اليوم الأول:
أنا عبدالرحمن المقاص، الشاعر المخضرم بسبب تحالف عدة أجيال، ها أنا قاعد في رصيف مقهى والقصيدة لم أكتبها بعد وينتظرني جمهور ملتقى الشعر في عباب بحر هذا الأسبوع. منظمو الملتقى اشترطوا في قصائد المشاركين أن تكون مكتوبة حديثا في الشهر الجاري، توافقا مع شعار الدورة الجديدة للمهرجان: من أجل الحداثة والتزامن.
بين يديّ ورقة المهرجان، وبها تفسير مقنَّع لمفهومي الحداثة والتزامن. ليال طويلة سهروا فيها على إعدادها على ما يلوح. إنها ورقة مقنّعة وأنا متحفظ من شعارها بيد أني مقتنع بما وقع فيها.
لقد ربطوا في تفسيرهم لمفهوم التزامن بين حدث التفكير في القصيدة وبين حدث تخطيطها على الورقة، وبين زمن الشهر الجاري كنهر في الصحراء. أرادوا من الشاعر أن يكون ابن لحظته حتى يَظهَر وجهُه على حقيقته.
سئم عشاق الشعر فعلا من سماع قصائد قديمة يطوف بها أصحابها مثل باعة متجولين في كل مهرجان. وبينهم من لم يكتب قصيدة واحدة جديدة منذ عقود، وتراه دائم الحماس وهو يعيد إلقاء ذات القصائد حيثما حل. هذا بالتأكيد خارج مفهوم «التزامن». وبناء عليه، أقول بكل طمأنينة وسكينة بأن هذا الشاعر شاعر فقط لكونه يشعر بنفسه وهو يلقي بقصائده إلى آذان السامعين. لكنه ليس الشاعر الذي يصدق عليه مفهوم «التزامن». لكي يكون شاعرا متزامنا ينبغي أن يبرهن على قدرته على كتابة قصيدة جديدة في الشهر الجاري شرط أن ينطبق عليها مفهوم «الحداثة» أيضا. حينها يكون قد ضرب القصيدة بعصفوري الحداثة والتزامن، وحقق الشرطين المطلوبين من منظمي مهرجان الشعر.
قد يسأل سائل: وكيف يتأكد المنظمون من حداثة القصائد وتزامنها؟ أليس الشعراء أمهر الكذابين، يظهرون القديم في صورة الجديد، والجديد في صورة القديم؟ أليس أحلى الشعر أكذبه، وأشعر الشعراء من لهم القدرة والكفاءة على التلاعب باللغة؟
(- وإذن؟
– وإذن ماذا؟
– وإذن سيكذبون على المنظمين ويتلاعبون بشعارهم.
– غير ممكن.
– وما دليلك؟
– أولا، لأن المنظمين صاغوا ميثاق شرف يلزم المشاركين بالتوقيع عليه.
– وما فحواه؟
– فحواه أن قصائدهم كتبت في الشهر الجاري.
– وثانيا؟
– ثانيا، الشعراء والنقاد المكونون للجنة المنظمة لهم حدس يقيني بكون القصائد حديثة العهد.
– قلت لهم حدس يقيني؟
– هذا ما قلته.
– ومن أين لهم هذا الحدس؟
– لقد اكتسبوه من طول معاشرتهم للشعر، ومن خروجهم من عنقي زجاجتي الحداثة والتزامن.
– هل هما زجاجتان؟
– هما عنقان وزجاجتان.)
المهمة أصبحت شاقة بعد سماعي هذا الكلام. كيف لي بدوري أن أخرج من عنقي زجاجتي الحداثة والتزامن كي أكون في مستوى الانتظارات وتطلعات وجوه وآذان جمهور المهرجان؟ واجب علي الارتقاء إلى مستوى أعضاء اللجنة المنظمة. بما أنهم خرجوا من عنقي الزجاجتين يتوجب علي الخروج منهما كذلك. لكن كيف أخرج منهما بهذه السرعة وأنا لم أدخل إليهما بعد؟ يتوجب علي الدخول أولا فالخروج بعد ذلك. إنها مهمة شاقة لكنها ليست مستحيلة. وأنا لا شيء يحول بيني وبين طموحاتي. الحداثة علمتني مبدأين أساسين هما الهدم وإعادة البناء. والتزامن علمني مبدأ ثالثا هو الوعي.
سأُفعّل أولا مبدأ الهدم، فأحطم الزجاجتين. ثانيا، أُفعّل مبدأ إعادة البناء، بأن أجمع حولي شظايا الزجاجتين، شظية شظية، وزجاجة زجاجة، إلى أن أصبح داخلهما، واحدة واحدة بالترتيب. ثالثا، أفعل مبدأ الوعي، فأعي أني على وعي بكوني واعيا بوعيي داخلهما.
يبقى الخروج؟ كيف أخرج من عنقيهما؟ لا يمكن التفكير في الخروج حاليا. لأن الوعي وعي لحظي ينشأ فقط حال الوعي به. لذلك أؤخر التفكير في حلول الخروج. تفكيري الآني عليه الانصباب على كتابة القصيدة التي جئت من أجل الانفراد بها في رصيف المقهى.
أحس بأفكاري تتمخض. تقلقني أحوال تمخضها. لو كانت أحوال مخاض لكانت أفضل. لكنها تتمخض، بمعنى أن بعضها يمخض بعضا. إنها تتماخض إذن.
كل تماخضها المقلق هذا والقصيدة تأبى إظهار رأسها من قدميها! أتعجب من الشعراء الذين لا يتوقفون عن الكتابة. إما أن أفكارهم لا تتماخض، وإما أنهم لا يصابون بقلق مخاضها، وإما أنها تتماخض دون تقليق. كتابة قصيدة أسهل عندهم من ثرثرة مع صديق. يبدو أن لديهم الكفاءة والدربة على الخروج من أعناق أعتى الزجاجات. وأعتاها الزجاجات الصغيرة كزجاجة بها محلول مرطب للأذن.
في بداياتي، كنت غزير الكتابة. قد لا يمر علي النهار دون أن أكون دبجت قصيدتين أو أكثر؛ هذه في بنت الجيران، وتلك في واحدة أتخيلها، وأخرى في الجداول والخمائل. كان ذلك بسبب الاحتباس العاطفي والجنسي لمراهق له طموحات أدبية. مع التقدم في السن تولدت عندي حاجات جديدة للكتابة لا تبرر غزارتها. وهذا ما أواجهه اللحظة. فها أنت تراني (هل تراني؟) خططت عدة صفحات ومزقتها. تخيلت رأس القصيدة وخصرها وقدميها، غير أنها مسخت، من صورة امرأة لصورة بقرة وحشية. ثم تخيلت قرني البقرة الوحشية، فظهرها، ثم حوافرها. لكنها مسخت من صورة بقرة لصورة سيارة رياضية من صنف بورش، لها قرنان فوق غطاء المحرك وتطل من أعلى تلة خضراء على بحيرة زرقاء حطت عليها طيور البط البري، بينما قناص انزلقت بندقيته وهوت إلى قعر البحيرة، اكتفى بوضع مذياع صغير على أذنه ويتابع منه برنامجا حول كيفية قنص البط البري الحاطّ على بحيرة زرقاء وتطل عليها من تلة خضراء سيارة رياضية من صنف بورش ولها قرنان فوق غطاء المحرك.
كل ما خططته باء بالفشل وعدت لنقطة البداية. لا أقصد نقطة البداية في القصيدة، بل نقطة بداية التفكير فيها. لو كنت عثرت على نقطة لبداية القصيدة لكان حالي معها أفضل. عادة ما تبدأ القصيدة من بدايتها. أردت القول إن القصيدة قد تتأسس على بدايتها. بل إن من الشعراء من يكتفون بنقطة البداية، فيسمونها شذرة. وإذا بدت لهم الشذرة ينقصها شيء من حتى الشعرية، أطلقوا عليها اسم قصة قصيرة جدا. إنه أمر يسري به العمل في الكتابة في أيامنا، لأن المفاهيم اختلطت، وكذلك الكتابات.
لو لم أكن ملزما بالمشاركة في المهرجان الشعري، لاقتصرت على تدبيج قصة قصيرة، أو قصيرة جدا، أو قصيصة أقتص بواسطتها من الورقة البيضاء. لأن كتاب القصة لا «يحاسبهم» النقاد، ولا يتربص بهم أصدقاؤهم القصاصون والقصاصون جدا والقصيصيون، بخلاف زملائي ورفاقي الشعراء الذين لا يرفقون ببعضهم، ونقادهم لا يرفقون بهم أيضا. انظر معي للشرطين المطلوبين في مهرجان الشعر. فكتاب القصة مثلا لا يواجَهون بمثلهما ولو في المنام.
المشكلة قائمة في الشعر وحده. أما في القصة فالمشكلة لا قائمة ولا قاعدة. مثلا يوجد كتاب نشروا رواية واحدة وظفروا بلقب روائيين، وآخرون نشروا مجموعة قصصية واحدة وحملوا صفة قاصين وقصاصين. وفي المقابل، ثمة شعراء نشروا أكثر من ديوان، لكنهم لم يفلحوا في انتزاع صفة شعراء من الأوساط النقدية والشعرية. المشكلة قائمة إذن في الشعر وحده وهذا مما يصعب من مهمتي في جعل قريحتي تلهج بقصيدة تحقق آفاق توقعات الحاضرين في المهرجان. غير أني عازم على مفاجأتهم مفاجأة سارة بإخراج قصيدتي الحديثة المتزامنة إلى الوجود المدرك بالآذان.
أفكر في قصيدة تسير بسرعة مفرطة حتى في المرتفعات اللغوية، ولا تنقلب في المنعرجات الدلالية الخطيرة. قصيدة لا تعبأ بعلامة قف، ولا تتوقف عند الضوء الأحمر، وإذا نصب بوليس المرور الشعري حواجزهم ذات الأوتاد المسننة، تقفز فوقها وتترك لهم الدخان.
أفكر في قصيدة تنطلق بالسرعة القصوى وفي ثانية واحدة تبلغ الصفحة الأخيرة من الكتاب. تتجاوز حين يمنع التجاوز، وتطلق منبهاتها أمام إدارات الدولة ومراكز الأمن حيث يكون ذلك ممنوعا، وتخالف ضوابط الحمولة فتتعداها بأطنان من الأفكار حتى لتظن أنها ستسوي إطارات العجلات بالأرض.
أفكر في قصيدة تتحدى المنزلقات الخطيرة، والضباب الكثيف، وإذا شاركت في رالي باريس دكار تكون الأولى، وإذا شاركت في سباق الفورمولا تأخذ قصب السبق، وإذا كان قصب السبق من نوع قصب السكر، تعلكه وتعصره وتبلل به فمها.
أفكر في قصيدة تفجر اللغة من الداخل شريطة أن أكون بعيدا فارا بجلدي مسافة يوم كامل حتى لا يصيبني دوي الانفجار بأذى في لساني.
أفكر في قصيدة تشبه حافلة للنقل العمومي تتسع لكل طبقات الشعب، عمال وفلاحين وطلبة، صحفيين ومحبين وجواسيس، المحرك عندها بألف حصان من معلقات الشعر الجاهلي الخاسرة في سباقات الرهان الحالية.
أفكر في قصيدة تشبه طائرة بدون طيار، لا يكتشفها رادار النقاد، ويفقدون التحكم فيها، فتسقط في بلد مجاور وتخلق أزمة دبلوماسية بين الشعراء.
لكني رجل كهل وما عندي صحة وليس بيدي حيلة. وكل هذا الكلام عن المتفجرات والممنوعات والطرق الوعرة، طفح به الكيل، وجنح مثل السفينة إلى الساحل الغربي، حيث تدخلت الطوافات وزوارق الإنقاذ السريعة لانتشال بعض مفرداته قصد ترجمتها فوريا إلى لغة ملموسة.
من حسن حظي أن لي صديقا ناقدا عضو لجنة المهرجان وهو متعدد المشارب، يتابع كتاباتي في الضراء والرمضاء. يعرف أن لي ديوان شعر عرضته على الناشرين فاكتفوا بتحرير تقريرين أدبي ومالي في حقه. ومن يومها وأنا أراجعه وأحذف منه إلى أن لم يبق بين يدي منه سوى العنوان.
وعملا منه على تخليصي من الأزمة، استغل الصديق تعدد مشاربه، فأخذ عنوان ديواني واعدا بدراسته وفق آخر المستجدات المنهجية مع الاستفادة من تراث أجدادنا النقاد. وبعد مدة لا أذكرها، ممكن تكون عاما، ممكن تكون عامين، رجع الصديق واقترح أن أغير العنوان حتى يستجيب للأذواق المعاصرة، وهي متعددة المشارب، وأن تكون فيه فحولة متفجرة مثل القنبلة العنقودية.
سار به صاحبي إلى فنان تشكيلي متعدد المشارب أيضا، فصمم له غلافا أنيقا مع لوحة طبق الأصل. ثم عرض الغلاف بعنوانه على ناقد محايد يشرب لكنه غير متعدد المشارب، وأقنعه بأن يضع له مقدمة صحفية يختارها من بين أجمل الصحفيات مقدمات البرامج التلفزية.
بعدها تفرغ صاحبنا فأنجز دراسة مطولة حول فحولة العنوان. وكانت النتيجة أن أحدثت دراسته ضجة عالمية فنشرت في أكثر من دولة وعقدت لها الندوات والملتقيات، وانقسموا حولها بين من اعتبرها ترجع الحق لنصَّابه، وبين من اعتبرها تشويشا على بيت الزوجية. المنظمات الغربية رحبت بها ووجدت فيها حلولا لشعوبها المهددة بالانقراض بسبب ضعف الفحولة.
هكذا اشتهر صاحبنا فوافقت اللجنة العلمية على ترقيته إلى أستاذ كرسي في الفحولة، كما أصبح مستشارا لدى الجمعيات البيطرية النقدية وجمعيات تقوية النسل الشعري وحماة البيئة الثقافية ومروضي الثعابين والسحرة وصائدي الفئران والقصائد والقنافذ. صاحبي محظوظ وأنا محظوظ به. هو عضو اللجنة وأنا يقام لي عند خروجي ويقعد لي عند دخولي. ووجودنا معا في المهرجان سيكسبه قيمة مضافة إلى الحداثة والتزامن. لن أضيع وقتي. سأبدأ فيها اللحظة.
(- يالله اِبدأ.
– سأبدا.
– اِبدأ اِبدأ.
– قلت لك سأبدأ.
– ماذا تنتظر اِبدأ.
– كيف تريدني أن أبدأ؟
– اشحذ ذهنك وابدأ.
– تقصد أن أشحت ذهني وأبدأ؟
– قلت اشحذ اشحذ بالذال.
– إذا شحذت ذهني ستأتي القصيدة ذهنية.
– وما المانع؟
– هذا مخالف لمفهوم الحداثة عند منظمي المهرجان.
– مخالف لمفهوم الحداثة عند منظمي المهرجان؟
– ورقتهم تعد القصائد الذهنية غير حداثية.
– الأفكار الأفكار. حدد الأفكار التي ستبني عليها قصيدتك اللعينة.
– هذا مخالف أيضا للورقة.
– مخالف أيضا للورقة؟
– ألا تعرف أن ورقة مهرجان العام الفارط تضمنت شعار: قصيدة بدون أفكار؟
– يا أخي حدد الأفكار ثم اهدمها.
– غير مقبول منهم ما تطلبه. إنهم يطلبون قصيدة بدون أفكار. أي ليس فيها رائحة الأفكار، سواء أكانت مبنية أم مهدمة.
– وماذا يطلبون بالتحديد؟
– والله لا أعلم. المهم عندهم هو الحداثة والتزامن.
– بما أنهم كذلك كان الله في عونك.)
إنها ورطة ولا بد أن أعثر لها على حل. الحل سأجده سأجده، إن لم أجده اليوم فإني واجده غدا. لا بد أن أعثر عليه أو أتعثر به، لا بد من إيجاده. فلم أتعود أن تكبح الورطات طموحاتي. والقصيدة ورطة، بل مجرد ورطة. سأدفع الحساب للنادل على أن أرجع غدا. يتوجب علي أن اثبت لنفسي أولا، أنا عبد الرحمن المقاص، الشاعر المخضرم بسبب تحالف عدة أجيال، بأن القصيدة لا تقوى على توريطي. إذا تورطت هي في، فلن أتورط أنا فيها أبدا.
اليوم الثاني:
نعم، أنا عبدالرحمن المقاص، الشاعر المخضرم بسبب تحالف عدة أجيال، لست شاعرا مغمورا، ولست أهذي وأهلس كما يدعي الرواة الأعداء الذين يحفرون لي الحفر دون أن ينجحوا في التعتيم علي إعلاميا. مؤخرا استدعتني الرابطة القلبية للمبدعين الهادفين، ومقرها في جنيف ربما، لإلقاء شهادة حية عن تجربتي باعتباري شاعرا مخضرما مرقونا ومرموقا. وقد سُميت تلك الرابطة بالقلبية لأن قلبها مع المبدعين ولسانها مع النقاد. كما وُصِف أعضاؤها بالهادفين لأنهم يهدفون مرة مرة للكتابة.
وقد ألقيتُ فعلا شهادة حية عن تجربتي كما طلبوا مني حرفيا. إلا أنهم- مع الأسف- روجوا إشاعات مغرضة حول شهادتي التي ألقيتها. لدرجة أن أحدهم لم يخجل وصرح للصحفيين بأني ألقيتها على الأرض وليس على مسامعهم، وأن الشهادة حين ألقيتها تحولت إلى فيلم قصير يسعى سعيا. والأخطر من ذلك أن بعضهم وصف شهادتي بأنها ليست حية ترزق، فيما قال المنافقون منهم بأنها ليست حية أصلا، لكنها أفعى. ثم سربوا تلك الإشاعات للنقاد الذين عقدوا ورشة ميكانيكية على هامش الملتقى ظلوا خلالها يتناقدون ويتناقرون مثل الديكة ويتجادلون: هل هي حية أم أفعى، هل هي حية ترزق أم حية لا ترزق؟ أم ميتة ترزق، أم ميتة لا ترزق؟ ودخلوا في السفسطة والهرطقة وطرطقة المصطلحات كما يُطرطق العلك بين الأضراس وخصوصا في ما يتعلق بمصدر الرزق؛ هل مصدره الإبداع أم مصدره النقد؟ وحين لم يصلوا لنتيجة متفق عليها، علقوا الجلسة في أعناقهم ووقفوا عدة دقائق صمت ترحما على أحد أعضاء الرابطة الذي وجدوه مربوطا ميتا في ملعب للكرة الشعرية الطائرة، وكان قيد حياته ناقدا ومبدعا معا.
وعلى كل حال، أنا مقتنع أن شهادتي حية ترزق. فجانب من الجمهور الذي غصت به جنبات الملعب ظل يصفق لي إلى أن تورمت يداه. أما النساء اللواتي من أصول عربية فزغردن لي إلى أن رقدت ألسنتهن تعبيرا عن رغباتهن الجياشة لسماع المزيد مني. إنه موقف نبيل أسجله بحبر الفخر والاعتزاز لأنه منحني الثقة والقناعة بأن شهادتي لا بد أنها حية، وأكثر حيوية على الأقل من الشهادة الابتدائية.
فلست شاعرا مغمورا على كل حال. وها قد عدت في يومي الثاني لذات المكان. أفكاري أمعنت في تماخضها. تصفحت خلال النهار عدة كتب ورسائل وجهها كبار الكتاب للكتاب الشباب. أرادوا نقل خبراتهم وتجاربهم إليهم. ومع أني غادرت الشباب منذ ثلاثين عاما، إلا أن روحي مازالت شابة. أحس بشبابها يتنطع شعريا. أؤمن بأن الشاعر عليه أن يحافظ على شباب روحه بأن يواظب على التعلم. مثلي هذا اليوم. لقد ركزت في ما قرأته على طرق اقتناص القصيدة. كل من قرأت لهم أجمع على ضرورة التربص بالقصيدة دون الظهور لها، كمن يترصد طريدة في غابة. أجمعوا أيضا على وجوب ألا يستعمل في صيدها لا رصاص حي ولا رصاص ميت ولا رصاص مطاطي. لأن القصيدة رهيفة القلب وقد تصاب بمقتل. أجمعوا على أن الرصاص يجب أن يكون مفرقعا فقط، لكن دون إحداث صوت. لأن القصيدة جبانة، ومجرد رؤيتها لبندقية مصوبة نحوها يصيبها بالإغماء.
لقد تعلمت من كبار الكتاب أشياء عظيمة. في مقدمتها أن الخطوة الأولى لقنص القصيدة هي قضاء الشاعر على خوفه من مبارزة الورقة البيضاء. علي أن أتحرر من هذا الإحساس. الظاهر أني أخاف من بياض الورق. تجربتي أمس مساء خير دليل على خوفي. فبدل أن أمضي رأسا نحو القصيدة كي أجرها للورقة، شط بي تماخض أفكاري بعيدا جدا.
سأقطع الأوراق إلى أنصاف. مواجهة نصف ورقة أقل ترهيبا من مواجهة الورقة كاملة. سألتقط ثلاثة أنصاف أوراق وأواجهها نصفا نصفا بما تيسر من أفكار. أكون بعدها في كامل الشجاعة لتناول ورقة كاملة وجر القصيدة نحوها. بهذا نصح كبار الكتاب.
نصف ورقة رقم1: سأجرب أن أكتب دون فكرة مسبقة. هذا قد يفيدني في كتابة قصيدة دون فكرة مسبقة، بل حتى دون نية مسبقة. أي أني أمسك القلم لمواجهة نصف ورقة بيضاء. قلت سأجرب ولست تجريبيا، أو أريد كتابة تجريبية. أرغب في كتابة متماسكة. فالكتابة المتماسكة يكون لها وقع قوي المفعول على القراء. لكن كيف تتماسك الكتابة دون أن تتلاصق، وهل ثمة فرق بين الكتابة المتماسكة والكتابة المتلاصقة؟
قلت إني أواجه نصف ورقة بيضاء. وربما أكون أمسكت بنصفها لأجعله يواجه القلم. إذ لماذا نجعل القلم أمام تحدي الورقة؟ أليست الورقة هي ما يتحدى القلم؟ ولعل القلم والورقة يتواطآن معا لمواجهة الكاتب.
يوجد خلاف بين العلماء حول الجواب الرادع لأصحاب الأسئلة في هذا الموضوع. لذلك أقفز عليه قفزة موضوعية وأرجع لقضية التماسك والتلاصق في الكتابة. شخصيا، أفضل مصطلح التلاصق (نعم، إنه مصطلح). التلاصق يخص العلاقة بين القارئ وبين النص. أما التماسك فيخص الميكانيزمات التي تتراسل الحواس بواسطتها بين كلمات النص. والحواس تتراسل لأنها من هواة المراسلة. هذا هو الفارق الجوهري بينهما على حد علمي. لأن الحواس الخمس ترسل إشارات من الجهات العليا فتترجمها الكلمات إلى جمل فعلية واسمية تتراسل فيما بينها بالبريد الإلكتروني أو مباشرة. أما التلاصق فمختلف تماما.
التلاصق في الكتابة يفيد أنك حين تقرأ كلمة أو جملة جميلة تلتصق بذاكرتك إلى الأبد. المشكلة ليست هنا. المشكلة في أن يلتصق أحدهم بكتابة لا تلتصق بأحد. وتتعقد المشكلة حين يصر هذا النوع من الكتاب على الالتصاق بالقراء رغم أنوفهم، فيتحولون إلى شوكة في حلق الثقافة. أقصد أنهم يلتصقون كما يلتصق العلك. فما العمل معهم؟
أظن الحل هو أن نقوم بتسخينهم إلى أن يرتخوا ويلينوا، فنغير شكلهم بين أصابعنا، مثل كويرة علك صغيرة، ثم نلصقهم في جانب ما من جوانب الطاولة التي نشرب عليها كؤوسنا. ولماذا نواجههم بالعنف؟ لعلهم لا يلتصقون ولا يتمسكون سوى بأنفسهم. أقصد أنهم يتعثرون في أذيال ملابسهم فيسقطون. ثم إن الحياة تتسع للجميع. تتسع للمتماسكين وللمتمايلين. وتتسع للملتصقين بالكراسي وللملتصقين بالهاوية. وتتسع للملتصقين بالكتابة ولمن تلتصق الكتابة بهم.
نصف ورقة رقم2: هذه هي المرة الثانية التي أواجه فيها نصف ورقة دون فكرة مسبقة. من الأفضل أن لا أوظف كلمة مواجهة في هذا السياق. لأن المواجهة تعني العنف، ولأني لا أرغب في اللجوء إلى العنف ضد الكتابة. حتى لو رغبت في ذلك، هل أنجح؟
ربما يكون الرفق بالكتابة أولى من استعمال العنف ضدها. السؤال المحير: هل الكتابة رفيقة بالكتاب، وهل ترحمهم حين تضيق أوراقهم وأنفسهم فيدقون أبوابها متوسلين أن تجود عليهم بالحنان والمحبة؟
ثم لماذا نعتبر الكتابة قاسية، وكأننا نواجه معسكرا لغويا منظما ومدججا بالمتاريس والأسلحة الفتاكة؟ أليست الكتابة جزءا منا؟ إذا حاربناها، ألسنا نحارب ذواتنا؟ فهل نحاربها أم نحارب قصورنا وعجزنا وفشلنا في التغلب عليها؟
لذلك قلت إني آت للورقة أعزل. فلماذا أعزل؟ وهل كان علي آن أتسلح للإتيان إليها؟ الإتيان إليها أم إتيانها؟ من الأفضل أن أبقى معقولا. لكن المعقولية أليست تتعارض مع الخيال، وهو المدخل الوحيد للكتابة؟
لقد آثرت أن آتي للورقة دون فكرة مسبقة. وهذا لا يتعارض مع سبق الإصرار. علما أن سبق الإصرار قد يتعارض أصلا مع الفكرة القائلة إن الكتابة موهبة لا تخضع لمنطق الإصرار والترصد. والآخذون بهذه الفكرة يعطون أمثلة حية من الواقع يستشهدون بها على الآثار الجانبية السلبية الناتجة عن الإصرار على الكتابة حتى لو لم تتوفر الموهبة. ومن الأمثلة التي يستدلون بها على رأيهم وجود كتاب يصرون ليس على أن يكتبوا، بل على أن يصبحوا كتابا. فيظلون يكتبون ويكتبون ويصرون على الكتابة إلى أن يصبح لكتابتهم صرير مزعج يثقب الروح. ويمكن القول إن صوت الصرّار أحسن من أصواتهم. على الأقل، الصرار يرتاح أيام الشتاء. أما هؤلاء فيستمرون في الإصرار والصرير رغم الخسائر التي يحدثونها في الكتابة وفي آذان القراء.
لهذه الأسباب أستحسن الكتابة التي تأتي عفوا وارتجالا. تأتي بالبديهة، وحسب الطبيعة، وتبعا للجو والظروف. وهذا لا يمنع من سبق الإصرار والترصد، ولا يمنع من مواجهة الكتابة ومواجهة الورقة، والدخول في حرب مفتوحة معها لا تبقي ولا تذر مع كل ما يمت للكتابة بصلة.
نصف ورقة رقم3: أغراني هذا النوع من الكتابة التي آتي فيها إلى الورقة دون فكرة مسبقة ودون تخطيط وسبق إصرار وترصد. أعرف أنه يوجد كتاب يتركون الورقة تقودهم مستمرين في السير معها، مفسرين موقفهم بكونهم يكتشفون. ومنهم من يرى أن الكتابة اكتشاف، أو أنها كشف. (الكشف هنا بكل معانيه؛ بالمعنى الطبي والصوفي والجغرافي والبوليسي…). ثم يختلفون حول ما يكتشف في الكتابة وحول ما تكشفه وتكشف عنه.
بل يذهب بعضهم إلى القول بأن الكتابة تتعدى الكشف إلى التعرية. فماذا تعري؟ إنها تعري الواقع، تعري الكاتب، تعري اللغة، (تعري والسلام)، حتى لو كانت التعرية بالمفهوم الجغرافي. المهم أنها تعري. هكذا يقولون. غير أن آخرين يعترضون ويقولون إن الكتابة تحجب أكثر مما تعري، وتغطي أكثر مما تكشف.
موازاة مع الفئة القائلة بالكشف، والفئة القائلة بالتعري، توجد فئة ثالثة تقول بشيء اسمه لذة الكتابة. والفئات الثلاث متقاربة مع بعضها. فالقائلون – مثلا- باللذة الكتابية يعتنقون أيضا مذهب الكشف والتعري خاصة عند الجناح المتطرف منهم. فهو يقول إن لذة الكتابة تشبه اللذة الجنسية، سواء عند الكاتب أو عند القارئ، وأن النص يمنح جسده لكل طلاب اللذة بدون استثناء. ويسيرون في هذا الاتجاه بسرعة مفرطة مستعملين كلمات جنسية مباشرة مثل: افتضاض، بكارة، افتراع، شبق، تهيج، معانقة… والملاحظ أنها كلمات تؤكد أن مستعمليها يتخيلون الكتابة بمثابة امرأة. حقيقة لست أعرف موقف الكاتبات النسوانيات من هذه القضية، وهل ينظرن للكتابة بأنها امرأة أيضا، وكذلك ماذا تعني لهن عبارات مثل: بكارة اللغة، افتضاض الورقة..
ويظهر أنه من غير المعقول تبسيط الموضوع إلى درجة مخلة بقداسة الكتابة مادامت أكثر تعقيدا مما نتصوره. شخصيا، أحسست كذا مرة أني أفتض بكارة اللغة، والورقة شاهدة علي. لكني لم أر أي أثر لدم البكارة عليها ولو من باب المجاز. كنت أريد أن أراه حتى أتأكد من إمكان تحول اللذة المستباحة في النظرة للكتابة إلى حقيقة ولو على الورق، يمكن الإحساس بها بالعين المجردة. لذلك سأبقى أبحث عن اللذة المفتقدة بين استيهام الورقة وبين استيهام التخيل. أليست الكتابة تخيلا؟ أليست الأوراق هي مخيلة التخيل؟ لكني في الوقت ذاته، لا أعرف وأنا أكتب، هل أكتشف نفسي، أم أكشف القناع وأعري عن وجهي، أم أعري عن ذراعي، أم أتلذذ، أم ماذا؟ ماذا حقّا؟
إنها أسئلة «جوهرية». لقد نجحت نجحت. تغلبت على أنصاف الأوراق، وقهرت الكتابة. إني متسلح بما يكفي من عتاد للإمساك بتلابيب القصيدة وجرها نحو ورقة كاملة البياض. ليس اليوم. غدا. فليكن ذلك غدا. غدا أكتب القصيدة اللعينة للمهرجان اللعين.
اليوم الثالث:
في ليلتي الثالثة هذه، تماخضت أفكاري وأفرزت فكرة في محلها. أعتبرها في محلها. ومحلها ليس رصيف المقهى بل الحانة. الحانة خلفي، ليس بيننا سوى الحائط الزجاجي. المقهى مقهى وحانة. وهذا على كل حال مجرد استطراد في غير محله. المحل المطلوب هو محل الفكرة المذكورة. أقصد الانتقال من رصيف المقهى إلى صخب الحانة بالداخل. قد يوحي لي جوها الداخلي بأفكار للقصيدة. هل قلت أفكارا؟ أريد القول إنه قد يوحي لي بحالات أو تهيؤات. بعض كبار الكتاب الذين نتعلم منهم على الدوام يقول بأن الخمور تساعد على ارتخاء عضلات الخيال، وتخفف من ارتفاع ضغط الدم في اللغة، وتعين على التنقيص من التوتر العصبي في إيقاع القصيدة.
إذن سأدلف إلى الحانة. ها قد دلفت واقتعدت كرسيا منعزلا في ركن من الحانة كعادة كبار الكتاب. لكني لن أحتسي خمرا. لأن كبار الكتاب نبهوا أيضا إلى احتمال ظهور حالات عرضية أو جانبية غير مرغوب فيها بسبب الخمر. وبما أني لست متأكدا من نفسي، فسأقتصر على مياه غازية مخلوطة بمُركّز الرمان، وسأتخيل نفسي أسكر. أنت تعرف يا أخي أن تخيل السكر يكون أحيانا أفضل من السكر ذاته. إن ذلك يشيه أن تتخيل نفسك كاتبا دون أن تكون كاتبا. إنه يشبه أيضا أن تتخيل نفسك جنب المرأة التي تحبها. فتخيلك جنبها أحسن من أن تكون جنبها بالفعل. أليس كذلك؟ بلى إنه كذلك. والدليل القاطع الباتر هو الفرق بين أن تتخيل نفسك متزوجا وبين أن تتزوج. لقد أدركت الفرق على ما أعتقد.
هذا هو إحساسي أنا على الأقل. إني سعيد بأن أتخيل نفسي أكتب تلك القصيدة اللعينة، الرهيفة، الجبانة والمتورطة. إذا كتبتها سينتهي كل شيء. ستقول لي إذا أكملتَها ستتخيل نفسك تقرؤها في مهرجان الشعر اللعين بدوره. صحيح، لكن ماذا بعد؟ سأقرؤها وأمضي وينتهي كل شيء أيضا.
(- وما هذه القصاصة التي معك؟
– هده صفحة من مجلة.
– وما حاجتك إليها؟
– سأستعين بها على كتابة القصيدة.
– سرقة أدبية إذن؟
– أبدا. إنها قصيدة قديمة لي.
– هذا يعني أنك تخالف قانون المهرجان. فقد اشترط أن تكون القصيدة جديدة.
– لا أخالفه. فلدي مخرج شعري.
– ما هو؟
– سأشتغل على قصيدة قديمة وأحولها إلى قصيدة جديدة. ولدي أيضا مخرج فلسفي.
– وما هو؟
– قال الفلاسفة العظام إن الطبيعة لا تقبل الفراغ.
– هذا قالوه عن الطبيعة لا عن القصيدة.
– هم قالوه عن الطبيعة وأنا أقوله عن القصيدة.
– وكيف؟
– أنا أقول إن القصيدة لا تقبل الفراغ. تابع معي. تابع ما سأقوله لك).
الآن تحديدا، أوشك على بداية القصيدة متمنيا ألا يزعجني أحدهم من المتطفلين المقتنعين بأن الأهبل وحده من يكتب في مكان كهذا فيه مشارب مختلفة. والحقيقة أني أرتاح دائما للكتابة كلما كانت حولي مشارب مختلفة رغم أني أصلا لست متعدد المشارب.
لا أفضل في جل الأحيان الانفراد بنفسي لأجل الكتابة، إذ أحس وقتها بالعزلة وتنتابني أفكار مرعبة وتبدأ أشباح في الرقص بيني وبين الورقة. أعرف أن النفس أمارة بالسوء، لذلك لا أخلو بنفسي لأكتب، فأمام هشاشتي وتزحزح يقيني من موضعه، أتوقع أن أكون ضحية سهلة للسوء الذي قد تأمرني به النفس. لهذه الأسباب آخذ معي كل الاحتياطات وأجلس في مكان متعدد المشارب.
سنة 1998 نشرت لي مجلة بيروتية نصا بعنوان «بسباسة حوضها معشوشب». قبل ذلك، ظل هذا النص في غرفة انتظار المجلة سبع سنوات. خلال المدة الفاصلة بين إرساله وبين نشره، كانت الأعشاب قد تكاثرت في حوض البسباسة حتى أني وجدت صعوبة في تشذيبها على شكل فراشة كالمعتاد. والبسباسة – بالمناسبة- نبتة يقطرون من حبوبها مشروبا روحيا (أقول مشروبا روحيا لا ماديا).
إلى ذلك، تلوح لي كتيبة من الغابات، تتقدمها الأشجار التي كتبت عنها طيلة عقود. ولست أفهم مبررات التقارب الذي حدث بينها وبين الأجراف والرياح والأرواح والسكارى الذين أفلت منهم خيط الثمالة، فواصلوا الشرب دون جدوى. أما السهب الأرعن، ذاته، ذاك الذي تتدلى من أشجاره أعشاش اللذة، فلا يكف عن الهتاف باسمي ويُلَوّح لي بقميص امرأة تركتْه عند زبون رافقها لبيته ثم طردها عارية عند الفجر.
ثمة بسباسة حوضها معشوشب ولا يزداد كثافة سوى في التحدي. هو ينمو وأنا أخبو كهذي الكؤوس. أين قميص نومها الشاهد على عبور كواكب في كؤوس السكارى بعد أن تدافعت في أرواحهم كل ذكريات الشرب؟
لا تريد هذه القصيدة أن تجد طريقها للكتابة. إنها تجر أذيال التعاسة وتتعثر فيها. لماذا يحب السكارى الصخب؟ كدت أستقر على مطلعها هذا:
( بسباسة حوضها معشوشب،
أيها الشاربون من ذبائح الجن،
الواقفون على أجراف العواصف،
لماذا لا أشارككم الكأس،
في هذه الليلة بالذات،
أم أن زوابعي
تتلاشى تدريجيا مع مطلع النهار؟)
انقضت ساعة أخرى، وغيرت المطلع:
( أيها الشاربون من لهيب الماء
الواقفون عند الكونتوار
لماذا لا أشارككم الكأس
في هذه الليلة بالذات،
أم أن كأسي
تنصرف لحال سبيلها
وتترككم
في انتظار
ليل آخر؟)
ها إني أتناوب مع الكلمات على الوجود. تذهب بي للشقاء لأعود بها ملأى بالتيه. شيء ما أفرغ علي الرحمة، وتلك المرأة في طريقها لأن تستسلم للذئاب الراقدة بين ضلوعي. ذاك الكائن يترقى حتى يختفي في ذاته، تلحق به الأكوان تتدافع داخلها السباع، فيما الحمائم حطت على نافذة البار منذ المساء. ثم جيء بهم جميعا فاصطفوا في الدخان حولهم تتلاطم السماوات. كل واحد منهم ينتظر دوره قصد ارتداء جثة جديدة طافحة بالحياة. جيء بالنسور والحمائم وأعشاش الحب التي اشتبكت بأجراف البحر. جيء بالبحر تغمره سواحل النار، ثم جيء بالنار لتدوم كلما ارتفعت نسبة الكحول في دم أحدهم.
ترقّى الكائن حتى أصبح سهما تسابقه الخلائق، ثم ارتطم بالجدار فرجع لأصله. وترقّت الخلائق إلى أن ذرتها الرياح، ثم ترقت الرياح في الحوض المعشوشب للبسباسة طبعا. ترقوا كلهم، فيما الآخرون ساروا خلف المدائح، ثم علت عليهم المدائح فسقطوا صرعى ولم يستفيقوا، بل ذابوا في سحيق الفجاج. واحد منهم تلاشى في النشيد، وربما في النبيذ.
إني الآن أنسى تدريجيا: أنسى تعاسة هذه القصيدة، وأنسى كأس الرمان التي بين يدي، وأنسى المساء الذي اقترف فيه العشاق مثواهم المجنح بالحب، والمساء الذي أعارت قوافلُ ملذاته رغباتِها للنوم، والمساء الذي تلاطم على طاولة وخلّف خسارته عالقة بذيل حصان، والمساء الذي توسد خوفَ الغرباء المحتمين بانقلاب نفوسهم.
سأنهي القصيدة اللعينة الهاربة على الدوام دون أن تترك لي سوى الريح. الريح؟ سأكتب الريح مستقبلا. أكتب الريح؟ إيه، إنها فكرة! يا لها من فكرة! أكتب الريح! جملة رائعة! حسب علمي لا يوجد شاعر كتب الريح. ثمة من كتب إلى الريح أو كتب عنها، وثمة من كتبت إليه الريح، وقد يوجد من كتبته الريح بمداد من ذهبوا، لكن أن تكتب الريح هذا هو الرائع! وهذا ما ينقصني.
وكيف أكتب الريح؟ لكي اكتبها علي أن أجرها بيدي من النافذة. قد تسبب لها سحب دخان السجائر الفارة من الحانة نحو النافذة حساسية في التنفس، بيد أنه لا حل آخر أمامي سوي سحْبها من الخارج. سأخرج يدي من النافذة، أمدها، ثم أمسك بالريح وأجرها لألصقها بالورقة وأكتبها. أكتبها وليس أكتب عليها. هذا ما ظل ينقصني. لم يكن ينقصني إلا كتابة الريح. (وماذا تنتظر؟)
ها إني أفتح النافذة. ها قد مددت يدي في الهواء. يوجد فرق بين الهواء وبين الريح. الهواء لا يُكتب لأنه هواء. أما الريح فتُكتب لأنها ريح. ها إني فتحت قبضة يدي وأمسكت بالريح بسهولة بالغة ( سهولة بالغة لا سهولة قاصر). ها إني أجرها. ها قد جررتها محاولا إلصاقها بالورقة. إنها تتمنع وتكاد تنفلت. يبدو أن جر الريح أصعب من إلصاقها بالورقة، وإما أنها تخشى من بياض الورقة؟ لماذا تتمنع؟ تكاد تنفلت من يدي. الورقة تنزلق مرتفعة والريح تكاد تنفلت. الريح تجر الورقة وأنا أحاول التغلب عليهما. قوة الجر تزداد والسكارى طار منهم السكر وفي أيدهم ترتعد الكؤوس. عيونهم مشدوهة وأحدهم أغمي عليه. الطاولات ترتعش والزجاجات تتمايل وتقرع بعضها. الريح تزداد قوة والورقة ترتفع وأنا ما أزال قابضا عليهما. الريح ترتفع وتسحبني تدريجيا نحو النافذة وزبون ثان أصابه الصرع يتخبط على الأرض. قواي تخور وروحي توشك أن تزهق. أخيرا أرخي يدي وأحرر الريح والورقة. انفلتت الورقة كسهم ومرقت من النافذة. أعود لمقعدي متهالكا عليه وأنسى. لا ينفع إلا النسيان. ها إني نسيت كل شيء، فيما صاحب الحانة يطفئ الأضواء ويدعوننا للمغادرة إلى ليل آخر.
(- إلى ليل آخر؟
– إلى ليل آخر.
– والقصيدة يا صاح؟
– أي قصيدة يا رجل؟
– قصيدة الحداثة والتزامن؟
– لقد مرقت مع الريح.
– والحداثة والتزامن؟
– هو فيه حداثة كي يكون ثمة تزامن؟ هو فيه تزامن كي تكون ثمة حداثة؟ هو فيه قصيدة أصلا؟ يا رجل يا رجل، ما دام صاحب الحانة دعانا ليل آخر، فلنلب النداء. إذا لم تلب نداء كهذا، فلن تقنص قصيدة أبدا.
– ومهرجان الشعر؟
– مهرجان الشعر، مهرجان الشعر. شارك فيه أنت بدلي. بما أنك مفرط في الحماسة إذن شارك. شارك فيه بدلي. تزَمّن وتحدث وشارك يا رجل. شارك فيه. أما أنا فمغادرك إلى ليل آخر. الكتاب العظام كانوا دائما يغادرون من ليل إلى ليل. فتعلم الدرس).
علي أن أكون متواضعا. أطلت الكلام ولم أوفق في تدبيج القصيدة كما ترى. لأكن واقعيا. ما أنا إلا بشر، آكل وأشرب وأرعى أفكاري كراعي قطيع من الغنم، مرة تهرب مني، ومرة يخطفها الذئب. لا أرتب ملابسي وأفضل أن أدعوها لحفلة الفوضى التي يرعاها البيت الذي أكتريه مع الآخرين. أخاصم زوجتي لأتفه الأسباب، وأغضب من رئيسي في الشركة، وأصرخ في وجه الجيران إذا أخرجوا كلبهم للأدراج المشتركة، وأتدخل لفك نزاع بين شرطة المرور وبين سائق شاحنة محملة بقرويات آتيات لعرس في المدينة، وتخليت نهائيا عن بطاقة الشباك البنكي بعد أن تسببت لي في ديون ما قبل دخول المرتب.
لم أجد وقتا لإصلاح جهاز التلفزيون المعطل، وأنسى حلاقة وجهي لعدة أشهر، وأنسى الرجوع لبيتي لعدة أسابيع، وأنسى مواعيد الجلسات التي تتابعني فيها المحكمة.
قبل أن أتناول القهوة أخلطها بالسكر وأحركها بالملعقة وأزيل عنها الرغوة ثم أحتسيها على جرعات. أقتني الجرائد التي تهمني، وإذا فاض علي الوقت أتلهى بالكلمات المهمة. أحيانا أصاب بالزكام لأني لم أنتبه لتغير الجو، وقد يجرحني مسمار في قدمي لأني تشاغلت عن إصلاح حذائي عند الإسكافي، ولم يسبق لي أن فزت في أي لعبة رهان مارستها، ولم أكلل بالتوفيق في أي مهنة زاولتها، ولم يسعفني الحظ مع أي امرأة عاكستها.
انتهى أمري ورحت فيها.