إن الخطاب الأدبي لا يمتص فقط خطابات أخرى ويحولها بداخله، وإنما ترافقـه من الخارج أيضا نصوص تشاركه في بناء المعنى، وقد تكون هذه النصوص متبددة أو مندسـة داخل النـص المصاحب، وقد تكون أحيانا ظاهرة، تعلن عنه وتوطئ له قبل كلمته الأولى. إنه التوازي النصي، الناشئ من علاقة النص بمحيطه، المؤلف من العنوان الرئيسي أو الفرعـي، والتصديـر والتنبيـه والملاحظة حسب الحصر الذي قدمه «جيرار جينيت».
يقول ابن رشيق «الشعر قفل أوله مفتاحه»(1) أما في قصص «خورخي لويس بورخيس» فإن استهـلال النص هو القفل الأول الذي يمنع فتحه، ويصر على إغلاقه. إن الفاتحة النصية عند القاص ليست مدخلا عاديا لخطابه الأدبي، بل يمكن القول، إنها أول عتبة لاجتياز المتاهة النصية، لذلك يشكلها بورخيس تشكيلا مكثفا متداخلا متشابكا، كما لو أنها نص ملحق بنص آخر، لا يتقدمه لكـي يسلمـه أو يوضحه وإنما ليشاكله ويعتمه. من هنا، لا تبدو بعض الفواتح النصية عند بورخيس في مجموعته القصصية «الألف»، لا تبدو أنها تهيئ لتواصل القارئ، أو تستميله إلى النص، بقدر ما تبدو أنها تتمنع عن الإعلان عن بداية القصة، مرجئة إياها إلى الفقرة اللاحقة للجملة الاستهلالية.
وباستعارة تعبير «ميشال فوكو»، يمكن وصف استهلالات النصوص القصصية البورخيسية بأنها «شقوق خطاب» تفضل مواربة باب المدخل النصي بدل فتحه، فلا تأذن سوى باختلاس النظر إلى ما سيأتي، لتأجيج توقعات القارئ ومضاعفة أفق انتظاراته. ولعل المفارقة في تشكيلها وبنيتها، أنها لا تحمل سمة مدخل، بقدر ما تلوح كجملة خارجة عن النص، تحاول ثني الداخل إلى الخارج لفصم صلتها بكثلة النص اللاحقة. أي أنها تعلن عن النص وعن انفصالها عنه في الوقت نفسه. فهي تابعة له بحكم وظيفة الاستهلال التي تؤديها، لكنها أيضا مستقلة عنه بحكم انقطاعها عن أحـداثه وعن خط السرد الذي يبتدئ بعدها.
هكذا، يبطل السارد خصائص الصدارة والتوجيه التي تتميز بها الجملة الافتتاحية، ويستبدلهـا بالتواء يقاوم الارتباط المباشر بالنص، باعتباره كسرا في الخطية السردية، وعتبة تقود إلى عالم تخييلي مخالف للعالم الذي تصفه الجملة الأولى. والحال، فإن فواتح قصص بورخيس هي شفـرة خطـابه الأدبي أكثر من كونها جملة أو رسالة ذات شفرة، فهي لا تؤطر رؤاه في قصة أو قصتين، وإنما تؤطر بشكل عام أبعاد تجربته الجمالية ونمطه الفني في الكتابة، وفي خلق استراتيجية استهلالية جديدة لم يألفها قراء قارته، على الأقل، من قبل.
ويمكن القول، إن بورخيس يفتتح نصوصه القصصية بشكل عام تارة مروية عن مصـدر ما أو عن مجموعة من المصادر، ويقتبسها تارة أخرى من مخطـوط ما. وفي الحـالتين، يبـدو القـاص وكـأنه يحاكي مراحل تطور التراث العربي وتحوله من الروايـة إلى التـدوين عبر حفظه في المخطوطات. مثلما سنبينه في ما يلي:
1- السند عن شخصية، «بلغني عن» في الجملة الفاتحة:
يقول الجاحظ «إن لافتتاح الكتاب فتنة وعجبا»(2)، لقد كان الابتداء همّا أدبيا منذ القـدم، لأنه يجسد لحظة ميلاد العمل الأدبي واللحظة الأولى للقاء واتصال النص بقارئه، وما يـرافق هـذه اللحظة من إغراء وإغواء لجذب المتلقي بحبال النص، وإخضاعه لسلطته، انطلاقا من وقع وسحر جملته الفاتحة. ولقد شاع عن القاص المصري «محمود تيمور» قوله إن أطول دقيقة في حيـاته هي تلك التي يبتدئ فيها الجملة الأولى من القصة. أما النقاد العرب القدماء، فقد كانت «البلاغة عندهم حسن الإبتداء»(3).
ونحسب أن بورخيس دافع عن بلاغة نصوصه بدءا من فواتحها، التي اختارها مميزة، تنزاح عن النماذج الأدبية لقارته، مستقيا نمطا غريبا عن ثقافته وجديدا بالنسبة لأذواق القـراء في قـارته الأمريكية بجزءيها الجنوبي والشمالي وكذا في القارة الأوروبية. فبأسلوب مباشر، وما يرافقه من لوازم علامات الترقيم كالمزدوجتين، ينساب الخطاب الأدبي متدفقا، مرويا عن مصدر ما. وبكثير من التضارب والتناقض واللاتحديد، يتيه النص المرْوَى وسط شواهده وأسانيده. «ثمة شيء من الحيرة على الدوام. ولن يكون التمييز مصدرا من مصادر التصنيفات. وإن محور الاختيار سيعلو صريـــره، وسيكون المعنى عارضا، ومنطويا على قابلية نقضه، ومعكوسا، كما سيكون الخطاب ناقصا.»(4)
من سرد القصة انطلاقا من مخطوط، تحيط به روايات مختلفة، يحـاول القـاص أن يجـدد في أساليب السند في جملته الفاتحة، مستبدلا في بعض قصصه المصدر الورقي بمصدر آخر، يتمثـل في الرواية عن شخصية كقصص «ألف ليلة وليلة» المنقولة على لسان شهرزاد التي اتخذت لها أحيانا رواة آخرين شاركوها وظيفة الحكي. وقد كانت شهرزاد كثيرا مـا تبدأ سردها بفعل «بلغـني» الذي تتدفق عنه/منه عوالم خيالية، فهو لا يشير «إلى مؤلفي الحكايات وإنمـا إلى الرواة الذيـن تنـاقلوا الحكايات»5. كذلك يفعل بورخيس، وإن كان أحيانا يوحد بين راوي الحكاية وبطلها.
إن «السرد يحتاج إلى الإعلان عن نفسه بصيغة من الصيغ تكون بالنسبة إلى الحكاية كالإطـار بالنسبة إلى اللوحة.»(6) وقد اختار القاص إطارا يبدو مستمدا من التراث العربي. ذلك أن الرواية لا تمتد فقط إلى حكايات «ألف ليلة وليلة»، بل تمتد إلى رواة الشعر منذ العصر الجاهلي. فقد «اضطلع الشعراء أنفسهم بدور هام في الرواية، فكانت لهم المدرسة التي يتعلمون فيها صوغ الشعر ونظمه، والتمرس بأساليب الكلام وفنون القول، ومن أراد أن يصبح شاعرا لزم واحدا من فحولهم، يحفظ عنه، ويروي له، ويترسم خطاه… ويصبح دور الراوي أكثر أهمية بعد وفاة الشاعر، لأنه يتعدى مهمة نشر قصائده إلى جمعها، وإظهار الظروف والمناسبات التي أوحت بها، وتفسير الإشـارات التاريخية التي تتضمنها، ويصبح بحكم الواقع أمينا على تراث حياة صانعه، ومناط اهتمام القبيلة التي ينسب فيها.»(7)
ومحاكاة لفعل الرواية العربية، ولصنعة شهرزاد السردية، نجـد القاص يبتدئ بعض نصـوصه بحكاية فاتحة تمهد لحكاية مركزية تتفرع عنها، من خلال بنية سردية مركبة ومعقدة، وذلك صنو الحكاية الفاتحة التي تُروى بالضمير الغائب عن قصة شهريار المنتقم من الجنس اللـطيف، ثم لقـائه بشهرزاد وزواجه منها، قبل أن يُسلم إليها(8) فعل الحكي لتستأثر به هي وشخوصها الحكـائيين عبر ليالي طويلة. ففي قصة «الرجل على العتبة»، يغيب المخطوط وصفحاته المفقودة عن الجملة الفاتحة، وتأتي القصة مروية عن عضو من المجلس البريطاني، كالآتي:
«جلب بيو كاساريس من لندن خنجرا غريبا ذا شفـرة مستطيلة ومقبض على شكل حرف اش؛ وذكر صديقنا كريستوف دويي، مـن المجلس البريطاني بأن هـذا النوع من الأسلحة هو ذو استعمال واسع بهندوستان. وشجعه هـذا التأكيد ليضيف بأنه عمل في هذا البلد، في الفترة الممتدة ما بين الحربين (أولترا أورورام وغانغام، قال ذلك باللاتينية، إذا كانت ذاكرتي قوية، مستشهـدا بشكل خاطئ ببيت شعري لجوفينال). ومن مجموع الحكايات التي رواها في تلك الليلة، أتجرأ على استعادة القصة التالية. وسيكون نصي أمينا: وليحررني الله من محاولة إضافة ملامح قصيرة ظـرفية أو من تأزيم الطابع الغرائبي للحكي بتـوظيف زيادات من كبلينغ. من جانب آخر، فإن هذا الحكي له نكهة قديمة وساذجة، ستكون خسارة في حالة فقدانها، ولربما هي نكهة ألف ليـلة وليلة.»(9)
يؤكد السارد منذ البداية إذن، على أن القصة المروية هي استعادة لواحدة من الحكايـات التي سمعها من صديقه «كريستوف دويي» لكنه يشكك في مصداقية روايته عنه، ملمحا إلى إمكانيـة أن يُحدِث عليها إضافات ذات «طابع غرائبي» تارة ينسبها إلى الكاتب الانجليزي «غوديارد كبليـنغ»، وينسبها تارة أخرى إلى حكي «ألف ليلة وليلة». وفي الإسنادين، يشتت السارد تلقي القارئ بين قطبين غربي وشرقي، ويخول لنفسه هامش الانزياح عن القصة المصدر التي سمعهـا من الرجـل الانجليزي، باستعارة حكيا غرائبيا.
ولعل أول تصرف يوقعه السارد في الجملة الافتتاحية للنص المُروَى عن شخص آخر، هوتلميحه إلى تغيير موقع أحداث القصة. فبعد رسم المزدوجتين إعلانا عن بدء الحكاية المنقولة، يخبر السارد القارئ بأن «الدقة الجغرافية للأحداث التي سأنقلها ذات أهمية قليلة… ليكفيني إذن القول بأنه في ذاك الزمان، كانت هناك اضطرابات في مدينة إسلامية، وأن الحكومة المركزية أرسلت رجلا قويا لاستعادة النظام»(10) وباستتباع الحكي يتبين أن السارد ليس صوتا متعاليا ومنفصـلا عن أحداث القصة، بل هو شخصية تعد جزءا من هذه الأحداث من خلال تقصيها لأثر الرجل القوي وتوليها البحث عنه، بعدما اختفى فجأة في صخب المدينة المضطربة.
ومن هنا، يثير النص في كليته مفارقة، تتمثل في التوتر القائم بين الجملة السردية، التي تجسّـد المقدمة الإسنادية والحكاية الأولى، وبين الجملة السردية المفتتحة للحكـاية الثانية المتفـرعة عن الأولى، والواقعة خلف المزدوجـتين، والمروية بأسلوب مباشر. ذلك أن راوي القصة الذي خمّن إمكانية التصرف فيها، والذي فضل عدم الدقة في ذكر المكان، سرعان ما اختفى في النص المسرود ليحل محله صوت «كريستوف دويي» عضو المجلس البريطاني الذي عايش أحداث القصة.
معنى هذا، أن النص المروَى يشترك فيه ههنا أيضا ساردان، أحدهما ظاهر وهو شخصية قصصية اختلـطت بباقي الشخوص، وكانت جزءا من وقائع الحكاية. أما الثاني فهو الراوي عنـه، الذي حجب صوته، لينقل القصة بأسلوب مباشر عن الأول، لكن بعض فلتات السرد تكشف وجـوده بين شقوق الخطاب السردي. ومن ثمة، فإن خدعة أنا السارد المعادل لأنا الشخصية تكاد تحـجب الـراوي المستحضر للقصة، من خلال تحليل الوقائع من الداخل بعين الشخصية الساردة، والتعليق على بعض تفاصيلها من الخارج بصوت الراوي الثاني، الغائب عن الأحداث والحاضر في الخطاب المروَى.
فرغم هيمنة صيغة التبئير الداخلي في الخطاب القصصي عن طريق تضييق الرؤية في حدود ما تراه أو تلتقطه عين الشخصية الساردة، إلا أن التبئير الخارجي لا يعدم حضوره، سواء من خلال رغبـة الراوي المعلنة قبل بدء المحكي الثاني في إجراء تحريفات أو إضافات، مثل انتقاء مدينة إسلامية كموقع للأحـداث باستيحاء لربما من «ألف ليلة وليلة»، أو من خلال ما جاء في بداية النص من تدخـل كتجـاوز الدقـة في المعطيات المروية وانتقائها حسبما يشير إلى ذلك فعل «ليكفيني»؛ إنه نوع من الشذوذ باصطلاح «جيرار جينيت» الذي يكون « بمثابة خبر عرضـي حول أفكار شخصـية غير الشخصية البؤرية، أو حول مشهد لا يمكـن لهذه الأخيرة رؤيته.»(11) إن هذا التدخل هو شكـل من أشكال «الإفراط في الإخبار أو الإطناب» حسب النقاد، لكنه حسب الراوي المستحضر للقصة، فإن هذا الشذوذ هو انزياح جمالي لمحاكاة حكي غرائبي، إضفاء لبعض السحر على القصّ الأدبي.
ويتكرر أيضا هذا النمط للرواية عن شخصية ما في الجملة الافتتاحية في نصوص أخرى، يحاكي فيها القاص فواتح ليالي شهرزاد. ففي قصة «ملكان ومتاهتان» تطالعنا الجملة الأولى بقول السارد راويا عن غيره قائلا «روى أهل الإيمان (لكن الله أعلم) بأنه في الأيام الأولى للعالم، كان هناك ملك لجزر بابل جمع مهندسيه وحكمائه وأمرهم ببناء متاهة…».(12) تبدو جملة السند ههنا موجزة جدا، وتحصر الرواية في مصدر عام وهو «أهل الإيمان» تمهيدا لفعل الحكي.
وفي هذا السياق يرى الدكتور «عبد الفتاح كيليطو « أن ابتداء الحكي بعبارة «زعموا أن» في «ألف ليلة وليلة» لا يهدينا إلى هوية هؤلاء الرواة. لكن «هذا السبق في الزمن يمنحهم مزية عظيمة، ثم هم حكماء حكوا ما حكوا قصد إفادة من سيأتي بعدهم ويطلع على أقوالهم.»(13) ومن ثمة، فإن إبراز حكمتهم يستدعي عدم تسميتهم «لأن الإعلان عن هويتهم لا تترتب عنه إلا حكمة نسـبية، مرتبطة بأمور طارئة وعارضة.»(14) كما تجدر الإشارة إلى أن عبارة «الله أعلم» انتشـرت في الحكي العربي وبين الرواة العـرب قـديما بعدما تسربت الشكوك إلى أمانة ومصداقية بعضهم، فقد صار «من العسير التحقق من أشياء كثيرة بَعُدَ بها الزمن فشاعت على أقلام المؤلفين كلمة «والله أعلم» وهو تعبير أكثر ما يكون دورانا حين يجد العالم نفسه بإزاء خبر يتوقـف في قبـوله، ولا يتـأتى له تكذيبه.»(15) ويلاحظ في المثال البورخيسي المذكور أنه يحاكي العبارة العربية محاكاة حرفية، يتجـلى فيها وقع «ألف ليلة وليلة».
أما في قصة «سيرة تاديو إيسيدورو كروث (1829-1874)» فإن افتتاح الحكي يأتي مختلفـا عن الأنماط السابقة المذكورة، ذلك أن السارد يمارس الاستباق إلى أحداث القصة لإخبار القـارئ بموضوعها. فبعد فقرة معتبرة توجز أهم معطيات القصة وتعرض الشخصية الرئيسية المسرود عنها، يبين السارد أن مهمته لا تكمن في استحضار حكاية (تاديو إيسيدورو) لأنه من مجمـوع «الأيـام والليالي التي تؤلفها لا تهمه سوى ليلة واحدة؛ أما من البقية، فلن أستحضر إلا ما هو ضروري لفهم تلك الليلة.»(16) أما مصدر القصة المروية فلا يحدده السارد، لكنه يستشهد بتعليقات آخرين تناولـوا سيرة «تاديو ايسيدورو»، فبعضهم رأى أنه لم يتأثر في تكوينه بالهنود الرحل، والبعض الآخر، رأى أن حياته تشبه حياة «القوشو» الذين عاشوا على ضفاف نهر بلاتا.
ولئن كان السارد ههنا لا يحجب وجود مصدر استقى منه الحكاية دون أن يحدده، مكتفـيا بمصدر عام، عبارة عن أناس أصدروا تعليقات، أو عن كتاب قديم يحمل إشارات تتفق وشخصية بطله، إلا أن روايته التي تتخللها ثغرات وبياضات، يبررها بجهله للتفاصيل في غياب معلومات لم توضح بعض الأحداث، أو لاضطراره إلى السكوت لسبب ما يمنعه، كصمته عن نقل المعركة التي جرت بين البطل والمجرم الملتحي. هذا الحال يكشف عن رغبة السارد في إضفاء سحر على الحكي من خلال تعتيم بعض جيوب الخطاب الأدبي للحكاية، وترك فجوات مظلمة تسند إنارتها للقارئ الذي يسدد فراغاتها من مخيلته. ومن ثمة، توقع الحكاية بتوقيعين أحدهما للسارد والآخر للقـارئ الذي يكمل الأجزاء المبتورة التي تركها الراوي ناقصة.
من جهة أخرى، يصر السارد على الاهتمام بليلة واحدة دون الليالي الأخرى، ويعيد هذا الموقف إلى الذاكرة حكايات شهرزاد التي توالت عبر أكثر من ثلاثمائة ليلة تدفقت من قلب الليلة الرئيسية التي جمعت الملك شهريار بشهرزاد لتقلب بذلك «نظام الزمن المعتاد، وتدخل الزمـن الكـوني في ديمومة الحكاية.»(17) وعليه تبدو محاكاة القاص جلية في استقصائه لليلة واحدة كتـلك التي فتـنت شهريار وأسرته في فخ الحكي، وأنقذت شهرزاد كفدية لها ولغيرها من الموت.
إنها أيضا الليلة الحاسمة لبطل بورخيس الذي انقلب فيها من صف الجنود إلى صف المتمـردين. فرغم قصـر قصة بورخيس إلا أن شحنها بفراغات في السرد، وإنهاءها بجملة مفتوحة عن انقلاب الجندي إلى صف الخصوم ومحاربته للجيش الذي كان منضويا تحت لوائه، يفتح الخطاب القصصي على آفاق متعددة، توحي بديمومة السرد المتواصل في صمت، يمارسه القارئ عبر توقعاته، ويكتبه في مخيلته بعدما استعجل السارد إنهاء القصة في أوج أحداثها.
ويتكرر تدفق الحكي برواية شخصية ما ينقل عبرها السارد القصة في أكثر من نص؛ مـن ذلك مثلا قصة «الحقير» التي تستهل بسرد عام عن بحث الشخصية الساردة عن مكتبة، لكنها تكتشف أنها تحولت إلى محل للعاديات، بعدما مات صاحبها «سانتياغو فشبين». في هذه البؤرة، ينقلب السرد إلى شخصية المكتبي المتوفي التي ستتحول إلى صوت حي يروي القصة المسرودة، عن طريق استرجـاع لقاءات سابقة تمت معها. وبالعودة في الزمن، ينقل السارد:
«أبلغني بأنه يجمع منتخبا غزيرا من أعمال باروخ سبينوزا بعد أن خلصه من كل تـلك الجـلبة الإقليدية التي تعطل القراءة وتدنس نظريته الرائعة بالخيال»(18) يعود فعل الحكي الشهرزادي «أبلغني» من جديد في استهلال السارد للحكي المروي عن الآخر، الذي تعقبه جملة أخرى توقـع لتحـول الرواية عن شخصية المكتبي من الأسلوب المباشر إلى الأسلوب غير المباشر:
« في أحد المساءات كنا فيه وحدنا، قص عليّ فصلا من حياته بوسعي الآن أن أحكيه، وقد أغير بالطبع بعض تفاصيله…»(19)
يكاد القاص يوظف نفس التصميم الحكائي في نصوصه القصصية، معتمدا على راو ومروي عنه ورواية أو حكي يؤلف صلب القصة. وفي أغلب النصوص يحافظ دائما على خلق نوع مـن السحر والفتنة في السرد، وذلك إما بتغيير بعض تفاصيل القصة، أو بتحويلها إلى نوع من البـوح بسر دفين لم يُتلفظ به من قبل. ونجد ههنا أيضا، أن الجملة الاستهلالية من القصة المـروية تبـدأ بمزدوجتين، إعلانا عن نقل حكي المكتبي وبلسانه. لكن هذا لا يمنع تواجد السارد الأول الناقـل للقصة داخل المسرود، بحكم إخباره للقارئ بتدخله وتغييره لبعض التفاصيل.
أما في قصته «ذاكرة فونس» فإن الكاتب كمنتج للنص، يعمد نفس التقنية السـردية، مخـولا للسارد نقل الحكاية عن شخصية الشاب فونس بأسلوب غير مباشر، ليتيح له التدخـل أكثـر في القصة، كعين خارجية تحلل وتصف وتعلق أحيانا. وتتعدل هذه التقنية في قصة «الميت» من خلال الاستهلال بتقديم عام لموضوع القصة، يردفه السارد بتحديد دوره من هذه القصة بوصفـه راويـا وملخصـا لأحداثها، إذ يرد على لسانه قوله:
«أريد أن أقص لأولئك الذين يقاسموني هذا الرأي مصير بنجامين أوتالورا الذي لم يعد له بلا شك أي ذكرى في حي بلفانيرا، والذي مات بطلقة مسدس، ميتة تليق به… أجهل تفاصيل مغامـرته؛ وعندما تبلغني، سأصحح وأطور هذه الصفحات. أما الآن فإن هذا الملخص قد يكون نافعا.»(20)
ويتضح من خلال هذه الجملة المستطردة أن فعل الحكي ليس وليد مخيلة السارد وإنما هو حاصـل ما ترسب في ذاكرة العامة في حي «بلفانيرا»، وإن كان معظمها قد تبدد، بدليل أنه يقـر في بعض مواقع سرده أن هناك أحداثا كثيرة وقعت لا يعرف منها إلا جزءا ضئيلا. ناهيك عن اعترافـه في بداية القصة بجهله للتفاصيل، وبرغبته في تلخيص القصة في انتظار الحصول على معلومات يصحح بها صفحاته.
ويفضي هذا الاعتراف إلى عرض حكي ناقص، تتخلله فراغات بيضاء. وهو تقليد آخر راسخ في أدبيات بورخيس المولع بإنتاج خطاب ذي شقوق وشكوك لمضاعفة التوترات الجمالية التي يمكن أن يثيرها التفاعل بالنص. ويمكن القول إن القاص يعمد دائما إلى وضع خطاب مفتوح، يــورط القارئ ويلزمه بالمسؤولية تجاهه انطلاقا من جملته الاستهلالية، لتسديد النقص وملء فراغه. ففي أغلب الأحيان، يفتقد المصدر الذي رويت عنه قصص بورخيس يفتقد دائما لكافة التفاصيـل، كغياب صفحة أو صفحتين من المخطوط المروى عنه، أو الافتقاد إلى تفاصيل الرواية المنقولة عن شخصية ما أو مجموعة من الشخصيات، أو عـن ذاكرة العوام.
وتحيلنا هذه الريبة وهذا النقص، لا سيما وأن السارد يبطل أكثر من مرة مصادره التي يروي عنها أحداث القصة، يحيلنا إلى كتب التراث العربية الشهيرة التي انتهج أصحابها هذا التقليد نفسه في التشكيك. من ذلك مثلا ما صنعه «أبو فرج الأصفهاني» (897- 967م) في كتابه الشهير «الأغاني» الذي «يـورد أخباره مسندة، ثم لا يقنع بالإسناد، وإنما ينتقد الرواة، ويبين وجه الخطأ أو التناقض في روايتـهم، ثم يرجع إلى رأيه، ولا يتردد في القول عن ابن الكلبي، وقد ذكر بعض الأخبار نقلا عنه، بأنـه كذاب، وأخباره موضوعة، والتوليد فيها بيّن، ويعتذر لنفسه عن روايتها بأنه «ذكرها على ما فيه لئلا يسقط من الكتاب شيء وقد رواه الناس وتداولوه».»(21)
على هذا النحو أيضا يصنع السارد في قصص بورخيس، فهو يبتدئ بذكر مصدر أو مجموعة من المصادر، ليشكك في مصداقية روايتها للقصة المسرودة، ليضرب المصادر ببعضها البعض. ولئن كان «الأصفهاني» ينتقد الرواة فحصا وتمحيصا لمصادر أخباره، فإن بورخيس يعدد المصادر وينتقـدها ويشكك فيها إقرارا بوجود مصدر وراء كل نص ونفيا لهذا المصدر في الوقت نفسـه، باعتبـار العمل الأدبي ناشئا عن ميراث من النصوص ومخالفا لها في آن واحد، لا سيمـا في القصـص التي يصطنع لها اقتباسا عن مخطوطات، كما سنرى لاحقا.
وعموما، وبالمقارنة بين نمطي الجمل الاستهـلالية في قصص بورخيس، يتبين أن الحكي المسند إلى شخصية ما تقل الشكوك بشأن روايته، فباستثناء النقصان في المعلومات والافتقار إلى الإحاطة بتفاصيل الأحداث، أو إضفاء بعض الغرابة في الحكي بغرض افتتان القارئ، فإن السارد الوسيط في نقل القصة لا يشكك في مصداقية الراوي الذي أخذ عنه. كما أن الجملة الاستهلالية في هذا النوع من الحكي، تخلو من المراوغة، وتفضي بسرعة إلى موضوع القصة.
أما في القصص المروية أحداثها عن مخطوط ما، فإن الجملة الأولى تلتف عـلى نفسهـا، دون أن تفضي إلى مصدر ثابت، بسبب تعدد المصادر والعناوين المحتملة التي تتقاطع مع موضوع القصة، ثم التشكيك في صحة الإسناد إليها، مما يعطل نسبيا سرد أحداث القصة المقتبَسة ويرجئه إلى ما بعـد الجملة الفاتحة الطويلة، كما سيتقدم.
2- السند عن «مخطوط» أو الرواية عن مكتوب:
لئن كان أبو هلال العسكري قال قبل قـرون خلت «أحسنوا معاشر الكتاب الابتداءات فهن دلائل البيان»،(22) فإن بورخيس آثر ممارسة عناية خاصة ببدايات نصوصه حين اختـار لها استهلالات ذات نمط مستمد من النصوص التراثية العربية والإسلامية، تقوم على العنعنة والسند، الممتد عـلى شكل سلسلة، تتدفق بإحالات مختلفة إلى أن ترسو أخيرا في مطلع القصة ليبدأ سردها. ففي متوالية تؤجل بداية النص الحقيقية، وتسوق أسماء مختلفة ذات صلة بما سيأتي، يستبدل القاص السند المروي عن الشيخ أو مجموعة من الرواة والشهود، مثلما جاء في كتب التراث العربية، بسلسلة من أسانيد أدبية تلقت النص كمخطوط، أو بلغها خبره عن عنعنة أخرى، وهكذا.
وعلى سبيل المثال، ترد الجملة الفاتحة في قصة «الخالد» كالآتي:
«في لندن، في أوائل شهر يونية 1929، قدم جوزيف كرتافيلوس –تاجر عاديات من أزمير- لأميرة لوسينج إلياذة بوب (1715-1720) بمجلداتها الستة من القطع الصغيرة. اقتنتها الأميرة وتبادلت معه حينئذ بعض الكلمات. وتقول لنا الأميرة إنه كان رجلا ضعيف البنية وتـرابي البشـرة وذا عينين رماديتين ولحية رمادية وملامح مبهمة على نحو فريد. كان يتحدث بطـلاقة وجهل عدة لغات، ففي دقائق معدودة، انتقل من التحدث بالفرنسية إلى الانجليزية ومنها إلى خليط غامض من إسبانية سالونيكا وبرتغالية ماكاو. في شهر أكتوبر، سمعت الأميرة من أحد ركـاب «زيـوس» أن كرتافيلوس لقي حتفه في عرض البحر، في طريق عودته إلى أزمير، ودفن في جزيرة «إيـوس». في المجلد الأخير من الإلياذة، عثرت الأميرة على هذا المخطوط. كتبت النسخة الأصلية بالانجليزية وهي مثقلة بالعبارات اللاتينية. وهذه هي ترجمتها الحرفية.»(23)
لعل الملاحظة الأولى التي يمكن تسجيلها عقب قراءة هذه الجملة الفاتحة الطويلة، أن الـقاص يضمنها كل ممنوعاته الأدبية كتحديد التاريخ والمكان وضبط أسماء الشخصيات في مشهد واحد تكتمل كل عناصره، وذلك تساوقا مع وظيفة الاستهلال السندي الجامع لكل معلومات الإخبار، لضمان الوثوقية ومصداقية النص الآتي. إنه نوع من دفع كل ريبة، لكسب ثقة القارئ وجـعله يصدق الأحداث المتخيلة التي ستسرد. كما يلاحظ أيضا، أن القاص يختلق لمعظم إنجازاته الأدبيـة مصادر، وههنا، يكتب مقدمة طويلة، يدعمها بأسماء شخصيات حقيقية عرفها في حياتـه مثـل الأميرة «لوسينج» لكي يبرهن على أن القصة المسرودة موجودة فعلا، وأن إنجازه لا يتجاوز حدود ترجمتها الحرفية كما جاءت في المخطوط الأصلي.
من هنا، يحاول السارد أن يقدم نصه على أنه واقعة أدبية منقولة عن مخطوط، منشئا بذلك علاقة جديدة مع قارئه تشبه علاقة الشيخ والراوي في المرويات العربية. ولربما وعيا منـه، بأفـول دور الرواية الشفوية، وعدم ملاءمتها لذوق القراء، لا سيما في عالمه الغربي، فقـد استبـدلها بالروايـة المكتوبة عن مخطوطات قديمة، باحثا بذلك عن أسانيد أدبية لإنتاجه القصصي.
وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن الاهتمام بسند النص يمتد إلى إرث عربي قديم. فقد عرف رواجا من خلال رواية أحاديث النبي محمد عليه الصلاة والسلام، بغرض ضبط تواتـر متن أقواله إستنادا إلى رواته المباشرين، لحفظها من الشبهات، ثم تطور هذا الاهتمام إلى توظيفه في الحقل الأدبي لضبط سند رواية الشعر بغية تنقيح الأصيل من المنتحل مثلما تجسد ذلك في مبـادرة «ابن سـلام الجمـحي» المبكرة في كتابه «طبقات الشعراء». لتغذو بذلك أفعال نقل الكـلام مثـل «حدّث» و«روى» و«أخبر» أفعال تحري وتأكيد نسب وهوية القائل والمقول، بغرض إيداع ما هو صحيح منه في التصانيف.
على هذا النحو، فقد كان الإسناد في الحديث والأدب العربي (الشعر خاصة) يراد منه الإجماع على صحة النقل، منعا لتسرب أي تدليس أو تحريف. أما لدى بورخيس فيبدو الإسناد رفضا لملكية النص، وادعاء انتمائه لكاتب آخر. لقد بات القاص يفتتح قصصه بجمل تنكر أبـوته لنصـوصه، وتوهم القارئ بأنه يروي حكايات مروية من كتب أخرى لمؤلفين آخرين. بمعنى أن فاتحـة النص تؤرخ للحظة انفصال السارد عن المادة المسرودة، باعتباره مجرد ناقل عن غيره، أو بالأحرى مترجم لنص مخطوط عثر عليه صدفة في المجلد الأخير من الإلياذة.
وتؤكد جملة «الترجمة الحرفية»، جحود السارد لما هو مسرود، على أساس أن دوره لا يزيد عن تحويل نص من لغة إلى لغة أخرى، ومن خلفه، يقف القاص موقف المقتبـس من غـيره، وليس موقف الكاتب أو المبدع. كما أن تأكيد عثور المخطوط في آخر المجلد السادس من الإلياذة يشكك في سنده لهذا الكتاب، ويوحي أنه وُجد فيه صدفة كورق مندس وليس كجـزء من نص الإلياذة. ومن ثمة لا يتضح سند المخطوط المروي عنه، لأن صلته بالإلياذة هي صلة حفظ وتخزين، وليس صلة امتداد لخطاب. وهو ما يلمح إلى أن القاص لا يصر على التموقع خارج نصه فحـسب، بل يضع هذا النص أيضا خارج المصدر المحتمل، مثيرا بذلك ريبة في سنده للإلياذة، باعتباره منسـوبا إليها من الخارج وليس من الداخل، أي موجودا فيها خارج حدود الخطاب، لصيق بالغلاف فقط.
وتعتيما لمصدرية النص المترجم المسرود، يختار السارد مصيرا مأساويا للتاجر الأزمـيري الذي أهدى مجلدات الإلياذة للأميرة «لوسينج»، وهو رجل مثقف ويجيد عدة لغات، وقد تكـون هذه الأوصاف إيحاء بإمكانية أن يكون هو مؤلف المخطوط، أو ربما العـارف الوحيد بمصـدريته، التي يستحيل إدراكها بموته. وهكذا، يوقظ القاص في جملته الفاتحة أكثـر من شك، ويعـدم كـل الاحتمالات، ليضع القارئ في مواجهة نص مجهول المؤلف. أو بمعنى آخر، إن السارد وهو يتبرأ من سرده ليسنده إلى غيره، لا يوضح هوية المسند إليه، مفخخا بذلك الجملة الأولى للنص بأكثـر من سؤال.
هذا المدخل غير القصصي الذي يبتدئ بتوقيعات أخرى للنص غير توقيع الكـاتب، يمـارس ضغوطات تحريضية على القارئ المستفَزّ في خبرته الأدبية لتواجده أمام رهان صـعب يضـعه في مواجهة وتمييز السند الأصيل من المزيف. ففي قصة «تقرير برودي»، ترتسم الجملة الفاتحة كوسيط بين نص مكتوب سلفا ومُوقِّع من قبل مؤلف آخر، وبين نص لاحق تعاد كتابته أو ترجمته بتوقيع القاص. ويحرص السارد في هذه القصة أيضا على عرض النص المسرود كعمل مترجم ومشتق من مخطوط منقوص الصفحات، حسبما جاء في الجملة الفاتحة الطويلة:
«في نسخة من المجلد الأول من «ألف ليلة وليلة» (لندن، 1938)، ترجمة لين، كان حصـل عليها من أجلي صديقي العزيز باولينو كينس، عثرنا على المخطـوط الذي سأتـرجمـه الآن إلى الإسبانية. ويوحي خطه الجميل – الفن الذي تعلمنا آلات الكتابة كيف تفقده- بأن المخـطوط دوّن في ذلك التاريخ أيضا. أفاض لين، كما هو معروف، في الشروح المطولة، كما تفيض هوامش المجلد في الإضافات وعلامات الاستفهام وأحيانا في بعض التصويبات التي دونت بنفس اليـد التي خطت المخطوط.
ويمكن القول بأن قارئ المجلد لم يهتم بحكايات شهرزاد العجيبة بقدر اهتمامه بعادات الإسلام. لم أستطع التوصل إلى شيء عن «ديفيد برودي»، الذي يذيل توقيـعه الجميـل المخطوط، سوى أنه مبشر اسكتلندي من أبردين بشر بالديانة المسيحية في وسط افريقيا ثم في بعض مناطق الغابات بالبرازيل، وهي الأراضي التي دفعته إليها معرفته بالبرتغالية. أجهل تاريخ ومكان وفاته، ولم يصل المخطوط مطلقا إلى المطبعة، على حد علمي. سأترجم بأمانة هذا التقـرير، الذي صيغ بانجليزيـة رتيبة، دون أن أسمح لنفسي بحذف أي شيء منه فيما خلا بعض إصـحاحات من الكتاب المقدس وفقرة طريفة عن الممارسات الجنسية لدى «الياه» سجلها حياء الكاهن المشيخـي باللاتينية. تنقص المخطوط صفحته الأولى.»(24)
ههنا أيضا، تخبرنا الجملة الفاتحة أن القصة التي ستسرد هي ترجمة حرفية عن الإنجليزية، لمخطوط كانت صفحته الأولى مفقودة، وقد عثر عليه في المجـلد الأول «لألف ليلة وليلة» مـن ترجـمة «إدوارد لان». غير أن السارد يربك تلقي القارئ، فتارة يتحدث عن مخطوط مذيل بتوقيع «ديفـيد برودي» المبشر الاسكتلندي، ويتحدث تارة أخرى عن شروحات لين وإضافاته في هوامش المجلد، وتصويباته التي جاءت بنفس خط اليد الذي ورد في المخطوط.
ومن ثمة، يُشتت السارد تركيـز وانتباه القارئ أكثر من مرة، إحداها حين يخبره بترجمـة نص منقوص الصفحـات، أي مبتدئـا بفراغات وبياضات يوعز ملؤها للمتلقي. وثانيها، حين يسند المخطوط لكاتبين أحدهما وقعه، والآخر كتبه بخط يده. وثالثها، حين يجعل المخطـوط في جوف مجلد كتاب شرقي، بطلته شهرزاد، مركزا على عادات الإسلام أكثر من تركيـزه على قص زوج شهريار. وفي الحالات الثلاث، يمهد السارد في افتتاحه النصي لأدب تراكمي من خلال الإشارة إلى مصدرين لمرويات النص المسرود، دون أن يفصح عن النوع الأدبي المكوّن(25) الذي أفرزه.
ويمكن القول بناء على ما تقدم، أن القاص يقتبس أسلوب الإسناد في فواتحه النصية، لكـن بتوظيفه توظيفا مضادا لطبيعته، ذلك أن الإسناد عنده يفيد الريبة والاحتمال ولا يفيد الإحالة أو الإجماع كما جاء في الروايات العربية القديمة، وبالتالي فهو لا يقوي النص بل يضعفه، ولا يحصر أفق مصدره بل يوسعه إلى آفاق متعددة.
على هذا النحو، تتراءى فواتح النصوص البورخيسية سردية تراكمية، حيث يشيع فيها السارد أجواء مسافات زمنية ومكانية قطعها النص المسـرود قبـل أن يتجسد خطابا مكتوبا في شكل قصة. ويحاول السارد في مطلع كل نص تقريبا أن يجـمع شتـات الفواصل الزمنية التي استغرقها النص في نسيانه وطيه داخل كتاب آخر (مجلد)، ليحتـويها في جملة واحدة يستفتتح بها النص كي يبرر كتابته. لكنه يعمد دائما إلى الطعن في شرعية سنده بالتشكيك فيه.
أما في قصة «حديقة الطرق المتشعبة» فإن السارد يحدد المسند إليه كاتب القصة الأول، قبل إعادة كتابتها ونقلها للقارئ، فقد جاء في الجملة الفاتحة:
« نقرأ في صفحة 22 من كتاب ليـدل هارت «تاريخ الحرب الأوروبية» أن هجـوما لثـلاث عشرة فرقة بريطانية (تدعمها ألف وأربعمائة قطعة مدفعية) ضد خطر سر – مونتوبان كان قـد خطـط لشنه في الرابع والعشرين من يوليو عام 1916، ولكنه تأجل لصباح التاسع والعشرين. ويسجل القائد ليدل هارت أن الأمطار الغزيرة هي التي تسببت في هذا التأخير (غير المهم على أية حال). ويلقي الإقرار التالي، الذي أملاه وراجعه ووقعه د. يوتسون، أستاذ اللغة الإنجليزية الأسبق بجامعة تسينج تاو، ضوءا هاما على هذه القضية. وتنقص التقرير صفحتاه الأوليان.»(26)
تكشف هذه المقدمة أن السارد يحدد سندين لقصته، أولهما يتمثل في تثبيت الوقائع المروية على أساس أنها أحداث تاريخية وقعت فعلا خلال الحرب العالمية الأولى، مثلما جاء في كتاب «تـاريخ الحرب الأوروبية» لـ «ليدل هارت» (1895-1970). أما السند الثاني، فهو عبارة عن إقرار تم إملاؤه ومراجعته وتوقيعه من قبل الدكتور يوتسون، وهو أستاذ بجامعة صينية. وبالتــــــالي تعرض الجملة الفاتحة مصدرين للقصة أحدهما كتاب تاريخي شهير لكاتب إنجليزي حقيقـــي وليس وهميـــا،
والآخر إقرار جامعي صيني لأستاذ مقتبس اسمه من إحدى الشخصيات المشهورة في الرواية الصينية «هونغ لو منغ» Hung Lu Meng التي صدرت في القرن السابع عشر للكاتب الصيني «تساو شان» (Ts’ao chan) (1715-1763)، وترجمت إلى اللغة الإنجليزية عام 1929 بعنوان آخر هو «الغرفة الحمراء».
إن هذا التشريح للبيانات الموجزة التي يقدمها السارد في جملته الفاتحة، يبين أن عملية السند التي يمارسها ليست وهمية، إذ تمتد تارة إلى نص حقيقي، وتتصل تارة أخرى بأستاذ أكاديمي، اقتُبِـس اسمه من كتاب أدبي ليس من نتاج خيال السارد. كما أنه يجمع في سنده بين مصدرين أحـدهمـا إنجليزي والآخر صيني تهيئة وانسجاما مع أحداث قصته التي تجري من خلال لقاء وحوار يجمـع بين عميل صيني ومبشر إنجليزي، فكّك طلاسم كتاب حاكم قديم من الجنس الأصفر. لكن رغـم هذه الإحالات التي لا تنبثق كلية من العدم، يعود السارد إلى التشكيك في سنده عندمـا يختـم الجمـلة الفاتحة للقصة بقوله إن التقرير الذي كتبه الأستاذ الجامعي حول الحادثة التاريخية المروية ينتقص لصفحتين.
إن النقصان في صفحات المخطوطات التي اشتُقت منها قصص بورخيس، ليست علامة تشوه في النص المصدر بل علامة تحفيز للقارئ، ليسدد دين الكلمات المحذوفة أو المفقودة، وقد يكون هذا النقصان أيضا الهامش الأبيض الذي يتيحه السارد لنفسه ليتصرف في الحكي، ويتدخل في تفاصيله ليوقع انزياحا عن المصدر الذي يدّعيه. يقول «خورخي لويس» في قصته (تلون أوكبـار أوربيـس ترتيوس) «إن الكتاب الذي لا يتضمن نقيضه يعتبركتابا ناقصا»(27) وقد يكون القاص يتعمد الإشارة إلى النقصان في صفحات المخطوط مدعيا على لسان سارده أنه ناقل «مخلص» ومترجم حرفيا عنه، ليخفي تحريفاته وهدمه للنص المصدر، كنوع من الكتابة المضادة ليخلص نصه من كل نقيصة. «إن النقص – ويا للمفارقة- هو ضمان البقاء.»(28) على حد تعبير «تزفتان تودوروف».
(البقية بموقع المجلة على الانترنت)
والجدير بالذكر، أن الجملة الاستهلالية في بعض نصوص بورخيس التي تبتدئ بالسند المؤسس لهوية النص المسرود ولمصدريته، تنفصل في أسلوبها ونوعيتها الخبرية المحضة عن باقي النص لكونها لا ترتبط بأحداثه، وإنما بالحديث عن كتب أو عناوين أخرى ذات علاقة بالقصة المرجأة. ويدعم الكاتب هذا الانفصال، على الصفحة الأولى للقصة، ببدء النص المنقول أو المترجـم بمزدوجتـين. وبين هاتين المزدوجتين والنقطة التي تُنهي الجملة الفاتحة، تقف فجوة ومسافة تعزل المقدمـة عن الكلام الذي يليها. ذلك أن النقطة التي تقفل الجملة الأولى ليست «باردة» أو «معبرة» بتعبير «جاك دريون»، وإنما هي مثيرة للسؤال عن الفضاء الأبيض الذي دفع كثل الكلمات المتراصة والمتتالية إلى سطر آخر خلف مزدوجيتين.
تجسد هذه القطيعة بين النصين (نص الاستهلال والنص المبتدئ بالمزدوجتين) انتقالا في طبيعة السرد من مستوى خبري نقدي إلى مستوى أدبي تخييلي. وهذا الجـمع بين المستـويين في نـص يضمهما تراتبيا ولا يصهرهما، قد يكون هو سبب وصف بعض النقاد لكتابة بورخيس بـ «المقالة القصصية»، وهو لون استحدثه الكاتب الذي تمرد على المعايير الكلاسيكية للقصة، مبطنا فيهــا نصه الخيالي وأحكامه الجمالية وذوقه في الكتابة.
ويعد دمج نوعين في نوع أدبي واحد يتملص من كل تصنيف، تحريرا للكتابة من قيود تحديدات الأجناس، وهو ما عبّر عنه جاك دريدا «إن عـلامة الانتسـاب ليست انتسابا.. إنه انتساب دون انتساب..».29 وفي هذا السياق، يتأكد لاجـدوى التصنيف النوعي باعتبار « أن أي نظام لتصنيف الأنواع لا يمكن الدفاع عنه…»يمكن للمرء أن يحدد عملا فنيا من أي نوع هو، لكن ماذا عن عمل فني متطرف إذا كان لا يحمل علامة النوع؟ ماذا إذا لم تكن له علامة تشير إليه، أو تجعـل مـن الممكن تحديده بأية طريقة؟» «30
من خلال التركيبات المتراكمة في النص القصصي البورخيسي، يتبين أن الكاتب يؤلف بين أكثر من نوع في قصصه، كنقده لكتابات أخرى، ولكتابته أحيانا التي ينسبها إلى غيره، وكروايـته عبر أسانيد مختلفة لمصادر حكيه المقتَبَس، ثم نفي الجملة الفاتحـة وكل ما تتضمنه من روايـات نقلت النص المحكي في الجملة المقفلة التي تختمه، ليكتب سندا آخر مضادا للأول. ويوحي هذا التداخـل في الأنواع أن النص البورخيسي ينزاح عن الجنس القصصي المألوف في كونه يحمل داخله أكثر من سمة نوعية، وهو ما يعيق تصنيفه كمقالة أو كنص يترجم مخطوطا، أو كإعادة كتابـة لعمـل أدبي مجهول، أو كراوٍ لنص عبر سند، أو كمحكي لمحكي آخر مكتوب سلفا.
إن تكرار القاص لهذا اللون من الكتابة – الكتابة بشكل عام في توحيدهـا لأجـناس أخـرى، وخلقه لنوع الجملة الفاتحة بوجه خاص- التي ترتسم كاقتباس وترجمة وليس كإبـداع، يجلـي بوضوح فلسفته ورؤياه الأدبيتين المنبثقتين من فكرة التنـوع «في مقابـل التحـدد، المشـاع في مقـابل الشخصي… وهذا هو التوليف الذي يكمن في قلب كل «الأدب»…»31 ولا تؤطر هذه الفلسفة عملية إنتاجه للنص كتشكيل وكبناء، بل تؤطر أيضا مخياله الأدبي وموضوعاته القصصية، لذلك نجده يقول على لسان سارده في قصة «تلون أوكبار أوربيس ترتيوس» إنه «في التقاليد الأدبية، تكون فكرة الموضوع الوحيد مهيمنة. ونادرا ما تكون الكتب موقعة.»32
وتشير فكرة اللاتوقيع في الكتب إلى وصفها كمشاع، كإرث عام، فالنصوص الأدبية في منظوره لا تنتمي إلى أفراد بل إلى مجموع، إلى ذاكرة ذات هوية جماعية تنتج موضوعا واحدا، في إشارة إلى الأدب المبكر الذي توالدت عنه عبر الزمن نسخ وأشكال مختلفة. من هنا يبتدئ القاص بالنفاذ في البعد الزمني للنص، وفي استقراء وجوده عموديا في مخطوطات منسية أو مهملة، من خلال فاتحة تقدم رواية عن تواجده في مكان ما، بين دفتي كتاب ما.
غير أنه من نص السند إلى نص القصة المروية ينتظم شكل مفكك للحكاية المؤلفة من ثلاثة أجزاء مركبة يفصلها صدع سردي، يكشف عن وجود ساردين، أحدهما يروي عن العنعنة خـبر النص المجهول الذي عثرت عليها الأيدي، ويتخذ موقعا له في بداية النص وخاتمته. أما الثاني فينبثق صوته من داخل القصة لينقل مباشرة أحداثها مستأثرا بسيادة أكبر، مقارنة بالسارد الأول. وترميمـا لهذا الصدع، يحاول الكاتب أن ينشئ حلقة وصل بين الأجزاء المقتطعة المفصولة باستئناف صوت السارد الأول، في الجملة المستغلقة للنص التي تتواصل مع الجملة الفاتحة رغم مسافات الصفحات، ومسافة المقول.
ففي قصة «الخالد» يختتم السارد الحكي باستطراد يبتدئ بعنوان فرعي، هو «ملحـوظة بتاريخ 1950»، شارحا ردود أفعال النقاد إثر نشر المخطوط الذي اشتق منه النص القصـصي، إذ رأى أحدهم أن المخطوط هو عبارة عن انتحالات إغريقية ولاتينية، واقتباسات من مؤلفـات تسـعة كُتَّاب، بمن فيهم تاجر العاديات «جوزيف كارتافيلوس»، لتنسف بذلك إمكانية اقتباسه من «إلياذة بوب»، أو من أي مصدر آخر، بعدما تراكمت احتمالات الاشتقاق. وبعد تعداد سلسلة المصادر،
ووسط هذا التردد والتأرجح بين احتمالات شتى، يقطع السارد الظنون مبديا رأيه بقوله «أرى أن هذه النتيجة غير مقبولة»، باعتبار أن الأدب كله هو تراكـم لامتناه من الكلمات، معدما بذلك فرضية الاقتباس، ومبطلا صحة السند، طالما أن الأدب هو إرث متحول من جيل إلى آخر.
أما في قصة «الاقتراب من المعتصم»، فإن السارد يختار التواجد داخل النص وخـارجه في آن واحد؛ فهو يعرض في الجملة الفاتحة سند النص المحكي، محاولا توثيقه عبر روايات متعـددة أولـها المصدر الرئيسي، المتمثل في كتاب «مير بهادور علي» الهندي، ثم تتلوه روايات أخرى عن قصـائد إسلامية رمزية، وعن روايات بوليسية لجون هـ واطسون، وعن ويلكي كولنز وفـريد الديـن العطار الفارسي، فضلا عن رواية مغلوطة تنسب عرضا للكاتب والناقد الإنجلـيزي تشسـترتون. وبعد إنهاء سرد النص واختصار تفاصيله، يختتم السارد بسند آخر، يتألف من مصـادر أخـرى محتملة، مثل «منطق الطير» للعطار وقصة «على سور المدينة» لكبلينغ وقصيدة «ملكة عبقر» الرمزية الناقصة لسبنسر. منهيا برأيه الخاص الذي يرجح مصدرا آخر وهو «إسحاق لوريا» عالم القبالاه في القدس.
إن استطراد السند في الجملة المختتمة للنص المتعالقة مع الجملة الفاتحة، يوحي بأن القاص يرسم حكيا دائريا، تستوي فيه البداية والنهاية. وكأن الدائرة لم تعد شكلا يـؤثث عالمـه التخييـلي فحسب، بل صارت أيضا سمة بنائه القصصي. إنه قص أشبه بحكايات «ألف ليلة وليلة» « فلنعتبر أن الحكاية التي تبدأ منها قصة شهرزاد نفسها هي مركز الدائرة، وهي منطلق الخط المستمر، اللانهائي، الذي يحيط ويتخلل أيضا ما تحويه الليالي من حكايات.»33 كذلك يصنع سارد بورخيس الذي يحيك سردا ملتفا، لا تكسر دائرته القصة المروية كخط مستقيم، ذلك أن خطية القصة يستوعبها الحكي الدائري الكلي، الذي تبتدئه الجملة الفاتحة وتغلقه الجملة الخاتمة في نفس النقطة بعد دورة كاملة من الأحداث المروية.
وعن سند يبدو عنقوديا متولدا من أكثر من مصدر، يبتدئ السارد قصة «حكـاية المحـارب
والأسيرة» بروايات متداخلة عن سند مركب، جاء كالتالي:
«في صفحة 278 من كتاب الشعر (باري، 1942)، لخّص كروتشي نصا لاتينيا للمـؤرخ بـول دياكري، يروي مصير ولدروكتولفت». إن الجملة الفاتحة لا تعبر إلى شخصية المحارب الذي تـرك ذويه ليموت من أجل المدينة التي هاجمها من قبل، إلا عبر أسانيد متوالية وهي: كتاب الشعر لباري ـ ملخص كروتشي ـ المؤرخ بول دياكري ـوصولا إلى دروكتولفت. وبعد تلخيص قصة هذا المحـارب، يحول السارد هذه السلسلة من الأسانيد ليتخذها بدورها سندا لقصة أخرى، باعتبارها أحيت في ذاكرته حكاية قديمة روتها له جدته الانجليزية التي تركت بلدها لتعيش في قــــارة بعيــــدة عن وطنهــــا.
وسدّا للفجوة القائمة بين القصتين، يغلق السارد نصه بجملة توحد بين النصـين المنفصلين في الزمان والمكان والشخصيات، قائلا: « ألف وثلاثمائة سنة والبحر يفصـل مصـير الأسيرة عن مصير دروكتولفت. اليوم كلاهما بعيدا عن المتناول. إن صورة البربري التي ترتبط بقضية رفان، وصـــــورة الأوروبية التي اختارت القفار يمكن أن تظهرا «34
إن هذا النوع من فواتح النص الذي يعرض أسانيد متداخلة، ورواية عنقودية، نلمسه كثيرا في القصص العربية والصوفية المروية عن أكثر من مصدر. ففي قصة عن سفيان الثوري كتبها «فريد الدين العطار» يتداخل الإسناد من راوي إلى آخر في الجملة الفاتحة للقصة التي استهلت بما يلي:
«عندما كان سفيان الثوري شابا، احدودب ظهره وصار مثل القوس، فقال له شخص: يا إمام الآخرة، لماذا احدودب ظهرك في شبابك؟ إنك ما زلت شابا، على هذا الحدب، وتحدب ظهرك على هذا النحو…ماذا حدث؟ اشرح لنا الأمر…فقال سفيان: كان لنا أستـاذ، دائب السعـي والعمل في الطريق…».35
يفضي هذا اللون العنقودي للحكاية إلى خلق تركيب معقد في بناء قصصي، يبتدئ فيه الحكـي بقصة توطئة لأخرى، مما ينتج حكيا متراكما ذا طبقات. ففي قصة «فريد الدين العطار» يتدحـرج سؤال شخص ليسافر في الزمن من المستفهَم سفيان الثوري إلى أستاذه. ومن ثمة ترد الإجـابة من المعلم القديم، عبر وساطة تلميذه الثوري، وهو سند نجد نموذجه كثيرا في سند الأحاديث النبوية التي تتسلسل فيها المصادر وصولا إلى قول الرسول محمد عليه الصلاة والسلام. أما في قصة بورخيـس المذكورة، فإن الجملة الفاتحة تطيل في السند إذ لا نصل إلى موضوع القصة إلا عبر تجاوز ثـلاثـة كتب، أحدها في الشعر والثاني في التاريخ، أما الثالث في الفلسفة لكروتشـي فيتـوسطهما محايثا في الاستشهاد بكتاب الشعر لباري.
ويتبين مما تقدم، أن استراتيجية كتابة النص القصصي تقوم عند الكاتب على وصل ما انفصل سرديا، حيث يبتدئ النص بجملة من المصادر الممكنة التي اشتقت منها القصة، ويقفل بجملة أخرى تتضمن مصادر أخرى، الأمر الذي يشتت تركيز القارئ وتوقعاته أمام تضعيف كل فرصة لتحديد موقع النص، وذلك جراء إسناده إلى شبكة من المؤلفات تطمسه أكثر مما توضحه. يقول نيتشه «لا نكتب فقط لكي نُفهم، بل أيضا حتى لا نُفهم. لا يبخس كتاب لأن شخصا ما وجده غامضا: ربما كان هذا الغموض يدخل في نوايا المؤلف…كل القواعد المتميزة للأسلوب تولد من هنا: لقد صنعت لتمنع، لتحفظ المسافة، لتحظر «الوصول» إلى المؤلف، لتمنع البعض من الفهم…»36 ويبدو أن بورخيس ينشد الغاية نفسها من خلال محاصرة قارئه بعناوين عديدة تعيقه وتمنعه من الوصول إلى النص المصدر، بدل ما ترشده إليه.
يقول بارت «إن الكتابة هي هدم لكل صوت، ولكل أصل. فالكتابة هي هذا الحياد، وهذا المركب، وهذا الانحراف الذي تهرب فيه ذواتنا. الكتابة، هي السواد والبياض، الذي تتيه فيه كل هوية، بدءا بهوية الجسد الذي يكتب.»37 أي إن الكتابة لا تصدر من العدم، ولذلك فكل كتابة هي في الأصل إعادة كتابة، غير أن بورخيس المؤمن بعقيدة «لاصفاء الإبداع» بحكم صدوره عن الآخر، يؤثر في أغلب الأحيان أن يبتدئ نصوصه باعتراف علني، بأن قصه مستعار من نصوص أخرى، غير أنه ينسف دائما الأصوات والأسماء التي يرجحها، إيمانا منه بأن المؤلفين فقدوا سطوة الإهتمام أمام سطوة اللغة المنتجة، شأنه شأن الشاعر الفرنسي «مالارميه» الذي «تنبأ بضرورة وضع اللغة نفسها مكان ذاك الذي اعتبر، إلى هذا الوقت، مالكا لها.»38 وهو ما عبّر عنه بورخيس قصصيا حين قال على لسان سارده في قصة الخالد «في النهاية.. تبقى فقط الكلمات».
الهوامش
1 ابن رشيق أبو علي الحسن، العمدة في محاسن الشعر وأدبه، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، نشر المكتبة التجارية، القاهرة، الجزء الأول، الطبعة الأولى، 1934، ص 195.
2 الحيوان، الجزء الأول، تحقيق عبد السلام هارون، دار الجيل، بيروت، 1997، ص 98.
3 المرجع السابق، ص 98.
4 بارت، رولان، لذة النص، ترجمة منذر عياشي، دار الإنماء الحضاري، سوريا، الطبعة الأولى، 1992، ص 24 و25.
5 كيليطو عبد الفتاح، الحكاية والتأويل دراسات في السرد العربي، دار توبقال، المغرب، الطبعة الأولى، 1988، ص 35.
6 Uspensky Boris, la poétique de la composition, Poétique 9, 1972, p 130
نقلا عن: الحكاية والتأويل، دراسات في السرد العربي، ص 34.
7 مكي الطاهر أحمد، دراسة في مصادر الأدب، دار الفكر العربي، القاهرة، الطبعة الثامنة، 1999، ص 13.
8
9 « Bios Casarès rapporta de Londres un curieux poignard à lame triangulaire et à poignée en forme de H ; notre ami Christophe Dewey, du British Council, dit que ces sortes d’armes étaient d’un usage courant en Hindoustan. Cette affirmation l’encouragea à ajouter qu’il avait travaillé dans ce pays, entre les deux guerres (Ultra Auroram et Gange, dit-il en latin, si mes souvenirs sont bons, en récitant de façon erronée un vers de Juvénal). De toutes les histoires qu’il raconta cette nuit-là, je m’enhardis à reconstituer la suivante. Mon texte sera fidèle : qu’Allah me délivre de la tentation d’ajouter de brefs traits circonstanciels ou d’aggraver, avec des interpolations de Kipling, l’allure exotique du récit. Celui-ci, d’autre part, a une antique et naïve saveur qu’il serait dommage de perdre, celle peut-être des Mille et Une Nuit. »
Borges (Jorge Luis), L’Aleph, Traduit de l’espagnol par Roger Caillois er René L. F. Durand, Editions, Gallimard, Paris, 1992, p 179.
10 « L’exactitude géographique des faits que je vais rapporter a peu d’importance… Qu’il me suffise donc de dire qu’en ce temps-là il y eut des troubles dans une ville musulmane et que le gouvernement central envoya un homme fort pour rétablir l’ordre. »
المصدر السابق، ص 179 و180.
11 مجموعة من المؤلفين، نظرية السرد من وجهة النظر إلى التبئير، ترجمة ناجي مصطفى، منشورات الحوار الأكاديمي الجامعي، دار الخطابي للطباعة والنشر، المغرب، الطبعة الأولى، 1989، ص 66.
12 « Les hommes dignes de la foi racontent (mais Allah sait davantage) qu’en les premiers jours du monde, il y eut un roi des iles de Babylonie qui réunit ses architectes et ses mages et qui leur ordonna de construire un labyrinthe si complexe … » L ‘Aleph, p 169
13 الحكاية والتأويل دراسات في السرد العربي، ص 35.
14 المرجع السابق، ص 35.
15 دراسة في مصادر الأدب، ص 78.
16 « Des jours et des nuits qui la composent une seule nuit m’intéresse ; du reste, je ne rapporterai que ce qui est indispensable pour comprendre cette nuit. » L’Aleph, p 72.
17 الخطيبي، عبد الكبير، في الكتابة والتجربة، ترجمة محمد برادة، منشورات عكاظ، الطبعة الثانية، 1989، ص 118 و119.
18 الألف، ترجمة د. محمد أبو العطا، دار شرقيات للنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الأولى، 1998، ص 165.
19 المصدر السابق، ص 165.
20 « Je veux raconter à ceux qui sont de cet avis la destinée de Benjamin Otalora, dont il ne reste sans doute aucun souvenir au quartier de Balvanera et qui mourut d’un coup de revolver, mort bien digne de lui …J’ignore les détails de son aventure ; quand ils me seront révélés, je rectifierai et développerai ces pages. Pour l’instant, ce résumé peut être utile. » L’Aleph, p 39.
21 دراسة في مصادر الأدب، ص 263.
22 العسكري، أبو هلال سر الصناعتين، تحقيق محمد البجاوي ومحمد إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، الطبعة الأولى، 1952، ص 43.
23 الألف، ص 103 و104.
24 الألف، ص 175 و176.
25 يمكن مراجعة التمييز بين النوع الأدبي المكون والنوع الأدبي المركب في كتاب :
Klaus Koch, The Growth of the Biblical Tradition: The Form Critical Method, Trans S.M. Cupitt (New York, Charles Scribner’s Sons, 1969), 21-23.
26 الألف، ص 73.
27 « Un livre qui ne contient pas son contre- livre est considéré comme incomplet »
Borges (Jorge Luis), Fictions, Traduit de l’espagnol par P. Verdevoye, Ibarra et Roger Caillois, Editions Gallimard, France, 2007, p24.
28 تودوروف، تزفتان، الأنواع الأدبية، نقلا عن: القصة، الرواية، المؤلف، دراسات في نظرية الأنواع، تأليف مجموعة من المؤلفين، ترجمة خيري دومة، دار الشرقيات، القاهرة، الطبعة الأولى، 1997، ص 54.
29 كوهين، رالف، التاريخ والنوع، نقلا عن المرجع السابق، ص 27.
30 المرجع السابق، ص 26.
31 المرجع السابق، ص 33.
32 « Dans les habitudes littéraires, l’idée d’un sujet unique est également toute-puissante. Il est rare que les livres soient signés. » Fictions, p 24.
33 الغيطاني، جمال، منتهى الطلب إلى تراث العرب دراسات في التراث، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الأولى، 1997، ص 123.
34 « Mille trois cents ans et la mer séparent le destin de la captive et celui de Droctulft .Aujourd’hui, l’un et l’autre sont également hors de portée. La figure du barbare qui embrasse la cause de Ravenne, la figure de l’Européenne qui choisit le désert peuvent paraitre antagonique. .. Les histoires que j’ai racontées sont peut-être une seule histoire. L’avers et le revers de cette médaille sont, pour Dieu, identiques. » L’Aleph, p 68-69.
35 علي التركي، ملكة، مدخل إلى الأدب الصوفي الفارسي، مع دراسة وترجمة للمنظومة الصوفية إلهي نامة الكتاب الإلهي لفريد الدين العطار، كلية الآداب، جامعة عين شمس، مصر، الطبعة الثانية، 1998، ص 161.
36 العلم الجذل، ترجمة الدكتورة سعاد حرب، دار المنتخب العربي للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 2001، ص 242.
37 نقد وحقيقة، ترجمة منذر عياشي، دار الإنماء الحضاري، سوريا، الطبعة الأولى، 1994، ص 15.
38 المرجع السابق، ص 17.
—————————-
عائشة زمام