكان يراقبكِ فيما تعملين على المَغْسَل.
الخاتمُ المُستدَقُّ غيرُ ثابتٍ في يدكِ.
لقد كرهتُ القُدومَ إلى هنا.
أعرفُ أنكِ لا تستطعين فهمي.
سأحاولُ مجدداً،
مثلما تفعلُ الممرضة الشابة بالإبرة.
بمفردي طوال الأسبوع
غسلتُ حِمْلاً من الثياب
ونشرتُها خارجاً لتجفَّ،
ثم مضيتُ إلى البلدة
لأشغلَ نفسي طوال النهار.
كُمُّ قميصِكَ الأفضل ارتفع بحركة احتفالية
عندما وصلتُ بسيارتي،
ثيابُ نومنا التفّتْ ثم انبسطتْ
في عَصْفَةِ ريحٍ عابرة.
بالنسبة إليّ،
كان الوقتُ بدأَ يصبحُ متأخراً،
بالنسبة إليكَ، حيث كنتَ، فلا.
قمرُ موسمِ الحصاد كان بَدْراً
لكنّ سُحُباً متفرّقة حالتْ دون أن يُعوّلَ
على ضوئه كاملاً.
السريرُ لناحيتكَ
بدا باتّساعِ وانبساطِ «كنساس» ؛
وسادتُكَ ممتلئةً، باردةً،
ولها سِمَةُ المجاز.
مطرٌ في كانون الثاني
استيقظتُ قُبيلَ الفجر،
فيما لاأزالُ في جسدٍ.
الماءُ سالَ على النوافذ كلّها،
وتدفّقَ من الأفاريز.
أسفل وعاء التغذية الفارغ
كان ظِّرِبانٌ يجوسُ خلسةً
بحثاً عن شَحْمٍ أو بزرة.
المصابيحُ الكهربائية خفقتْ منطفئةً
ثم استعادتْ نورَها.
دخانٌ أعجزَه الصعودُ
من المِدْخنة،
انتهى إلى الفِنَاء ليتأمّلَ هناك
في بُعْدِ احتمال بلوغِه السماء.
عندما انزلقتْ ذراعي
عن ذراعِ الكرسيّ
تركتُها تتدلّى بجانبي،
واهنةً، عديمةَ الجدوى،
وغريبة.
آمـــــال نــــــوّار مترجمة من لبنان تقيم في أمريكا