محمد شاهين*
عندما عدت من بعثتي الدراسية في بريطانيا بعد أن غبت عن أهلي مثل ما غاب الراوي في موسم الهجرة إلى الشمال عدة سنوات وبعد أن أخذت قسطاً من راحة العودة حرصت أن أحصل على نسخة من موسم الهجرة إلى الشمال باللغة العربية بعد أن كنت قد قرأتها بالإنجليزية أيام كنت أعيش في غربة الشمال، في مسرح البلد الذي وقف فيه مصطفى سعيد وأعلن عن أجندته الموبوءة التي خلفها الشمال في أرض الجنوب من خلال رجاله الذين حملوا راية الاستعمار، وهي الجرثومة المعدية التي أصابت بداية ابن الجنوب في وطنه والتي حملها لاحقاً معه إلى الشمال في موسم هجرته، فأصابت ما أصابت من تلك النساء اللواتي أطاحت بهن تلك الجرثومة (سآتي على ذلك بالتفصيل لاحقاً).
سنوات مضت بعد عودتي وأنا أنتهز الفرصة للاتصال بصاحب موسم الهجرة إلى الشمال، «الصانع الأمهر» (مصطلح إليوت في وصف عبقرية صديقه إزرا باوند). وفي عام 1983، حصلت على زمالة من جامعة أكسفورد لأقضي سنة التفرغ العلمي الممنوحة لي من الجامعة الأردنية التي قضيت جلّ مسيرتي العلمية فيها. وكان في نيتي أن أسعى إلى مقابلته في مقر عمله في فرنسا أثناء إقامتي في إنجلترا. كان الطيب يعمل آنذاك في اليونسكو بباريس، لم أتلق رداً على طلبي من الطيب، بقيت أتوق إلى اللقاء به إلى أن سنحت لي الفرصة عندما قدم إلى عمّان ليعمل في مكتب اليونسكو. وكانت سعادتي غامرة وقد توفرت لي فرصة اللقاء به أكثر من مرة. تشرفت بدعوته ليلتقي مجموعة من طلاب الدراسات العليا في الجامعة ممن أقوم بتدريسهم، وسعدنا جميعاً بالاستماع إليه في سمنار خصص لحديثه إلينا جميعاً. كذلك أسعدني أنه اصبح عضواً في مجلس أمناء جائزة عبدالعزيز بن سعود البابطين التي كنت عضواً فيها، وهي مؤسسة ثقافية يرأسها رجل الأعمال الكويتي، وأستذكر عبد العزيز السريّع الأمين العام للمؤسسة الذي هاتفني ذات يوم مبشراً: مبروك صاحبك شرفنا بعضويته في مؤسسة الجائزة. كنت أتوق إلى لقائه في الاجتماعات الدورية للأمانة في الكويت، وكم تمشينا في المساء نجوب شوارع المدينة من فندق الماريوت إلى جهة البحر، نتجاذب أطراف الحديث. أذكر من تلك الأحاديث (والذي يعرف الطيب يدرك أنه يتحدث إليك بدفء الراوي الذي يأسرك بما يسرد عليك من صدق البساطة التي تشكل مكوناً رئيسياً في وعي الطيب وفي لاوعيه على السواء) تعليقه على ما حلّ بالكويت من تلك الكارثة قائلاً: كيف تتصور «غازياً» يغزو الناس من شيوخ ونساء وأطفال وبقية الخلق وهم يغطون في النوم؟
استحضرت وصف أودن الشاعر الكبير في سياق تعليقه عندما وصف مسرحية شكسبير: إنها مأساة اغتال مكبث من خلالها النوم وذلك إثر اغتيال دَنْكان على يد مكبث. في جميع الأحوال أشار الطيب يظل النوم عصياً على الاغتيال، فديمومته البريئة تتحدى فعل الشر العارض. يزول الاغتيال (أو الاحتلال) وظلامه الدامس ويصبح النائمون يوماً على خير وديمومة الحياة.
***
التقيت بالطيب في المؤتمرات التي تعقدها مؤسسة البابطين كل عامين في عاصمة عربية أو غربية على التوالي، التقينا في الجزائر العاصمة، ذات مساء خرجنا نتمشى حول فندق الأوراس رغم أن إدارته كانت تحذر النزلاء ألا يبتعدوا عن الفندق بسبب بعض القلاقل التي كانت تسود البلاد آنذاك. ابتعدنا ما يقرب من ميل عن الفندق. قلت على مسمع من الطيب: ماذا تقول يا طيب لو داهمتنا جماعة من تلك الجماعات المحظورة وأطلقت النار علينا أو ألقت القبض علينا. أجاب الطيب: في الحالة الأولى ننضم إلى المليون شهيد، وفي الحالة الثانية ستأخذنا الجماعة إلى بيوتهم ضيوفاً أعزاء فالجزائريون أصحاب كرم وشهامة ويحبون إخوانهم العربّ! ضحكنا وواصلنا عودتنا إلى الفندق وسط ظلام شبه دامس.
التقيت بالطيب مرة أخرى في اجتماع المؤسسة في قرطبة في دورة ابن زيدون. أمسيات جميلة قضاها المؤتمرون والمدعوون وهم يلتفون حول الطيب يستمعون اليه وهو يلقي بعضاً مما يحفظه من الشعر (وهو كثير) ابتداء من المتنبي إلى ابن زيدون وقصيدته في ولاّدة:
أضْحَى التّنائي بَديلاً منْ تَدانِينَا، وَنَابَ عَنْ طيبِ لُقْيانَا تجافينَا
ردد الطيب هذا البيت وهو يدلف إلى الجامع الكبير الذي تردد عليه أكثر من مرة أثناء الإقامة في قرطبة. وفي هذا السياق أستذكر حضور سوار الذهب وقد كان من بين المدعوين لحضور المؤتمر. وصدف أن طلبت منه بصفتي التنظيمية أن يكون رئيس إحدى الجلسات. لم يقبل بداية لأني استعملت مفردة «رئيس» وهي مفردة، كما أكد لي «شطبها من قاموس حياته». تحايلت عليه وقلت إنني أعني أن تكون منسقاً لأربعة متحدثين يجلسون على المنصة، ضحك وقَبِلَ بذلك. كل هذا في حضور الطيب الذي بارك القبول بضحكته الفضية المعروفة.
في القاهرة التقيت بالطيب مرتين وذلك في مؤتمر الرواية العربية الذي يعقده المجلس الأعلى للثقافة مرة كل عامين تخصص على هامش أعماله جائزة باسم نجيب محفوظ تمنح لروائي عربي، كنت عضواً في لجنة التحكيم التي كان مقررها الطيب والتي أوصت في تلك الدورة أن تمنح الجائزة لصنع الله إبراهيم. صعدَتْ اللجنة مع وزير الثقافة فاروق حسني وجابر عصفور رئيس المجلس الأعلى إلى المنصة فور الإعلان عن الجائزة. وقف الجميع خلف المنصة التي وقف خلفها الفائز للاستماع إلى كلمته كالعادة. فاجأ صنع الله إبراهيم الحضور برفضه للجائزة وانقلب الفرح إلى ترح. سمعت الطيب يهمس بينما كنت واقفاً بجانبه: ما هذه الديماجوجية!
في دورة ثانية كنت عضواً في لجنة التحكيم لنفس الجائزة. رشحَتْ اللجنة الطيب صالح للفوز بالجائزة. بعد سجال طويل (تحدثت عنه بشيء من التفصيل في مقدمة الطبعة الثانية لكتابي موسم الهجرة إلى الشمال: تحولات الشوق). قبيل الإعلان عن الجائزة بدقائق همس الطيب في أذني ونحن جالسين في الصف الأمامي في قاعة الأوبرا في انتظار الإعلان عن اسم الروائي الفائز «تفتكر مين اللي حيفوز» كلمات الطيب صالح لي هذه قالها وهو لا يعلم أنني في لجنة التحكيم وفي الوقت نفسه لم يكن على علم أنه هو الفائز. جاء ردي عليه: روائي طيب الذكر كتب رواية ذاع صيتها في الغرب والشرق لدرجة أن دار نشر بنجوين البريطانية التي تنشر الأعمال الأدبية المرموقة قامت قبل سنوات بنشرها بالإنجليزية. وما أن أكملت آخر كلمة حتى أعلن مقرر الحفل عن اسم الفائز وطلب منه ومن اللجنة الصعود إلى المنصة ليقفوا في معية وزير الثقافة ورئيس المجلس الأعلى خلف نفس المنصة التي وقف خلفها صنع الله إبراهيم. بدأ الطيب كلمته بالقول: من لا يشعر بالفخر بمناسبة حصوله على هذه الجائزة جائزة نجيب محفوظ للرواية… كان واضحاً أن كلماته هذه إشارة مبطنة إلى تلك «الديماجوجية». وهكذا أعاد الطيب الفرح إلى الجمهور وأزال غمة الترح التي عمت قاعة الأوبرا في تلك السابقة النادرة!
استمرت علاقتي بالطيب. قابلته في لندن عدة مرات بل وتشرفت بدعوته لي في بيته. محطة اللقاء التي كنا نتقابل فيها ثم ننطلق منها بعد ذلك هي البوابة الرئيسية للمتحف البريطاني في شارع لتل راسل. في إحدى المناسبات تمشينا في غرب لندن بعد تناول الغداء في مطعم مجاور للمتحف البريطاني. وقبل أن نصل محطة القطارات الأرضية ببيكاديللي بقليل توقف الطيب مشيراً إلى ركن صغير وقال: يا ما قطَّعِنْ البنات الإنجليزيات قلوبنا ونحن ننتظرهن هنا! ردة فعلي على ما قال كانت: وهل أخذ مصطفى سعيد بالثأر عندما قدِم إلى محطة فكتوريا القريبة عندما قال: «جئتكم غازياً» وهذا هو تعليق الطيب: كثير من القراء يعتقدون أن مصطفى سعيد يتمثل جزءاً من سيرة حياتي الشخصية. هذا غير صحيح. مصطفى سعيد شخصية لا تجعلك تقبل على محبتها لو قابلتها وجهاً لوجه. صحيح أنه شخصية آسرة، روائياً على الأقل، لكنه ظاهرة تشكلت في مجملها من صنيع الاستعمار. هو تلك الجرثومة التي تفشى وباؤها فانتقلت إليه مع الزمن. إذ أنه حضر من السودان وهو يحمل الوباء الذي تفشى بدوره في تلك النساء الإنجليزيات اللواتي خاطبهن، فمنهن من قضى نحبه ومنهن من عاش يصارع العدوى مثل جين موريس التي تمثلت قمة الوباء الذي قضى عليها في النهاية!
استطرد الطيب في المزيد من التوضيح: عندما جعلت مصطفى سعيد يقف في المحكمة ويقول عن نفسه أنه أكذوبة ويطلب من المحكمة قتل الأكذوبة كنت أريد القول بعبارة أخرى أن الأكذوبة هي الجرثومة، لكنني آثرت مفردة الأكذوبة لأنها أوسع مدى. هذا وقد قضيت أسابيع (أشرت أنا شخصياً إلى ذلك في مناسبة سابقة) في مكتبة المتحف البريطاني أنقب في سجلات المحاكم البريطانية عن مصدر يعينني على كتابة مشهد المحاكمة التي أقيمت لمصطفى سعيد، لكني لم أجد ضالتي، فقررت أن أكتب المشهد من مخيلتي. وهذا ما فعلته إذ كان لا بد من إشهار الجرثومة بطريقة غير مباشرة، وهي أن جعلت مصطفى سعيد يتوسل لدى المحكمة، في قتل الجرثومة وكأنه يقول أن الماثل أمامكم ليس بمصطفى وليس بسعيد. قاطعت الطيب وطلبت منه المزيد من الإيضاح بالنسبة لإحدى العبارات المفصلية في الرواية وهي أن مصطفى سعيد ليس بعطيل. أجاب الطيب أنه في اتفاق تام مع تلك القراءة التي يقدمها العديد من القراء وهي المقاربة بين عطيل الرومنسي ومصطفى سعيد الذي يخرج، كما يؤكد الطيب، من رحم الواقعية السحرية غير أنه أشار إلى ذلك الجانب الذي يبدو حسب قوله، أنه استعصى على استيعاب القارئ العادي وهو أن الجرثومة أصابت كلا من عطيل ومصطفى سعيد بدرجات متفاوتة. أصابت عطيل (وهي طبعاً أقل فتكاً) من خلال غرام وقع فيه عطيل بعد قبلة من ديدمونة. ويعلق ناقد أن القبلة بين الرجل والمرأة في ثقافة مجتمع البندقية على وجه العموم كانت أمراً عادياً بالنسبة لديدمونة، لكن الأمر لم يكن كذلك بالنسبة لعطيل.
أود أن أنبه هنا أنني لا أريد أن أنكأ الجراح في الوقت الذي تستهدف فيه العالم جرثومة فتاكة، ولا أريد استرجاع تاريخ الاستعمار وما بعد الاستعمار مقارنة، فقد قال ناعوم تشومسكي فيه هذه الأيام كلمته التي هي استمرار لما قدّم من قول طيلة حياته وهو يخوض معركة المواجهة مع المجتمع الغربي، مما يجعلنا نستذكر صدق رؤيته التي عبر عنها على مدى العقود الماضية بشجاعة وثبات. يشير تشومسكي في مقالته إلى الجهد العبثي الذي ما فتئ المجتمع الغربي الراسمالي يبذله من أجل إنتاج سلع استهلاكية تعميه عن إنتاج سلع أخرى من شأنها مقاومة الشر الجاثم من حولنا والذي ينتظر فرصة الانقضاض علينا. منذ أن تشرفت بالتعرف على تشومسكي عام 1972، وأنا أعجب برؤيته الثاقبة لهذا العالم والتي مفادها أن ممارسة الهيمنة من طرف على آخر في هذا العالم هي التي ستجلب الوباء على العالم في نهاية المطاف، بل وأن شرها لن يقتصر على الطرف المهيمَن عليه بل إنها ستمتد إلى صاحب الهيمنة التي يتسلح بها وكأنها فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة.
في مقالة كتبها تشومسكي (وقد أشرت إليها في مناسبة سابقة) حول غزو إسرائيل غزةَ بعنوان «اجتثوا هؤلاء الوحوش» والعنوان عبارة اقتبسها تشومسكي من رواية كونراد قلب الظلام Terminate the brutes يقول أن غزة لن تهزم مهما انهال عليها من قنابل محرقة بل إنها ستنهض في النهاية منتصرة في الحياة مثل طائر الفينيق الأسطوري. وفي مناظرة ذاع صيتها بين تشومسكي وفوكو، يبين تشومسكي بعمق نظرته نحو ما ترتكز عليه نظرية فوكو من عبث في العلاقة العضوية بين المعرفة والهيمنة، أو المعرفة والقوة أو المعرفة والسلطة وأن الواحدة نتاج الأخرى، تلك العلاقة التي أضحت ركيزة هامة في خطاب الحداثة والتي تنبه إليها إدوارد سعيد لاحقاً ونقدها في خطابه السعيدي الذي يتفق مع خطاب تشومسكي، بمعنى أن المعرفة ليست مجرد قوة مجردة في ذاتها ولا هي قوة بريئة، ولا هي مجرد قوة تنتج هيمنة. في هذا السياق نستذكر عبارة اليوت التي يسخر فيها من المعرفة التي وصلت إلينا عبر تجربة الدمار في الحرب العالمية! وهي : أي معرفة (what knowledge).
لست أدري ما الذي جعل موسم الهجرة إلى الشمال تستيعد قوة استذكارها بالنسبة لي في هذا الظرف العصيب. صحوت ذات صباح ووجدت نفسي أردد عبارة مصطفى سعيد على مسرح محطة فكتوريا في لندن: «جئتكم غازياً» لا تشفيا لا سمح الله فالمصاب أضحى عاماً ومصيراً عالمياً يسمو حتى فوق مفهوم عدم عدالة الظلم في مفهوم المسرحية اليونانية .
تبدت لي رحلة مصطفى سعيد في موسم هجرته من السودان حاملاً بين ضلوعه جرثومة خلفها الاستعمار دون أن يعي أنه مصاب بها (أكد لي الطيب صالح نفسه الحالة هذه) وهي تفشي وباء الجرثومة في النساء اللواتي خالطهن بل وتبين أنهن يحملن نفس الجرثومة. عانى مما عانى بسبب إصابته بهذه الجرثومة. عاد إلى السودان وقد تعافى منها ليعيش في مسقط رأسه كبقية الخلق من حوله.
لست أدري كيف استذكرت سوء الفهم الذي استقبلت به موسم الهجرة إلى الشمال إثر صدورها من قبل وسائل الإعلام العربي التي رفضت تداولها جملة وتفصيلا بسبب ما يرد فيها من وصف جنسي ظنت أنه يخدش الحياء. فات على تلك الوسائل ما توحيه السياحة الجنسية في الرواية من مغزى هو في واقع الأمر بيت القصيد.
لست أدري أيضاً كيف أنني استعدت قراءتي لما حظيت به الرواية من تقدير في المشهد الغربي التقدمي الذي قرأ ما تحفظَتْ عليه وسائل الإعلام العربية بطريقة مختلفة؛ إذ أوضح عدد من مشاهير النقاد الغربيين أن الجنس في الرواية له دلالته الخاصة الهامة، فعندما يكون الجنس فعل اغتصاب، فإنه يقترن بفعل الاستعمار وبفعل الجرثومة ايضاً وهكذا تتم قراءة الجنس في الموسم من خلال ثالوث الجنس والاستعمار والجرثومة، جميعها تشترك في فعل واحد وهو هيمنة الاغتصاب (rape).
لست أدري أيضاً ما الذي أعاد الى ذاكرتي حديث كلينيث بروكس. في صيف عام 1983 عندما كنت في زيارة لجامعة ييل أقضي مهمة بحثية. حظيت آنذاك بمقابلة الناقد المعروف الذي يعد رائد النقد الجديد في العالم الإنجلو-سكسوني في منتصف القرن الماضي. بينما كنا نتمشى في شارع بروسبكت ستريت في طريقنا إلى مكتبة الجامعة أشار بروكس إلى المدينة القديمة التي يطل عليها الشارع قائلاً أن تاريخ المدينة بالنسبة له كجنوبي يشكل علامة سوداء، إذ أن الأسلحة التي استخدمت في الحرب الأهلية كانت تصنع في مدينة نيوهيفين. أردف قائلاً وعندما توقفت الحرب الأهلية لم يتوقف تصنيع السلاح وتجارته، إذ قام تجاره بتصديره خارج أمريكا إلى بلدكم، على سبيل المثال موجهاً الحديث إليّ: ألسنا (نحن في أمريكا) من أكبر المساهمين في بناء المفاعل الذري في إسرائيل؟ ماذا لو أفلت ذلك المفاعل من عقاله في ديمونا؟ هل سينجو من شره من شيده. للأسف. قال بروكس أن السلاح أشبه بالجرثومة لا يعرف هوية غير هوية الفتك بمن يصله!
ولو أردنا أن نضيف شيئاً إلى ما يشير إليه تشومسكي في مقاله من إعطاء الأولوية في المجتمع الرأسمالي الغربي إلى إنتاج الحماية بدلاً من الاستهلاك لقلنا أن الأولوية أيضاً لا بد وأن تعطى لصوت الإنسانيات متمثلة في رؤية الفنانين والأدباء والمثقفين ورجال الفكر، بجانب أبحاث المختبرات التي تخضع في الغالب إلى توجيه تجاري مهيمن، من شأنه جمع الأرباح عن طريق زيادة ما يحتاجه السوق الاستهلاكي لزيادة رأس المال.
وبعد، أي أثر يمكن أن تخلفه هذه الكورونا على البشر أو على من يتبقى حياً منهم. من الناحية النظرية على الأقل يمكننا القول ان الكثير من المفاهيم التي عاشت معنا في شتى أنواع الحياة قد انهارت وأن ما تبقى منها هو في حالة انهيار مستمر. أهم هذه المفاهيم مفهوم البقاء للأصلح الذي يعد دارون رائده والاستعمار الغربي فاعله، إذ أن قوة الأصلح استسلمت أمام قوة الكورونا. بالمثل مفهوم شعب الله المختار، إذ أن الكورونا تخطت في حدودها قدسية ذلك الاختيار حتى لو كانت أسطورية في حد ذاتها. بالمثل تخطت منظور التكافل والتضامن بين فئة العمال في المجتمع بل وجعلتنا الكورونا نعيد النظر في مقولة ماركس:
«يا عمال العالم اتحدوا» لتستبدلها على سبيل المثال: يا بني آدم وحواء اتحدوا. بالمثل تحدت الكورونا نظرية الصراع التاريخي بين الحضارت التي نادى بها هنتنجتون.
ماذا سيتبقى لنا بعد الكورونا؟ هل بالإمكان أن تتحول اليوتوبيا في أشكالها التقليدية من فلسفية وأدبية وفنية وعلمية إلى واقع ملموس نعايشه ونعيش فيه بدلاً من الأحلام الوردية التي كانت مثل الكورونا منظوراً معلقاً في زمن المستقبل؟ هل نقوي من عزم رواية ه.جي. ولز صاحب رواية الخيال العلمي بامتياز، عالم جري جديد، هل نعيد كتابة ما وردت كتابته بمنظور ما بعد الكورونا؟ هل نجعل روبنسون كروسو يعيش في حالة حظر عالمي بدلاً من حالة عزلة الطبيعة التي يجد نفسه محاطاً بها على الجزيرة؟ هل يمكن أن نعيد كتابة موسم الهجرة إلى الشمال ونرسم خارطة جديدة تبدأ من عودة مصطفى سعيد من السودان إلى لندن ليقول جئتكم ضيفاً، ليقع لاحقاً في قصة غرام كبديل لقصة الانتقام التي تفعلها الجرثومة ويعيش في مجتمع جديد بدون وباء ينتشر عن طريق جرثومة العنصرية؟
هل نتصور مارتن لوثر كنج يفلت من رصاصة الغدر، ويعيش حلمه الذي أطلقه واقعاً في مجتمع فرّق لون البشرة بين أفرادها ليجعل قطاعاً منه يعيش بمناعة هشه في اغنى دول العالم!
أكتب هذه السطور أثناء الحجر الذي فرضته كورونا على أرجاء المعمورة، وقد صدف أن يكون غور الأردن الموقع الذي وجدت نفسي محجوراً فيه، والمعروف عن المكان جيولوجياً أنه يشكل أكبر بقعة انخفاضاً عن سطح البحر، أي بحر. ولا يعني هذا الاعتقاد أن هذا المكان أو غيره محرم عليه وصول الوباء الذي يشرعن انتشاره بنفسه إلى الأمكنة على اختلاف مواقعها دون تمييز جغرافي أو عرقي أو ديني؛ فالبشر لديه «كأسنان المشط»، وبسط نفوذه يتدفق كالبركان ودون شرط مسبق أو لاحق. شكل من أشكال القدر الأعمى البغيض، يقف العالم أمامه دون حول أو قوة باستثناء المحاولات الدؤوبة في المختبرات العلمية بحثاً مضنياً من أجل الوصول إلى لقاح يوقف تمدده وسرعة انتشاره علّ حداً لقوته الفتاكة في المدى المنظور تقف عند حد.
حملت معي من مكبتي في عمّان بعضاً من العتاد الكتبي، إذ انتقيت عدداً من الكتب التي يمكن أن تبدد شيئاً من وحشة الحجر، وذلك من خلال استرجاع ما جاء فيها كمعادل موضوعي (اصطلاح إليوت النقدي) للحالة التي يعيشها البشر شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً.
هذه بعض المشاعر والأفكار تبرز على السطح من خلال قراءاتي أو إعادة قراءتي لما حملت معي من كتب السلف من رؤى متفاوتة حول حالة البشرية، يبعث على إثارتها مقاربة أفعال الكورونا التي فاقت في مدى قسوتها كل تنبؤ، حتى لو جاء على شكل الخيال العلمي بالحجر قد يلح على صاحبه البحث عن «وليد مسعود» من نوع ما في المقارنة ولو كانت مجازية، وما يقوله محمود درويش في قصيدته «حاصر حصارك لا مفر» يعبر عن المقصد.
استذكرت من بين ما استذكرت قصيدة محمود درويش «فكّر بغيرك» التي شاعت لدى القارئ الغربي بشكل خاص. من هو الغير هنا؟ لو أردنا أن نتخيل محمود درويش على قيد الحياة شاهداً على الوقيعة- وقيعة عشرات الآلاف من البشر الذين يلاقون حتفهم على يد كورونا، ليعيد كتابة قصيدته من جديد، سيطلب منا محمود درويش في قصيدته المزيدة أن نفكر في أولئك النبلاء من الطاقم الطبي الذين بكلمات الشاعر عبد الرحيم محمود يحملون أرواحهم على راحاتهم في مهاوي الردى، كم طبيب أو ممرض لاقى حتفه وهو يتبرع في تقديم عونه الطبي لمن يرقد على فراش المرض بسبب العدوى، وكم من طبيب حالفه الحظ، بل وحالفنا، اجتاز مرحلة حظر العدوى ليجعلنا نستذكره مثل ما نستذكر زميله الضحية. كلاهما شهيد واجب نبيل يلحّ على الاستذكار.
أعدت أثناء الحجر قراءة رواية الطاعون التي ساهمت بشكل خاص في إشهار مؤلفها، ألبرت كامو، والتي ظهرت بالفرنسية عام 1947 وبالإنجليزية عام 1948. وقعت عيناي على الجملة المفصلية التي تنطلق منها بنية الرواية وهي:
«رجال آخرون يصنعون التاريخ … وكل ما أستطيع قوله أن على هذه الأرض أوبئة وضحايا، وعلى المرء إن استطاع إلى ذلك سبيلاً أن يرفض أن يكون موقعه تجاه الوباء بل تجاه الضحية» استرعت هذه الجملة انتباه العديد من المفكرين المحدثين. هذه جينيفر هومان توردها في الصفحة الأولى من مؤلفها عن الصحفي المشهور توني جودت بعنوان عندما تتغير الحقائق كدليل epilogue تقشفي ينير السبيل إلى الإنتاج الكلي لمسيرة الصحفي. ولكي تفصح العبارة عما تتكتم عليه من من غموض من شأنه الإيحاء بدلاً من التوضيح لا بد من توفير قراءة لها في سياق مسيرة كامو إذ إن قراءة العبارة كما هي لا يؤدي لغير اضطراب في المعنى، لا يجدي نفعاً في اتجاه الحصول على معنى. كيف يمكن أن يقنعنا كامو أن الوقوف بجانب الضحية فعل مفضل على الوقوف بجانب الوباء الذي يتسبب في الضحية. هل من منطق في هذا! بإيجاز تتطلب العبارة قراءة مجازية في سياق الرواية ومسيرة صاحبها. آثر كامو المولود في قسنطينة في الجزائر أن يكون بجانب الجزائر الضحية في مقاومتها بدلاً من أن يكون بجانب فرنسا الوباء المنتشر في الجزائر، والمعروف عن كامو أن عنصر المقاومة يشكّل في فنه وفي حياته معاً مكوناً رئيساً ظلّ حاضراً عنده طيلة الوقت. لم يتردد كامو في انتمائه للجزائر الضحية ومقاومته طاعون الاستعمار الفرنسي مثلما ظلّ يقاوم وباء السل الذي عاش معه طيله حياته.
ويمكن تبسيط أطروحة كامو التي تتمثل في العبارة المذكورة أعلاه والتي تحث على الوقوف بجانب الضحية، بالقول: إن الضحية أكثر أمناً لنا على المدى البعيد، لأنها تبعث المقاومة التي تقف في وجه الوباء لتؤدي في النهاية إلى وضع حد للوباء، أما الوباء ذاته فهو يعيش على الانتشار من خلال ما يمتلكه من قوة الفتك التي هي مكونه، فالوباء لا يعيش وفي جعبته أمل الشفاء مما هو فيه وعليه، بمعنى أن قوة الفتك تفتقد المقاومة بل لا تبرز الحاجة إليها إذ إنها خارجة عن كينونته أصلاً.
بالمثل هذا ما تراه جينيفر هومان في جودت مما دعاها تصدير مجموعة مقالاته التي تحررها في المجلد المذكور أعلاه باقتباس عبارة كامو من رواية الطاعون. أي أن جودت مثل كامو يرى في عنصر المقاومة ما يبرر وقوفه بجانب الضحية. ومن بين المقالات التي يتضمنها المجلد مقالة كان كامو قد كتبها سابقاً مقدمة لرواية الطاعون تنتهي بالمقتطف التالي:
«أبداً لا يموت ميكروب الطاعون (باسيل) ولا يختفي كلياً…. يظل ساكناً سنوات طويلاً في الأثاث والملابس… لا يكل الانتظار في غرف النوم، والمخازن، وصناديق التخزين وأدوات الأوزان القديمة… فلربما يأتي اليوم عندما يلقن البشرية درساً في سوء حظها وهو أن الطاعون سيجعل جراذينه تنهض ويبعث بها تموت في حاضرة ما، تنعم بالحياة الواعدة» (ص181)
أليس في المقتبس ما يجعلنا نقول، بدون تحفظ، أن كامو بل وخلفه جودت (كتب جودت المقالة التي ورد فيها الاقتباس عام 2001 ونشرت لأول مرة في نيويورك ريفيو أف بوكس) ينطقان بلسان الحال -حال أزمة كورونا الراهن!
رواية كامو ومقدمة جودت تدقان ناقوس خطر خفي يتربص بالبشرية ويحثان بني البشر على أخذ أقصى درجات الحيطة والحذر، والوقوف في وجه العدو الغاشم بالمقاومة، وهنا يكمن بيت القصيد: أي مقاومة يحث عليها كامو وجودت؟ بادئ ذي بدء ليست تلك المقاومة التي تحصر نفسها في الشعارات واللغة التجريدية الخارجة عن مرجعية الفعل كأن نقول على سبيل المثال علينا أن نقاوم، لا بد من المقاومة. فالمقاومة فرض لا مفر منه إلى آخر ذلك من الكليشيهات الخطابية التي تؤدي بنا إلى طريق مسدود لا ينفذ إلى الفعل الضروري لتحقيق خطاب المقاومة الفعلي في حياتنا المعيشية.
وأكثر ما يلفت النظر في تعامل كامو وجودت هو البعد الإنساني الذي يصبغانه على مفهوم المقاومة من خلال حرصهما على انزلاق المقاومة في متاهات تحول الضحية في النهاية إلى جلاد أصيب بوعي، أو بدون وعي بنفس الوباء الذي تكونت منه حياة الجلاد، ولمزيد من الإيضاح نستحضر في هذا السياق تشخيص ديكينز لشخصياته في روايته المشهورة الآمال العظام عندما جعل مس هافيشام الشخصية المقموعة (هجرها زوجها بعد ليلة الزفاف) إلى شخصية قامعة مارست أقسى درجات القمع على شخصية پب الشخصية الرئيسية في الرواية وعلى ابنتها بالتبني إستيلا.
يوضح جودت في العديد من مقالاته، ليس فقط في مقدمته لرواية الطاعون، كيف أن إسرائيل انحرفت طيلة حياتها عن القيم الأخلاقية لمقاومة الوباء الذي حلّ بأهلها، والتي كان يمكن أن تتبناها كضحية؛ إذ أضحت جلاداً يمارس على الغير وباء الجَلْد الذي مورس عليها سابقاً في تاريخها الحديث والقديم. ومن بين المقالات التي توضح رؤية جودت الثاقبة لأزمة الصراع بين إسرائيل والعرب وهشاشة وجود إسرائيل أصلاً مقالة بعنوان «نصر قاتم: حرب الأيام الستة الإسرائيلي» (نيو ريبابلك، 2002، ص268-85) الذي ظهر ضمن مجلد بعنوان: إعادة اعتبارات: تأملات فيما فات القرن العشرين استذكاره 2008). أطروحة جودت في هذا المقال هي أن إسرائيل بكل ما تعني الكلمة صناعة أوروبا وأن اليهود الذي هاجروا إلى فلسطين لم يهجروا أوروبا بل حملوها معهم ليعيشوا بها قلباً وقالباً، أي أنهم حملوا معهم وباء العنصرية خصوصاً التي تمثلت في النازية والفاشية ليمارسوها بدرجات متفاوتة. وفي مقالة بعنوان: «خارطة الطريق التي لا تؤدي إلى أي اتجاه» (نيويورك ريفيو أف بوكس، 2002) والتي ظهرت ضمن المجلد الذي حررته جينيفر هوماس يقول جودت « لقد حولت إسرائيل قيمها التقليدية التي كثيراً ما وصفت نفسها بها إلى هراء. فهي الآن قوة إقليمية استعمارية… فالإسرائيليون يتعامون عن هذا الأمر، إذ ما زالوا يرون أنفسهم مجتمعاً صغيراً وضحية تقاوم ظروفاً شاذة مسيطرة، وذلك من خلال حصار يضربونه على أنفسهم وهم في الوقت ذاته يترددون في قبوله. كما أن قيادتهم السياسية العقيمة قادتهم عبر فخر النصر الذي أغراهم بزيفه عام 1967، إلى تيه ما زالوا ضائعين فيه حيث ان الإسرائيليين انهمكوا بعد ذلك النصر في إنشاء مستوطنات في الأراضي الفلسطينية دون أن يكفوا عن احتقار الفلسطينيين والاعتزاز بالحليف الأمريكي المنقذ. (ص109)
ويعلق جودت في نفس المقال على خطة السلام بين الفلسطينيين وإسرائيل قائلاً إن عائقاً حقيقياً وحيداً يقف في وجه تحقيق استقرار سلمي نهائي هو شارون الذي يوضح لنا سجله كيف أنه يرفض أي خطة سلام تكون مقبولة لدى الغير ولا تكون مقبولة من أي إسرائيلي داخل إسرائيل، إذ ان شارون لا يفاوض بنية حسنة (good faith) .
ولا يفوتنا في هذا السياق أن نستذكر إعجاب جودت وتقديره لـ إدوارد سعيد، الذي يتجلى في المجلد المذكور أعلاه الذي تضمنه مجلد المقالات التي كتبها جودت بشأن إعادة الاعتبار لبعض أعلام الفكر في القرن العشرين . يقول جودت في افتتاحية مقالته: “يعد إدوارد سعيد، وبعد مضي عقد من الزمان على رحيله عام 2003 إثر صراع مع معركة اللوكيميا، أبرز مفكر في العالم، وأنه أحد مشاهير العلماء الذين تركوا بصماتهم في الفكر العالمي في الربع الأخير من القرن العشرين، عبر العقود التي تولى منصبه الأكاديمي في جامعة كولومبيا عام 1963. وإنه، ]أي إدوارد سعيد[، خير من حمل قضية الفلسطينيين على عاتقه وتبنّى أزمة الشرق الأوسط بقدرة بالغة”. ليس من قبيل الصدفة أن يحتفظ جودت بكل هذا الإعجاب لـ إدوارد سعيد ويقدره حق قدره. فهناك ما يجمع بينهما من استجابة صادقة متبادلة حول قضايا جوهرية شغلت العلاقة الشائكة بن الغرب والشرق، وما بينهما من قضايا الشرق الأوسط التي ما زالت عالقة إلى يومنا هذا. كلاهما ينتهي إلى ضحية مع الفارق، أو لنقل المفارقة في مسببات كل ضحية على حدة. ينتمي جودت إلى ضحية المذبحة (الهولوكوست) التي كانت أوروبا مسرحها، وينتهي إدوارد سعيد إلى الضحية التي سببتها أوروبا حتى لو كانت بطريقة غير مباشرة. أما وجه الوفاق الرئيسي بين الاثنين فيتجلى في موقفهما أو موقعهما من أدبيات الضحية ومخرجاتها، إذ يرى كلاهما أن صمود الضحية يأتي من حماية نفسها من نفسها من الانزلاق في المتاهات التقليدية كما ذُكر أعلاه، وخصوصاً الجنوح إلى الانتقام من طرف لا يكون سبباً في حدث الجريمة أصلاً، وهذا ما يجعل الجريمة تولِّد جريمة بدون منطق أو وجه حق. وتحضرني هنا مقولة ريموند وليمز التي كثيراً ما أجدها تقدم وجع الإيجاز وهي دعوة لأن ننظر إلى الحاضر والمستقبل بمنظور الاستشكاف (discovery) بدلاً من مجرد الرجوع إلى الماضي (recovery) لجعله سبيلاً لحياتنا المعيشة.
ولا يفوت جودت أن يذكر في مناسبات عدة أن إسرائيل صناعة أوروبية. وهو بهذا يتسلح بتجربته الخاصة في الكيبوبتز التي تبين له أنها أسطورة أوروبية وتنبأ بفشلها قبل الأوان، وأنها تحولت حديثاً إلى أسطورة أمريكية ولن تدوم طويلاً. ولا شك أن جودت كان منصفاً عندما أوجز القول إن اليهود الأوروبيين هاجروا إلى فلسطين دون أن يهجروا أوروبا أو يخرجوها من وعيهم، أي أن ما لحق بهم في الماضي من جرثومة الجريمة ظل يطفو على السطح في حياتهم الحاضرة، يسترجعونه وكأنه مصير قدري (determining) في موقعهم الجديد. وهو بهذا يتفق مع موقف إداورد سعيد من الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي جملة وتفصيلاً دون حرج كما يتضح من المقالة التي كتبها عن إدوارد سعيد، كما أنه يؤكد بها في مقالته بشكل خاص على عنصر المقاومة عند إدوارد سعيد الذي يقصي من حسابه الإرهاب رغم أن الغير مارس الإرهاب عليه شخصياً؛ فحرق مكتبه وهدده وعائلته مراراً وتكراراً بالقتل. ويعقد جودت مقارنة بين إدوارد سعيد وسارتر الذي رأى في الإرهاب بديلاً لمقاومة الإرهاب وهو ما اعتقد به فانون الذي كتب سارتر مقدمة كتابه (انظر مقدمة سارتر الطويلة لكتاب المعذبون في الأرض).
وهكذا يلتقي جودت مع إدوارد سعيد في التعامل مع الضحية في ظلال خطاب الطاعون الذي يحث على الوقوف بجانب الضحية بدلاً من الوقوف بجانب الوباء، فقط لأن الضحية تعيش بأمل البحث عن مقاومة في اتجاه معاكس لاتجاهه الوباء الذي يفرض نفسه على العالم بقدر واحد لا بديل له، وهو العيش من خلال الفتك والانتشار بين الشعوب أو الموت وكأنه يتخذ شعار: أنا أفتك فأنا حي أرزق!
***
وإذا كان جودت قد وجد ضالته في رواية الطاعون التي اشتق منها خطابه في العلاقة بين الوباء والضحية، مما دفعه التقديم لها وكتابة مقالة يشيد فيها بالروائي كامو تحت عنوان “ألبرت كامو أروع رجل في فرنسا” (ص95-115) ظهر في نفس المجلد الذي تضمن مقالته عن إدوارد سعيد، فإن إدوارد سعيد بالمثل رأى في موسم الهجرة إلى الشمال وفي الطيب صالح توضيحاً روائياً لخطابه حول أدب ما بعد الاستعمار مما دعاه إلى التعبير عن إعجابه بالرواية والراوي في كتابه الثقافة والإمبريالية (1993). يذكر الطيب هذا الصنيع باعتزاز وفخر بالغين.
ولا بد هنا من وقفة تتيح لنا العودة إلى شخصية مصطفى سعيد التي تتمحور حولها الرواية. وأودّ هنا أن أشير إلى مقدمة كتبتها ليلى العلمي بالإنجليزية لـ موسم الهجرة إلى الشمال التي صدرت نسختها الإنجليزية في نيويورك عام 2009. تقتبس ليلى العلمي في خاتمة مقدمتها التي تنفذ بقراءتها إلى أعماق الرواية – ما يقوله مصطفى سعيد بعد خروجه من المحكمة وهو يؤكد على فعل الوباء الذي حمله معه من السودان الذي تفشى فيه سابقاً كصنيع استعماري إلى بلد المنشأ حيث نشأ الوباء أصلاً ليعرض الفعل الوباء ممسرحاً في أجزاء مختلفة من لندن كوسيلة للتعريف بالوباء وفعله وانتشاره موضحاً أن الوباء والاستعمار وجهان لعملة واحدة. وها أنا أقتبس هنا النص بالعربية بعد أن اقتبسته ليلى العلمي وترجمته إلى الإنجليزية:
“ إنني أسمع في هذه المحكمة صليل سيوف الرومان في قرطاجة، وقعقعة سنابك خيل اللنبي وهي تطأ أرض القدس. البواخر مخرت عرض النيل أول مرة تحمل المدافع لا الخبز، وسكك الحديد انشئت أصلاً لنقل الجنود. وقد أنشأوا المدارس ليعلمونا كيف نقول (نعم) بلغتهم. إنهم جلبوا إلينا جرثومة العنف الأوروبي الأكبر الذي لم يشهد العالم مثيله من قبل في السوم وفي فردان، جرثومة مرض فتاك أصابهم منذ أكثر من ألف عام. نعم يا سادتي، إنني جئتكم غازياً في عقر داركم. قطرة من السم الذي حقنتم يه شرايين التاريخ. أنا لست عطيلاً. عطيل كان أكذوبة” (ص117).
هذا هو بيت القصيد في الرواية. في حديث مع الطيب صالح طرحت عليه تعليقاً حول شخصية مصطفى سعيد أنها شخصية معقدة ومركبة، ظاهر فعلها يغري بقراءة غير منصفة لها، وذلك لأنها تجمع بين الوباء والضحية في آن واحد؛ فالضحية الموجودة هي التي تتقدم بدور الوباء وعرضه في أماكن عدة في لندن من كامدن تاون إلى ريشموند بارك. وهي بهذه البنية المعقدة ربما تزيد بعداً إلى صورة الوباء في رواية الطاعون. هل قرأ الطيب صالح أثناء عمله في هيئة الإذاعة البريطانية رواية كامو وقرر أن يضيف لها هذا البعد متحدياً حثّ كامو على الوقوف بجانب الضحية وإقصاء الوباء من المعادلة؟ ربما.
في جميع الأحوال هناك خطاب مشترك بين كامو وجودت وإدوارد سعيد والطيب صالح، وهو أن الاستعمار فعلٌ حدث في الماضي وأن قراءته فعل يحدث في الحاضر بغية التعرف على الماضي بمكوناته المختلفة التي حدث فيها الاستعمار، تيمناً باعتقاد ريموند وليمز وهو أن من شهد الحدث في الماضي ليس بالضرورة أن يكون حجة في فهمه، بل أغلب الظن أن يكون أولئك المعاصرون للحدث أبعد من المحدثين في استيعابه. مثل هذا التصور لدى ريموند وليمز يلتقي مع مقولته في التمييز بين استرجاع الماضي أو استحضار الحاضر والمستقبل كواقع بديل في حياتنا المعيشة.
ولو شئنا أن نقدم الرواية في شكل مبسط لقلنا أن صورة الاستعمار فيها تنحو نحو البحث عن خطاب يثري معرفتنا بالتاريخ الأوروبي الاستعماري بدلاً من روايته بشكل تسلسل تاريخي للحوادث كما سجلها المنتصر الذي همش خطابها مع المهمشين. هذا هو المتكأ الرئيسي الذي تقوم عليه دراسات ما بعد الاستعمار والتي يعد إدوارد سعيد رائدها بلا منازع. ذكر الطيب صالح لي ولغيري في أكثر من مناسبة أن الرواية عانت ما عانت على يد القارئ العربي من سوء فهم لخطابها، وخصوصاً ما يتعلق بدور مصطفى سعيد، الذي تصل قمة التعقيد فيه في مشهد المحكمة. وهنا يبرز سؤال أساسي حول قيمة خطاب الجرثومة في الرواية، لماذا حظي مصطفى سعيد بكوكبة من الشهود الأبرار بدءاً من أستاذه في أكسفورد فوستر كين إلى والد آن هاموند المغدورة، مروراً بزوج مستر روبنسون الذين شهدوا جميعاً في مصطفى سعيد خيراً من أجل الحصول على براءة ترفع عنه تهمة القتل. السبب الذي تكتمت عليه الرواية في سرديتها هو أن أولئك النفر الذين ناصروا مصطفى سعيد لا يريدون فهم الاستعمار كوباء حمله مصطفى سعيد، بل إنهم لم يستوعبوا ما قاله مصطفى سعيد أمام المحكمة إنه أكذوبة، إنه جرثومة تستحق القتل. لم ينجح مصطفى سعيد في توصيل صورته الحقيقية عن نفسه وعن دوره إلى المحكمة، ولا إلى المناصرين له. عندما ذكرتُ للطيب صالح أن فَشَل مصطفى سعيد في توصيل صورته إلى الجمهور أهم من نجاح افتراضي كان يمكن أن يكون بديلاً لذلك الفشل، أجاب بالرضا”إنها فكرة جيدة” كلمات الطيب الذي استطرد قائلاً: فعلاً لو نجح مصطفى سعيد في مهمته فلن يكون تلك الشخصية التي تقدمها الرواية في حالتها الراهنة.
أخبرني الطيب صالح أنه كان يتمنى على القارئ العربي ألا يضل السبيل في قراءته الرواية من خلال اختزال شخصية مصطفى سعيد كشخصية شهوانية، كما يمكن أن توحيه ظاهر أفعاله مع النساء مدعومة بظاهر أقواله في مشهد المحكمة، أي أن القارئ العربي الذي لم يسعفه الحظ في قراءة منصفة للرواية اعتمد على البعد السطحي لشخصية مصطفى سعيد والذي يشار إليه في المفردات النقدية بـ overt pattern، وذلك على حساب المعنى الذي يكمن بداخل ذلك البعد والذي يشار إليه بـ covert meaning. عبّر الطيب عن أسفه أو بصورة أدق عن أساه تجاه وصف عبدالرحمن منيف للرواية على أنها عمل استشراقي، أي أن الرواية تقدم الصورة النمطية للجنس في حياة المشرق العربي متمثلة في شخصية مصطفى سعيد. علّق الطيب: سامحه الله، هو يسيء إلى نفسه كروائي عربي أكثر من إساءته إلى موسم الهجرة إلى الشمال، التي لا يمكن قراءتها بهذا الشكل حتى لو كان قارئها مستشرقا!
تعمدت ألا أطلب المزيد من الإيضاح بغية ألا أنكأ الجراح. وبقي الأمر بالنسبة لي معلقاً في حدود ما صرّح به الطيب إلى أن عثرت على ما يخص الأمر برمته في مقابلة أجرتها سوسن الدويك مع الطيب ظهرت في مجلة العربي عدد 560 يوليو 2005، وهذا ما يرد في المقابلة تحت عنوان “بعيداً عن الاستشراق”:
“- ولكن هناك من يرصد أن المتلقي الغربي أبدى إعجابه بعالم الطيب صالح القصصي، لأنه أرضى نظرته الاستشراقية، وأشعره بأن هذا العالم مطابق للصورة التي يحملها عن العرب (الشرق) أو للوضعية التي ينبغي أن تكون عليها تلك المنطقة، وهذه أيضاً رؤية الروائي عبد الرحمن منيف في كتابه الكتاب والمنفى.
*هذا ظلم فعلاً… لأن موسم الهجرة إلى الشمال كانت تحدياً صارخاً للنظرة الاستشراقية، ولي صديق اسمه د.محمد شاهين أستاذ الأدب الإنجليزي بالجامعة الأردنية كتب أن إدوارد سعيد رحمه الله، وهذا رجل عظيم، ذكر بأن رواية موسم الهجرة إلى الشمال كانت من المؤثرات القوية التي اعتمد عليها في كتابه الاستشراق، والذي تحدى به هذه النظرة الاستشراقية.
وعبد الرحمن منيف، رحمه الله، إذا كان قال هذا الكلام فهو “غلطان جداً، وموسم الهجرة إلى الشمال لا تحتاج إلى أن يعترف بها أحد، فالرواية اعتُرف بها منذ زمن، وترجمت الآن إلى 21 لغة على وجه التحديد، وآخر لغة هي اللغة البرتغالية وقُبلت عالمياً على أنها من أقوى الحجج الفنية ضد الاستعمار، فالرواية كلها تتحدى الأوهام الاستعمارية، فكيف يقال عنها وعني إنني أرضيت الاستشراق.
وأعتذر عن الانفعال الزائد لأن هناك بعض الكلام و”التعابير” المجحفة التي تجعل الإنسان يغتر بنفسه (شوية أكثر).” (ص71)
***
غير أن عدم اعتراف المحكمة والمناصرين لحالة مصطفى سعيد حاملاً الجرثومة يجعلنا نستذكر بعضاً من المشهد الراهن الذي قابل فيه كبار القادة في العالم استقبال كورونا بشيء من الاستهتار أو حتى الاستنكار. هذا هو زعيم أكبر دولة في العالم وحليفه الأكبر يستخفان بالكورونا بداية، بل ويعرضان عن أخذ حيطة مبكرة كان يمكن أن تحد من انتشار الوباء في بلديهما. كيف يمكن أن نقرأ مثل هذا السلوك؟
أنا لا أدعي أنني قادر على تقييم الموقف الكوني المربك الذي تسبب فيه وباء كورونا، لكن أي قراءة بين السطور لاستقبال الزعيمين للوباء تعيدنا إلى أدبيات ما بعد الاستعمار. فالقوة الاستعمارية التي اعتادت على الهيمنة على الغير عبر عقود من الزمن لا تستطيع أن تتقبل بسهولة أن قوة أخرى خارج قوتها تستطيع الهيمنة عليها، إذ تعيش بداخل نفسها وهي تردد ليس فقط نحن أقوى بل نحن الأقوى، مدعومة سايكولوجياً بسجل انتصاراتها الماضية في الحروب مع الغير، وهذا ما نسمعه يتردد بين الحين والآخر في اللقاءات الصحفية التي تجري مع الزعيمين. كنت أسمع التصريحات المدوية من الزعيمين وهي تطمئن شعبيهما بقوة البلدين التي لا تقهر والتي ستحرز النصر على الوباء. تزامن هذا مع قراءتي رواية كونراد نوسترومو (1904) التي يقول فيها الراوي على لسان رجل الأعمال الأمريكي هولرويد الذي يعمل في شركة بريطانية تنقب عن الفضة في أمريكا اللاتينية: “سيأتي الوقت الذي يكون فيه الزمن في انتظار أعظم بلد في دنيا الله الواسعة. وستكون لنا الكلمة العليا في كل شيء: في الصناعة والتجارة والقانون والصحافة والفن والسياسة والدين، من رأس الرجاء الصالح إلى ممر سميث المائي في كندا، بل وأبعد أن وجد هناك ما يستحق السيطرة عليه في حدود القطب الشمالي، بعد ذلك سيكون لدينا المتسع أن نضع قبضتنا على جزر العالم وقاراته الممتدة فوق سطح الأرض وسندير عمالة العالم رضي أم أبى” (ص77).
قرأت هذه الرواية التي تعد تحفة كونراد الفنية والتي تنبوأ مكان الصدارة في رواية القرن العشرين وخصوصاً في أدب ما بعد الاستعمار قبل الحجر، غير أنني لم أصل إلى ما تتكتم عليه الرواية من أسرار رؤية ثاقبة إلا بعد قراءتها بجانب التهديد والوعيد لوباء كورونا الذي تناقلته وسائل الإعلام العالمية.
استذكرت على الفور عبارة مفصلية سمعتها في سمنار قدمه إدموند ليش عندما كنت طالباً في الجامعة، إذ قال عالم الأنثروبوليا الشهير: كثيراً ما يتردد القول أن التاريخ يعيد نفسه، لكن الأصح وربما الأدق هو أن هنالك نماذج من السلوك البشري يتكرر حدوثها. والعبارة بالإنجليزية (recurring patterns) وربما هذا ما أحضر إلى اللغة مقطع neo- في بداية المفردة كدلالة على بروز شكل جديد لحدث ما مع الزمن كأن نقول neo-imperialism أو neo-colonialism أو ما شابه ذلك.
بالمثل أعدت قراءة الطاعون في ضوء ماسمعته من مقارنة (لا تخلو من المفارقة طبعاً( مع وباء كورونا وتلك الأحداث التي هزت كيان الدولة العظمى كالحرب العالمية وبيرل هاربر والحادي عشر من سبتمر. وما يلفت النظر هنا هو أن هنالك مفارقة واضحة وهي أن تذكر تلك الأحداث الرهيبة دون أي استذكار لتللك الأحداث التي تسببت بها تلك الدولة العظمى نفسها في شتى بقاع المعمورة بداية من فيتنام مروراً بـ الفيتكونغ وصولاً إلى العراق وأفغانستان. هل يمكننا القول أن الوباء الجرثومة التي يحملها بنو البشر (مجازاً طبعاً) تكيل بمكيالين مقارنة مع الجرثومة البيولوجية التي يقيس بمكيال واحد! كيف أعدت قراءة الطاعون؟
القراءة التي تجلت لي أثناء الحجر هي قراءة افتراضية إذ تخيلت كامو يعود ليكتب صيغة جديدة من روايته تقلب المعادلة المذكورة رأساً على عقب بحيث يتم فيها الوقوف بجانب الوباء، بمعنى أن الطرف الذي أصابه الوباء ينفي عن نفسه بشدة دور الضحية من خلال اعتمادة بكل ثقة على قوته التي يراها تتحدى كل قوة حتى قوة الوباء بل التي يجهر أنها تهزمه لا محالة في النهاية. عنّ ببالي أيضاً دون كيهوته وهو يصوب ضرباته إلى طواحين الهواء كتعبير وهمي عن انتقامه من عدوه الذي تخيله يقابله وجهاً لوجه!
وفي هذا السياق الافتراضي ماذا لو تخيلنا مصطفى سعيد يعود من الصين إلى الغرب الذي استعمر الكثير من بلدان العالم (ونحن نعلم أن مصطفى سعيد شرع في الترحال إلى الكثير من بقاع الأرض ومنها الصين، بعد أن أطلقت المحكمة سراحه) ليقول: عدت إليكم يا سادة لأقص عليكم سيرة كورونا بعد أن أصبت بها في منشئها وشُفيت منها… يمكن أن نتصور الراوي وهو يجد آذاناً صاغية وخصوصاً من الشعوب التي اكتوت بنار الوباء، أي أن الجمهور الذي أعرض عن الإصغاء له بل وتصديقه أنه يحمل جرثومة الاستعمار الغربي ليرويها عليهم في موسم الهجرة إلى الشمال يصدقه هذه المرة لأن الوباء أصابهم فعلاً هذه المرة مثل ما أصاب العالم أجمع ولا مفر من الاعتراف بصدق روايته حتى لو حاول قادة تلك الدول الكبرى الاستخفاف بالأمر.
في جميع الأحوال كثيرة هي الروايات التي ستصاغ قريباً من تجربة كورونا دون حد لاستذكرنا. موسم الهجرة إلى الشمال لم يكن غير ناقوس خطر لموسم هجرة وباء إلى جميع الجهات دون تمييز بين مرسل ومستقبل بين غازي ومغزيّ، بين من يحمل الوباء وينشره ومن يكون ضحية انتشاره، لو ظل الاستعمار في شتى أشكاله على ما هو: سيطرة وهيمنة وغطرسة على الضحية.
من بين ما حملت معي إلى مقر إقامتي في الحجر ديوان شعر للشاعر اليوناني الأصل كفافي الذي رضي لنفسه بحجر دائم طيلة حياته في المدينة التي كانت شواطئها مصدر إلهام لشعره الذي أوصله الى مصاف الشعراء المعاصرين العالميين: الإسكندرية. وقعت عيناي على هذه القصيدة وعنوانها نهايات:
في خضم الرعب والرِيَب،
ونحن مهتاجو الذهن، فزعو العيون
نضع حلولاَ
وخططاً لما نفعل
حتى ننجو من الخطر المحيق المهدد
لكننا مخطئون، فهذا ليس سبيلنا
كانت النبوءات الزائفة
(أو أننا لم نسمعها، أو أننا لم نفهمها جيداً)
كارثة أخرى
كارثة لم نحلم بها
تسقط علينا في عصف المباغتة
ونحن غير مستعدين- لا وقت الآن-
وتأخذنا…
من يقرأ هذه القصيدة دون أن يعرف شيئاً عن صاحبها يظن أنها ولدت على التو من رحم حالة الحجر لتكون مجازاً يعين على حالة “حاصر حصارك لا مفر”. مثل هذا الظن ينسحب على التأملات الكونية التي يستشفها الخيال المبدع ويتركها تهاجر خارج بعدي المكان والزمان في موسم يتحدى المواسم الأربعة والحدود الجغرافية، وتظل كذلك في حالة سفر إلى أن يحدث حادث جلل يجعلنا ندرك كيف يتحول المجاز إلى حقيقة مرة معيشة يستشف فيها التعبير أقلام الأعلام عن شكلها سلفاً قبل حدوثها فعلاً، كي لا يصبح العنصر البشري مجرد ضحية يفرض القدر عليها أن تقاوم الغزو وتبعاته في سبيل البقاء، بدلاً من الاستمرار في حياة طبيعية ملؤها الاستقرار والطمأنينة.
الـمـراجــــــع
صالح، الطيب، موسم الهجرة إلى الشمال، بيروت، دار الجيل ]بدون تاريخ[
كافافي، كونستانتين، وداعاً للإسكندرية التي تفقدها: ديوان الضفاف الأخرى. ترجمة سعدي يوسف، دمشق وبيروت، دار المدى للثقافة والنشر، 1998.
Conrad, Joseph, Nostromo, London: Dent and Sons, 1904.
Judt, Tony, When the Facts Change, Essays 1995-2010, edited and introduced by Jennifer Homans, London: Heinemann, 2015.
Judt, Tony, Reappraisals: Reflections on the Forgotten Twentieth Century, New York: the Penguin Press, 2008.
Saleh, Tayeb, Season of Migration to the North, introduced by Laila Lalmi, New York: The New York Review of Books, 2009.