لم تكن الراحلة فاطمة المرنيسي عالمة اجتماع أو مناضلة نسائية، أو كاتبة، أو أكاديمية، فقط، فقد جمعت إلى ذلك قوة الإحساس، ورهافة العقل، والمعايشة الحميمة مع أفكارها عبر اختبارها ومحايثة الواقع بكل ما فيه من مرارة وفتنة.
ولم تستطع أن تكتب بهذه الرقة والعمق عن النساء بعامة، لو لم تكن تملك حاسة الجمال الذي يطارد الحياة، ويقتنص البهجة، ويراود اللذة، وينبثق أفكاراً ملهمة تغيّر.. وتفجّر.
في سياق هذه الأقانيم يمكن للباحث أن يقرأ في السيرة الأدبية والبحثية للمرنيسي التي تتسلل إلى غور المعاني بحيلة السرد، كما فعلت في أغلب رواياتها، وبخاصة «أحلام النساء الحريم»، حيث يكون صوت المطربة أسمهان، على سبيل المثال، تكئة لقول كثيف ومشتبك:
«صوتها نغمة جميلة وعسليّة لا يقاوم سحره، يجرف قلوب النّساء برخامته وهشاشته، كانت تغني الحاضر، حاضر الرّغبات المجنونة، حاضر يخرجنا من واقع الأسوار والأبواب المغلقة، كلّ نساء الحريم يحلمن بحرقة مثلها هي، تحلمن بلحظات سعادة وهن يرقصن في أحضان رجل غربيّ، رجل يعرف كيف يفهمهن، يشاركهن السّعادة الحقيقيّة، نساء الحريم يحلمن بالسّكينة ولا تتأتّى هذه الحالة إلا بالحبّ والسّعادة، هي قطيعة جذرية مع قوانين الجّماعة ومتطلبات القبيلة، لكن ما فائدة الحياة بدون أن نعيشها بهذا الإحساس الجارف، حتى لو حياة تشبه حياة اسمهان القصيرة، لكنها حياة اختارتها برغبة منها لكنها يا لها من حياة، في نظرهن هي أفضل بكثير من حياتهن المطبوعة على احترام التقاليد في مؤسسة تزرع الحداد وتقبر أوهام حياة واعدة بالأمل».
وكان بمقدور المرنيسي أن تشحن لغتها بطاقة تثويرية، فيختلف الإيقاع، لكنها آثرت أن تظل في منطقة الحساسية الجمالية التي تحرّض على كسر المألوف، والتمرد على العادي، والالتحام بأفق الكونية الفسيح، من دون شعارات.. إنها تحفر ولا تقول.
لذا من الصعب، بل من المعذّب على أيّ إنسان أن يستذكر شخصاً ما، فقط، عندما يغيب، أو حينما يغادر جسده الدنيا بلا رجعة. كأنما حضور الشخص وثقله الرمزيّ لا يتبلوران إلا في لحظة الوداع والانخطاف الكليّ إلى فضاء الأبديّة.
بيْد أنّ ذلك، على غرابته وقسوته، لا ينطبق على جميع البشر، لأنّ ثمّة من يسطعون رغم غيابهم، ويضيئون في أكثر حالاتهم إظلاماً، فيلتمعون، ويبقون على ذلك حتى آخر ومض في نبض الحياة.
ولعلّ فاطمة المرنيسي من تلك الطائفة، فهي نقشت بإزميل رؤاها في صخر الواقع الثقافي العربي والعالمي إلى حد من الصعب أن تزيل الريح آثارها، أو تعبث بميراثها العميق الغائر في وجدان المعرفة.
لقد كانت تنتسب إلى حقل لا يعمل فيه إلا القلّة، وكانت هي من ندرة تلك القلّة، فهي امرأة أولاً، ثم باحثة، ثم ثائرة، ثم مقاتلة فمنقِّبة بمصابيح روحها عن جذور المعضلة السوسيولوجيّة فيما خصّ علاقة الدين بالمجتمع والهيمنة البطريركيّة.
واجتمعت تلك الصفات وغيرها، لتمنح المرنيسي دوراً رائداً في تشخيص الظاهرة، وإماطة اللثام عن أسباب استعباد النساء، واتخاذهنّ رقيقاً وجواري، رغم ما طرأ على جسد الحياة من تطور، وما أصاب مظاهرها من حضارة.
ففي كتبها وأبحاثها تنشغل عالمة الاجتماع المغربية في تعرية النظام الذكوريّ العربيّ الإسلاميّ الذي يزعم أنه رفع المرأة ووضعها في الفلك الحضاريّ، ونقلها من المرحلة الانحلاليّة البربريّة، لكنّه في واقع الأمر، كما تقول المرنيسي، لم يفعل ذلك على وجه التحديد أو القصد، بل إنّ ما حدث هو أنّ المجتمع في الإسلام أعاد هيكلة النشاط «الجنسيّ» للمرأة، بحيث مضى ذلك المجتمع يفيض على جسد المرأة من خيالاته وشهواته الضارية، فاختزلت النساء بالجنس، وانشلّت فاعليتهن الاجتماعية والثقافية.
وفي المقابل، راح المجتمع الذكوريّ المكتظّ بصور المرأة وروائحها وشكلها وزيّها ولا إنسيّتها يعطّل دورها، ويكبحه، ويحصره بالجنس وأحواله وهياماته وفصوله وجموحه وتوحّشه. ومن أجل تمكين نفوس الذكور من النساء، وحمايتهن من «الانحلال» راح يُفرض عليهن الحجاب. فالأخير جاء كهندسة اجتماعية.
المرنيسي حلّلت هذه الظاهرة بعمق، فكشفت ما سمّته «النخبة الذكورية»، وراحت أبعد من ذلك، محللة ما يسمى تابو «نساء النبي» من خلال قراءة ظاهرة الحريم السياسي وجذورها، وما يمارسه القهر الدينيّ على المرأة.
فهي ترى أن البنية الأسروية الإسلامية الجديدة التي شكّلت ثورة على تقاليد الجزيرة العربية ما قبل الإسلام، هدفت إلى «إقامة بنية أسروية ترتكز على سيادة الرجل وانفراده بالمبادرة فيما يخص الزواج والطلاق، فالتعدّد والطلاق وتحريم ارتكاب الزنا وضمانات الأبوّة كلها مؤسسات ساهمت في تسهيل الانتقال من البنية القديمة التي كانت ترتكز فيها الأسرة على نوع حق المرأة في تقرير مصيرها، إلى البنية الجديدة التي ترتكز فيه الأسرة على مبدأ سيادة الرجل»، وهذه السيادة سُيّجت بتعاليم دينية، وفتاوى أنتجها الفقه الذكوري، بحيث أضحت المرأة شاغل التفكير الديني ومالئة صحائفه بالوعد والوعيد والشكوى والتحذير والترهيب والترغيب. ويكفي أن ينظر المرء في خرائط الفقه الإسلامي ليجد أن المرأة تحتلّ ركنه الطاغي!
ورغم ذلك، فإن المرنيسي تظل محافظة على نزاهة الباحثة، فتقرّ بأنه «إذا كانت حقوق النساء مشكلة بالنسبة لبعض الرجال المسلمين في الوقت الراهن، فليس ذلك بسبب القرآن، أو الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وليس بسبب التقاليد الإسلامية، لأن هذه الحقوق، بكل بساطة، في صراع مع مصالح نخبة ذكورية».
المرنيسي ترى في الحب العلاجَ من مرض فوضى القيم الذي يعصف بالشباب العربي، فابن حزم بمثابة عالم نفساني، كما قالت في أحد حواراتها، وهناك طلب على الحب في تراثنا، «فبينما الغرب يسوّق العري والإباحية، نحن نبحث في قيمة الحب، جانب الرقة لا يتعامل معه الغرب، فالتراث الإسلامي له ثروة. أما الطريقة التي يفسر بها الغرب الحب، فتدخل فقط في إطار تسليعي استهلاكي من دون تنمية القدرة على الفهم».
وبسؤالها: إذن ما هو الحب؟ تقول المرنيسي، فلنقرأ ابن حزم الأندلسي في «طوق الحمامة»: «الحب أعزك الله، أوله هزل وآخره جد، دقت معانيه لجلالها، إن توصف فلا تدرك حقيقتها إلا بالمعاناة، وليس بمنكر في الدين ولا بمحظور في الشريعة، إذ القلوب بيد الله عز وجل، وقد أحب من الخلفاء المهذبين والأئمة الراشدين كثير..». وتذكّر: «هناك 60 كلمة للحب في قاموس تراثنا، فهل توجد هذه الرقة في الغرب الذي يتهمنا اليوم بالعنف؟».
إذن، لم يقتصر نقد المرنيسي للتصوّر البطريركي المختلّ عن المرأة على المجتمع العربي الإسلامي، بل تعداه إلى المجتمعات الغربية وتصورّها عن النساء؛ نسائها ونساء المشرق على حد سواء، لتخلص إلى نتائج مثيرة للانتباه عن تشابه النظرة إلى المرأة، رغم أن الفوارق الحضارية وفجوة الحداثة قد تحولان، للوهلة الأولى، دون التفكير بأنّ جذر الصورة النمطيّة للمرأة واحد، مهما اختلفت المجتمعات أو النخب الذكوريّة.
المرنيسي المناضلة الشجاعة والمدافعة العنيدة عن حقوق النساء والمهمشين كانت رؤيتها التنقيبية أعلى من صوتها، وهو ما جعل منها قامة عالية في المشرق والمغرب، فقد ظلت حتى لحظات رحيلها الصامت موّارة بالأسئلة والغضب من أحوال النساء في المجتمعات الذكوريّة التي سلّعت جسد المرأة وأقصتها عن المشاركة الفاعلة في الحياة العامة، ومثّلتها على نحو فولكلوريّ واختزاليّ، وظلت تنظر إليها باعتبارها مصدر شبق وعضواً قاصراً مبتوراً يجلب العار، ويستدعي الشيطان أينما حلّت وسارت!
موسى برهومة